ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/تتمة الباب الثاني عشر
قال علي : فبيّن ﷺ في هذا الحديث بياناً لا إشكال فيه أن كل ما أمر به فهو واجب، حتى لو لم يقدر عليه.
وهذا معنى قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
ولكنه تعالى رفع عنا الحرج ورحمنا، فأمر على لسان نبيه ﷺ كما تسمع، أن ما أمر به ﷺ فواجب أن يعمل به حيث انتهت الاستطاعة، وأنه لا يسقط من ذلك إلا ما عجزت عنه الاستطاعة فقط، وأن ما نهى ﷺ عنه فواجب اجتنابه.
ثنا عبد الله بن يوسف بالسند المذكور إلى مسلم قال: ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا أبو علي الحنفي، ثنا مالك بن أنس، عن أبي الزبير المكي، أن أبا الطفيل عامر بن وائله، أخبره أن معاذ بن جبل أخبره، وقال: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام غزوة تبوك، فقال رسول الله ﷺ : «إِنَّكُمْ سَتَأتُونِ غَداً إِنْ شَاءَ الله عَيْنَ تَبُوك، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحى النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلا يَمَسُّ مِنْ مَائِهَا شَيْئاً حَتَّى آتِي» قال: فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، العين مثل الشِّراك تبضّ بشيء من ماء قال: فسألهما رسول الله ﷺ «هَلْ مَسَسْتُما مِنْ مَائِها شَيْئاً» .
قالا: نعم فسبهما النبي ﷺ وقال لهما ما شاء الله أن يقول.
ثم ذكر باقي الحديث وفيه الآية في نبعان الماء ببركته .
قال علي : فهذان استحقا السب من النبي ﷺ ، لخلافهما نهيه في مس الماء، ولم يكن هناك وعيد متقدم، فثبت أن أمره على الوجوب كله إلا ما خصّه نص، ولولا أنهما تركا واجباً ما استحقا سب رسول الله ﷺ .
وبه إلى مسلم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، ثنا عبيد الله هو ابن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول فقام رسول الله ﷺ ليصلي عليه؛ فقام عمر فقال: يا رسول الله ﷺ أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه، فقال رسول الله ﷺ : «إِنَّما أَخْبَرَنِي الله تَعَالى فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } « وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } .
قال علي : ففي هذا الحديث بيان كاف في حمل كل شيء على ظاهره ، فحمل رسول الله ﷺ اللفظ الوارد «بأو» على التخيير ، فلما جاء النهي المجرد حمله على الوجوب ، وصح بهذا أن لفظ الأمر والنهي غير لفظ التخيير والندب، ورسوله ﷺ أعلم الناس بلغة العرب التي بها خاطبه ربه تعالى .
فإن قال قائل : فما كان مراد الله بالتخيير، الذي حمل رسول الله ﷺ على التخيير، وبذكره تعالى السبعين مرة، أتقولون: إنه أراد تعالى ما قال عمر بن الخطاب من ألا يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ثم نزلت الآية الأخرى مبينة ؟.
فالجواب : أننا وبالله تعالى التوفيق، لا نقول ذلك، ولا يسوغ لمسلم أن يقوله، ولا نقول إن عمر، ولا أحداً من ولد آدم عليه السلام فهم عن الله تعالى شيئاً لم يفهمه عنه نبي الله ﷺ ، وهذا القول عندنا كفر مجرد، وبرهان ذلك أن الله تعالى لو لم يرض صلاة النبي ﷺ على عبد الله بن أبيّ، لما أقره عليها، ولأنزل الوحي عليه لمنعه كما نهاه بعد صلاته عليه أن يصلي على غيره منهم، فصح أن قول عمر كان اجتهاداً منه أراد به الخير فأخطأ فيه، وأصاب رسول الله ﷺ ، وأجر عمر في ذلك أجراً واحداً، لكنا نقول: إنه عز وجل خيّر نبيه في ذلك على الحقيقة، فكان مباحاً له أن يستغفر لهم ما لم ينه عن ذلك.
