السيرة الحلبية/باب ذكر نبذ من معجزاته
التي يمكن التحدي بها، سواء تحدى بها بالفعل كالقرآن وتمني اليهود الموت أو لا. وتلك المعجزة اصطلاحا هي الحاصلة له بعد البعثة إلى وفاته. وأما الأمور الحاصلة له بين يدي أيام مولده وبعثته وقبل ذلك من الأمور الخارقة للعادة الغربية الموهنة للكفر، التي يعجز عن بلوغها قوى البشر، ولا يقدر عليها إلا خالق القوى والقدر، لأنها في الاصطلاح يقال لها إرهاصات وتأسيسات للرسالة، ولا تسمى في الاصطلاح معجزات.
وهي إذا تليت على قلب المؤمن زادته إيمانا، وإذا تفكر فيها ذو البصيرة واليقين زادته إيقانا، فإن كل من أرسله الله عز وجل لم يخله من آية أيده بها مخالفة للعادات، لكون ما يدعيه من الرسالة مخالفا لها، فيستدل بتلك الآية على صدقه فيما يدعيه، لأن اقترانها بدعواه الرسالة تصديق له فيها.
وقد كانت للأنبياء: أي الرسل معجزات مختلفة، أي وهو أكثر الرسل معجزة، وأعظمهم آية، وأظهرهم برهانا فقد جاء «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن عليه البشر»: أي آمنوا بسبب إظهاره «وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ» وهو القرآن لأنه الذي تحداهم به «فأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة».
أي فإنه لما غلب السحر في زمن موسى عليه الصلاة السلام جاءهم بجنسه في معجزاته، فألقى العصا، وفلق البحر. ولما غلب الطب في زمن عيسى جاءهم بجنسه، فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص. ولما غلبت الفصاحة وقول الشعر في زمن نبينا جاءهم بالقرآن. وهذا السياق يدل على أن المعجزة خاصة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، ويوافق ذلك قول صاحب المواقف وشرحه، وهي: أي المعجزة بحسب الاصطلاح عبارة عما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله.
لكنه قال في شروط المعجزة: الرابع أن يكون أي الأمر الخارق للعادة ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له، انتهى. فيحتمل أنه أراد بالنبوة الرسالة. ويحتمل أنه أراد بها ما يعم الرسالة للشخص نفسه، لأن النبي غير الرسول مرسل لنفسه، ودعواه النبوة متضمنة لدعواه الرسالة لنفسه، فهو رسول إلى نفسه، فتكون المعجزة عامة في حق الرسول والنبي الذي ليس برسول.
ومما يؤيد هذا الثاني قول النسفي في عقائده: وأيدهم، قال السعد : أي الأنبياء، بالمعجزات الناقضات للعادات.
ثم قال: وقد روي بيان عددهم في بعض الأحاديث. قال السعد على ما روي «أن النبي ﷺ سئل عن عدد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. وفي رواية، مائتا ألف وأربعة وعشرون الفا» ويؤيده أيضا قول الإمام السنوسي في شرح عقيدته الكبرى: إن معجزة النبي غير الرسول، يجوز أن تتأخر بعد موته، بخلاف معجزة الرسول فإن فيها خلافا، إلى آخر ما ذكر. ومما يؤيد هذا الثاني أيضا ما نقله في الخصائص الصغرى عن بعضهم وأقره: فرض الله على الأنبياء إظهار المعجزات ليؤمنوا بها، وفرض على الأولياء كتمان الكرامات لئلا يفتتنوا بها انتهى. فقد قابل بين المعجزة والكرامة. وفيه تصريح بأنه يجب على النبي غير المرسل إظهار المعجزة.
وعن القرافي المالكي أنه يجب على النبي أنه يخبر بنبوته، وذكر في الأصل أن الغرض ذكر نبذة من معجزاته، وإلا فمعجزاته كالبحر المتدافق بالأمواج.
وقد ذكر بعض العلماء أن معجزاته لا تنحصر. وفي كلام بعض آخر أنه أعطى ثلاثة آلاف معجزة: أي غير القرآن، فإن فيه ستين، وقيل سبعين ألف معجزة تقريبا.
قال في الخصائص: قال الحليمي: وليس في شيء معجزات غيره ما ينحو نحو اختراع الأجسام، فإن ذلك من معجزات نبينا خاصة، هذا كلامه. وفيه أن هذا معارض بقول الله تعالى حكاية عن عيسى {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} الآية.
والغرض ذكر تلك النبذة مجموعة وإن كان أكثرها قد سبق لكنه مفرق، أي وأنبه على ما تقدم بقولي أي كما تقدم، وأسكت عن ذلك فيما لم يتقدم.
فمن معجزاته وهو أعظمها القرآن، أي لأنه تعالى أتى به مشتملا على أخبار الأمم السالفة وسير الأنبياء الماضية التي عرفها أهل الكتاب، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا عرف بمجالسة الكهان والأحبار، لأنه قد نشأ بين أظهرهم في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار القرون الماضية والأمم السالفة التي اشتمل عليها، أي ومن كان من العرب يكتب ويقرأ ويجالس الأحبار لم يدرك علم ما أخبر به من القرآن خصوصا عن المغيبات المستقبلة الدالة على صدقه، لوقوعها على ما أخبر به. وقد أعجز الفصحاء البلغاء، أي لحسن تأليفه والتآم كلماته، بهرت العقول بلاغته، وظهرت على كل قول فصاحته، أحكمت آياته وفصلت كلماته، فحارت فيه عقولهم، وتبلدت فيه أحلامهم، وهم رجال النظم والنثر، وفرسان السجع والشعر.
وقد جاء على وصف مباين لأوصاف كلامهم النثر، لأن نظمه لم يكن كنظم الرسائل والخطب، ولا الأشعار وأسجاع الكهان.
وقد تحداهم ودعاهم إلى معارضته والإتيان بأقصر سورة منه، أي وهو دليل قاطع على أنه لم يقل له ذلك إلا وهو واثق مستيقن أنهم لا يستطيعون ذلك، لكونه من عند الله، إذا يستحيل أن يقول ذلك وهو يعلم أنه الذي تولى نظمه ولم ينزل عليه من عند الله، إذ لا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه وهم أهل فصاحة وشعر وخطابة قد بلغوا الدرجة العليا في البلاغة، وهو من جنس كلامهم، فيصير كذابا، ولو كان في استطاعة أحد منهم ذلك لما عدلوا عن ذلك إلى المحاربة التي فيها قتل صناديدهم ونهب أموالهم وسبي ذراريهم، أي لأن النفوس إذا قرعت بمثل هذا استفرغت الوسع في المعارضة، فهو ممتنع في نفسه عن المعارضة، خلافا لمن قال إنما لم تقع المعارضة منهم لأن الله تعالى صرفهم عنها مع وجود قدرتهم عليها، لأنه وإن كان صرفهم عنها فيه إعجاز لكن الإعجاز في الأول أكمل وأتم، وهو اللائق بعظيم فضل القرآن.
ومن ثم لما جاءه الوليد بن المغيرة وكان المقدم في قريش بلاغة وفصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش كما تقدم، وقال له: اقرأ عليّ، فقرأ {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقال له أعده، فأعاد ذلك قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وفي رواية قرأ عليه {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب} الآيات فانطلق حتى أتى منزل أهله بني مخزوم فقال: والله كلام محمد ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إلى آخر ما تقدم، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: قد صبأ الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أكفيكموه، فقعد على هيئة الحزين فمر به الوليد، فقال له: ما لي أراك كئيبا؟ قال: وما يمنعني أن أحزن، وهذه قريش قد جمعوا لك نفقة ليعينوك على أمرك، وزعموا أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه، فغضب الوليد وقال: أوليس قد علمت قريش أني من أكثرهم مالا وولدا، وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام؟ فانطلق مع أبي جهل حتى أتى مجلس بني مخزوم فقال: هل تزعمون أن محمدا كذاب فهل رأيتموه كذبكم قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: فتزعمون أنه مجنون فهل رأيتموه خرفكم قط؟ أي أتى بالخرافات من القول؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل سمعتموه يخبر بما تخبر به الكهنة؟ قالوا: لا، فعند ذلك قالت له قريش: فما هو يا أبا المغيرة؟ فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر.
