السيرة الحلبية/باب عرض قريش عليه أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون
حدث محمد بن كعب القرظي قال: حدثت «أن عتبة بن ربيعة. وكان سيدا مطاعا في قريش ـ قال يوما وهو جالس في نادي قريش: أي متحدثهم والنبي ﷺ جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد وأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه إياها ويكف عنا؟ قالوا: يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. قال: وفي رواية «أن نفرا من قريش اجتمعوا» وفي أخرى «أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا وقالوا ابعثوا إلى محمد حتى تعذروا فيه، فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يريد؟ فقالوا لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة » انتهى. «فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله، فقال: يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب ـ أي من الوسط أي الخيار حسبا ونسبا ـ وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم» قال زاد بعضهم أنه قال أيضا: «أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أي فسكت، إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك، لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى» انتهى «فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال رسول الله ﷺ: قل يا أبا الوليد أسمع، فقال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا» أي فيصير لك الأمر والنهي، فهو أخص مما قبله «وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل، حتى يداوى، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله ﷺ يسمع منه قال: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: فاسمع مني، قال أفعل، قال {بسم الله الرحمن الرحيم حم? تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}، ثم مضى رسول الله ﷺ فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله ﷺ إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عن ذلك، ثم انتهى إلى السجدة فيها فسجد. ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: يحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحْر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم» قال: وفي رواية «أن عتبة لما قام من عند النبي ﷺ أبعد عنهم ولم يعد عليهم، فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه كلامه فانطلقوا بنا إليه، فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فقص عليهم القصة، فقال: والله الذي تصبها بنية يعني الكعبة ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسكت بفيه فأنشدته الرحم أن يكف، وقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب، فقالوا له: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: والله ما سمعت مثله، والله ما هو بالشعر» إلى آخر ما تقدم «فقالوا: والله سحرك يا أبا الوليد، قال: هذا رأيي فيكم، فاصنعوا ما بدا لكم اهـ.
وعن ابن عباس أن قريشا: أي أشرافهم وشيختهم، منهم الأسود بن زمعة، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل.
وفي الينبوع «أتى الوليد بن المغيرة في أربعين رجلا من الملأ: أي من السادات منزل أبي طالب وسألوه أن يحضر لهم رسول الله ﷺ ويأمره بأشكائهم ما يشكون منه» أي أن يزيل شكواهم منه «ويجيبهم إلى أمر فيه الألفة والإصلاح، فأحضره وقال: يابن أخي هؤلاء الملأ من قومك فأشكهم وتألفهم، فعاتبوا النبي ﷺ على تسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وعيب آلهتهم» الحديث: أي قالوا له «يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك، فإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعيبت الدين، وسببت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، ولم يبق أمر قبيح إلا أتيته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك ونشرفك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك».
وفي رواية «أنهم لما اجتمعوا ودعوه، فجاءهم مسرعا طمعا في هدايتهم حتى جلس إليهم وعرضوا عليه الأموال والشرف والملك، فقال: ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، وأن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم».
وفي رواية أخرى عن ابن عباس «دعت قريش النبي ﷺ إلى أن يعطوه مالا فيكون به أغنى رجل بمكة، ويزوّجوه ما أراد من النساء، ويكف عن شتم آلهتهم ولا يذكرها بسوء» فقد ذكر «أن عتبة بن ربيعة قال له: إن كان أنّ ما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا، وقالوا له: ارجع إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك، وقالوا له: إن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة لك فيها صلاح، قال: وما هي؟ قال: تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ونعبد إلهك سنة، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبده خيرا مما نعبد كنت أخذت منه بحظك، وإن كان الذي نعبد خيرا مما تعبد كنا قد أخذنا منه بحظنا، فقال لهم: حتى أنظر ما يأتي من ربي، فجاء الوحي بقوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم} السورة ».
وعن جعفر الصادق أن المشركين قالوا له: اعبد معنا آلهتنا يوما نعبد معك إلهك عشرة، واعبد معنا آلهتنا شهرا نعبد معك إلهك سنة، فنزلت» أي لا أعبد ما تعبدون يوما، ولا أنتم عابدون ما أعبد عشرة، ولا أنا عابد ما عبدتم شهرا ولا أنتم عابدون ما أعبد سنة، روى ذلك التقدير جعفر ردا على بعض الزنادقة حيث قالوا له طعنا في القرآن: لو قال امرؤا القيس:
قفا نبك من ذكر حبيب ومنزل وكرر ذلك أربع مرات في نسق أما كان عيبا؟ فكيف وقع في القرآن {قل يا أيها الكافرون} السورة وهي مثل ذلك وقوله: {لكم دينكم ولي دين} نسخ بآية القتال، وبقوله تعالى: {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}. ولما قال لهم رسول الله ﷺ: إن الله أنزل لما كرهتموه القرآن، قالوا ائت بقرآن غير هذا، فأنزل الله تعالى: {ولو تقول علينا} الآيات.
وقد يقال: المناسب للرد عليهم قوله تعالى {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} الآية، ثم رأيت في الكشاف ما يوافق ذلك. وهو لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأصنام والوعيد الشديد قالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك، أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها، نزل قوله تعالى {قل ما يكون لي أن أبدله} الآية.
قال «وجلس أي مجلسا فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بني ربيعة، أي وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة، فقال لهم: أليس حسنا ما جئت به؟ فيقولون بلى والله» وفي لفظ «هل ترون بما أقول بأسا؟ فيقولون لا، فجاء عبد الله بن أم مكتوم ـ وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، وهو ممن أسلم بمكة قديما ـ والنبي ﷺ مشتغل بأولئك القوم وقد رأى منهم مؤانسة وطمع في إسلامهم، فصار يقول: يا رسول الله علمني مما علمك الله وأكثر عليه، فشق عليه ذلك، فأعرض عن ابن أم مكتوم ولم يكلمه» انتهى.
أي وفي رواية «أشار إلى قائد ابن أم مكتوم بأن يكفه عنه حتى يفرغ من كلامه، فكفه القائد، فدفعه ابن أم مكتوم، فعبس وأعرض عنه مقبلا على من كان يكلمه، فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك} السورة » أي والمجيء مع العمى ينشأ عن مزيد الرغبة وتجشم الكلفة والمشقة في المجيء، ومن كان هذا شأنه فحقه الإقبال عليه لا الإعراض عنه «فكان بعد ذلك إذا جاءه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويبسط له رداءه» قال: وبهذا يسقط ما للقاضي أبي بكر بن العربي هنا انتهى.
أقول: لعل الذي له هو ما ذكره تلميذه السهيلي، وهو أن ابن أم مكتوم لم يكن أسلم حينئذ، وإلا لم يسمه بالاسم المشتق من العمى دون الاسم المشتق من الإيمان لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك، وإنما دخل فيه بعد نزول الآية، ويدل على ذلك قوله للنبي استدنني يا محمد، ولم يقل استدنني يا رسول الله، ولعل في قوله تعالى: {لعله يزكى}، ما يعطى الترجي والانتظار، ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والانتظار للتزكي، هذا كلامه.
وعن الشعبي قال: دخل رجل على عائشة وعندها ابن أم مكتوم وهي تقطع له الأترج وتجعله في العسل وتطعمه، فقيل لها في ذلك، فقالت: ما زال هذا له من آل محمد منذ عاتب الله فيه نبيه، والله أعلم.
وفي فتاوى الجلال السيوطي من جملة أسئلة رفعت إليه، فأجاب عنها بأنها باطلة: أن أبا جهل قال: يا محمد إن أخرجت لنا طاوسا من صخرة في داري آمنت بك، فدعا ربه فصارت الصخرة تئن كأنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاوس صدره من ذهب ورأسه من زبرجد، وجناحاه من ياقوتة، ورجلاه من جوهر، فلما رأى ذلك أبو جهل أعرض ولم يؤمن.
ومما سألوه من الآيات غير المعينات على ما رواه الشيخان أو معينة كما في رواية عن ابن عباس ، وسيأتي ما يعلم منه أنهم سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها فلا مخالفة.