وأما ذكر السبعين فليس في الاقتصار عليه إيجاب أن المغفرة تقع لهم بما زاد على السبعين، ولا فيه أيضاً منع من وقوع المغفرة لهم بما زاد على السبعين، إلا أن رسول الله ﷺ طمع ورجا إن زاد على السبعين أن يغفر لهم، ولم يحقق أن المغفرة تكون بالزيادة، وهذا هو نفس قولنا بعينه، فلما أعلمه الله تعالى بما كان في علمه عز وجل، ولم يكن أعلمه قبل ذلك به علمه حينئذ نبيه ولم يكن علم قبل نزول المنع من الاستغفار لهم بالبت، أن ما زاد على السبعين غير مقبول، فدعا راج لم ييأس من المغفرة، ولا أيقن بها، وهذا بيّن في لفظ الحديث، وبالله تعالى التوفيق.
وقد سألت بريرة النبي ﷺ إذ قال لها: «لَوْ رَاجَعْتِيهِ» يعني النبي ﷺ زوجها مغيثاً فقالت: أتأمرني يا رسول الله ﷺ ، فقال ﷺ : «لا، إِنَّما أَشْفَعُ» ففرق كما ترى بين أمره وشفاعته، فثبت أن الشفاعة لا توجب على أحد فعل ما شفع فيه ﷺ ، وأن أمره بخلاف ذلك: وليس فيه إلا الإيجاب فقط.
وقال الله عز وجل: {يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
قال علي : في هذه الآية بيان جلي رافع لكل شك، في أن من لم يفعل ما أمر به فقد عصى، لأنه تعالى بيّن أن نبيه إن لم يبلغ كما أمر، فلم يفعل ما أمر به، ولا معنى لهذا الخبر وهذا التقدم، إلا أن خلاف الأمر معصية لا موافقة، وبالله تعالى التوفيق وهم يقرون على أنفسهم أنهم لا يفعلون ما أمروا به حتى يأمرهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
وقال تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} فصح أنه لم يرد تعالى منا الإقرار وحده إلا مع العمل بما أمرنا معه.
قال علي : وانبلج الحكم بهذه الآية ولم يبق للشك مجال، لأن الندب تخيير، وقد صحّ أن كل أمر لله ولرسوله ﷺ فلا اختيار فيه لأحد، وإذا بطل الاختيار فقد لزم الوجوب ضرورة، لأن الاختيار إنما هو في الندب والإباحة للذين لنا فيهما الخيرة، إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل، فأبطل الله عز وجل الاختيار في كل أمر يرد من عند نبيه ﷺ ، وثبت بذلك الوجوب والفرض في جميع أوامرهما، ثم لم يدعنا تعالى في شك من القسم الثالث وهو الترك.
قال علي : وليس يقابل الأمر الوارد إلا بأحد ثلاثة أوجه، لا رابع لها نعلم ذلك بضرورة الطبيعة، وببديهة العقل: إما الوجوب وهو قولنا، وإما الندب والتخيير في فعل أو ترك، وقد أبطل الله عز وجل هذا الوجه وأما الترك وهو المعصية فأخبر تعالى أن من فعل ذلك فقد ضلّ ضلالاً مُبيناً، فارتفع الإشكال جملة، وبطل كل شغب يأتون به.
فنص تعالى على توبيخ من لم يكتف بالتلاوة، وهذا هو الحكم بالظاهر، وحظر الانتقال إلى التأويل فصح أن لا بيان إلا نص القرآن ونص كلام رسول الله ﷺ .
فإن قالوا: فإنكم تحملون كثيراً من أوامره تعالى على التخيير والندب، فقد نقضتم هذا الحكم.
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: ما فعلنا ما تقولون من النقض، لأننا إنما حملنا منها على التخيير بأمر الله تعالى، حملناه أيضاً على وجوبه، فإذا نص ربنا عز وجل في أمر قد أمر به على أننا إن شئنا فعلنا، وإن شئنا تركنا، فقد أوجب علينا قبول هذا النص على ظاهره ضرورة، فلم نخرج عن أصلنا، ولم يكن لنا خيرة في صرفه إلى الوجوب بأحد طرفيه دون الآخر فقط، كما أنه تعالى أو نبيه إذا اقتصر المخاطب لنا منهما على لفظ لا تخيير معه، فلا خيرة لنا في صرفه عن أمره الذي اقتصر عليه، فكل أمر مفرد فواجب علينا حمله على انفراده، وكل أمر بتخيير فواجب علينا حمله على التخيير، فالقبول فرض علينا لما يرد من الألفاظ على ظواهرها، ولا خيرة لنا في شيء من ذلك، والإجماع إذا صحّ على حمل آية أو خبر على التخيير، فقد أيقنا أن أصل الإجماع توقيف من رسول الله ﷺ ، فحملنا ذلك التوقيف أيضاً على الوجوب فلم ننقض قولنا بحمد الله تعالى.
