ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها، فيخرج بذلك الأمر عن وجوبه إلى سائر وجوهه، وعن الفور إلى التراخي، وعن الظاهر إلى التأويل وعن العموم لكل ما يقتضي إلى تخصيص بعضه وذكر الدلائل التي تدل على أن الأسماء قد انتقلت عن مسمياتها إلى ما ذكرناه

قال علي: هذا باب كثر فيه التخليط، وعظمت فيه الأغاليط ولو قلنا: إنه أصل لكل خطأ وقع في الشرائع لم يبعد عن الصواب فلنقل ــــــ بحمد الله وعونه ــــــ فيه قولاً يرفع إن شاء الله تعالى الإشكال فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن الأسماء المنقولة عن معانيها تكون بأربعة أوجه: أحدها نقل الاسم عن بعض معناه الذي يقع دون بعض، وهذا هو العموم الذي استثني منه شيء ما فبقي سائر مخصوصاً من كل ما يقع عليه كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وكسائر ما ذكرنا. والوجه الثاني نقل الاسم عن موضوعه في اللغة بالكلية، وإطلاقه على شيء آخر، كنقل الله تعالى اسم الصلاة عن الدعاء فقط، إلى حركات محدودة من قيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة ما، وذكر ما، لا يتعدى شيء من ذلك إلى غيره. وكنقله تعالى اسم الزكاة عن التطهر من القبائح إلى إعطاء مال محدود بصفة محدودة لا يتعدى، وكنقله تعالى اسم الكفر عن التغطية إلى الجحد له عز وجل، أو لنبي من أنبيائه، أو لشيء صح عن الله تعالى، وعن رسول الله مع بلوغ كونه كذلك إلى الجاحد له، وكنقل الأمر الوارد عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة، لأن هذا هو وضع اللفظ المرتب للإيجاب في غير معناه، ونقل له عن موضوعه إلى الندب الذي هو غير معناه، بل له صيغة أخرى تدل على أنه التخيير، وكنقل الأمر عن إلزام العمل به إلى المهلة فيه.

قال علي: فقد بان بما ذكرنا أن نقل الأمر عن الوجوب والفور إلى الندب والتراخي هو باب واحد، مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر، وهذا الباب يسمى في الكلام وفي الشعر الاستعارة والمجاز، ومنه قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } ومثل هذا كثير. والوجه الثالث: نقل خبر عن شيء ما إلى شيء آخر اكتفاء بفهم المخاطب كقوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وإنما أراد تعالى أهل القرية وأهل العير، فأقام الخبر عن القرية والعير مقام الخبر عن أهلها، وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } فأقام ذكر السفر والمرض مقام الحديث، لأن المراد فأحدثتم. وكقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فأوقع تعالى الحكم على الحلف، وإنما هو على الحنث أو إرادته لا على الحلف، ومثل هذا كثير. والوجه الرابع نقل لفظ عن كونه حقّاً موجباً لمعناه إلى قوله باطلاً محرماً، وهذا هو النسخ كنقله تعالى الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس إلى أن يحل ذلك اليوم أصلاً بالعمد لغير ضرورة. قال علي: وإنما فرقنا بين النسخ وبين نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب أو غيره، وإن كان كل ذلك نقلاً، لأن النسخ كان الأمر المنسوخ مراداً منا العمل به قبل أن ينسخ، وأما المحمول على الندب فلم يرد قط منا إلزامنا العمل به، وهذا فرق ظاهر.