فقد ذكر ابن عباس أن قريشا سألت النبي ﷺ أن يريهم آية:
أي وفي رواية عن ابن عباس «اجتمع المشركون أي بمنى، منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث على رسول الله، فقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، نصفا على أبي قبيس، ونصفا على قعيقعان، وقيل يكون نصفه بالمشرق ونصفه الآخر بالمغرب، وكانت ليلة أربعة عشر: أي ليلة البدر، فقال لهم رسول الله ﷺ: إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا نعم، فسأل رسول الله ﷺ ربه أن يعطيه ما سألوا، فانشق القمر نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان» وفي لفظ «فانشق القمر فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه» ولعل الفرقة التي كانت فوق الجبل كانت جهة المشرق، والتي كانت دون الجبل كانت في جهة المغرب» فقال رسول الله: «اشهدوا اشهدوا» ولا منافاة بين الروايتين، ولا بينهما وبين ما جاء في رواية «فانشق القمر نصفين: نصفا على الصفا، ونصفا على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظر إليه ثم غاب» أي ثم إن كان الانشقاق قبل الفجر فواضح وإلا فمعجزة أخرى، لأن القمر ليلة أربعة عشر يستمر جميع الليل، وسيأتي عن زين المعمر «أنه عاد بعد غروبه، فقال رسول الله «اشهدوا» والفرقتان هما المرادتان بالمرتين في بعض الروايات التي أخذ بظاهرها بعضهم كالزين العراقي «فقال إنه انشق مرتين» لأن المرة قد تستعمل في الأعيان وإن كان أصل وضعها الأفعال. فقد قال ابن القيم: كون القمر انشق مرتين مرة بعد مرة في زمانين من له خبرة بأحوال الرسول وسيرته يعلم أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة «وعند ذلك قال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة » أي وهو أبو كبشة أحد أجداده من قبل أمه، لأن وهب بن عبد مناف بن زهرة جد أبي آمنة أمه يكنى أبا كبشة، أو هو من قبل مرضعته حليمة، لأن والدها أو جدها كان يكنى بذلك، أو كان لها بنت تسمى كبشة فكان زوجها الذي هو أبوه من الرضاعة يكنى بتلك البنت كما تقدم في الرضاع.
وقد روي عنه فقال: «حدثني حاضني أبو كبشة أنهم لما أرادوا دفن سلول وكان سيدا عظيما حفروا له فوقعوا على باب مغلق ففتحوه، فإذا سرير وعليه رجل وعليه حلل عدة وعند رأسه كتاب: أنا أبو شهر ذو النون مأوى المساكين، ومستفاد الغارمين، أخذني الموت غصبا، وقد أعيي الجبابرة » قيل: قال «كان ذو النون هذا هو سيف بن ذي يزن الحميري» وقيل أبو كبشة جده لأبيه، لأن أبا أم جده عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة، وكان يعبد النجم الذي يقال له الشعري، وترك عبادة الأصنام مخالفة لقريش، فهم يشيرون بذلك إلى أن له في مخالفته سلفا.
وقيل الذي عبد الشعري وترك عبادة الأصنام رجل من خزاعة، فشبهوه به في مخالفته لهم في عبادة الأصنام: أي ومما قد يؤيد هذا الأخير ما في الإتقان حيث مثل بهذه الآية للنوع المسمى بالتنكيت، وهو أن يخص المتكلم شيئا من بين الأشياء بالذكر لأجل نكتة كقوله تعالى: {وأنه هو رب الشعرى} خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء، لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة، عبد الشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها، فأنزل الله تعالى {وأنه هو رب الشعرى} التي ادعيت فيها الربوبية هذا كلامه. وكبشة ليس مؤنث كبش، لأن مؤنث الكبش لي من لفظه، فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها: أي جميع أهل الأرض. وفي رواية «لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر، هل رأوا هذا؟ فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك». وفي رواية «أن أبا جهل قال هذا سحر، فاسألوا أهل الآفاق» وفي لفظ «انظروا ما يأتيكم به السفار حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا، فأخبروا أهل الآفاق» وفي لفظ «فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه فأخبروهم أنهم رأوه منشقا، فعند ذلك قالوا هذا سحر مستمر» أي مطرد، فهو إشارة إلى ذلك وإلى ما قبله من الآيات. وفي لفظ «قالوا هذا سحر، أسحر السحرة، فأنزل الله تعالى {اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} أي مطرد كما تقدم، أو محكم أو قوي شديد، أو مارّ ذاهب لا يبقى، وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقا أهل مكة، بل جميع أهل الآفاق. وبه يرد قول بعض الملاحدة: لو وقع انشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص بها أهل مكة. ولا يحسن الجواب عنه بأنه طلبه جماعة خاصة، فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه، ولا بأنه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام.
وفي فتح الباري حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث.
أقول: وإلى انشقاق القمر أشار صاحب الهمزية بقوله:
شق عن صدره وشق له البد ** ر ومن شرط كل شرط جزاء
أي شق عن صدره. وفي نسخة قلبه وكل منهما صحيح، لأنه شق صدره أولا ثم شق قلبه ثانيا، وشق لأجله القمر ليلة أربعة عشر، وإنما شق له، لأن من شرط كل شرط جزاء، لأنه لما شق صدره جوزي على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة، وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن، وقد أشار إلى ذلك أيضا الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وبدر الدياجي انشق نصفين عندما ** أرادت قريش منك إظهار آية
أي فإنهم ائتمروا فيما بينهم، فاتفقوا على أن يقترحوا على رسول الله ﷺ أن يريهم انشقاق القمر الذي هو بعيد عن الأطماع في غاية الامتناع: أي فقد سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها.
وفي الإصابة عن بعضهم قال: «وأنا ابن تسع عشرة سنة سافرت مع أبي وعمي من خراسان إلى الهند في تجارة، فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى شيعة من الضياع، فعرج أهل القافلة نحوها فسألناهم عن ذلك، فقالوا هذه ضيعة الشيخ زين الدين المعمر، فرأينا شجرة خارج الضيعة تظل خلقا كثيرا وتحتها جمع عظيم من أهل تلك الضيعة، فلما رأونا رحبوا بنا، فرأينا زنبيلا معلقا في بعض أغصان تلك الشجرة، فسألناهم فقالوا في هذا الزنبيل الشيخ زين الدين رأى رسول الله ﷺ ودعا له بطول العمر ست مرات، فبلغ ستمائة سنة كل دعوة بمائة سنة، فسألناهم أن ينزلوا الشيخ لنسمع كلامه وحديثه، فتقدم شيخ منهم فأنزل الزنبيل، فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن وهو كالفرخ فوضع فمه على أذنه وقال: يا جداه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله، وماذا قال لك؟ فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع، فقال: سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة، فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية فرأيت غلاما حسن الشمائل يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حالت السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض الماء لقوة السيل، فعلمت حاله، فأتيت إليه وحملته وخضت به السيل إلى عند إبله من غير معرفة سابقة، فلما وضعته عند إبله نظر إليّ ودعا لي، ثم عدنا إلى بلادنا وتطاولت المدة، ففي ليلة ونحن جلوس في ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة ليلة البدر والبدر في كبد السماء، إذ نظرنا إليه قد انشق نصفين، فغرب نصف في المشرق ونصف في المغرب وأظلم الليل ساعة، ثمن طلع النصف من المشرق والثاني من المغرب إلى أن التقيا في وسط السماء كما كان أول مرة، فتعجبنا من ذلك غاية العجب، ولم نعرف لذلك سببا، فسألنا الركبان عن سببه فأخبرونا أن رجلا هاشميا ظهر بمكة وادعى أنه رسول الله إلى كافة العالم وأن أهل مكة سألوه معجزة، واقترحوا عليه أن يأمر لهم القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المشرق ونصفه في المغرب، ثم يعود إلى ما كان عليه، ففعل لهم ذلك، فاشتقت إلى رؤياه، فذهبت إلى مكة وسألت عنه فدلوني على موضعه، وأتيت إلى منزله، واستأذنت فأذن لي في الدخول فدخلت عليه، فلما سلمت عليه نظر إليّ وتبسم وقال: ادن مني وبين يديه طبق فيه رطب، فتقدمت وجلست وأكلت من الرطب، وصار يناولني، إلى أن ناولني ست رطبات، ثم نظر إليّ وتبسم وقال لي: ألم تعرفني؟ قلت لا، فقال: ألم تحملني في عام كذا في السيل؟ ثم قال: أمدد يدك فصافحني وقال: قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقلت ذلك، فسرّ أي وقال عند خروجي من عنده بارك الله في عمرك، قال ذلك ست مرات، فبارك الله لي في عمري بكل دعوة مائة سنة، فعمري اليوم ستمائة سنة: أي في المائة السادسة مشرف على تمامها تأمل.