قال علي : أفلا يستحي أن يتكلم في الدين من يسمع كلام الله تعالى في قسمة الصدقات فيقول: ليس ذلك فريضة، وجائز للإمام أن يصرفها إلى ما يرى من وجوه البر، أو إلى بعض هذه الأصناف، ثم يأتي إلى قول ابن عمر: فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، فيقول: ليس صدقة الفطر فريضة، ولا الشعير ولا التمر فيها أيضاً فرضاً، ولا مستحباً، بل البر الذي لم يذكره النبي ﷺ أفضل.
ثم يأتي إلى قول رسول الله ﷺ : «مَنْ صَلَّى ههنا مَعَنَا، وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَقَدْ أَدْرَكَ» فقال: لا تخيير في ذلك، والفرض الوقوف ليلاً ولا بد، وإلا بطل الحج.
إنه يفهم منه أن خطبة الجمعة فرض تبطل الصلاة بتركها.
وأن ذكره تعالى للاعتكاف بعد ذكره لحكم الصيام، موجب أن يكون الصوم في الاعتكاف فرضاً لا يجزي الاعتكاف إلا به.
أيكون في عكس الحقائق ومجاهرة العقول الفهمة للغة العربية، ومخالفة القرآن والسنة أكثر من هذا ؟.
قال علي : فهذا لفظ الوعيد مقروناً بمخالفة الطاعة، فأخبرنا تعالى أن ترك الطاعة تول، ولا تركاً للطاعة أكثر ممن يستجيز أن يترك ما أمر به أو يفعل ما نهى عنه.
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
فصح بالنص كما ترى أن كل ما أمر به رسول الله ﷺ فهو معروف، وكل ما نهى عنه فهو منكر عن المعروف، فبيّن تعالى أن كل من نهى عما أمر به رسول الله ﷺ فهو منافق، وكل من قال في قوله تعالى افعل.
فقال هو لا تفعل إن شئت، فقد أباح تركه والنهي عنه نصّاً.
وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وقال تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
قال علي : ومن أجاز لنفسه ترك العمل بما أنزل الله فهو فاسق ظالم بنص القرآن، وبنص تسمية الله عز وجل له، فقد نصصنا كلام الله تعالى، وكلام نبيه ﷺ في إيجاب أوامرهما ونواهيهما فرضاً، وبطل بذلك قول من قال على الندب أو الوقف.
قال علي : وقد فرق قوم بين أوامر الله عز وجل، وأوامر رسوله ﷺ ، وهذا بيّن الفساد، فقد أنكر الله تعالى ذلك بقوله: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }
وإن العجب ليكثر من الحنفيين والمالكيين الذين يجعلون الخطبة يوم الجمعة فرضاً، فإذا سئلوا عن البرهان في ذلك قالوا قول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } .
قال علي : وما ندري ماذا تأدى إليهم في هذا اللفظ من إيجاب الخطبة.
ويقولون إن الصيام في الاعتكاف فرض، إذا سئلوا عن برهان ذلك قالوا: ذكر الله تعالى الاعتكاف إثر ذكر الصيام، وعلى هذا فكل شريعة ففرض ألا تتم إلا بضم كل شريعة في القرآن إليها، فلا حج لمن لم يصل. ولا صلاة لمن أفطر في رمضان، ولا نكاح لمن لا يقسط في اليتامى، فينفسخ نكاحه مع امرأته، لأن الله تعالى عطف النكاح على أمر اليتامى فقال تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } لأنها كلها معطوف بعضها على بعض.
ثم قالوا: في قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ} ليست العمرة فرضاً، وقد عطفها تعالى على الحج عطفاً شركها به معه في الإتمام، ولم يعطف الاعتكاف في الصيام، ولا الصيام على الاعتكاف، وإنما عطف النهي عن المباشر في حال الاعتكاف على أحكام الصيام، عطف جملة على جملة، لا عطف اشتراك.