وقد سمع أعرابي رجلا يقرأ {فاصدع بما تؤمر} فسجد، فقيل له في ذلك فقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقرأ {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} فقال: أشهد أن مخلوقا لن يقدر على مثل هذا الكلام. أي ولما سمع الأصمعي من جارية خماسية أو سداسية فصاحة فعجب منها، فقالت له: أوتعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} الآية فجمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟
ولما أراد بعضهم معارضة بعض سوره وقد أوتي من الفصاحة البلاغة الأوفى، فسمع صبيا في المكتب يقرأ {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر} رجع عن المعارضة ومحا ما كتبه. وقال والله ما هذا من كلام البشر. قال بعضهم: ولم يتحدّ بشيء من معجزاته إلا بالقرآن. قال لعضهم: كل جملة من القرآن معجزة، وحفظ من التبديل والتحريف على ممر الدهور، وقارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل لا يزال مع تكريره وترديده غضا طريا، تتزايد حلاوته، وتتعاظم محبته، وغيره من الكلام ولو بلغ الغاية يمل من الترداد ويعادى، إذا أعيد يؤنس به في الخلوات ويستراح بتلاوته من شدائد الأزمات، واشتمل على جميع ما اشتملت عليه جميع الكتب الإلهية وزيادة.
وقد قال بعض بطارقة الروم لما أسلم لعمر : إن آية {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه} جمعت جميع ما أنزل على عيسى من أحوال الدنيا والآخرة.
قال الحليمي في منهاجه: ومن عظم قدر القرآن أن الله خصه بأنه دعوة وحجة، ولم يكن هذا لنبي قط، إنما يكون لكل منهم دعوة، ثم يكون له حجة غيرها، وقد جمعهما الله تعالى لرسوله في القرآن، فهو دعوة وحجة، دعوة بمعانيه، حجة بألفاظه.
وكفى الدعوة شرفا أن تكون حجتها معها، وكفى حجتها شرفا أن لا تنفصل دعوتها عنها. وجمع كل شيء أي خصوصا الإخبار بالمغيبات، وتوجد على طبق ما أخبر به، والإخبار عن القرون السالفة، كقصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام، وقصة أهل الكهف، وقصة ذي القرنين. والأمم الماضية كقصص الأنبياء مع أممهم، وتيسره للحفظ، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، ولا تزيع به الأهواء.
ومنها شق صدره الشريف، أي والتآمه من غير حصول أدنى ضرر ولا مشقة مع تكرر ذلك أربعا أو خمسا كما تقدم.
ومنها إخباره عن صفة بين المقدس: أي لما أخبر قريشا بأنه أسري به إلى بيت المقدس كما تقدم.
ومنها إخباره بموت النجاشي يوم موته، وصلاته عليه مع أصحابه، فقال المنافقون: انظروا هذا يصلي على علج نصراني: أي لم يره قط، فأنزل الله تعالى {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم} الآية.
ومنها انشقاق القمر كما تقدم.
ومنها أن الملأ من قريش لما تعاقدوا على قتله في دار الندوة، جاؤوا إلى منزله، وقعدوا إلى بابه، فخرج عليهم وقد خفضوا أبصارهم، وسقطت ذقونهم في صدورهم، وأقبل حتى قام على رؤوسهم قبضة من تراب، والقبضة بضم القاف: الشيء المقبوض، وبفتحها: المرة الواحدة، وقال «شاهت الوجوه» أي قبحت، وألقاها على رؤوسهم، فكل من أصابه شيء من ذلك قتل يوم بدر كما تقدم.
ومنها أنه هزم القوم يوم حنين بقبضة من تراب رمى بها في وجوههم كما تقدم له في بدر مثل ذلك.
ومنها نسج العنكبوت عليه في الغار، أي وعلى بعض أتباعه كما تقدم.
ومنها ما وقع لسراقة ، من غوص قوائم فرسه في الأرض الجلد كما تقدم في خبر الهجرة.
ومنها در الشاة التي لم ينز الفحل عليها كما تقدم في قصة شاة أم معبد. وفي قصة أخرى عن أبي العالية قال: «بعث النبي ﷺ إلى أبياته التسعة يطلب طعاما وعنده ناس من أصحابه فلم يجد، فنظر إلى عناق في الدار ما نتجت قط، فمسح مكان ضرعها، فدفقت بضرع مدلى بين رجليها، فدعا بقعب فحلب فيه، فبعث إلى أبياته قعبا، ثم قعبا، ثم حلب فشرب وشربوا».
ومنها دعوته لعمر أن يعز به الإسلام فكان كذلك كما تقدم.
ومنها دعوته لعليّ أن يذهب عنه الحر والبرد فلم يشك واحدا منهما وكان كرم الله وجهه يلبس ثياب الشتاء في الصيف وثياب الصيف في الشتاء ولا يتأثر كما تقدم.
أي ومن ذلك ما حدّث به بلال قال: «أذنت في غداة باردة فخرج النبي ﷺ فلم ير في المسجد أحدا، فقال: أين الناس؟ فقلت: حبسهم البرد. فقال: اللهم أذهب عنهم البرد، قال: فلقد رأيتهم يتروّحون في الصلاة».
ومنها دعاؤه لعلي كرم الله وجهه وقد أصابه مرض واشتد به وسمعه يقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني، وإن كان بلاء فصبرني، فقال له النبي ﷺ: كيف قلت؟ فأعاد ذلك عليه، فمسح بيده المباركة الشريفة، ثم قال: اللهم اشفه، فما عاد ذلك المرض إليه.
أي ومنها دعاؤه لحذيفة في الخندق ليلة انهزام الأحزاب، بأن الله يذهب عنه البرد، فكان كأنه يمشي في حمام كما تقدم.
ومنها أنه تفل في عيني علي كرم الله وجهه وهو أرمد، فعوفي من ساعته كما تقدم في خيبر.
أي ومنها أنه بصق في نحر كلثوم بن الحصين وقد رمي فيه بسهم يوم أحد فبرأ كما تقدم.
ومنها تفل على أثر سهم في وجه أبي قتادة في غزاة ذي قرد، فما ضرب عليه ولا قاح كما تقدم.
ومنها أنه تفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تؤلمه كما تقدم.
ومنها أنه نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت كما تقدم.
أي ومنها أنه نفث على رجل ورأس زيد بن معاذ حين أصابهما السيف عند قتل كعب بن الأشرف فبرأ كما تقدم.
ومنها أنه نفث على ساق بن علي الحكم يوم الخندق وقد انكسرت، فبرأ مكانه ولم ينزل عن فرسه كما تقدم.
ومنها أنه نفث على يد معوذ بن عفراء وقد قطعها عكرمة بن أبي جهل يوم بدر، وجاء يحملها فألصقها رسول الله فالتصقت كما تقدم.
ومنها أن محمد بن حاطب يحدث عن أمه أنها ولدته بأرض الحبشة وأنها خرجت به، قالت: حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طعاما ففني الحطب، فذهبت أطلب، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فقدمت المدينة، فأتيت بك رسول الله، فقلت: يا رسول الله هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي بك: أي بعد الإسلام قالت: فتفل رسول الله ﷺ في فيك ومسح على ذراعك ودعا لك ثم تفل على يدك، ثم قال: «أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما» قالت: فما قمت من عنده حتى برئت يدك.
ومنها أنه نفث على عاتق خبيب وقد أصيبت يوم بدر بضربة على عاتقه حتى مال شقه فرده رسول الله ﷺ مكانه، فالتصق كما تقدم.
ومنها رد عين قتادة بعد أن سالت على خده، فكانت أحسن عينيه كما تقدم.
ومنها أن ضريرا شكا إليه ذهاب بصره وأنه لا قائد له، فقال له: توضأ وصلّ ركعتين ولقنه دعاء فدعا به فأبصر لوقته.
أي ومنها أن رجلا ابيضت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله ﷺ في عينيه فأبصر. قال بعضهم: رأيته وهو ابن ثمانين يدخل الخيط في الإبرة.
ومنها أن عتبة بن فرقد السلمي كان يشم منه رائحة الطيب ولا يمس طيبا، لكونه نفث في يده الشريفة ومرّ بها على جسده. قال بعض نساء عتبة: كنا أربع نسوة ما منا امرأة إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها وما يمس عتبة الطيب، وإذا خرج إلى الناس، قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلن له يوما: إنا لنجهد في الطيب ولأنت أطيب ريحا منا فممّ ذلك؟ فقال: أخذني الشرا على عهد رسول الله، فشكوت إليه ذلك، فأمرني أن أتجرد فتجردت وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده الشريفة ودلك بها الأخرى ثم مسح ظهري وبطني بيديه فعبق هذا الذيب من يديه يومئذ، وإلى ذلك أشار صاحب الأصل بقوله ورحمنا به:
وعتبة لما مسه راح عاطرا ** يضوع الشذا منه بأعطر ما يحوي
ومنها دعوته لعبد الله بن عباس بأن الله يعلمه التأويل والفقه في الدين، فعن ابن عباس «ضمني رسول الله ﷺ إلى صدره، وقال: اللهم علمه الكتاب»، وفي لفظ «الحكمة» وعنه ، قال: «أتى النبي ﷺ الخلاء فوضعت له وضوءا، فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال: اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل».