وسئل الحافظ السيوطي عن مثل هذا الحديث، وهو الحديث الذي رواه معمر، الذي يزعم أنه صحابي، وأنه يوم الخندق صار ينقل التراب بغلقين: وبقية الصحابة بغلق واحد، فضرب النبي ﷺ بكفه الشريف بين كتفيه أربع ضربات، وقال له: عمرك الله يا معمر، فعاش بعد ذلك أربعمائة سنة ببركة الضربات التي ضربها بين كتفيه كل ضربة مائة سنة، وقال له بعد أن صافحه: من صافحك إلى ست أو سبع لم تمسه النار، هل هو صحيح أم هو كذب وافتراء لا تجوز روايته؟ فأجاب بأنه باطل وأن معمرا هذا كذاب دجال، لأنه ثبت في الصحيح أنه قال قبل موته بشهر «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» وقد قال أهل الحديث وغيرهم: إن من ادعى الصحبة بعد مائة سنة من وفاته فهو كذاب، ومعلوم أن آخر الصحابة مطلقا موتا أبو الطفيل، مات سنة عشرة ومائة من الهجرة ثبت ذلك في صحيح مسلم» واتفق عليه العلماء، فمن ادعى الصحبة بعد أبي الطفيل فهو كذاب.
ومما سألوه من الآيات المعينات ما حدث به بعضهم، قال: «إن قريشا قالت له: سل ربك يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن بعث لنا قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل. قال: زاد في رواية: فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما بهذا بعثت لكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به» اهـ.
ثم قالوا له: «واسأل ربك يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول ويراجعنا عنك» أي وفي لفظ «قالوا له لم لا ينزل علينا الملائكة، فتخبرنا بأن الله أرسلك أو نرى ربنا فيخبرنا بأنه أرسلك فنؤمن حينئذ بك. وقال آخر: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه» أي فلا بد أن تتميز عنا حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا: أي وفي لفظ «قالوا إن محمدا يأكل الطعام كما نحن نأكل، ويمشي في الأسواق، ويلتمس المعاش كما نلتمس نحن، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة. فقال لهم رسول الله ﷺ: ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وأنزل الله تعالى {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} ولما قالوا الله أعظم أن يكون رسوله بشرا منا أنزل الله تعالى {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} ثم قالوا: وأسقط السماء علينا كسفا: أي قطعا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، وقد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا: أي وقد عنوا بالرحمن مسيلمة، وقيل عنوا كاهنا كان لليهود باليمامة، وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله {قل هو} أي الرحمن {ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} أي توبتي ورجوعي () وعند ذلك قام حزينا آسفا على ما فاته من هدايتهم التي طمع فيها، وقال له عبد الله بن عمته عاتكة بنت عبد المطلب قبل أن يسلم : يا محمد قد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل، ثم سألوك أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، والله لن نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك: أي كتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول، وايم الله إنك لو فعلت ذلك، ما ظننت أني أصدقك، فأنزل الله تعالى عليه الآيات التي فيها شرح هذه المقالات في سورة الإسراء، وفيها الإشارة إلى أنه تعالى خيره بين أن يعطيه جميع ما سألوا، وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة، وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه راجعون، فاختار الثاني، لأنه يعلم من كثير منهم العناد، وأنهم لا يؤمنون، وإن حصل ما سألوا فيستأصلوا بالعذاب، لأن الله تعالى يقول: {واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة }.
وعن محمد بن كعب ما حاصله «أن الملأ من قريش أقسموا للنبي بالله أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا، فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل: فقال له: إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم» وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم انشقاق القمر.
وفي رواية «أتاه جبريل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت أن يصبح لهم الصفا ذهبا، فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب، عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت أن لا تصير ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة، فقال: لا، بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة ».
وفي رواية «وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال، بل حتى يتوب تائبهم».
وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة، لأنه أن سؤالهم لذلك جهل، لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل، وهي امتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل، ليكون إيمانهم عن نظر واستدلال، فيحصل الثواب لمن فعل ذلك، ويحصل العقاب لمن أعرض عنه، إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري، فلا يحتاج إلى إرسال الرسل، ويفوت الإيمان بالغيب.
وأيضا لم يسألوا ما سألوا من تلك الآيات إلا تعنتا واستهزاء، لا على جهة الاسترشاد ودفع الشك، وإلى سؤالهم تلك الآيات وارتيابهم في القرآن، وقولهم فيه إنه سحر وافتراء: أي سحر يأثره: أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل، يفرّق به بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته {إن هو إلا قول البشر} من قول أبي اليسر، وهو عبد لبني الحضرمي كان النبي ﷺ يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا: تزاحمنا نحن وبنو عبد المطلب الشرف، حتى صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزل قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله:
عجبا للكفار زادوا ضلالا ** بالذي فيه للعقول اهتداء
والذي يسألون منه كتاب ** منزل قد أتاهم وارتقاء
أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه اهتداء للعقول، وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه، وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن:
أو لم يكفهم من الله ذكر ** فيه للناس رحمة وشفاء
أعجز الإنس آية منه والجن ** فهلا يأتي به البلغاء
كل يوم يهدي إلى سامعيه ** معجزات من لفظه القراء
تتحلى به المسامع والأفـ ** ـواه فهو الحلي والحلواء
رقّ لفظا وراق معنى فجاءت ** في حلاها وحليها الخنساء
وأرتنا فيه غوامض فضل ** رقة من زلاله وصفاء
إنما تجتلي الوجوه إذا ما ** جليت عن مرآتها الأصداء
سور منه أشبهت صورا منـ ** ـا ومثل النظائر النظراء
والأقاويل عندهم كالتماثـ ** ـيل فلا يوهمنك الخطباء
كم أبانت آياته عن علوم ** من حروف أبان عنها الهجاء
فهي كالحب والنوى أعجب الزرا ** ع منها سنابل وزكاء
فأطالوا فيه التردد والريـ ** ـب فقالوا سحر وقالوا افتراء
وإذا البينات لم تغن شيئا ** فالتماس الهدى بهن عناء
وإذا ضلت العقول على علـ ** ـم فماذا تقوله الفصحاء
أي أو لم يكفهم عما سألوه عنادا ذكر واصل إليهم، حالة كونه من الله تعالى رحمة وشفاء للناس والجن والملائكة، أعجز الإنس والجن آية منه، فهلا يأتي بتلك الآية أهل البلاغة، كل وقت يهدي قراؤه إلى سامعيه معجزات من لفظه، ولذلك تتحلى بسماعه المسامع، من التحلية التي هي لبس الحلي، وتتحلى بألفاظه الأفواه من الحلواء فهو الحلي، والحلواء حسن من جهة اللفظ، وتصفى من شوائب النقص من جهة المعنى، فأرتنا رقة من زلاله، وصفاء من ذلك الزلال، خبايا فضل فيه وهي العلوم المستنبطة منه، وإنما تظهر الوجوه ظهورا واضحا لإخفاء معه بوجه إذا قوبلت بمرآه، وقت جلاء الأصداء عن تلك المرآة سور منه أشبهت صورا منا، من حيث اشتمال كل صورة منا على عقل وفهم، وخلق لا يشاركه فيه غيره، والأقاويل الصادرة من الكفار في القرآن كالصور التي يصورها المصورون فإنه لا وجود لها في الحقيقة ؛ فما قالوه في القرآن باطل قطعي البطلان، فاحذر الخطباء أن توقع في وهمك أن ما تأتي به يقارب القرآن، كم أوضحت آياته علوما حالة كونها متولدة من حروف قليلة كشف عنها التهجي، كالحب الذي يلقيه الزارع، والنوى الذي يلقيه الغارس، أعجب الزراع والغراس منها: أي من تلك الحبوب والنوى سنابل وثمار وتمر فاق الحصر، فأطالوا في تلك السور الشك فقالوا سحر وتمويه لا حقيقه له، وقالوا مرة أخرى أساطير الأولين، وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى، فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا، وإذا ضلت العقول عن طرق الحق مع علم منها بتلك الطرق فأي قول يقوله الفصحاء: أي وقال الوليد بن المغيرة يوما: أينزل القرآن على محمد، وأترك أنا وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود الثقفي سيد ثقيف ونحن عظماء القريتين: أي مكة والطائف؟ فأنزل الله تعالى {وقالوا لولا} أي هلا {أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} أي أعظم وأشرف من محمد، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {أهم يقسمون رحمة ربك} الآية.