ثم قالوا في قوله تعالى في قسمة الخمس : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ }
فقالوا: ليس هذا فرضاً، وللإمام أن يضع الخمس حيث رأى من مصالح المسلمين، هذا وهم يسمعون الله تعالى يقول في قسمة الخمس على من سمى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقالوا في آية الصدقات، وقد قال تعالى في آخرها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
فقالوا ليست فريضة لهؤلاء فمن أضل ممن جعل الخطبة والصيام في الاعتكاف فرضاً ولم يأت به أمر، ولا ندب، وأسقط إيجاب ما سماه الله تعالى فريضة، وقال فيه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
وأما المالكيون فإنهم احتجوا في عتق الأخ يملكه أخوه بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
وما عقل قط ذو لب وجوب عتق الأخ من هذه الآية كما لم يعقل وجوب صلاة الظهر منها، وأسقطوا النفقة على الوارث بآرائهم وقد قال تعالى: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ }
ففرقوا بين مضارة الوالد بولده فأوجبوا فيها النفقة، وبين مضارة الوارث بموروثه، فلم يوجبوا فيها النفقة، وقد سوّى الله عز وجل بينهما تسوية واحدة، ولا ضرر في التمييز والعقل، أعظم من ترك الوارث موروثه يسأل أو يموت جوعاً، وهو ذو مال يغنيه، ويفضل عنه، وخالفوا في ذلك حكم عمر بن الخطاب وعمله.
وقال المالكيون: أمر تعالى بالمكاتبة ندب، وأمره بإتيانهم من مال الله الذي آتاهم ندب، وأمره بالمتعة ندب، ثم قالوا قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فرض ، فلو تدبروا هذه الفضائح التي يطلقون، لكان أولى بهم من معارضة أوامر الله تعالى وأوامر رسوله ﷺ بهذيان لا يطردونه، بل يتناقضون فيه في كل حين، فمرة يقولون في بعض الأوامر ليس فرضاً، فإذا قيل لهم قد أمر الله تعالى بها، قالوا الأوامر موقوفة، ولا يحمل على الفرض إلا بدليل، ومرة يوجبون الأوامر فرضاً بلا دليل ولا قرينة إلا التحكم والتقليد فقط، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي : وأما الموافقون لهم على الوقف من أصحاب الشافعي، فإنهم يقولون: إن لم نجد دليلاً على أن الأمر على الندب أمضينا الأوامر على الوجوب.
قال علي : وهذا ترك منهم لقولهم بالوقف، لأنهم راجعون إلى إمضاء الأوامر على الوجوب بمجردها بلا قرينة، إذا عدموا دليلاً على الندب.
قال علي : وهذا قولنا نفسه، ولم نخالفهم في أن الأمر إذا جاء نص أو إجماع على أنه ندب، فواجب أن يصار إلى أنه ندب، وإنما خالفناهم في الوقف فقط.
قال علي : ونسألهم ألهذا الوقف غاية ؟
فإن حدوا حداً كلفوا عليه البرهان ولا سبيل إليه، فإن لم يجدوا فيه حداً صار مدة العمر، فبطل العمل بشيء من الأوامر وهذا يؤدي إلى إبطال الشريعة.
وقد احتج بعض من يقول بقولنا ممن سلف، فقال: لو كان الأمر لا يعلم بلفظه أنه على الوجوب، لكان لا يخلو من أن يعلم المراد فيه، إما بأمر آخر، أو بشيء يستخرج من الأمر، وكلا الأمرين فلا بد من الرجوع فيه إلى أمر، فالكلام في الأمر الثاني كالكلام في الأمر الأول، وهذا لا إلى غاية، فعلى هذا لا يثبت وجوب أمر أبداً.
وقالوا أيضاً محتجين عن أهل الوقف: المعصية في اللغة هي مخالفة الأمر، والطاعة هو تنفيذ الأمر، وقال الله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا } وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } .
فثبت الوجوب في الأوامر ضرورة، بحكم الله تعالى فالنار على من تركها.
قال علي : ويقال لمن قال بالوقف: ماذا تصنع إن وجدت أوامر واردة من الله تعالى ومن رسوله ﷺ خالية من قرينة بالجملة، ولا دليل هناك يدل على أنها فرض، ولا على أنها ندب، فلا بد من أحد ثلاثة أوجه إما أن يقف أبداً، وفي هذا ترك استعمال أوامر الله تعالى، وأوامر رسوله ﷺ ، وهذا هو نفسه ترك الديانة، أو يحمل ذلك على الندب، فيجمع وجهين :
أحدهما: القول بلا دليل.
والثاني: استجازة مخالفة الله ورسوله ﷺ بلا برهان، أو يحمل ذلك على الفرض، وهذا قولنا، وفي ذلك ترك لمذهبه وأخذ بالأوامر فرضاً بنفس لفظها دون قرينة، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي : فإن تعلقوا بما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال يوم بني قريظة: «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلاَّ في بَنِي قُرَيْظَةَ» فصلى قوم العصر قبلها وقالوا: لم يرد هنا هنا، وصلاها آخرون بعد العتمة فبلغ ذلك النبي ﷺ فلم يعنف واحدة من الطائفتين.