قال علي: وكل ما ذكرنا فلا يحل أن يتعدى به موضوعه، لأنه كما ترى أنواع يجمعها جنس النقل للأسماء على مراتبها، فمن استجاز منها واحداً بغير برهان لزمه أن يجيز جميعها، وفي ذلك القضاء بالنسخ على كل شريعة، وبأنه لا يفهم عن الله تعالى ولا عن رسوله لفظ أصلاً إذ لعله قد نقل إلى معنى آخر، وهذا خروج عن الإسلام. قال علي: وإذا قد ذكرنا وجود النقل للأسماء عن معانيها، ومثَّلنا منها أمثلة، تدل عليها، وتنبه على أمثالها مما لم نذكره بحول الله تعالى وقوته: فنذكر إن شاء الله تعالى بتوفيقه لنا، وعونه إيانا ـــــ الدلائل التي بها تعلم صحة الوجوه التي ذكرنا، وبها يثبت عندنا أن الاسم قد نقل إلى بعض الوجوه التي ذكرنا، والتي متى لم توجد لم يحل لمسلم أن يقول: إن هذا اللفظ على غير موجبه وبالله تعالى التوفيق، فلنقل وبالله نعتصم: إن البرهان الدال على النقل الذي ذكرنا ينقسم قسمين لا ثالث لهما: إما طبيعة وإما شريعة. فالطبيعة هو ما دل العقل بموجبه على أن اللفظ منقول من موضوعه إلى أحد وجوه النقل الذي قدمنا مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ـــــ فصح بضرورة العقل، أن المراد بذلك بعض الناس لأن العقل يوجب ضرورة أن الناس كلهم لم يحشروا في صعيد واحد، ليخبروا هؤلاء بما أخبرهم به، ولأن العقل يوجب ضرورة أن المخبرين لهم بأن الناس قد جمعوا لهم، غير الجامعين لهم، وغير المجموع لهم بلا شك، وأن الجامعين غير المخبرين بالجمع، وغير المجموع لهم بلا شك ومثل قوله تعالى: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } { } (الإسراء: 50) علمنا بضرورة العقل أنه أمر تعجيز، لأنه لا يقدر أحد على أن يصير حجارة أو حديداً، ولو كان أمر تكوين لكانوا كذلك، فلما وجدهم العقل لم يكونوا حجارة ولا حديداً علم أنه تعجيز، وأما الشريعة فهي أن يأتي نص قرآن أو سنة، أو نص فعل منه عليه السلام، أو إقرار منه عليه السلام، أو إجماع على أحد وجوه النقل الذي ذكرنا كما دل الإجماع على أن اسم أب في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً }

منقول عن الاقتصار على الأب وعلى الأجداد من الأب والأم وإن بعدوا، إلى الآباء من الرضاعة والأجداد من الرضاعة لقوله عليه السلام: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» كما دل نص أيضاً على نقل اسم الأب إلى العم في قوله حاكياً عن القائلين: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } وإنما كان إسماعيل عمّاً لا أباً، ولم يجب من أجل هذا أن ننقل اسم أب في المواريث إلى الجد من الأم أصلاً، وكما دل النقل المتواتر أيضاً على نقل اسم ابن في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }

عن الاقتصار على الابن وبني البنين وبني البنات، وإن بعدوا، إلى البنين من الرضاعة أيضاً، ولم يجب من ذلك أن ننقل اسم الابن في المواريث إلى ابن الرضاعة، وبني البنات، ولا يحجب بابن الرضاعة ولا ببني البنات الأم عن الثلث ولا الزوج عن النصف، ولا الزوجة عن الربع إلى السدس والربع والثمن، ولم يوجب شيء مما ذكرنا أن ننقل اسم الأم عن الوالدات اللاتي حملن الإنسان في بطونهن في كل حكم إلى أمهات الرضاعة، لأن العلم واجب ضرورة بأن الناس ماتوا على عهد رسول الله ولهم بنو البنات والأجداد من قبل الأمهات، وكذلك من الرضاعة، فلم يرث أحد منهم شيئاً بالنقل عن الكواف عصراً عصراً، وكم يجب إذا خصّ الجد من الأب والابن من الولادة، والأم من الولادة بالميراث أن يتعدى ذلك فيخص بعض الوالدات، وبعض الأبناء، وبعض الأجداد بلا دليل، ولذلك ورثنا الجد للأب إذا لم يكن هنالك أب دون الإخوة، ولأنه متفق على أنه في تلك الفرائض والإخوة مختلف فيهم ولا نص في ذلك، فلزم ألا نورث أحداً بلا نص ولا إجماع، وهم الإخوة، ولزم أن يورث الجد لأنه متفق على أنه يرث في تلك الفرائض مع النص على أنه أب، وكان يلزم من يقول بالخصوص أن يخرج بعض النبيين على أن يورثهم مع سائر النبيين قياساً على الإجماع في ألا يورث بنو البنات، لأنهم بنون، ولا يحرم على آباء أمهاتهم نكاح حلائلهم، ومن قال إن الجدة قيست على الأم في التحريم لزمه أن يقيسها عليها في التوريث، وإلا كان متناقضاً، وبالله تعالى التوفيق. فصح بما ذكرنا أن إخراج الأسماء عن مواضعها إذا قام دليل من الأدلة التي ذكرنا ــــ واجب لأنه أخذ في كل ذلك بالظاهر الوارد وبالنص الزائد، فلم يخرج عن الظاهر في كل ذلك، ووجب إذا عدم دليل منها ألا ينقل شيء من الخطاب عن ظاهره في اللغة، وأما من خصص الظاهر أو العموم بقياس، أو بدليل خطاب، أو بقول صاحبه، فذلك باطل، وسنبين ذلك في الأبواب المذكورة إن شاء الله تعالى.