وفي لفظ قال بعضهم: «كان الأحق بالرسالة الوليد بن المغيرة من أهل مكة أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف». ثم لا يخفى أن كفار قريش بعثوا مع النضر بن الحارث عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما: أسألهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول: أي التوراة، لأنه قبل الإنجيل وعندهم علم ليس عندنا، فخرجا، حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود: أي قالا لهم: أتيناكم لأمر حدث فينا، منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما، يزعم أنه رسول الله. وفي لفظ «رسول الرحمن، قالوا صفوا لنا صفته، فوصفوا، قالوا فمن يتبعه منكم؟ قالوا سفلتنا، فضحك حبر منهم وقالوا: هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة.
قالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول: أي وهم أهل الكهف ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها: أي وهو ذو القرنين ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك: أي بحقيقة الأولين وبعارض من عوارض الثالث، وهو كونها من أمر الله فاتبعوه فإنه نبي، فرجع النضر وعقبة إلى قريش وقالا لهم: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وأخبراهم الخبر، فجاؤوا إلى النبي ﷺ وسألوه عن ذلك، فقال لهم : أخبركم غدا، ولم يستثن: أي لم يقل إن شاء الله تعالى وانصرفوا، فمكث خمسة عشرة يوما، وقيل ثلاثة أيام، وقيل أربعة أيام لا يأتيه الوحي، وتكلمت قريش في ذلك بما أخبر به النبي، فقالوا: إن محمدا قلاه ربه وتركه: أي ومن جملة من قال ذلك له أم جميل امرأة عمه أبي لهب، قالت له: ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك: أي تركك وبغضك. وفي رواية قالت: امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه، وشقّ عليه ذلك منهم. ثم جاءه جبريل بسورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين ذهبوا وهم أهل الكهف».
ويروى «أنهم يكونون مع عيسى ابن مريم إذا نزل، ويحجون البيت. وخبر الرجل الطواف وهو ذو القرنين: أي وهو إسكندر ذو القرنين كان له قرنان صغيران من لحم تواريهما العمامة ».
وفي لفظ: كان له شبه القرنين في رأسه، وقيل غديرتان من شعر، وقيل لأنه قرن ما بين طلوع الشمس ومغربها: أي بلغ قطري المشرق والمغرب، وقيل ضرب على قرن رأسه فمات ثم أحيي، ثم ضرب على قرنه الآخر فمات ثم أحيي. وقيل لأنه ملك الروم وفارس، وقيل لأنه انقرض في زمنه قرنان من الناس، والقرن زمان مائة سنة، وكان ذو القرنين رجلا صالحا من أهل مصر من ولد يونن. وفي لفظ يونان بن يافث بن نوح، وكان من الملوك العادلة، وكان الخضر صاحب لوائه الأكبر. وقيل كان نبيا قاله الضحاك.
وجاءه جبريل بالجواب عن الروح المذكور ذلك في سورة الإسراء، وهو أن الروح من أمر الله: أي قل لهم الروح من أمر ربي: أي من علمه لا يعلمه إلا هو: أي وكان في كتبهم أن الروح من أمر الله: أي مما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، ومن ثم جاء في بعض الروايات ما تقدم «إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي، وإلا بأن أجابكم عنها بأنها من أمر الله فهو نبي» ولعل هذا هو المراد كما جاء في بعض الروايات «سلوه عن الروح، فإن أخبركم به فليس بنبي، وإن لم يخبركم فهو نبي».
أقول: إذا كان في كتبهم أن حقيقة الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه كيف يسألونه فيخبرهم بذلك؟ إلا أن يقال: المراد إن أجابكم بغير قوله من أمر ربي فاعلموا أنه غير نبي، فإنه يحاول أن يخبركم عن حقيقتها، وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى.
ويوافقه ما في مأثور التفسير «من أمر ربي» من علم ربي لا علم لي به. وفي بعض الروايات عن ابن عباس «سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم، فإن قال لكم من الله تعالى، فقولوا له كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه».
وحاصل الجواب الذي أشارت إليه الآية أن الروح أمر بمعنى مأمور: أي مأمور من مأموراته، وخلق من خلقه، لا أنها جزء منه، والله أعلم: أي وهذا يدل على أن المسؤول عنه روح الإنسان التي هي سبب في إفادة الحياة للجسد.
وفي كلام الإمام الغزالي أن الروح روحان: حيواني، وهي التي تسميه الأطباء المزاج، وهو جسم لطيف بخاريّ معتدل، سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة والقوى الجسمانية، وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت. وروح روحاني وهي التي يقال لها النفس الناطقة، ويقال لها اللطيفة الربانية، ويقال لها العقل، ويقال لها الروح ويقال لها القلب، من الألفاظ الدالة على معنى واحد، لها تعلق بقوى النفس الحيواني، وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن، وتبقى بعد الموت، هذا كلامه.
وفي كلام بعضهم: والروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف، مغاير للأجسام ماهية وهيئة، متصرف في البدن، حالّ فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت. وإذا فارق البدن مات.
وذهب جمع منهم الغزالي والإمام الرازي وفاقا للحكماء والصوفية إلى أنه جوهر مجرّد غير حالّ بالبدن، يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق، يدبر أمره على وجه لا يعلمه إلا الله اهـ.
ورأيت في كلام الشيخ الأكبر أن الإمام ركن الدين السمرقندي لما فتح المسلمون بلاد الهند، خرج بعض علمائها ليناظر المسلمين، فسأل عن العلماء، فأشاروا إلى الإمام ركن الدين السمرقندي، فقال له الهندي: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد الله بالغيب، قال: ما أنبأكم؟ قالوا: محمد، قال: فما الذي قال في الروح؟ قال: هو من أمر ربي، فقال صدقتم فأسلم، وليس المراد بالروح خلق من الملائكة على صورة بني آدم، أو ملك عظيم عرض شحمة أذنه خمسمائة عام إلى غير ذلك مما قيل. قال بعضهم: قلت كذا في هذه الرواية أنهم سألوه: أي مشركو مكة عن الروح. وحديث ابن مسعود يدل على أن السؤال عن الروح ونزول الآية كان بالمدينة: أي من اليهود، هذا كلامه.
وفيه أنه سيأتي جواز تكرار السؤال وتكرر نزول الآية إلى آخر ما يأتي، وبه يعلم ما في الإتقان حيث تعقب قول بعضهم: إن أصحاب محمد سألوه عن الروح وعن ذي القرنين بقوله: قلت: السائل عن الروح وذي القرنين مشركو مكة أو اليهود كما في أسباب النزول لا الصحابة.
وفي الإتقان: قد يعدل عن الجواب أصلا إذا كان السائل قصده التعنت نحو {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} قال صاحب الإفصاح: إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليطا إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة، فقصد اليهود أن يسألوه، فبأيّ مسمى أجابهم؟ قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا. وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم، وفي سورة الكهف أيضا آية {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت} أي إذا أردت أن تقول سأفعل شيئا فيما يستقبل من الزمان تقول إن شاء الله، فإن نسيت التعليق بذلك ثم تذكرت تأتي بها، فذكرها بعد النسيان كذكرها بعد القول. قال جمع منهم الحسن: ما دام في المجلس: أي وظاهره وإن طال الفصل.
وفي الخصائص الكبرى أن هذا: أي الإتيان بالمشيئة بعد التذكر من خصائصه، وليس لأحد منا أن يستثني: أي يأتي بالمشيئة إلا في صلة يمينه.
أقول: كان ينبغي أن يقول في صلة إخباره، لأن مساق الآية في الإخبار لا في الحلف.
فإن قيل: هي عامة في الخبر والحلف. قلنا كان ينبغي أن يقول حينئذ في صلة كلامه وحينئذ يقتضي كلامه أن نشاركه في الخبر دون الحلف والله أعلم.
ثم لا يخفى أنه قيل سبب احتباس الوحي أنه لم يقل إن شاء الله تعالى وهو المشهور، وقيل لأنه كان في بيته كلب. وفي لفظ: كان تحت سريره جرو ميت، فقد جاء «أنه لما عاتب جبريل في احتباسه، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب: أي فإنه قال لخادمته خولة: يا خولة ما حدث في بيت رسول الله؟ جبريل لا يأتيني، قالت: فقلت في نفسي: لو كنست البيت، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو ميتا».
أقول: قال ابن كثير: قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعه من الصحابة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب» وقد أورد بعض الزنادقة سؤالا، وهو إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة: أي صورة التماثيل التي فيها الأرواح، يلزم أن لا يموت من عنده كلب أو صورة، وأن لا يكتب عمله.
وأجيب عنه بأن المراد لا تدخل ذلك البيت دخول إكرام لصاحبه وتحصيل بركة، فلا ينافي دخولهم لكتابة الأعمال وقبض الأرواح، والله أعلم.