وعن عبد الله بن عمر ، قال: «دعا رسول الله ﷺ لعبد الله بن عباس، قال: اللهم بارك فيه، وانشر منه فكان كما دعا».
ومنها دعاؤه لجمل جابر ، فصار سابقا بعد أن كان مسبوقا كما تقدم.
ومنها دعاؤه لأنس بطول العمر وكثرة المال والولد فكان كما دعا. فقد ذكر أنه عاش فوق المائة، وأخبر عن نفسه أنه أكثر الأنصار مالا، ولم يمت حتى رأى مائة ولد من صلبه، وقد كان دفن مائة وعشرين من أولاده حين قدم الحجاج البصرة، وولد له بعد ذلك.
أي ومنها دعاؤه لأم أبي هريرة بالإسلام فأسلمت. فعنأبي هريرة قال «كنت أدعو أمي للإسلام وهي مشركة فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله ﷺ ما أكره، فأتيت رسول الله ﷺ وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله قد كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أمّ أبي هريرة، فقال رسول الله ﷺ: اللهم اهد أم أبي هريرة للإسلام، فخرجت مستبشرا بدعوة النبي، فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مجاف: أي مردود، فسمعت أمي حسّ قدمي، فقالت: على رسلك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فخرجت إلى رسول الله ﷺ فأتيته وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أمّ أبي هريرة، فحمد الله وقال خيرا.
ومنها دعاؤه في تمر حائط جابر بالبركة، فأوفى منه ما عليه وهو ثلاثون وسقا بسبب دين استدانه والده من يهودي، وفضل بعد ذلك ثلاثة عشر وسقا. وفي رواية: سبعة عشر وسقا، أي مع قلة ما كان فيه من التمر حتى قال جابر : كنت أود أن يؤدي الله دين والدي ولا أرجع إلى إخوتي بتمرة واحدة فإن النخل في ذلك العام لم يحمل إلا القليل، وصار رسول الله ﷺ يكلم اليهودي في أن يصبر إلى عام قابل وهو يأبى ويقول: يا أبا القاسم لا أنظره، فقام رسول الله ﷺ فطاف في النخيل، ثم قال: يا جابر جذّ، أي اقطع واقض، فأخذت في الجذاذ ووفيته ثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا، فجئته فأخبرته فضحك، وقال: أخبر بذلك عمر بن الخطاب ، فذهبت فأخبرته فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ﷺ ليباركنّ فيها.
وفي لفظ آخر عن جابر: توفي أبي وعليه دين فعرضت على غرمائه أن يأخذوا النخل بما عليه. فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء، فأتيت النبي ﷺ فذكرت له ذلك، فقال: إذا جذذته ووضعته في المربد فأعلمني فجذذته، فلما وضعته في المربد آذنت رسول الله، فجاء ومعه أبو بكر وعمر فجلس عليه ودعا بالبركة، أي وهذا محمل رواية: ودعا في تمر جابر بحذف حائط.
وقد يقال: يجوز أن يكون طاف في النخل أولا ودعا، ثم لما قطع التمر ووضع في المربد جاء وجلس عليه ودعا فلا مخالفة، ثم قال: ادع غرماءك فأوفهم، فما تركت أحدا له دين إلا قضيته وفضل مثله، فجئت رسول الله ﷺ فبشرته، فقال: أشهد أني رسول الله.
ومنها استسقاؤه فأمطرت السماء أسبوعا، ثم شكي من كثرة المطر فاستصحى لهم فانجاب السحاب كما تقدم.
ومنها أنه دعا على عتيبة بالتصغير ابن أبي لهب بأن يسلط عليه كلب فافترسه الأسد من بين القوم كما تقدم، أي والأسد إنما يسمى كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله، ومن ثم قيل إن كلب أهل الكهف كان أسدا. وحكي أنه كان رجلا يسمى بالكلب لملازمته للحراسة. ويرده ما جاء ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أهل الكهف، وحمار العزير، وناقة صالح، وتقدم ذلك مع زيادة. وأما عتبة مكبرا فقد أسلم يوم فتح مكة هو وأخوه معتب هذا هو المشهور وبعضهم عكس، فقال: عتبة المكبر هو عقير الأسد، وعتيبة المصغر هو الذي أسلم يوم الفتح.
ومنها شهادة الشجرة له بالرسالة في خبر الأعرابي الذي دعاه إلى الإسلام، فقال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال: نعم هذه الشجرة ادعها، فدعاها فأقبلت فاستشهدها فشهدت أنه كما قال ثلاثا ثم رجعت إلى منبتها.
ومنها أمره للشجرتين اللتين كانتا بشاطىء الوادي أن يجتمعا ليستتر بهما عند قضاء الحاجة، فاجتمعا ثم افترقتا وذهبتا إلى محلهما كما تقدم في غزاة خيبر.
ومنها أمره أنسا أن يتلطف إلى نخلاته يقول لهن، أمركن رسول الله ﷺ أن تجتمعن ليقضي حاجته بينكن، فلما قضى حاجته أمره أن يأمرهن بالعود إلى أماكنهن فعدن كما تقدم.
ومنها مجيء الشجرة إليه لتظله وتسلم عليه. فقد جاء أنه نام: أي في الشمس فجاءت شجرة تشق الأرض حتى قامت عليه، فلما استيقظ ذكر له ذلك. فقال: هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم عليّ فأذن لها.
ومنها حنين الجذع إليه كما تقدم. ومنها تسبيح الحصا في كفه كما تقدم.
أي ومنها تأمين أسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه آمين آمين آمين كما تقدم.
ومنها تسبيح الطعام بين أصابعه الشريفة. ومنها إعلام الشاة المسمومة له بأنها مسمومة كما تقدم. ومنها شكوى البعير له قلة العلف وكثرة العمل كما تقدم.
أي ومنها شكوى بعض الطيور له بسبب أخذ بيضه أو فراخه. فقد جاء: «أن حمرة جاءت فوق رأسه، فقال: أيكم فجع هذه؟ فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضها، فقال: رده رده رحمة لها». وفي لفظ: «من فجع هذه بفرخيها؟ فقلنا: نحن، فقال: ردوهما إلى موضعهما» ولا مانع من وجود البيض مع الفراخ.
ومنها سجود البعير له الذي استصعب على أهله وصار كالكلب الكلب لا يقدر أن يقرب إليه كما تقدم.
ومنها سجود الغنم له في بعض حوائط الأنصار كما تقدم.
ومنها تكليم الجمل له كما تقدم.
ومنها تكليم الحمار له في خيبر، وهو اليعفور كما تقدم.
ومنها شهادة الجمل عنده أنه لصاحبه الأعرابي دون من ادعاه. ففي المعجم الكبير للطبراني عن زيد بن ثابت ، قال: «كنا مع رسول الله ﷺ فبصرنا بأعرابي أخذ بخطام بعيره حتى وقف على النبي ﷺ ونحن حوله، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد عليه النبي ﷺ السلام. وجاء رجل آخر كأنه حرسي، فقال الحرسي: يا رسول الله هذا الأعرابي سرق سرب البعير، فرغا البعير ساعة وحنّ فأنصت له رسول الله ﷺ ساعة فسمع رغاءه وحنينه، فلما هدأ البعير أقبل على النبي ﷺ فقال للرجل: انصرف عنه فإن البعير شهد عليك أنك كاذب فانصرف، وأقبل النبي ﷺ على الأعرابي؟ فقال: أي شيء قلت حين جئت لي، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ﷺ صلّ على محمد حتى لا تبقى صلاة، وبارك على محمد حتى لا تبقى بركة، اللهم سلم على محمد حتى لا يبقى سلام، اللهم وارحم محمدا حتى لا يبقى رحمة، فقال رسول الله ﷺ: إن الله عز وجل أبداها لي والبعير ينطق بعذرك وإن الملائكة قد سدوا الأفق.
أي ومنها سؤال الظبية له، أن يخلصها لترضع ولدها وتعود، فخلصها، وعادت وتلطفت بالشهادتين. فعن أبي سعيد الخدري : «مرّ رسول الله ﷺ على ظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله خلصني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني، فقال لها: صيد قوم وربيطة قوم، ثم استحلفها أن ترجع، فحلفت له، فحلها فمكثت قليلا ثم جاءت وقد نفضت ضرعها، فربطها رسول الله، ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له فحلّها.
وعن زيد بن أرقم نحو هذا، وزاد فأنا والله رأيتها لتسبح في البرية وتقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وذكر بعضهم أن حديث الغزالة موضوع.
أي ومنها شهادة الذئب له بالرسالة كما تقدم.
ومنها شهادة الضبّ له بالرسالة كما تقدم.
ومنها إخباره عن مصارع المشركين ببدر، فلم يعد أحد منهم من مصرعه كما تقدم.