وقد قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فلاح أن لا بيان إلا بنص أو بضرورة عقل كما قدمنا، لأن رسول الله هو التالي علينا القرآن فهو المبين به، وهو الآمر لنا بالسنن المبينة علينا، وهو الآمر باتباع القرآن والسنن والإجماع، وهو عليه السلام الذي نصّ علينا في القرآن إيجاب استعمال العقل والحس. وقد ذكرنا في باب الأخبار من هذا الكتاب كيف التخصيص بالآية للآي وللحديث، وبالحديث للآي وللحديث. قال علي: ومن التخصيص بالإجماع قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فلما أجمعت الأمة بلا خلاف أنهم إن بذلوا فلساً أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم، ولا خرجوا عن إيجاب قتلهم، وحتى لو كثر القائلون بذلك، واشتهر فضلهم ما وجب أن يعتد بهذا القول، لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة، ولكن لما قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } بالألف واللام، وهما في اللغة التي بها نزل القرآن للعهد والتعريف ـــــ علمنا أنه أراد تعالى جزية معلومة معهودة، وبيّن ذلك بقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } بالألف واللام، والألف واللام في لغة العرب لا يقع إلا على معهود، وصح أن النبي لما أمر بأخذ دينار من كل محتلم منهم ومحتلمة، علمنا أن ما دون الدينار ليس هو الجزية المحرمة لدمائهم وأموالهم، ولم يكن لأقصى الجزية وأكثرها حدّ يوقف عنده فيدعى فيه وجوبه بالإجماع، فإن يحيى بن آدم وعطاء بن رباح، وعمرو بن دينار، وسفيان الثوري ، كلهم يقول: ليس لأكثر الجزية حد، وإنما هو ما ترضوا به، فلما كان اسم الجزية يقع على الدينار وجب قبوله ممن لا يقدر على أكثر منه، ولزم المصالحين ما صالحوا عنه وهو أكثر من الدينار، ووجب أن يفرض على من يطيق أكثر من دينار من أهل العنوة ما أطاق، ما لا يجحف به.

وأما نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب فإنه لا مدخل للعقل فيه، وإنما يؤخذ من نص آخر أو إجماع فقط، كما قلنا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ } أنه إباحة لما ذكرنا في ذلك للإجماع على ذلك، وقلنا في الوتر: إنه ندب لقول الله تعالى له ليلة أسري به: «هُنَّ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ» ولأنه عليه السلام كان ينتقل على البعير، فإذا أراد الفريضة نزل وكان يوتر على البعير.

وأما النهي عن القران بين التمرتين في الأكل والإشهاد على التبايع وكتاب الديون، والانتشار بعد الصلاة للنوم والأكل وطلب الرزق، والأكل من الهدي والإطعام منه، ومن الأضحية والمكاتبة لمن طلبها ممن فيه خير من الرقيق، وإيتاؤهم من مالنا، ففرائض كلها، لأنه لا نص في إخراجها عن الوجوب، ولا إجماع، وأما أمره تعالى لأهل النار بالدخول فيها وأن يخسؤوا، وبصليها، فأمر اضطرار لا محيد لهم عنه، وأما أمره تعالى لأهل الجنة بالأكل وبالشرب وقبول النعيم فأمر إيجاب لا بد لهم من قبوله مختارين مغتبطين، كما تفعل الملائكة فيما يؤمرون به، وبالله تعالى التوفيق.