وقيل لأنه زجر سائلا ملحا، وقد كان قبل ذلك يرد السائل بقوله: «آتاكم الله من فضله» أي وربما سكت، فقد روى الشيخان «ما سئل رسول الله ﷺ شيئا فقال لا» قال الحافظ ابن حجر: المراد بذلك أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء أعطاه وإلا سكت، وهذا هو المراد بما جاء أنه ما ردّ سائلا قط: أي ما شافهه بالرد.
وقد حكى بعضهم قال: رأيت النبي ﷺ في النوم فقلت: يا رسول الله استغفر لي، فسكت، فقلت: يا رسول الله إن ابن عيينة حدثنا عن جابر أنك ما سئلت شيئا قط فقلت لا، فتبسم واستغفر لي، أي فكان يأتي بالأول حيث لا يكون المقام يقتضي الاقتصار على السكوت، ولعل هذا في غير رمضان.
فلا يخالف ما رواه البزار عن أنس قال: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل» وبين الشيخ ابن الجوزي في النشر سبب إلحاح هذا السائل، فقال: «إن النبي ﷺ أهدى إليه قطف عنب قبل أوانه، فهمّ أن يأكل منه، فجاءه سائل فقال: أطعموني مما رزقكم الله، فسلم إليه ذلك القطف، فلقيه بعض الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي، فعاد السائل إلى النبي ﷺ فسأله فأعطاه إياه، فلقيه رجل آخر من الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي، فعاد السائل فسأله فانتهره وقال: إنك ملحّ» قال: وهذا سياق غريب جدا، وهو معضل.
وقيل سبب ذلك غير ذلك، من ذلك الغير «أن جبريل ﵇ لما قال له: ما حبسك عني؟ قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم، ولا تأخذون شعوركم، ولا تستاكون».
أقول: واختلاف هذه الأسباب ظاهر في أن الواقعة متعددة. ولا ينافيه قوله: ونزلت: أي آية سورة الضحى ردا عليهم في قولهم إن محمدا قلاه ربه وتركه، وهي {ما ودّعك ربك وما قلى}(1) أي ما قطعك قطع المودع، وما أبغضك، لأنه يجوز أن يكون مما تكرر نزوله لاختلاف سببه.
ويمكن أن يقال: يجوز أن تكون الواقعة واحدة وتعددت أسبابها. ولا ينافيه إخبار جبريل ﵇ تارة بأن سبب احتباسه عدم قص الأظفار وما ذكر معه، وتارة بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، وتارة بقوله: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} كما يأتي قريبا، وكما سيأتي في قصة الإفك، لكن قال الحافظ ابن حجر: قصة إبطال جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية أي {ما ودعك ربك وما قلى} غريب فالمعتمد ما في الصحيح هذا كلامه.
أقول: ومما يدل على أن واقعة الجرو كانت بالمدينة ما في بعض التفاسير أن هذا الجرو كان للحسن والحسين ، وما رواه مسلم عن عائشة قالت: «واعد رسول الله ﷺ جبريل ﵇ في ساعة أن يأتيه، فجاء تلك الساعة ولم يأته فيها، قالت: وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول: ما يخلف الله وعده ولا رسله، ثم التفت فإذا كلب تحت السرير، فقال: متى دخل هذا الكلب؟ فقلت: والله ما دريت به، فأمر به فأخرج، فجاء جبريل ، فقال له رسول الله ﷺ: وعدتني فجلست لك ولم تأت؟ فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ».
وفي زيادة الجامع الصغير «أتاني جبريل فقال لي: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فأمر برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، وأمر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن، وأمر بالكلب فأخرج» ومعلوم أن مجيء جبريل له إكرام وتشريف له، فلا ينافي ما تقدم فليتأمل.
ولما نزلت السورة المذكورة كبر فرحا بنزول الوحي، واستمر لا يجاهر قومه بالدعوة حتى نزل {وأما بنعمة ربك فحدث} فعند ذلك كبر أيضا، وكان ذلك سببا للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن.
وعن أبي بن كعب «أنه قرأ كذلك على النبي ﷺ بعد أمره له بذلك، وأنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال: الله أكبر».
هذا، وقيل ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول والضحى. وقيل إن التكبير إنما هو لآخر السورة، وابتداؤه من آخر سورة الضحى إلى آخر {قل أعوذ برب الناس} والإتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين والرواية التي جاءت بأنه كبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه كبر في آخرها.
ومما يدل على أن التكبير أول سورة الضحى، ما جاء عن عكرمة بن سليمان قال: «قرأت على إسماعيل بن عبد ربه، فلما بلغت الضحى قال: كبر، فإني قرأت على عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة، فلما بلغت {والضحى} قال لي: كبر حتى تختم. وأخبرني ابن كثير أنه قرأ على مجاهد، فأمره بذلك، وأخبره أن ابن عباس أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيّ أن النبي ﷺ أمره بذلك» قال بعضهم: حديث غريب.
ونقل عن إمامنا الشافعي أنه قال لآخر: إذا تركت التكبير: أي من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقد تركت سنة من سنن نبيك، لكن في كلام الحافظ ابن كثير: ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.
وقد ذكر الشيخ أبو المواهب الشاذلي عن شيخه أبي عثمان أنه قال: إنما نزلت سورة {ألم نشرح} عقب قوله: {وأما بنعمة ربك فحدث} إشارة إلى أن من حدث بنعمة الله فقد شرح الله صدره قال: كأنه تعالى يقول إذا حدثت بنعمتي ونشرتها بين عبادي فقد شرحت صدرك.
وعن ابن إسحاق: ذكر لي «أن رسول الله ﷺ قال لجبريل: لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا» وفي لفظ «ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فقال له جبريل {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} أي لا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته على مقتضى حكمته، وما كان ربك تاركا لك كما زعم الكفار، بل كان ذلك لحكمة رآها.
وأما حديث الزبيدي، فقد حدث بعضهم الزبيدي، فقد حدث بعضهم قال: «بينا رسول الله ﷺ جالس في المسجد ومن معه من الصحابة إذا رجل من زبيد يطوف على حلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول: يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب، أو يحل بضم الحاء أي ينزل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم؟ حتى انتهى إلى رسول الله ﷺ في أصحابه، فقال له: ومن ظلمك؟ فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال خيرة إبله أي أحسنها فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها، ثم لم يسمه بها لأجله سائم، قال: فأكسد عليّ سلعتي فظلمني، فقال له رسول الله ﷺ: وأين جمالك؟ قال: هذه هي بالحزورة، فقام رسول الله ﷺ وقام أصحابه فنظروا إلى الجمال فرأى جمالا حسنا، فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه، وأخذها رسول الله ﷺ فباع جملين منها بالثمن، وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه، وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم، ثم أقبل إليه رسول الله ﷺ فقال له: إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره، فجعل يقول: لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد، فانصرف رسول الله ﷺ وأقبل على أبي جهل أمية بن خلف ومن معه من القوم، فقالوا له: ذللت في يد محمد، فإما أن تكون تريد أن تتبعه، وإما رعب دخلك منه، فقال لهم: لا أتبعه أبدا، إن الذي رأيتم مني لما رأيته، رأيت معه رجالا عن يمينه ورجالا عن شماله معهم رماح يشرعونها إليّ، لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي».
ونظير ذلك «أن أبا جهل كان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده، فاستغاث اليتيم بالنبي ﷺ على أبي جهل، فمشى معه إليه ورد عليه ماله، فقيل له في ذلك فقال: خفت من حربة عن يمينه وحربة عن شماله لو امتنعت أن أعطيه لطعنني».