ومنها إخباره بأن طائفة من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بالراء المهملة بنت ملحان منهم، فكان كذلك كما تقدم.
ومنها إخباره لعثمان بن عفان بأنه تصيبه بلوى شديدة فأصابته وقتل فيها.
ومنها قوله للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني» والأثرة: بضم الهمزة وسكون الثاء المثلثة: أي يستأسر عليكم غيركم بأمور الدنيا، فكان ما وقع في زمن معاوية في وقعة الجمل وصفين، وفي زمن ولده يزيد في وقعة الحرة كما تقدم.
ومنها إخباره بأنه لا يبقى أحد من أصحابه بعد المائة: أي من الهجرة. والذي ينبغي أن تكون المائة من حين وفاته، لأن أبا الطفيل آخر من مات من الصحابة فكان موته بعد المائة من الوفاة.
وعن أبي الطفيل قال: «وضع رسول الله ﷺ يده على رأسي، وقال: يعيش هذا الغلام قرنا فعاش مائة سنة».
ومنها إخباره بالمغيبات وهو باب واسع جدا.
فمن ذلك أنه جيء إليه برجل سرق، فقال: اقتلوه، فقيل له إنه سرق. فقال: اقطعوه، ثم أتي به بعد إلى أبي بكر وقد سرق فقطع، ثم ثالثة ورابعة إلى أن قطعت قوائمه، ثم جيء به إلى أبي بكر وقد سرق، فقال له أبو بكر : لا أجد لك شيئا إلا ما قضى به فيك رسول الله ﷺ يوم أمر بقتلك، فإنه كان أعلم بذلك، ثم أمر بقتله.
ومنها قوله لقيس بن خرشة العبسي وقد قال له: «يا رسول الله أبايعك على ما جاء من الله، وعلى أن أقول الحق: يا قيس عسى إن مرّ بك الدهر أن يليك ولاة لا تستطيع أن تقول معهم الحق، فقال قيس: لا والله لا أبايعك على شيء إلا وفيت به، فقال له رسول الله ﷺ: إذن لا يضرك شيء» وكان قيس يعيب زيادا وابنه عبيد الله بن زياد ومن بعده، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل إليه فقال له: أنت الذي تفتري على الله وعلى رسوله؟ فقال: لا والله ولكن إن شئت أخبرك بمن يفتري على الله ورسوله؟ قال: ومن هو؟ قال: من ترك العمل بكتاب الله وسنة رسوله، قال: ومن ذلك؟ قال: أنت وأبوك ومن أمركما. قال: وأنت الذي تزعم أنك لا يضرك بشر؟ قال نعم. قال: لتعلمنّ اليوم أنك كاذب، ائتوني بصاحب العذاب، فمال قيس عند ذلك فمات.
ومن ذلك قوله لزوجاته: «أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟ وأيتكن صاحبة الجمل الأديب» بالدال المهملة والفك لغة في الأدب بالإدغام: وهو كثير الشعر «يقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعدما كادت» فكانت تلك عائشة ، فإنه لما قتل عثمان بن عفان كانت عائشة بمكة، لأنها خرجت إلى مكة وهو محاصر وكلمها مروان بن الحكم في عدم الخروج، وقال لها: لا تخرجي يا أماه، فجاء إليها طلحة والزبير بعد أن بايعا عليا على كره، واستأذنا عليا كرم الله وجهه في العمرة فأذن لهما فقدما مكة، وخرجت بنو أمية من المدينة ولحقت بمكة قبل المبايعة لعليّ، فخرج مروان وغيره من أهل المدينة، وجاء إلى عائشة يعلى بن أمية وكان عاملا لعثمان باليمن. فلما بلغه حصار عثمان قدم لنصرته فسقط من على بعيره في أثناء الطريق فكسر فخذه، وبلغه قتل عثمان، فلا زالوا بعائشة حتى وافقت على الخروج إلى العراق في طلب دم عثمان ، ودفع لها ذلك الجمل يعلى بن أمية اشتراه بمائتي دينار، وأعان الزبير بأربعمائة ألف دينار، وصار يقول: من خرج في طلب دم عثمان فعليّ جهازه، فحمل سبعين رجلا من قريش، وطلبت عائشة عبد الله بن عمر أن يكون معها. فقال: معاذ الله أن أدخل في الفتنة، ويقال إن طلحة والزبير دعوا عبد الله بن عمر إلى الخروج معهم، فقال لهم: أما تخافون الله أيها القوم، وتدعوا هذا الأباطيل عنكم؟ وكيف أضرب في وجه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالسيف وقد عرفت فضله وسابقته ومكانته من رسول الله، وإنكما بايعتماه وسألتماه القيام بهذا الأمر ثم نكثتما بعد أن جعل الله عليكما شهيدا، وإنه ما بدل ولا غير. والقاتل لعثمان أخو زعيمتكم ورئيستكم يعني بعائشة وأخوها محمد بن أبي بكر ، فإنه أخذ بلحيته فضربها حتى تقلقلت أضراسه وضربه بالمشقص، فلما كانت عائشة في أثناء الطريق سمعت كلابا تنبح، فسألت عن ذلك المحل، فقيل لها: هذا الحوأب، فأرادت الرجوع لما تذكرت ما قال لها رسول الله. أي فإنها صرخت وأناخت بعيرها، وقالت: والله أنا صاحبة الحوأب، ردوني ردوني ردوني. فعند ذلك يقال إن طلحة والزبير أحضرا خمسين رجلا شهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب، وأن المخبر لها كذاب. قال الشعبي: وهي أول شهادة زورت في الإسلام، وقال لها الزبير : ولعل الله أن يصلح بك بين الناس، فلما بلغ عليا كرم الله وجهه توجه عائشة ومن ذكر معها إلى العراق توجه إلى العراق بعد أن كان أراد الذهاب إلى الشام وقام في الناس، وقال: ألا إن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد تمالؤوا على سخط إمارتي، وإني خارج إليهم، ثم جاءه الخبر أن ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان، وهو منصوب على منبر دمشق ومعلق فيه أصابع زوجة عثمان، فقال: أمني يطلبون دم عثمان؟ ولما أراد الخروج جاءه عبد الله بن سلام ، فقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها: أي المدينة، فوالله لئن خرجت منها لا يرجع إليها سلطان المسلمين فسبوه، وقالوا له: يا ابن اليهودية ما لك ولهذا الأمر؟ فقال لهم علي كرم الله وجهه: دعوا الرجل، فنعم الرجل من أصحاب محمد.
ثم إن طلحة والزبير وأم المؤمنين وصلوا إلى البصرة ووقع بينهم وبين أهل البصرة مقتلة كبيرة، بعد أن افترقوا فرقتين إحداهما تقول صدقت وبرت، يعني عائشة وجاءت بالمعروف. وقالت الأخرى كذبت. ثم انحازت الأخرى إلى عسكر أم المؤمنين وقهروا أهل البصرة، ونادى منادي الزبير وطلحة: ألا من كان عنده أحد ممن غزا المدينة فليأت به، فجيء بهم كما يجاء بالكلاب وكانوا ستمائة فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة إلا حرقوص بن زهير. وكتب طلحة والزبير إلى أهل الشام: إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب الله، فوافقنا خيار أهل البصرة وخالفنا شرارهم، ولم يفلت من قتلة أمير المؤمنين عثمان من أهل البصرة إلا حرقوص بن زهير، والله مقيده إن شاء الله. وكتبوا لأهل الكوفة بمثله وكتبوا إلى أهل اليمامة بمثل ذلك، وكتبوا إلى أهل المدينة بمثل ذلك.
ثم سار علي كرم الله وجهه إلى البصرة، ثم أرسل إلى أهل الكوفة يستنفرهم إليه فنفروا إليه بعد أمور يطول ذكرها، وكانوا سبعة آلاف. والتقى الجيشان جيش علي كرم الله وجهه وجيش عائشة أم المؤمنين ، بعد أن كتب لطلحة والزبير: أما بعد، فقد علمتما أني لم أرد البيعة حتى أكرهت عليها، وأنتما ممن رضي ببيعتي وألزمني إياها، فإن كنتما بايعتما طائعين فتوبا إلى الله وارجعا عما أنتما عليه فإنك يا طلحة شيخ المهاجرين، وأنت يا زبير فارس قريش، لو دفعتما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه لكان أوسع لكما من خروجكما منه والسلام. وكتب لعائشة : أما بعد، فإنك قد خرجت من بيتك تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين، وطلبت بزعمك دم عثمان وأنت بالأمس تؤلبين عليه فتقولين في ملأ من أصحاب رسول الله ﷺ اقتلوا نعثلا فقد كفر، قتله الله، واليوم تطلبين بثأره، فاتقي الله وارجعي إلى بيتك وأسبلي عليك سترك قبل أن يفضحك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما قرؤوا الكتابين عرفوا أنه على الحق.