قال علي : هذا حجة لهم فيه أيضاً، ولو شغب بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين لكان أدخل في الشغب، مع أنه لا حجة لهم فيه أيضاً.
فأما احتجاج من حمل الأوامر على غير الوجوب، فلا حجة لهم فيه، لأنه قد كان تقدم من رسول الله ﷺ أمر في وقت العصر أنه مذ يزيد ظل الشيء على مثله إلى أن تصفر الشمس، وأن مؤخرها إلى الصفرة بغير عذر يفعل فعل المنافقين، فاقترن على الصحابة في ذلك اليوم أمران واردان، واجب أن يغلب أحدهما على الآخر ضرورة، فأخذت إحدى الطائفتين بالأمر المتقدم، وأخذت الطائفة الأخرى بالأمر المتأخر، إلا أن كل واحدة من الطائفتين حملت الأمر الذي أخذت به على الفرض والوجوب، وغلبته على الأمر الثاني.
وقد ذكرنا هذا النوع من الأحاديث فيما خلا، وبيّنا كيفية العمل في ذلك، ولو أننا حاضرون يوم بني قريظة لما صلينا العصر إلا فيها، ولو بعد نصف الليل، على ما قد بينا في رتبة العمل في جميع الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف، وهي في الحقيقة متفقة من الأخذ بالزائد، ومن استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني، وقد جمع هذان الحديثان كلا الوجهين معاً، فأمره ﷺ في ذلك اليوم بألا يصلى صلاة العصر إلا في بني قريظة، أمر خاص في صلاة واحدة، من يوم واحد في الدهر فقط، فكان ذلك مستثنى من عموم أمره بأن يصلى كل عصر، من كل يوم في الأبد يخرج وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس، وأما ما لم تغب للمضطر حاشى يوم عرفة.
وأيضاً فإن أمره ﷺ بألا يصلى العصر من ذلك اليوم إلا في بني قريظة، شريعة زائدة، وأمر وارد بخلاف الحكم السالف، وبخلاف معهود الأصل في حكم صلاة العصر قبل ذلك اليوم وبعده، فواجب طاعة ذلك الأمر الحادث، والشرع الطارىء، لما قدمنا من البراهين على وجوب القبول لكل ما أمرنا به رسول الله ﷺ عن ربه تعالى، وكان أمره بألا يصلى العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة كقوله ليلة يوم النحر في الحج وقد ذكر بصلاة المغرب فقال ﷺ : «الصَّلاةُ أَمَامَكَ» فكان ذلك عند جميع المسلمين ناقلاً لوقت المغرب في تلك الليلة خاصة في الحج خاصة، في ذلك المكان خاصة، عن وقتها المعهود إلى وقت آخر. ولا فرق بين ورود ما أمر به في العصر يوم بني قريظة، وفي المغرب ليلة المزدلفة، وهذا بيّن لمن تأمله.
قال أبو محمد : وأما إن احتج بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين وقال: ترك النبي ﷺ أن يعنف كل واحدة من الطائفتين، دليل على أن كل واحدة منهما مصيبة.
قيل له، وبالله التوفيق: لا دليل فيه على ما ذكرت، ولكنه دليل واضح على أن إحدى الطائفتين مصيبة مأجورة أجرين، والأخرى مجتهدة مأجورة أجراً واحداً، معذورة في خطئها بالاجتهاد، لأنها لم تتعمد المعصية وقد قال عز وجل: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
وقال ﷺ : «لِكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى» وكلا الطائفتين نوت الخير وقد نص ﷺ على أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر.
وكل متكلم في مسألة شرعية ممن له أن يتكلم على الوجه الذي أمر به من الاستدلال الذي لا يشوبه تقليد ولا هوى، فهو حاكم في تلك المسألة، لأنه موجب فيها حكماً، وكل موجب حكماً فهو حاكم، وهو داخل في استجلاب الأمر بالحديث المذكور.
فإن قال قائل: فلم يأمر رسول الله ﷺ الطائفة المخطئة عندكم بالإعادة، إن كانت هي التي صلت العصر في وقتها المعهود، قبل البلوغ إلى بني قريظة، وإنما كان وقتها عندكم في ذلك اليوم بعد البلوغ إلى بني قريظة أي وقت بلغ البالغ إليهم أو لم يعنف الطائفة المؤخرة للعصر إلى بعد نصف الليل إن كانت هي المخطئة على تأخيرهم صلاة فرض عن وقتها ؟.
قيل له وبالله تعالى التوفيق: لسنا ندري في أي وقت بلغ خبر الطائفتين المذكورتين إلى رسول الله ﷺ ، ولعل ذلك قد بلغه ﷺ في اليوم التالي، وبعد خروج وقت العصر جملة، ولا إعادة على تارك صلاة بتأول ممن له أن يتأول على الوجه المحمود لا بتقليد ولا بهوى، ولا إعادة على تارك صلاة عمداً بلا تأول ولا ضرورة حتى يخرج وقتها، وأما المتأول فمعذور ولا يكلف إلا ما علم، وأما العامد فذنبه أجل من أن نأمره نحن بكفارة أو بصلاة لم يأمره الله تعالى بها، ولا يحل لنا ولا لغيرنا تعدي حدود الله عز وجل بأن نلزمه فرضاً لم يأذن به الله تعالى، ونسقط عنه بذلك فرضاً قد أمره الله تعالى به، ونعوذ بالله تعالى من ذلك، وأمره إلى خالقه لا إلينا، وسيرد على ذي مغفرة واسعة، وذي عقاب أليم، حيث لا يضيع له شيء، ولا يجمع عنده شيء، فعند الموازين يعرف كل امرىء ما له وما عليه، نسأل الله عفوه وغفرانه في ذلك الموقف آمين.
قال علي : وقد أنكر رسول الله ﷺ على أبي سعيد بن المعلى إذ ناداه فلم يستجب له وكان في صلاة فقال له رسول الله ﷺ : ألم يقل الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
قال علي : وفي هذا بيان جلي في حمل أوامر الله تعالى وأوامر نبيه على الوجوب، وعلى الظاهر منها، ومن تلك الأوامر أمره تعالى أن يطاع رسوله ﷺ .
وفي قوله ﷺ المذكور لأبي سعيد، بيان جلي في صحة ما أثبتناه قبل، من استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني واستعمال جميع الأوامر، لأنه تعالى قال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } خصّ ﷺ دون سائر الناس، أن يكلمه المصلون إذا كلمهم؛ ولا يكون ذلك قاطعاً لصلاتهم.
وبهاتين الآيتين والحديث المذكور بطل قول من قال: بأن المصلين يكلمون الإمام إذا وَهَلَ في صلاته ورام أن يحتج في ذلك بحديث ذي اليدين، فبالنصوص التي ذكرنا أيقنا أن ذلك خاص للنبي ﷺ دون من سواه، وسبحان من يسر لإخواننا المالكيين، أن يجعلوا الخصوص في هذا المكان عموماً، وأن يجعلوا العموم الذي نص ﷺ على أنه عموم، وغضب على من أراد أن يجعله خصوصاً؛ من القبلة في صيام رمضان، فجعلوه خصوصاً كل ذلك بلا دليل وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد : وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد، لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه، ولعل وعيد الكفار أيضاً كذلك، ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه، لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها، إذ لعلها ندب، ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد، وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام؛ لأنه تكذيب لله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق.
ومما يبين أن أوامر الله تعالى كلها على الفرض حتى يأتي نص أو إجماع، أنه ليس فرضاً قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } .
قال علي : فعدد الله تعالى في كفر الإنسان أنه لم يقض ما أمره به، وكل من حمل الأوامر على غير الفرض واستجاز تركها، فلم يقض ما أمره وفيما ذكرنا كفاية، وبالله تعالى التوفيق.
وقد فرق بين أمر الفرض، وأمر التخيير بفرق، ولا مدخل للشغب فيه بعده، وهو ما حدثناه عن عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، ثنا أبو عوانة، عن شيبان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة/ قال: سأل رجل رسول الله ﷺ : أتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال ﷺ : «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلا تَتَوَضَّأْ» قال: أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال ﷺ : «نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ» .
قال علي : فأورد ﷺ الوضوء الذي ليس عليه واجباً بلفظ التخيير، وأورد الآخر بلفظ الأمر فقط، ولو كان معناهما واحداً، لما كان ﷺ مبيناً للسائل ما سأل عنه، وهذا ما لا يظنه مسلم، والله الهادي إلى سواء السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.