وأما حديث المستهزئين. فمما استهزىء به على رسول الله ﷺ ما حدث به بعضهم «أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها، فدلته قريش على النبي ﷺ لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله، لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل: أي بعد أن وقف على ناديهم فقال: يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني علي حقي، فقالوا له أترى ذلك الرجل؟ يعنون رسول الله، اذهب إليه فهو يعينك عليه، فجاء إلى رسول الله، فذكر له حاله مع أبي جهل ـ أي قال له: يا أبا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله وأنا غريب وابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي بحقي منه فأشاروا إليك، فخذ حقي منه يرحمك الله ـ فخرج النبي ﷺ مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال محمد، فخرج إليه وقد انتقع لونه: أي تغير وصاح كلون النقع ـ الذي هو التراب، وهو الصفرة مع كدرة كما تقدم ـ فقال له: أعط هذا حقه، قال نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له، فدفعه إليه. قال: ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا يعني النبي ﷺ ـ فقد والله أخذ لي بحقي، وقد كانوا أرسلوا رجلا ممن كان معهم خلف النبي ﷺ وقالوا له انظر ماذا يصنع؟ فقالوا لذلك الرجل ماذا رأيت؟ قال: رأيت عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال: أعط هذا حقه، فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إليه، فعند ذلك قالوا لأبي جهل: ويلك ما رأينا مثل ما صنعت، قال: ويحكم، والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط، لو أبيت أو تأخرت لأكلني» وإلى هذه القصة أشار صاحب الهمزية بقوله:
واقتضاه النبي دين الإراشي ** وقد ساء بيعه والشراء
ورأى المصطفى أتاه بما لم ** ينج منه دون الوفاء النجاء
هو ما قد رآه من قبل لكن ** ما على مثله يعد الخطاء
أي وطلب من أبي جهل أن يؤدي دين الإراشي وقد ساء بيعه وشراؤه مع ذلك الرجل ورأى المصطفى وقد أتاه بفحل من الإبل لم ينج منه دون الوفاء لذلك الدين. كثير النجاء، وذلك الذي أتاه به هو الفحل الذي قد رآه من قبل: أي لما أراد عدو الله أن يلقي عليه الحجر وهو ساجد كما تقدم، لكن ما على مثله فضلا عنه يعدّ الخطأ لأن خطأه لا ينحصر.
أي ومن استهزاء أبي جهل بالنبي «أنه في بعض الأوقات سار خلف النبي ﷺ يخلج بأنفه وفمه يسخر به، فاطلع عليه، فقال له: كن كذلك، فكان كذلك إلى أن مات».
قال ابن عبد البر: وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى فيهم {إنا كفيناك المستهزئين} أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن العاص بن أمية وهو والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان، والعاص بن وائل، فمن استهزاء أبي جهل ما تقدم.
ومن استهزاء أبي لهب به أنه كان يطرح القذر على باب رسول الله ﷺ كما تقدم، ومرّ يوما من الأيام فرآه أخوه حمزة قد فعل ذلك، فأخذه وطرحه على رأسه، فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول صابىء أحمق.
ومن استهزاء عقبة بن أبي معيط به أنه كان يلقي القذر أيضا على بابه كما تقدم، وقد قال: «كنت بين شرّ جارين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحونها على بابي» كما تقدم.
ومن استهزائه «أنه بصق في وجه النبي ﷺ فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا: أي فإنه كان يكثر مجالسة عقبة بن أبي معيط، فقدم عقبة يوما من سفر فصنع طعاما ودعا الناس من أشراف قريش ودعا النبي، فلما قرب إليهم الطعام أبى رسول الله ﷺ أن يأكل، فقال: ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فأكل من طعامه وانصرف الناس، وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف، فأخبر الناس أبيا بمقالة عقبة، فأتى إليه وقال: يا عقبة صبوت؟ قال: والله ما صبوت، ولكن دخل منزلي رجل شريف، فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم والشهادة ليست في نفسي، فقال له أبيّ وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فقال له عقبة: لك ذلك، ثم إن عقبة لقي النبي ﷺ ففعل به ذلك» قال الضحاك: لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله ﷺ بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار فاحترق مكانها، وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت. وحينئذ يكون المراد بقوله فيما تقدم «فعاد بصاقه برصا في وجهه» أي صار كالبرص «وأنزل الله تعالى في حقه {ويوم يعضّ الظالم على يديه} أي في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى، فتنبت الأولى فيأكلها وهكذا».
ومن استهزاء الحكم بن العاص «أنه كان يمشي ذات يوم وهو خلفه يخلج بفمه وأنفه، يسخر بالنبي، فالتفت إليه النبي ﷺ فقال له: كن كذلك فكان كذلك» أي كما تقدم نظير ذلك لأبي جهل «واستمر الحكم بن العاص يخلج بأنفه وفمه بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه حتى مات» أسلم يوم فتح مكة وكان في إسلامه شيء «اطلع على رسول الله ﷺ من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة، فخرج إليه بالعنزة ـ أي وقيل بمدرى في يده ـ والمدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس ـ وقال: من عذيري من هذه الوزغة، لو أدركته لفقأت عينه، ولعنه وما ولد، وغربه عن المدينة إلى وجّ الطائف، فلم يزل حتى ولي ابن أخي عثمان الخلافة، فدخل المدينة بعد أن سأل عثمان أبا بكر في ذلك، فقال: لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ثم سأل عمر لما ولي الخلافة فقال له مثل ذلك، ولما أدخله عثمان نقم عليه الصحابة بسبب ذلك، فقال: أنا كنت شفعت فيه إلى رسول الله ﷺ فوعدني برده: أي أني أردّه» ولا ينافي ذلك سؤال عثمان لأبي بكر وعمر في ذلك كما لا يخفى، لأنه يحتمل أن يرده عثمان إما بنفسه أو بسؤاله، وسيأتي ذلك في جملة أمور نقهما عليها الصحابة.
وعن هند ابن خديجة أم المؤمنين «أن النبي ﷺ مرّ بالحكم، فجعل يغمز بالنبي، فرآه فقال: اللهم اجعل به وزغا فرجف وارتعش مكانه» والوزغ: الارتعاش. وفي رواية «فما قام حتى ارتعش».
وعن الواقدي «استأذن الحكم بن العاص على رسول الله ﷺ فعرف صوته، فقال: ائذنوا له، لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منهم وقليل ما هم، ذو مكر وخديعة، يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق» «وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي، فأتي إليه بمروان لما ولد، فقال: هو الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون» وعلى هذا فهو صحابي إن ثبت أن النبي ﷺ رآه، لأنه يحتمل أنه أتي به إليه فلم يأذن بإدخاله عليه، وربما يدل لذلك قوله هو الوزغ إلى آخره.
وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة. وفي كلام بعض آجر أنه ولد بالطائف بعد أن نفي أبوه إلى الطائف: أي ولم يجتمع بالنبي ﷺ فهو ليس بصحابي، ومن ثم قال البخاري: مروان بن الحكم لم ير النبي، وعن عائشة ، أنها قالت لمروان «نزل في أبيك {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم} وقالت له «سمعت رسول الله ﷺ يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية: إنهم الشجرة الملعونة في القرآن» ولي مروان الخلافة تسعة أشهر. وعن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم، حيث قال لأخيها عبد الرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر ، فقال عبد الرحمن: بل سنة هرقل وقيصر، وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية، فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك {والذي قال لوالديه أف لكما} فبلغ ذلك عائشة، فقالت كذب والله ما هو به، ثم قالت له: أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله ﷺ لعن أباك وأنت في صلبه.
وعن جبير بن مطعم «كنا مع رسول الله ﷺ فمرّ الحكم بن العاص، فقال النبي ﷺ: ويل لأمتي مما في صلب هذا» قال بعضهم: وكون النبي ﷺ مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك، يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده.
وعن حمران بن جابر الجعفي، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ويل لبني أمية ثلاث مرات» أي وقد ولي منهم الخلافة أربعة عشر رجلا، أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، وآخرهم مروان بن محمد، وكانت مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة، وهي ألف شهر. وقال بعضهم: لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما. قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفيه نظر، لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين، واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة، وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه.
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول: غرّ محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث.
أي ومن استهزائه. أن خباب بن الأرت كان قينا بمكة: أي حدادا يعمل السيوف، وقد كان باع للعاص سيوفا فجاءه يتقاضى ثمنها، فقال له: يا خباب أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم أو ولد؟ قال خباب بلى، قال: فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هناك حقك، ووالله لا تكونن أنت وصاحبك آثر عند الله مني ولا أعظم حظا في ذلك.
وفي لفظ أن العاص قال له: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتي مالا وولدا فأقضيك، فأنزل الله تعالى فيه {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتينّ مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدّا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا}!.
وفي كلام ابن حجر الهيتمي، وفي البخاري من عدة طرق: أن خبابا طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يبعثك.
وفيه أن هذا تعليق للكفر بممكن: أي وتعليق الكفر ولو بمحال عادي، وكذا شرعي أو عقلي على احتمال كفر، لأنه ينافي عقد التصميم الذي هو شرط في الإسلام.
وأجيب بأنه لم يقصد التعليق قطعا، وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكار البعث، ولا ينافيه قوله «حتى» لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن الذي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف، وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه» أي لكن أبواه.