وعند ذلك خرج طلحة والزبير على فرسين وخرج إليهما علي كرم الله وجهه، ودنا كل واحد من الآخر. فقال لهما عليّ: لعمري لقد أعددتما خيلا ورجالا وسلاحا، فاتقيا الله ولا تكونا {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} ألم تكونا: أخويّ في الله تحرمان دمي وأحرم دمكما؟ فقال له طلحة : ألبت الناس على عثمان، فقال له علي كرم الله وجهه: أنتما خذلتماه، حتى قتل، فسلط الله اليوم على أشرنا على عثمان ما يكره، ثم توافقوا على الصلح، وقتل من كان له دخل في قتل عثمان .
وبات الفريقان على ذلك. وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وباتوا يتشاورون. ثم اتفقوا على إنشاب الحرب، فلما كان وقت الغلس ثاروا ووضعوا السلاح، فثار الناس، فخرج طلحة والزبير في وجوه الناس. وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا جيش عليّ فقالا: علمنا أن عليا غير سفيه حتى يسفك الدماء، ويستحل الحرمة: فقام علي كرم الله وجهه في وجوه الناس. وقال: ما هذا، قالوا: طرقنا جيش عائشة. فقال: لقد علمت أن طلحة والزبير غير سفيهين حتى يستفكا الدماء ويستحلا الحرمة، ونشبت الحرب فألبسوا هودج عائشة الدروع، ووقفت على الجمل، وصار كل من أخذ زمامه قتل، وقتل طلحة جاءه سهم غرب يقال أرسله له مروان بن الحكم وهو كان في جيش أم المؤمنين. وفر الزبير لما قال له علي كرم الله وجهه: يا زبير أتذكر لما قال لك رسول الله ﷺ: إنك تقاتلني وأنت ظالم لي؟ فقال: والله لو ذكرت ذلك ما قاتلتك ولا سرت سيري هذا، ولكن رجوعي عين العار، فقال له علي كرم الله وجهه: ترجع بالعار ولا ترجع بالنار، فترك وذهب، وصار الهودج مثل القنفذ من كثرة النشاب. فعند ذلك عقروا الجمل، ووقع الهودج على الأرض، وجعلت تقول عائشة : يا بني اتبعنه اتبعنه. وعند ذلك قال علي كرم الله وجهه لمحمد بن أبي بكر ، انظر أختك هل أصابها شيء؟ فلما جاءها وأدخل يده، قالت: من أنت؟ قال: ابن الخثعمية، قالت: محمد؟ قال نعم. قالت: بأبي أنت وأمي، الحمد لله الذي عافاك. وفي رواية قال لها: أخوك محمد البار، فقالت: بل مذمم العاق فضرب عليها فسطاطا، فلما كان من آخر الليل خرج بها، وأدخلها البصرة وأنزلها في دار صفية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وبكت عائشة بكاء كثيرا وقالت: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وقد قال علي كرم الله وجهه مثل ذلك لما رأى من كثرة القتلى، فقد قيل: إن القتلى بلغت عشرة آلاف، وقيل ثلاثة عشر ألفا.
ثم إن عليا كرم الله وجهه صلى على القتلى من الفريقين، ثم دخل البصرة على بغلته متوجها لعائشة ، فلما دخل عليها سلم عليها وقعد عندها ثم جهزها بكل شيء ينبغي لها، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وأمرهن بلبس العمائم وتقليد السيوف، ثم قال لهن: لا تعلمنها بأنكن نسوة وتلثمن مثل الرجال وكن حولها من بعيد ولا تقربنها، وقال لأخيها محمد: تجهز معها. وفي رواية جهز معها أخاها عبد الرحمن في جماعة من شيوخ الصحابة. فلما كان يوم خروجها جاء إليها علي كرم الله وجهه ووقف الناس وخرجت فودعها وودعتهم، وقالت: يا بني والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي عليه عندي لمن الأخيار، فقال علي: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وذهب معها نحو سبعة أميال: ثم ذهبت إلى مكة حتى حجت، ثم رجعت إلى المدينة وعلمت عند وصولها إلى مكة أن هؤلاء الرجال حولها نساء فإنهن كشفن عن وجوههن وعرفنها الحال فشكرت وقالت: والله لا يزداد ابن أبي طالب إلا كرما.
وقيل إن كعب بن سعد أتى عائشة وقال: لعل الله أن يصلح بك، والأولى الصلح والسكون والنظر في قتلة عثمان بعد ذلك، فوافقت وركبت هودجها وقد ألبسوه الأدراع ثم بعثوا جملها وذهب إلى علي كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، فقال له: قد أحسنت، وأشرف القوم على الصلح، فخافت قتلة عثمان فأشار عليهم ابن السوداء الذي هو السبائي الذي هو أصل الفتنة أن يفترقوا فرقتين تكون كل فرقة في عسكر من العسكرين، فإذا جاء وقت السحر ضربت كل فرقة منهما إلى العسكر الذي فيه الفرقة الأخرى فنادت كل فرقة في العسكر الذي هي فيه غررنا، ففعلوا ذلك، فنشبت الحرب وحصل ما تقدم.
ومن ذلك قوله في الحسن : «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فصالح معاوية ، وحقن دماء الفئتين من المسلمين. أي فإن الحسن لما بويع له بالخلافة يوم مات أبوه كان في الخلافة سبعة أشهر، وقيل ستة أشهر. ولما سار إلى قتال معاوية كان معه أكثر من أربعين ألفا، فلما سار عدا عليه شخص وضربه بخنجر في فخذه ليقتله، فقال الحسن: قتلتم أبي بالأمس، ووثبتم عليّ اليوم، تريدون قتلي، زهدا في العادلين، ورغبة في القاسطين، لتعلمن نبأً بعد حين.
أي ويذكر أنه بينما هو يصلي إذ وثب عليه شخص فطعنه بخنجر وهو ساجد، ثم خطب الناس، فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم ونحن أهل البيت الذين قال الله فيهم: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يبكي.
ثم كتب إلى معاوية بتسليم الأمر: أي بعد أن أرسل إليه معاوية رجلين يكلمانه في الإصلاح، فإن عمرو بن العاص لما رأى الكتائب مع الحسن أمثال الجبال، قال لمعاوية: إني لأرى هذه الكتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فخلع الحسن نفسه وسلم الأمر إلى معاوية، تورعا وزهدا، وقطعا للشر، وإطفاء لثائرة الفتنة، وتصديقا لرسول الله ﷺ في قوله المتقدم، وغض منه شيعته حتى قال له بعضهم: يا عار المؤمنين سوّدت وجوه المؤمنين، فقال: العار خير من النار. وقال له بعضهم: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال له: لا تقل ذلك كرهت أن أقتلكم في طلب الملك، وعند ذلك: أي لما انبرم الصلح طلب منه معاوية أن يتكلم بجمع من الناس ويعلمهم أنه سلم الأمر إلى معاوية، فأجابه إلى ذلك وصعد المنبر وحمد الله إلى أن قال في خطبته: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، إلا أن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت أنا ومعاوية فيه إما أن يكون أحق به مني أو يكون حقي، فإن كان حقي فقد تركته لله ولصلاح أمة محمد وحقن دمائهم، ثم التفت إلى معاوية وقال {إن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين}، أي ثم انتقل من الكوفة إلى المدينة وأقام بها، وكان من جملة ما اشترطه على معاوية أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعده، ولا يعهد إلى أحد من بعده عهدا. وقيل على أن يكون الأمر للحسن بعده فلما سم الحسن اتهم بذلك زوجته بنت الأشعث بن قيس، وأن ذلك بدسيسة من يزيد ولد معاوية، ووعدها أن يتزوجها، وبذل لها مائة ألف درهم حرصا على أن يكون الأمر له، فإن معاوية عرّض بذلك في حياة الحسن ولم يكشفه إلا بعد موته. ولما جاء الخبر لمعاوية بموته قال: يا عجبا من الحسن بن علي شرب شربة مع عسل بماء رومة، يعني بئر رومة فقضى نحبه. وأتى ابن عباس معاوية وهو لا يعلم الخبر، فقال له معاوية: هل عندك خبر المدينة؟ قال لا، فقال معاوية: يا بن عباس احتسب الحسن، لا يحزنك الله ولا يسؤك، فأظهر عدم التشوش وقال: أما ما أبقاك الله لي يا أمير المؤمنين فلا يحزنني الله ولا يسوؤني، فأعطاه على تلك الكلمة ألف ألف.
وذكر بعضهم قال: كنا عند الحسن ومعنا الحسين ، فقال الحسن: لقد سقيت السم مرارا وما سقيته مثل هذه المرة، ولقد لفظت طائفة من كبدي، فقال له الحسين: أي أخي ومن سقاك؟ قال: وما تريد؟ أتريد أن تقتله؟ قال نعم. قال: لئن كان الذي أظن فالله أشد نقمة، ولئن كان غيره ما أحب أن يقتل بي بريئا.
وكان الحسن رجلا حليما لم يسمع منه كلمة فحش، وكان مروان وهو وال على المدينة يسبه ويسب عليا كرم الله وجهه كل جمعة على المنبر، فقيل له في ذلك؟ فقال: لا أمحو عنه شيئا بأن أسبه، ولكن موعدي وموعده الله، فإن كان صادقا جازاه الله بصدقه، وإن كان كاذبا فالله أشد نقمة. وأغلظ عليه مروان يوما وهو ساكت، ثم امتخط مروان بيمينه، فقال له الحسن : أف لك، لك علمت أن اليمين لها شرف، فخجل مروان. وبكى مروان في جنازته، فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟ فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا وأشار إلى الجبل.
ومن ثم لما وقع بين الحسن والحسين بعض الشحناء فتهاجرا، ثم أقبل الحسن على الحسين فأكب على رأسه يقبله، فقال له الحسين: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا أنك أحق بالفضل مني، وكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني، وقد تقدم ذلك.
ومن شعر الحسن :
من ظن أن الناس يغنونه ** فليس بالرحمن بالواثق
ومن ذلك إخباره بقتل الأسود العنسي الكذاب: أي الذي ادعى النبوة ليلة قتله بصنعاء وبمن قتله كما تقدم.
أي ومنها إخباره بأن رجلا من أمته يتكلم بعد الموت، فكان كذلك وهو زيد بن حارثة. وتكلم غيره أيضا، فعن ابن المسيب أن رجلا من الأنصار توفي، فلما كفن أتاه القوم يحملونه تكلم، فقال: محمد رسول الله، فلعل المراد بالرجل جنس الرجل.
ومنها إخباره بأن أمته تتخذ الخصيان، وأمرهم أن يستوصوا بهم خيرا، فقال: «سيكون قوم ينالهم الخصاء، فاستوصوا بهم خيرا» وهو يقتضي أن الخصاء لم يكن في غير هذه الأمة.
ومن ذلك إخباره بذهاب الأمانة والعلم والخشوع وعلم الفرائض أي قرب قيام الساعة.
ومن ذلك قوله لثابت بن قيس: «تعيش حميدا، وتقتل شهيدا»، فقتل يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب لعنه الله.
وإخباره بالمغيبات باب واسع. منه الإخبار بالحوادث الكائنة بعده إلى آخر الزمان. والإخبار عن أحوال يوم القيامة من القضاء والحشر والحساب، والإخبار عن الجنة والنار.
فعن حذيفة : «لقد حدثني رسول الله ﷺ بما يكون حتى تقوم الساعة» وصلى رسول الله ﷺ الصبح يوما وصعد المنبر فخطب حتى حضرت الظهر فنزل فصلى الظهر، ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس فأخبر بما كان وبما هو كائن.
ومن ذلك أيضا قوله لمعاذ لما بعثه إلى اليمن في جماعة من المهاجرين والأنصار: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي غدا وقبري» وكان كذلك، توفي رسول الله ﷺ ومعاذ باليمن، ولم يتقدم إلا في خلافة أبي بكر .
ومن ذلك قوله: «سنفتح عليكم مصر، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم رحما وصهرا، والمراد بالرحم، أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام جده فإنها كانت قبطية، والمراد بالصهر أم ولده إبراهيم لأنها كانت قبطية كما علمت.
ومنها إجابة دعائه غير ما تقدم: فمن ذلك دعاؤه لثعلبة بن حاطب الأنصاري أي غير البدري، لأن ذاك قتل بأحد، وهذا تأخر إلى زمن عثمان كما سيأتي خلافا لمن وهم في ذلك، لأن من شهد بدرا لا يدخل النار: وكثيرا ما يقع الاشتراك في الاسم واسم الأب كما قال بعض الصحابة، وهو طلحة بن عبيد الله: لئن مات محمد لأتزوجن عائشة من بعده، فأنزل الله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} الآية، ظن بعضهم أن المراد بطلحة هذا أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحشاة من ذلك، وهو أجلّ مقاما من أن يصدر منه مثل ذلك.
ولما قال ثعلبة بن حاطب له: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له: ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثل رسول الله، فوالذي نفسي بيده، لو سألت ربي أن يسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه، فقال النبي ﷺ: اللهم ارزق ثعلبة مالا، فاتخذ غنما فصارت تنمى كما تنمى الدود، وضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها، فكان يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك الجماعة فيما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجماعة فيما سوىّ الجمعة فإنه كان يشهدها مع النبي، ثم ترك الجمعة فقال النبي ﷺ: ما فعل ثعلبة؟ فأخبروه بخبره، فقال: يا ويح ثعلبة قالها ثلاثا، فلما نزل قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} الآية بعث النبي ﷺ رجلين على الصدقة وكتب لهما فرائض الصدقة وأسنانها وقال لهما مرا بثعلبة، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب النبي، فقال: انطلقا حتى تفرغا، ثم تعودا إليّ فانطلقا ثم مرّا عليه، فقال: أرياني كتابكما أنظر فيه، فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخية الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي، فلما رآهما قال قبل أن يكلماه: يا ويح ثعلبة، فلما أخبراه بالذي صنع ثعلبة، أنزل الله تعالى: {ومنهم من عاهد الله} الآيات، وكان عند النبي ﷺ رجل من أقارب ثعلبة، فأرسل إليه بأن الله قد أنزل فيك قرآنا وهو كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي ﷺ فسأله أن يقبل منه الصدقة فقال: إن الله منعني أن أقبل صدقتك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له النبي ﷺ: هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني، وأبى أن يقبل منه شيئا، فأتى أبا بكر حين استخلف فسأله قبول صدقته، فقال له: لم يقبلها رسول الله ﷺ فأنا لا أقبلها، ثم فعل كذلك مع عمر ، ثم مع عثمان ، وكل يأبى أن يقبل صدقته، ومات في خلافة عثمان.
ومن ذلك قوله في رجل ارتد ولحق بالمشركين: اللهم اجعله آية. فعن أنس قال: كان رجل من بني النجار حفظ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي، فارتد ولحق بأهل الكتاب، وكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتب له، فقال اللهم اجعله آية، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوه وألقوه فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا مثل الأول، فحفروا وأعمقوا، فلفظته الأرض في المرة الثالثة، فعلموا أنه ليس من فعل الناس.
ومن ذلك قوله لرجل يأكل بشماله: «كل بيمينك، فقال: لا أستطيع» أي قال ذلك تكبرا وعنادا «فقال له: لا استطعت، فلم يطق أن يرفعها إلى فيه بعد».
أي ومن ذلك المرأة التي خطبها فقال له أبوها إن بها برصا ولم يكن بها برص، وإنما قال ذلك امتناعا من خطبته، فقال: فلتكن كذلك، فبرصت.
ومن ذلك «أن فاطمة جاءت إليه فنظر إليها وقد ذهب الدم من وجهها وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فقال لها: ادن مني يا فاطمة، فدنت منه، فرفع يده فوضعها على صدرها وفرج بين أصابعه، وقال: اللهم مشبع الجاعة، ورافع الوضيعة، ارفع فاطمة بنت محمد، فذهبت الصفرة عنها حالا، ولم تشك بعد ذلك جوعا».
ومن ذلك ما حدّث به وائلة بن الأسقع قال: «حضر رمضان ونحن في أهل الصفّة فصمنا. فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل الصفة فأخذه فانطلق به فعشاه فأتت علينا ليلة فلم يأتنا أحد، فأصبحنا صياما، ثم أتت علينا الليلة القابلة فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله ﷺ فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها هل عندها شيء؟ فما بقيت امرأة إلا أرسلت تقسم ما أمسى في بيتها ما يأكل ذو كبد، فقال لهم رسول الله ﷺ: اجتمعوا فدعا رسول الله، وقال: اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنهما بيدك لا يملكهما أحد غيرك، فلم يكن إلا مستأذن يستأذن، فإذا بشاة مصلية ورطب، فأمر بها رسول الله ﷺ فوضعت بين أيدينا فأكلنا حتى شبعنا».
ومنها تساقط الأصنام حول الكعبة بإشارته إليها، أو طعنة فيها بقضيب كان في يده قائلا: {جاء الحق وزهق الباطل} كما تقدم.
ومنها تكثير الطعام، وقد وقع له ذلك في مواطن كثيرة.
فمن ذلك إطعام ألف من صاع شعير في حفر الخندق فشبعوا والطعام أكثر مما كان كما تقدم.
ومن ذلك إطعام أهل الخندق من تمر يسير كما تقدم.
ومن ذلك جمع ما فضل من الأزواد ودعاؤه فيها بالبركة وقسمتها في العسكر، فقامت بهم كما تقدم في الحديبية وتبوك.
ومن ذلك دعاؤه لأبي هريرة في تمرات قد صفهن في يده، وقال ادع لي فيهن بالبركة، أي فدعا له بذلك، قال أبو هريرة : فأخرجت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل منه ونطعم حتى انقطع في زمن عثمان ، أي بانقطاع المزود الذي أمره أن يكون به التمر. والمزود: وعاء من جلد يوضع فيه الزاد وقال له: إذا أردت شيئا فأدخل يدك ولا تكفأ فيكفأ عليك، قال أبو هريرة وكان لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان انقطع حقوي فسقط. وفي رواية: كان معلقا خلف رحلي فوقع في زمن عثمان: أي في زمن محاصرته وقتله فذهب. وفي رواية: فلما قتل عثمان انتهب بيتي وانتهب المزود: أي بعد سقوطه من حقوه فلا يخالف ما سبق.
وقد جاء في بعض الروايات عن أبي هريرة : أتيت النبي ﷺ بتمرات، فقلت: يا رسول الله ادع لي فيهن بالبركة، فصفهن ثم دعا فيهن بالبركة وقال: خذهن واجعل في مزودك ما أردت منهن، أي إذا أردت أخذ شيء منهن أدخل يدك فيه فخذه ولا تنثره نثرا. أي وفي لفظ: «غزونا مع رسول الله ﷺ فأصاب الناس مجاعة، فقال النبي ﷺ: يا أبا هريرة هل من شيء؟ قلت: نعم شيء من تمر في المزود، فقال: ائتني به فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها، ثم قال لي: ادع لي عشرة، فدعوت عشرة فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يصنع ذلك حتى أطعم الجيش كلهم، ثم قال: خذ ما جئت به أدخل يدك فاقبض ولا تكفأه، قال: فقبضت على أكثر ما جئت به، ثم أكلت منه حياة رسول الله ﷺ وحياة أبي بكر وأطعمت، وحياة عثمان وأطعمت، وحياة عمر وأطعمت فلما قتل عثمان انتهب مني.
ومن ذلك تكثير الطعام الذي وضعه رسول الله ﷺ على أصابعه، فقد جاء: «أنه دعا أهل الصفة لقصعة ثريد، فأكلوا حتى لم يبق إلا اليسير في نواحيها، فجمعه فصار لقمة، فوضعها على أصابعه وقال لأبي هريرة » أي لأنه كان من أهل الصفة «كل بسم الله. قال أبو هريرة: فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت كما تقدم» قيل وكان أصحاب الصفة حينئذ تسعين، وقيل مائة ونيفا، وقيل أربعمائة.
ومن ذلك تكثير الطعام الذي جاء به أنس للنبي. فعنه قال «تزوج رسول الله ﷺ فدخل بأهله. فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب به إلى رسول الله، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول لك: إن هذا لك منّا قليل، قال: فذهبت به إلى رسول الله ﷺ وقلت له: إن أمي تقرئك السلام وتقول لك: إن هذا منا لك قليل، فقال: ضعه، ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا وفلانا ومن لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت. قيل لأنس: كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وقال لي رسول الله ﷺ: يا أنس هات التور، ثم قال رسول الله ﷺ: ليحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال: يا أنس ارفع فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت».
ومن ذلك تكثير الطعام الذي صنعه أبو أيوب الأنصاري، فعنه قال: «صنعت لرسول الله ﷺ وأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما فأتيتهما به، فقال رسول الله ﷺ: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار، قال فشق ذلك عليّ، ما عندي ما أزيده، فقال: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار. قال أبو أيوب : فدعوتهم فقال لهم رسول الله ﷺ اطعموا، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، ثم قال: اذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار، فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، ثم قال: اذهب فادع لي تسعين من الأنصار، فدعوتهم فأكلو حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله ﷺ قبل أن يخرجوا، فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا كلهم من الأنصار.
قال: ومنها تكثير اللبن في القدح. فعن أبي هريرة : «أنه اشتد به الجوع يوما، قال: فمر عليّ أبو بكر ، فقمت إليه وسألته عن آية من كتاب الله ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مر عليّ عمر ففعلت معه وفعل معي كذلك، ثم مر، فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي، ثم قال: يا أبا هريرة» وفي لفظ: «يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، فتبعته إلى أن دخل بيته وأذن لي، فدخلت فوجدت لبنا في قدح، فقال » أي لأهل بيته «من أين هذا اللبن؟ فقيل: أهدي لك، فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله، قال: ادع لي أهل الصفة، فساءني ذلك، فقلت: ما هذا اللبن في أهل الصفة، وما أظن أن ينالني من هذا اللبن شيء» أي لأنهم كانوا أربعمائة على ما تقدم «فدعوتهم، فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: يا أبا هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، حتى لم يبق إلا أنا ورسول الله ﷺ فقال لي: اقعد فاشرب، فشربت فقال لي: اشرب فشربت، فما زال يقول لي اشرب فأشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، فأعطيته القدح، فحمد الله عز وجل وسمى وشرب الفضلة» ا. هـ أي وتقدم ذلك. وفي لفظ: «حتى إذا لم يبق إلا أنا وهو فأخذ القدح على يده ونظر إليّ وتبسم، فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب» الحديث. وقد جاء: «أنه لما قال لأبي هريرة: يا أبا هر، قال إنما أنا أبو هريرة، فقال: الذكر خير من الأنثى».
ولما وقع القتال بين علي ومعاوية كان أبو هريرة يصلي خلف علي كرم الله وجهه، ويحضر طعام معاوية، وعند القتال يصعد على تل فقيل له في ذلك فقال: الصلاة خلف عليّ أقوم، وطعام معاوية أدسم، والقعود على هذا التل أسلم.
ومن ذلك ما حدثت به بنت خباب بن الأرت قالت: «خرج خباب في سرية فكان رسول الله ﷺ يتعهدنا وكان لنا عنز، فكان يحلبها فيملأ حلابها جفنة لنا، فلما جاء خباب عاد حلابها لما كان عليه أولا. فقلت لأبي: كان رسول الله ﷺ يحلبها فتمتلىء جفنتنا، فلما حلبتها رجع حلابها».
ومن ذلك ما حدث به بعض الصحابة أنه قال: «كنا زهاء أربعمائة رجل فنزلنا في موضع ليس فيه ماء فشق ذلك على أصحابه، فجاءت شويهة لها قرنان فقامت بين يدي رسول الله ﷺ فحلبها، فشرب حتى روي وسقى أصحابه حتى رووا ثم قال لي: املكها الليلة وما أراك تملكها، فأخدتها فوتدت لها وتدا ثم ربطتها بحبل، ثم قمت في بعض الليل، فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا فجئت إلى النبي ﷺ فأخبرته فقال: ذهب بها الذي جاء بها».
ومنها: «أن امرأة كانت أهدت للنبي سمنا في عكة فقبله، وترك في العكة قليلا ونفخ فيه ودعا بالبركة، فكان يأتيها بنوها يسألونها الأدم، فتعمد إلى تلك العكة فتجد فيها سمنا، فما زالت تقيم بها أدم بيتها بقية حياته وأبي بكر وعمر وعثمان، حتى كان من أمر على ومعاوية ما كان» وفي رواية «أنها عصرتها فأتت رسول الله ﷺ فقال لها: عصرتيها؟ قالت نعم قال: لو تركتيها ما زال دائما» ويحتمل أن الواقعة تعددت.
وعن أم سليم أم أنس ، قالت: «كان لي شاة، فجمعت من سمنها ما ملأت به عكة وأرسلت بها إلى رسول الله ﷺ فقبلها، وأمر ففرغوها وردوها فارغة وكنت غائبة عن المنزل، فلما جئت رأيت العكة مملوءة سمنا، قالت: فقلت للتي أرسلتها معها: كيف الخبر؟ فأخبرتني الخبر فما صدقتها، وذهبت إلى رسول الله ﷺ فسألته، وقلت له: يا رسول الله وجهت إليك عكة سمن، قال: قد وصلت. فقلت: بالذي بعثك بالهدى ودين الحق لقد وجدتها مملوءة سمنا تقطر، قال: أفتعجبين أن أطعمك الله كما أطعمت نبيه: اذهبي فكلي واطعمي» الحديث.
أي ومنها دعاؤه لفرس جعيل الأشجعي. فعنه قال: «خرجت مع النبي ﷺ في بعض غزواته وأنا على فرس عجفاء ضعيفة فكنت في آخر الناس، فلحقني رسول الله ﷺ فقال: سر يا صاحب الفرس. فقلت: يا رسول الله عجفاء ضعيفة فرفع محقنة كانت معه فضربها بها. وقال: اللهم بارك له فيها، فلقد رأيتني ما أملك رأسها قدام القوم. ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا».
ومنها أن جليبيبا على وزن قنيديل الأنصاري، وكان قصيرا دميما، أراد رسول الله ﷺ أن يزوجه، فقال: يا رسول الله إذا تجدني كاسدا، فقال: إنك عند الله لست بكاسد، فخطب له جارية من أولاد الأنصار، فكره أبو الجارية وأمها ذلك، فسمعت الجارية بما أراد رسول الله، فقالت قبلت: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وقالت: رضيت وسلمت لما رضي لي رسول الله ﷺ به، فدعا لها رسول الله، وقال: اللهم اصبب الخير عليها صبا ولا تجعل عيشها كدا، فكانت من أكثر الأنصار نفقة ومالا مع كونها أيما، فإنه قتل عنها في بعض غزواته معه بعد أن قتل سبعة من المشركين، ووقف عليه ودعا له، وقال: هذا مني وأنا منه، وحمله على ساعديه، ماله سرير غير ساعديه، ثم حفروا له فوضعه في قبره ولم يغسله ولم يصل عليه.
ومنها نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، حتى شرب القوم وتوضؤوا وهم ألف وأربعمائة. قال: وفي رواية ألف وخمسمائة. وفي رواية: فشربوا وسقوا وملؤوا قرابهم، وكان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، والخيل اثنا عشر ألف فرس، أي وهذه في غزوة تبوك، وقد تكرر ذلك منه عدة مواطن عظيمة تقدمت، وتكررت الروايات بحسب تكرر الوقائع، وهو أشرف المياه كما قاله السراج البلقيني ولم يسمع بمثل هذه المعجزة التي هي خروج الماء من بين الأصابع عن غير نبينا، وهي أبلغ من نبع الماء من الحجر الذي ضربه موسى ، لأن خروج الماء من الحجر معهود، بخلاف خروجه من بين اللحم والدم والعظم والعصب كما تقدم ا هـ.
ومنها: أن الماء فار بغرز سهم من كنانته في محله. وقع له ذلك في الحديبية، وفي تبوك، فقد جاء: «أنه ورد في منصرفه من غزوة تبوك على ماء قليل لا يروي واحدا، وشكوا إليه العطش، فأخذ سهما من كنانته وأمر أن يغرز فيه، ففار الماء، وارتوى القوم، وكانوا ثلاثين ألفا» كما تقدم.
قال: ومنها ما تقدم له مع عمه أبي طالب بذي المجاز من ضربه الأرض أو صخرة برجله حين عطش فخرج الماء كما تقدم.
ومنها: ركوبه الفحل الذي قطع الطريق على من يمر لما سافر مع عمه الزبير بن عبد المطلب إلى اليمن كما تقدم.
ومنها: انقلاب الماء الملح عذبا ببركة ريقه الشريف. فقد جاء: «أن قوما شكوا إليه ملوحة في ماء بئرهم، فجاء في نفر من أصحابه حتى وقف على ذلك البئر، فتفل فيه، فتفجر بالماء العذب المعين».
ومنها: «أنه كان باليمن ماء يقال له زعاق من شرب منه مات، فلما بعث وجه إليه: أيها الماء أسلم فقد أسلم الناس، فكان بعد ذلك من شرب منه حم ولا يموت».
ومنها: زوال القرّاع بمرور يده الشريفة. فقد جاء: «أن امرأة أتته بصبي لها أقرع، فمسح رأسه فاستوى شعره وذهب داؤه».
ومنها: إحياء الموتى له وسماع كلامهم. فمن ذلك: «أنه دعا رجلا للإسلام فقال: لا أومن بك حتى تحيي لي بنتي، فقال: أرني قبرها، فأراه قبرها فقال: «يا فلانة، فقالت: لبيك وسعديك، فقال: أتحبين أن ترجعي إلى الدنيا؟ فقالت: لا والله يا رسول الله، إني وجدت الله خيرا لي من أبويّ، ووجدت الآخرة خيرا من الدنيا».
ومنها: إبراء الأبرص، فقد روي: «أن امرأة معاوية ابن عفراء كان بها برص فشكت ذلك إلى رسول الله ﷺ فمسح عليه بعصا، فأذهبه الله».
ومنها: إبراء الرئة واللقوة والقرحة والسلعة والحرارة والدبيلة والاستسقاء، فإن ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء، فبعث إلى النبي، فأخذ بيده الشريفة حثوة من الأرض فتفل عليها ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجبا يرى أنه قد هزىء به، فأتاه بها وهو على شفا، فشربها فشفاه الله وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية بقوله:
وبكف من تربة الأرض داوي ** من تشكي من مؤلم استسقاء
ومنها: أن أخت إسحاق الغنوي هاجرت من مكة تريد المدينة هي وأخوها إسحاق المذكور، حتى إذا كانت في بعض الطريق قال لها أخوها: اجلسي حتى أرجع إلى مكة، فأخذ نفقة أنسيتها، قالت له: إني أخشى عليك الفاسق أن يقتلك: تعني زوجها فذهب أخوها إلى مكة وتركها، فمر عليها راكب جاء من مكة، فقال لها: ما يقعدك ههنا؟ قالت: أنتظر أخي، قال لا أخ لك، قد قتله زوجك بعد ما خرج من مكة، قالت: فقمت وأنا أسترجع وأبكي حتى دخلت المدينة فدخلت على رسول الله ﷺ وهو يتوضأ في بيت حفصة، فأخبرته الخبر، فأخذ ملء كفه ماء فضربني به، فمن يومئذ لم ينزل من عيني دمعة، وكانت تصيبني المصائب العظام، غايته أن ينفر الدمع على مقلتي ولا يسيل على وجنتي.
ومنها: إبراء الجراحة كما تقدم.
ومنها: إبراء الكسر «فقد مسح على رجل ابن عتيك وقد انكسرت فأنها لم تكسر قط» كما تقدم.
ومنها: إبراء الجنون. أي ومنها أن امرأة جاءته بابن لها لا يتكلم وقد بلغ أوان الكلام، فأتي بماء فمضمض وغسل يديه ثم أعطاها إياه وأمرها أن تسقيه وتمسه به، ففعلت ذلك، فبرىء وعقل عقلا يفضل عقول الناس.
ومنها: «أن بعض الصحابة ثبتت في كفه سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكا ذلك له، فما زال يطحنها بكفه الشريفة حتى زالت ولم يبق لها أثر.
ومنها: «أنه أعطى جذلامن الحطب فصار سيفا» وقع ذلك لعكاشة بن محصن يوم بدر كما تقدم. ووقع ذلك لعبد الرحمن بن جحش أيضا يوم أحد كما تقدم.
أي ومنها: انقلاب الماء لبنا وزبدا. ومنها: «أنه عرضت كدية بالخندق ولم يقدر أحد على إزالة شيء منها فضربها فصارت كثيبا» كما تقدم.
أي ومن إجابة دعائه ما روي عن النابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله ﷺ أبياتا منها:
فلا خير في حلم إذا لم يكن له ** بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ** حليم إذا ما أورد الأمر أصدارا
فقال النبي: «أجدت، لا أفضض الله فاك من هذه إشارة إلى أسنانه» قال النابغة : فلقد أتت علي نيف ومائة سنة وما ذهب لي سن. قيل عاش مائة واثنتي عشرة سنة، وقيل مائة وثمانين سنة، أي كما تقدم. وفي لفظ: كان من أحسن الناس ثغرا، وكان إذا سقطت له سن نبت له أخرى. أي وعلى هذا الأخير فالمراد لا أخلى الله فاك من الأسنان.
ومن ذلك: أن امرأة بابن لها صغير، فقالت: «يا رسول الله إن بابني هذا جنونا، وإنه يأخذه عند غذائنا وعشائنا فيفسد علينا، فمسح رسول الله ﷺ رأسه ودعا له، فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فشفي».
ومنها: إبراء وجع الضرس. فقد جاء: «أن بعض الصحابة شكا إليه وجع ضرسه، فقال له: أدن مني، فوالذي بعثني بالحق لأدعون لك بدعوة لا يدعو بها مؤمن مكروب إلا كشف الله عنه كربه، فوضع رسول الله يده على الخد الذي فيه الوجع وقال: اللهم أذهب عنه سوء ما يجد وفحشه بدعوة نبيك المبارك المكين عندك سبع مرات، فشفاه الله تعالى قبل أن يبرح» هذا ما يتعلق ببعض معجزاته التي يمكن التحدي بها، والحمد لله وحده.