السيرة الحلبية/ذكر كتابه للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه
بعث رسول الله ﷺ عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، سلم أنت: أي أنت سالم» لأن السلم يأتي بمعنى السلامة «فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن. وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة»: أي العفيفة: أي المنقطعة عن الرجال التي لا شهوة لها فيهم، أو المنقطعة عن الدنيا وزينتها، ومن ثم قيل لفاطمة بنت النبي ﷺ البتول «فحملت بعيسى. حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والمولاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى» فلما وصل إليه الكتاب وضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض، ثم أسلم ودعا بحق من عاج، أي وهو عظم الفيل، وجعل فيه كتاب رسول الله ﷺ وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذا الكتاب بين أظهرهم.
أي وفي كلام بعضهم: بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فكان أول رسول، وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، وفي الآخر يأمره أن يزوجه أم حبيبة، فأخذ الكتابين وقبلهما ووضعهما على رأسه وعينيه، ونزل عن سريره تواضعا، ثم أسلم وشهد شهادة الحق.
وكتب إليه النجاشي: أي جواب الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي أصحمة، السلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته الذي لا إله إلا هو. زاد في لفظ: الذي هداني للإسلام. أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى ، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعث به إلينا. وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابه، يعني جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين ، فأشهد أنك رسول الله ﷺ صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، أي جعفر بن أبي طالب، وأسلمت على يده لله رب العالمين. أي وعند ذلك قال: «اتركوا الحبشة ما تركوكم».
وذكر أن عمرو بن أمية قال للنجاشي. أي عند إعطائه الكتاب: يا أصحمة إن عليّ القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا من وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نحفظك على شرّ قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم، والإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يردّ، وقاض لا يجور، في ذلك موقع الخير وإصابة الفضل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم ، وقد فرق النبي ﷺ رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف وأجر ينتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله إنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر. زاد بعضهم: ولكن أعواني من الحبشة قليل، فأنظرني حتى أكثر الأعوان وألين القلوب.
أقول: كذا في الأصل، وهو صريح في أن هذا المكتوب إليه هو الذي هاجر إليه المسلمون سنة خمس من النبوة، ونعاه يوم توفي وصلى عليه بالمدينة منصرفه من تبوك، وذلك في السنة التاسعة.
والذي قاله غيره كابن حزم أن هذا النجاشي الذي كتب إليه الكتاب وبعث به عمرو بن أمية الضمري لم يسلم، وأنه غير النجاشي الذي صلى عليه النبي ﷺ الذي آمن به وأكرم أصحابه، وفي صحيح مسلم ما يوافق ذلك.
ففيه عن أنس أن النجاشي الذي كتب إليه ليس بالنجاشي الذي صلى عليه. ويردّ بأنه يجوز أن يكون كتب للنجاشي الذي صلى عليه وللنجاشي الذي تولى بعده على يد عمرو بن أمية فلا مخالفة.
ومن ثم قال في النور: والظاهر أن هذه الكتابة متأخرة عن الكتابة لأصحمة الرجل الصالح الذي آمن به وأكرم أصحابه هذا كلامه.
وفيه أن رد الجواب على النبي ﷺ بالكتاب المذكور ورده على عمرو بن أمية بقوله أشهد بالله إنّه النبي الذي ينتظره أهل الكتاب إلى آخره إنما يناسب الأوّل الذي هو الرجل الصالح ويكون جواب الثاني لم يعلم، وقد تقدم عن ابن حزم أنه لم يسلم.
وقال بعضهم: إنه الظاهر، وحينئذ يكون الراوي خلط فوهم أن المكتوب إليه ثانيا هو المكتوب إليه أوّلا كما أشار إلِيه في الهدى، والله أعلم.