وعد بعضهم من المستهزئين الحارث بن عيطلة، ويقال ابن عيطل ينسب إلى أمه، وكان من استهزائه ما تقدم عن العاص بن وائل وأبي جهل من الاختلاج خلف رسول الله.
وعد منهم الأسود بن يغوث، وهو ابن خال النبي، كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر: أي لأن الصحابة كانوا متقشفين، ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، ويقول للنبي: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد، وما أشبه هذا القول.
وعد منهم الأسود بن عبد المطلب. ومن استهزائه أنه كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي ﷺ وأصحابه ويصفرون إذا رأوهم.
وعد منهم النضر بن الحارث، فهلك غالبهم قبيل الهجرة بضروب من البلاء.
أقول: والذي ينبغي أن يكون المراد بالمستهزئين في الآية وهي {إنا كفيناك المستهزئين} الوليد بن المغيرة والد خالد وعم أبي جهل، فإنه كان من عظماء قريش، وكان في سعة من العيش ومكنة من السيادة، كان يطعم الناس أيام مني حيسا، وينهي أن توقد نار لأجل طعام غير ناره، وينفق على الحاج نفقة واسعة، وكانت الأعراب تثني عليه، كانت له البساتين من مكة إلى الطائف، وكان من جملتها بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا، وببركته أصابته الجوائح والآفات في أمواله حتى ذهبت بأسرها ولم يبق له في أيام الحج ذكر. وكان المقدم في قريش فصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش، ويقال له الوحيد أي في الشرف والسؤدد والجاه والرياسة. قال بعضهم: بل هو وحيد في الكفر والخبث والعناد.
والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن عيطلة. وفي لفظ: ابن الطلاطلة. والطلاطلة في اللغة: الداهية، قال بعضهم وهو اشتباه، لأن ابن الطلاطلة اسمه مالك لا حارث.
والحارث بن العيطلة كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وإليه كانت الحكومة والأموال التي تجعل للآلهة، وذكره ابن عبد البر في الصحابة. قال في أسد الغابة: لم أر أحدا ذكره في الصحابة إلا أبا عمرو يعني ابن عبد البر. والصحيح أنه كان من المستهزئين، وهؤلاء الخمسة هم الذين اقتصر عليهم القاضي البيضاوي، لما يروى «أن جبريل أتى النبي ﷺ وهو في المسجد: أي يطوف بالبيت ؛ وقال له أمرت أن أكفيكم، فلما مر الوليد بن المغيرة قال له: يا محمد كيف تجد هذا؟ فقال: بئس عبد الله، فأومأ إلى ساق الوليد وقال كفيته، ومرّ العاص بن وائل، فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال عبد سوء، فأشار إلى أخمصه وقال كفيته، ثم مرّ الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: عبد سوء، فأومأ إلى عينه، وقال كفيته، ثم مر الأسود بن عبد يغوث فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال عبد سوء، فأومأ إلى رأسه وقال كفيته، ثم مر الحارث بن عيطلة فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: عبد سوء، فأومأ إلى بطنه وقال كفيته» وحينئذ يكون معنى كفاية هذا له أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك، وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وجبريل لما استهزأت فرقة الردى ** أشار إلى كل بأقبح ميتة
والله أعلم.
قال: وروى الزهري «أن الأسود بن عبد يغوث خرج من عند أهله فأصابته السموم فاسودّ وجهه، فأتى أهله فلم يعرفوه وأقفلوا دونه الباب، وسلط عليه العطش فلا زال يشرب الماء حتى انشق بطنه» وهذا يناسب ما سيأتي عن الهمزية، ولا يناسب أن جبريل أشار إلى رأسه، وفي كلام البلاذري عن عكرمة «أن جبريل أخذ بعنق الأسود بن عبد يغوث فحنى ظهره حتى احقوقف، فقال رسول الله ﷺ: خالي خالي» أي لأنه كما تقدم ابن خاله، فهو إما على حذف المضاف، أو لأجل مراعاة أبيه: أي يراعى لأجل أبيه الذي هو خالي «فقال جبريل: يا محمد دعه» وفي رواية «قال له جبريل: خلّ عنك، ثم حثاه حتى قتله» وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه.
والمناسب لذلك ما ذكره بعضهم أنه امتخض رأسه قيحا، ثم لم يزل يضرب برأسه أصل شجرة حتى مات، وكذا الحارث بن عيطلة: أي وفي كلام القاضي وحارث بن قيس.
وفي تكملة الجلال السيوطي عدي بن قيس، فقد أكل حوتا مملحا فلم يزل يشرب عليه الماء حتى انقدّ بطنه، وهذا المناسب لما ذكر هنا أن جبريل أشار إلى بطنه، لكن لا يناسب ما قاله القاضي البيضاوي أنه أشار إلى أنفه فامتخض قيحا.
وأما الأسود بن المطلب فقد عمي بصره. فقد ذكر «أنه خرج ليستقبل ولده، وقد قدم من الشام، فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة، فجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها حتى عمي، فجعل يستغيث بغلامه، فقال له غلامه: لا أحد يصنع بك شيئا: أي وقيل ضربه بغصن فيه شوك، فسالت حدقتاه، وصار يقول: ها هوذا طعن بالشوك في عيني، فيقال له ما نرى شيئا، وقيل أتى شجرة فجعل ينطح رأسه بها حتى خرجت عيناه» أي وفعل ذلك لا ينافي ما ورد «فأشار أي جبريل إلى وجهه فعمي بصره في الحال» لجواز أن يراد بالحال الزمن القريب، وفي رواية: أنه كان يقول «دعا عليّ محمد بالعمى فاستجيب له، ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي» وسيأتي عن بعضهم في غزوة بدر «أنه دعا على الأسود بن المطلب بالعمي وفقد أولاده، فجعل له العمى وفقد أولاده ببدر. وأما الوليد بن المغيرة فمر بشخص يعمل النبل فتعلق بثوبه سهم فلم ينقلب لينحيه تعاظما، فعدا فأصاب السهم عرقا في ساقه فقطعه فمات. وأما العاص بن وائل، فدخلت شوكة في أخمصه فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات» وإلى الخمسة الذين ذكرنا أنهم المرادون بقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} أشار صاحب الهمزية بقوله:
وكفاه المستهزئين وكم سا ** ء نبيا من قومه استهزاء
خمسة كلهم أصيبوا بداء ** والردى من جنوده الأدواء
فدهي الأسود بن مطلب ** أيّ عمي ميت به الأحياء
ودهى الأسود بن عبد يغوث ** أن سقاه كأس الرد استسقاء
وأصاب الوليد خدشة سهم ** قصرت عنها الحية الرقطاء
وقضت شوكة على مهجة العا ** ص فللّه النقعة الشوكاء
وعلى الحارث القيوح وقد سا ** ل بها رأسه وسال الوعاء
خمسة طهرت بقطعهم الأر ** ض فكف الأذى بهم شلاء
أي وكفى الله رسوله المستهزئين به، ومرات كثيرة أحزن نبينا كغيره من الأنبياء استهزاء قومه به، وهؤلاء المستهزئون به خمسة كلهم أصيبوا بداء عظيم، والهلاك من جملة جنوده الأمراض.
فأهلك الأسود بن المطلب عمى عظيم الأحياء أموات بسببه، وهو المناسب لكون جبريل أشار إلى عينيه. ودهي أيضا الأسود بن عبد يغوث استسقاء سقاه كأس الموت، وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه. وأصاب الوليد أثر سهم في ساقه قصرت عنه الحية الرقطاء: أي سمها. وقضت شوكة على مهجة العاص دخلت في رجله، فللّه هذه النقعة الخشنة اللمس. وقضت على الحارث القيوح والحال أنه قد سار رأسه، وفسد ذلك الوعاء لتلك القيوح، وهذا هو المناسب لكون جبريل أشار إلى أنفه، لا لقول بعضهم إنه أشار إلى بطنه. خمسة طهرت بهلاكهم الأرض، فكف الأذى بهم شلاء: فاقدة الحركة.
وقد جاء عن ابن عباس أن هؤلاء الخمسة هلكوا في ليلة واحدة، فعلم أن هؤلاء هم المرادون بقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} كما ذكرنا، وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فلا ينافي عدّ منبه ونبيه ابني الحجاج منهم.
فقد قيل: كانا ممن يؤذي رسول الله، وكانا يلقيانه فيقولان له أم وجد الله من يبعثه غيرك؟ إن هاهنا من هو أسن منك وأيسر، فإن كنت صادقا فأتنا بملك ليشهد لك ويكون معك، وإذا ذكر لهما رسول الله ﷺ قالا معلم مجنون يعلمه أهل الكتاب ما يأتي به. ولا ينافي عدّ أبي جهل وغيره منهم كما تقدم.
وفي سيرة ابن المحدث قال «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه».
ومن استهزاء أبي جهل أيضا بالنبي ﷺ أنه قال يوما لقريش: يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذين يقذفونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، فيعجز كل مائة رجل منكم عن واحد منهم؟ .
أي وفي رواية «أن بعض قريش وكان شديدا قويّ البأس، بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه، قال له: أنا أكفيك سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، ويقال إن هذا دعا النبي ﷺ إلى المصارعة، وقال له: يا محمد إن صرعتين آمنت بك، فصرعه النبي ﷺ مرارا فلم يؤمن».
أي وفي رواية أنا أبا جهل قال: أنا أكفيكم عشرة فاكفوني تسعة، فأنزل الله تعالى {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي لا يطاقون كما تتوهمون {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } ضلالا {للذين كفروا} الآية: أي بأن يقولوا ما ذكر، أو يقولوا لم كانوا تسعة عشر؟ وماذا أراد الله بهذا العدد: أي وهذا العدد لحكمة استأثر الله تعالى بعملها، وقد أبدى بعض المفسرين لذلك حكما تراجع.
وقد جاء في وصف تلك الملائكة «أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي» أي القرون «ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة » وفي رواية «ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب، لأحدهم قوة مثل قوة الثقلين، نزعت الرحمة منهم».
وأخرج العتبي في (عيون الأخبار) عن طاوس: إن الله خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار، فما من أهل النار معذب إلا ومالك يعذبه بأصبع من أصابعه، فوالله لو وضع مالك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها، وهؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء، ولكل واحد أتباع لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. قال تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} أي وهؤلاء الأتباع منهم.
وأخرج هناد عن كعب قال: يؤمر بالرجل إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك: أي والمتبادر أن هؤلاء من خزنتها.
وفي كلام بعضهم: لم يثبت لملائكة النار عدد معين سوى ما في قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} وإنما ذلك لسقر التي هي إحدى دركات النار، لقوله تعالى قبل ذلك {سأصليه سقر} وقد يكون على كل واحدة منها مثل هذا العدد أو أكثر. قيل و«بسم الله الرحمن الرحيم» عدد حروفها على عدد هؤلاء الزبانية التسعة عشر، فمن قرأها وهو مؤمن دفع الله تعالى عنه بكل حرف منها واحدا منهم.
أقول: ومن استهزاء أبي جهل أيضا أنه قال يوما لقريش وهو يهزأ برسول الله ﷺ وبما جاء به من الحق: يا معشر قريش يخوّفنا محمد بشجرة الزقوم، يزعم أنها شجرة في النار يقال لها شجرة الزقوم، والنار تأكل الشجر، إنما الزقوم التمر والزبد.
وفي لفظ: العجوة تترب بالزبد، هاتوا تمرا وزبدا وتزقموا، فأنزل الله تعالى {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} أي منبتها في أصل جهنم ولا تسلط لجهنم عليها، أما علموا أن من قدر على خلق من يعيش في النار ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها؟
وقد قال ابن سلام : إنها تحيا باللهب كما يحيا شجر الدنيا بالمطر، وثمر تلك الشجرة مرّ له زفرة. وأخرج الترمذي وصححه النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون طعامه؟ » أي وقال: يا محمد لتتركن سبّ آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد، فأنزل الله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} فكف عن سبّ آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ.
ثم رأيت في الدر المنثور في تفسير {إنا كفيناك المستهزئين} قيل نزلت في جماعة مرّ النبي ﷺ بهم، فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون. هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه في أجسادهم فصارت جروحا وأنتنت، فلم يستطع أحد يدنو منهم حتى ماتوا فلينظر الجمع على تقدير الصحة.
وقد يدّعى أنهم طائفة آخرون غير من ذكر، لأنهم المستهزئون ذلك الوقت، أي فقد تكرر نزول الآية، والله أعلم.
قال: ومن استهزاء النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله ﷺ مجلسا يحدّث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله تعالى خلفه في مجلسه ويقول لقريش: هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، يعني النبي «ثم يحدثهم عن ملوك فارس، لأنه كان يعلم أحاديثهم ويقول: ما حديث محمد إلا أساطير الأولين.
ويقال إنه الذي {قال سأنزل مثل ما أنزل الله} انتهى: أي لأنه ذهب إلى الحيرة واشترى منها أحاديث الأعاجم ثم قدم بها مكة فكان يحدث بها ويقول: هذه كأحاديث محمد عن عاد وثمود وغيرهم. ويقال إن ذلك كان سببا لنزول قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث}.
قال في الينبوع: والمشهور أنها نزلت في شراء المغنيات. وقال: ولا بعد في أن تكون الآية نزلت فيهما ليتحقق العطف في قوله تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا} أي فإن هذا الوصف الثاني إنما يناسب النضر، فليتأمل، ولما تلا عليهم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث: لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين، فأنزل الله تعالى تكذيبا له {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} أي معينا له.
وجاء «أن جماعة من بين مخزوم منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة تواصوا على قتله، فبينما قائما يصلي سمعوا قراءته، فأرسلوا الوليد ليقتله، فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه، فانصرف إليهم وأعلمهم بذلك فأتوه، فلما سمعوا قراءته قصدوا الصوت، فإذا الصوت من خلفهم، فذهبوا إليه فسمعوه من أمامهم ولا زالوا كذلك حتى انصرفوا خائبين، فأنزل الله تعالى قوله: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} وتقدم في سبب نزولها غير ذلك. ويمكن أن يدعي أنها نزلت لوجود الأمرين فليتأمل.
وجاء «أن النضر بن الحارث رأى النبي ﷺ منفردا أسفل ثنية الحجون فقال: لا أجده أبدا أخلى منه الساعة فأغتاله، فدنا إلى رسول الله ﷺ ليغتاله، فرأى أسود تضرب بأذنابها على رأسه فاتحة أفواهها فرجع على عقبه مرعوبا فلقي أبا جهل فقال: من أين؟ فأخبره النضر الخبر، فقال أبو جهل: هذا بعض سحره».
ومما تعنتوا به أنه لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} أي وقودها. وحصب بالزنجية حطب: أي حطب جهنم. وقد قرأتها عائشة {كذلك أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} شق على كفار قريش وقالوا لعبد الله بن الزبعرى: قد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا حصب جهنم، فقال ابن الزبعرى: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي، فدعوه له، فقال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ فقال: بل لكل من عبد من دون الله، فقال ابن الزبعرى: أخصمت ورب هذه البنية ـ يعني الكعبة ـ ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد من دون الله وكذا عزيرا والملائكة، عبدت النصارى عيسى واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة، فضج الكفار وفرحوا فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} يعني عيسى وعزيرا والملائكة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله: باب الهجرة الأولىحتمل أنه أتي به إليه فلم يأذن بإدخاله عليه، وربما يدل لذلك قوله هو الوزغ إلى آخره.
وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة. وفي كلام بعض آجر أنه ولد بالطائف بعد أن نفي أبوه إلى الطائف: أي ولم يجتمع بالنبي ﷺ فهو ليس بصحابي، ومن ثم قال البخاري: مروان بن الحكم لم ير النبي، وعن عائشة ، أنها قالت لمروان «نزل في أبيك {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم} وقالت له «سمعت رسول الله ﷺ يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية: إنهم الشجرة الملعونة في القرآن» ولي مروان الخلافة تسعة أشهر. وعن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم، حيث قال لأخيها عبد الرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر ، فقال عبد الرحمن: بل سنة هرقل وقيصر، وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية، فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك {والذي قال لوالديه أف لكما} فبلغ ذلك عائشة، فقالت كذب والله ما هو به، ثم قالت له: أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله ﷺ لعن أباك وأنت في صلبه.
وعن جبير بن مطعم «كنا مع رسول الله ﷺ فمرّ الحكم بن العاص، فقال النبي ﷺ: ويل لأمتي مما في صلب هذا» قال بعضهم: وكون النبي ﷺ مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك، يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده.
وعن حمران بن جابر الجعفي، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ويل لبني أمية ثلاث مرات» أي وقد ولي منهم الخلافة أربعة عشر رجلا، أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، وآخرهم مروان بن محمد، وكانت مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة، وهي ألف شهر. وقال بعضهم: لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما. قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفيه نظر، لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين، واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة، وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه.
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول: غرّ محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث.