السيرة الحلبية/باب ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم
عن ابن عباس : ولد رسول الله ﷺ مسرورا أي مقطوع السرة. وجاء «أن إبراهيم حين ولد نزل جبريل ﵇ وقطع سرته، وأذن في أذنه، وكساه ثوبا أبيض» وولد نبينا مختونا أي على صورة المختون: أي ومكحولا ونظيفا ما به قذر.
أقول: أي لم يصاحبه قذر وبلل، فلا ينافي جواز وجود البلل والقذر بعده: أي في زمن إمكان النفاس، فلا يستدل بذلك على أن أمه لم تر نفاسا، فإن النفاس عندنا معاشر الشافعية هو البلل الحاصل بعد الولادة في زمن إمكانه، وهو قبل مضي خمسة عشر يوما لا الحاصل مع الولد، والله أعلم.
قال: وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله «من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتي» أي لئلا يرى أحد سوأتي عند الختان. قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه ولد مختونا. وتعقبه الذهبي فقال: ما أعلم صحة ذلك، فكيف يكون متواترا: أي وأجيب بأنه أراد بالتواتر الاشتهار، فقد جاءت أحاديث كثيرة في ذلك. قال الحافظ ابن كثير: فمن الحفاظ من صححها، ومنهم من ضعفها، ومنهم من رآها من الحسان: أي وقد يدعى أنه لا مخالفة بين هذه الأقوال الثلاثة، لأنه يجوز أن يكون من قال صحيحة أراد صحيحة لغيرها، والصحيحة لغيرها قد تكون حسنة لغيرها، ومن قال ضعيفة أراد في حد ذاتها.
وفي الهدى أن الشيخ جمال الدين بن طلحة صنف في أنه ولد مختونا مصنفا أجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام. ورد عليه في ذلك الشيخ جمال الدين بن العديم وذكر أنه ختن على عادة العرب.
وولد من الأنبياء على صورة المختون أيضا غير نبينا ستة عشر نبيا، وقد نظم الجميع بعضهم فقال:
وفي الرسل مختون لعمرك خلقة ** ثمان وتسع طيبون أكارم
وهم زكريا شيث إدريس يوسف ** وحنظلة عيسى وموسى وآدم
ونوح شعيب سام لوط وصالح ** سليمان يحيى هود يس خاتم
وليس هذا من خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل غيرهم من الناس يولد كذلك.
ومن خرافات العامة أن يقولوا لمن يولد كذلك: ختنه القمر: أي لأن العرب تزعم أن المولود في القمر تنفسخ قلفته فيصير كالمختون، وربما قالت العامة ختنته الملائكة وبهذا يرد على ذكره الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أن من خصائصه ولادته مختونا.
وقيل ختن: أي ختنه الملك الذي هو جبريل كما صرح به بعضهم يوم شق قلبه عند ظئره: أي مرضعته حليمة. قال الذهبي: إنه خبر منكر. وقيل ختنه جده يوم سابع ولادته. قال العراقي، وسنده غير صحيح اهـ: أي لما عق عنه بكبش كما سيأتي.
أقول: وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ولد مختونا غير تام الختان كما هو الغالب في ذلك، فتمم جده ختانه، لكن ينازع فيه ما تقدم من قوله «من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي» أي لأجل الختان كما هو الظاهر إن صح كما قدمنا.
وفي كلام بعضهم أن عيسى ختن بآلة. وعلى صحته يجمع بنحو ما تقدم. والظاهر أن المراد بالآلة التي ختن بها عيسى والتي ختن بها بناء على أن جده ختنه كانت بالآلة المعروفة التي هي الموسى وإلا لنقلت، لأن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله.
لا يقال عدم وجود القلفة نقص من أصل الخلقة الإنسانية، فقد قالوا في حكمة وجود العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان فيه ولم يخلق بدونها، بل خلق بها تكملة للخلق الإنساني. لأنا نقول: إنما لم يخلق بتلك القلفة ليحصل كمال الخلقة الإنسانية، لأن هذه القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة، كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال، بخلاف العلقة السوداء.
وكره الحسن أن يختن الولد يوم السابع، لأن فيه تشبيها باليهود، أي لأن إبراهيم لما ختن ولده إسحاق يوم سابع ولادته، اتخذه بنو إسرائيل في ذلك اليوم سنة، وختن ولده إسماعيل لثلاث عشرة سنة. قال أبو العباس بن تيمية: فصار ختان إسماعيل ، أي في ذلك الوقت سنة في ولده يعني العرب، ويؤيده قول ابن عباس : كانوا لا يختنون الغلام حتى يدرك: أي لأن الثلاثة عشر هي مظنة الإدراك، ومن ثم لما سئل ابن عباس عن سنه حين قبض رسول الله ﷺ قال: وأنا يومئذ مختون، أي في أوائل زمن الختان، والله أعلم.
ولما ولد رسول الله ﷺ وقع على الأرض مقبوضة أصابع يده يشير بالسبابة كالمسبح بها.
أقول: وفي رواية عن أمه أنها قالت «لما خرج من بطني نظرت إليه، فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه كالمتضرع المبتهل» ولامخالفة، لجواز أن يراد بأصبعيه السبابتان من اليدين، والله أعلم. وفي سجوده إشارة إلى أن مبدأ أمره على القرب من الحضرة الإلهية قال وروى ابن سعد «أنه لما ولد وقع على يديه رافعا رأسه إلى السماء» وفي رواية «وقع على كفيه وركبتيه شاخصا ببصره إلى السماء» اهـ.
أقول: وفي رواية: «وقع جاثيا على ركبتيه» ولا يخالف هذا ما سبق من أنها نظرت إليه، فإذا هو ساجد، لجواز أن يكون سجوده بعد رفع رأسه وشخوص بصره إلى السماء. ولا مخالفة بين كونه وقع على الأرض مقبوضة أصابع يده ووقوعه على كفه، لجواز أن يكون قبض أصابعه ما عدا السبابة بعد ذلك. ولا ينافيه قوله مقبوضة المنصوب على الحال لقرب زمنها من الوقوع على الأرض، والاقتصار على الركبتين لا ينافي الجمع بينهما وبين الكفين.
ورأيت في كلام بعضهم أنه ولد واضعا إحدى يديه على عينيه والأخرى على سوءتيه فليتأمل، والله أعلم.
وإلى رفع رأسه وشخوص بصره إلى السماء يشير صاحب الهمزية بقوله:
رافعا رأسه وفي ذلك الرفـ ** ـع إلى كل سودد إيماء
رامقا طرفه السماء ومرمى ** عين من شأنه العلو العلاء
أي وضعته حال كونه رافعا رأسه إلى السماء، وفي ذلك الرفع الذي هو أول فعل وقع منه بعد بروزه إلى هذا العالم إشارة إلى حصول كل رفعة وسيادة ووضعته حالة كونه رامقا ببصره إلى السماء، وسر ذلك الإشارة إلى علو مرماه، إذ مرمى عين الذي قصده ارتفاع مكانه الرفعة والشرف. قال: وقد روى «أنه قبض قبضة من تراب، وأهوى ساجدا، فبلغ ذلك رجلا من بني لهب، فقال لصاحبه: لئن صدق هذا الفأل ليغلبن هذا المولود أهل الأرض»: أي لأنه قبض عليها وصارت في يده. والفأل بالهمز وبدونه، يقال فيما يسر والتطير فيما يسوء فالفأل ضد الطير بكسر الطاء. وقد جاء «إني أتفاءل ولا أتطير» وقيل له «ما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» وقال: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة » وفي رواية «وأحب الفأل الصالح».
وفرق بعضهم بين الفأل والتفاؤل بأن الأول يكون في سماع الآدميين. والثاني يكون في الطير بأسمائها وأصواتها وممرها. وقوله: لا عدوى معارض لما جاء أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي «إنا قد بايعناك فارجع فرجع ولم يصافحه» وجاء «لا تديموا النظر للمجذومين» وسيأتي الجواب عنه بما يحصل به الجمع بينه وبين ما جاء «أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال: كل بسم الله وتوكلا عليه» وبنو لهب بكسر اللام وسكون الهاء: حي من الأزد أعلم الناس بالزجر: أي زجر الطير والتفاؤل بها وبغيرها.
فقد كان في الجاهلية إذا أراد الشخص أن يخرج لحاجة جاء إلى الطير وأزعجها عن أوكارها، فإن مر الطائر على اليمين سمي سانحا واستبشر مريد الحاجة بقضائها، وإن مر على اليسار سمي بارحا بالموحدة والراء والحاء المهملة، وقعد مريد الحاجة عنها تفاؤلا بعدم قضائها: أي وهذا ما فسر به إمامنا الشافعي الحديث الآتي: «أقروا الطير في مكامنها» فعن سفيان بن عينية قال: قلت للشافعي : يا أبا عبد الله ما معنى هذا الحديث؟ فقال: علم العرب كان في زجر الطير، كان الرجل منهم إذ أراد سفرا جاء إلى الطير في مكامنها فطيرها الحديث.
ويحكى عن وائل بن حجر وكان زاجرا حسن الزجر أنه خرج يوما من عند زياد بالكوفة، وهو الذي ألحقه معاوية بأبيه أبي سفيان، وهو والد عبيد الله بن زياد الذي قاتل الحسين، وكان أميرها المغيرة بن شعبة فرأى غرابا ينغق بالغين العجمة: أي يصيح فرجع إلى زياد وقال له هذا غراب يرحلك من ههنا إلى خير، فقدم رسول معاوية إلى زياد من يومه بولاية البصرة.
وقد ذكر أن أبا ذؤيب الهذلي الشاعر كان مسلما على عهد رسول الله، ولم يجتمع به قال: بلغنا أن رسول الله ﷺ عليل، ولما كان وقت السحر هتف بي هاتف وأنا نائم وهو يقول:
قبض النبي محمد فعيوننا ** تذري الدموع عليه بالتسجام
قال: فقمت من نومي فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به وعلمت أن النبي ﷺ قد قبض، فركبت ناقتي وحثتها حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطير فأخبرني بوفاته، فلما قدمت المدينة فإذا فيها ضجيج بالبكاء كضجيج الحاج فسألت، فقيل لي: قبض رسول الله ﷺ وهو مسجى وقد خلا به أهله، وأبو هذيل هذا هو القائل:
أمن المنون وريبه تتوجع ** والدهر ليس بمعتب من يجزع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم ** أني لريب الدهر لا أتضعضع
والنفس راغبة إذا رغبتها ** وإذا ترد إلى قليل تقنع
ومن زجر الطير ما حكاه بعضهم قال: جاء أعرابي إلى دار القاضي أبي الحسين الأزدي المالكي، فجاء غراب فقعد على نخلة في تلك الدار وصاح ثم طار، فقال الأعرابي هذا الغراب يقول إن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام، فصاح الناس عليه وزجروه فقام وانصرف، ففي سابع يوم مات هذا القاضي.
وقد جاء النهي عن ذلك: أي عن الزجر والطيرة في قوله «أقروا الطير على مكامنها» أي لا تزجروها. وجاء «الطير شرك» وجاء «من أرجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» أي حيث اعتقد أنها تؤثر. وجاء «إذا رأى أحدكم من الطيرة ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» وفي رواية «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك ثم يمضي لحاجته» وقد جاء «لا عدوى ولا طيرة ولا هام» وفي لفظ «ولا هامة » بالتخفيف زاد في رواية «ولا صفر» والهامة هو أنه كان أهل الجاهلية يزعمون أنه إذا قتل القتيل ولم يؤخذ بثأره يخرج له طائر يقول عند قبره اسقوني من دم قاتلي، اسقوني من دم قاتلي، ولا يزال يقول ذلك حتى يؤخذ بثأر القتيل، كانت العرب تسميه الهامة بالتخفيف. وأما الهامة بالتشديد فواحدة الهوام، وهي الحيات والعقارب وما شاكلها، ومن ثم كان رسول الله ﷺ يقول في تعويذه للحسن والحسين «أعيذبكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ثم يقول: هكذا إبراهيم كان يعوذ إسماعيل وإسحاق»، وقوله «ولا صفر» ذكر الإمام النووي أن المراد به حية صفراء تكون في جوف الإنسان إذا جاع تؤذيه، كذا كانت العرب تزعم ذلك قال: وهذا التفسير هو الصحيح الذي عليه عامة العلماء، وقد ذكره مسلم عن جابر راوي الحديث، فتعين اعتماده.
وروى ابن سعد أن رسول الله ﷺ قال: «رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاءت له قصور بصرى» وفي رواية «أنها قالت لما وضعته خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، فأضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى».
وفي الخصائص الصغرى «ورأت أمه عند ولادته نورا خرج منها أضاء له قصور الشام» وكذلك أمهات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرين اهـ، ولعل المراد يرين مطلق النور لا الذي تضيء منه قصور الشام. وقوله «قصور الشام» الخ ظاهر في أن امل راد جميع الإقليم لا خصوص بصرى، ولعل الاقتصار على بصرى في الروايات لكون النور كان بها أتمّ، ومن ثم قالت «حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى» أو رأت مرة وصول النور إلى بصرى خاصة ومرة جاوزها تأمل، وإلى هذا النور يشير عمه العباس بقوله في قصيدته التي امتدح بها رسول الله ﷺ عند رجوعه من غزوة تبوك، وقد قال له في مرجعه من تلك الغزوة «يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال له رسول الله: قل، لا يفضض الله فاك، فقال قصيدة منها:
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ** ض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النـ ** ـور سبل الرشاد نخترق»
وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله:
وتراءت قصور قيصر بالرو ** م يراها من داره البطحاء
أي رؤيت قصوره ملك الروم في بلاد الروم يبصرها الذي داره بمكة قال: وهذا ظاهر في أنها رأت ذلك النور يقظة، وتقدم في حديث شداد أنها رأته مناما، وقد تقدم الجمع اهـ: أي وتقدم ما في ذلك الجمع.
وذكر أن أم إمامنا الشافعي رأت وهي حامل به أن النجم المسمى بالمشتري خرج من فرجها فوقع في مصر ثم وقع في كل بلدة منه شظية، فتأول ذلك أصحاب تأويل الرؤيا بأنها تلد عالما يكون علمه بمصر أولا ثم ينتشر إلى سائر البلدان.
وروى السهيلي على الواقدي «أنه لما ولد تكلم، فقال: جلال ربي الرفيع» وروي «أن أول ما تكلم به لما ولدته أمه حين خروجه من بطنها الله أكبر كبيرا والحمدلله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا» ولا مانع من أنه تكلم بكل ذلك والأولوية في الرواية الثانية إضافية لما لا يخفى.
وقد وقع الاختلاف في وقت ولادته: أي هل كان ليلا أو نهارا وعلى الثاني في أي وقت من ذلك النهار وفي شهره وفي عامه وفي محله؟ فقيل ولد يوم الاثنين، قال بعضهم: لا خلاف فيه والله، بل أخطأ من قال ولد يوم الجمعة: أي فعن قتادة «أن رسول الله ﷺ سئل عن يوم الإثنين، فقال ذلك يوم ولدت فيه» وذكر الزبير بن بكار والحافظ ابن عساكر أن ذلك كان حين طلوع الفجر ويدل له قول جده عبد المطلب: ولد لي الليلة مع الصبح مولود. وعن سعيد بن المسيب «ولد رسول الله ﷺ عند إبهار النهار» أي وسطه «وكان ذلك اليوم لمضي اثني عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول» أي وكان ذلك في فصل الربيع، وقد أشار إلى ذلك بعضهم بقوله:
يقول لنا لسان الحال منه ** وقول الحق يعذب للسميع
فوجهي والزمان وشهر وضعي ** ربيع في ربيع في ربيع
قال: وحكى الإجماع عليه وعليه العمل الآن، أي في الأمصار خصوصا أهل مكة في زيارتهم موضع ملوده، وقيل لعشر ليال مضت من ربيع وصحح اهـ أي صححه الحافظ الدمياطي: أي لأن الأول قال فيه ابن دحية: ذكره ابن إسحاق مقطوعا دون إسناد، وذلك لا يصح أصلا، ولو أسنده ابن إسحاق لم يقبل منه لتجريح أهل العلم له فقد قال كل من ابن المديني وابن معين أن ابن إسحاق ليس بحجة ووصفه مالك بالكذب. قيل وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه عنه أنه قال: هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله، فعند ذلك قال مالك: وما ابن إسحاق إنما هو رجل من الدجاجلة أخرجناه من المدينة. قال بعضهم: وابن إسحاق من جملة من يروي عنه شيخ مالك يحيى بن سعيد. وقال بعضهم: ابن إسحاق فقيه ثقة لكنه مدلس وقيل ولد لسبع عشرة ليلة خلت منه. وقيل لثمان مضت منه. قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره وعليه أجمع أهل التاريخ.
وقال القطب القسطلاني: وهو اختيار أكثر أهل الحديث: أي كالحميدي وشيخه ابن حزم. وقيل لليلتين خلتا منه، وبه جزم ابن عبد البر. وقيل لثمان عشرة ليلة خلت منه، رواه ابن أبي شيبة، وهو حديث معلول. وقيل لاثنتي عشرة بقين منه. وقيل لاثني عشرة. وقيل لثمان ليال خلت من رمضان وصححه كثير من العلماء، وهذا هو الموافق لما تقدم من أن أمه حملت به في أيام التشريق أو في يوم عاشوراء وأنه مكث في بطنها تسعة أشهر كوامل، لكن قال بعضهم، إن هذا القول غريب جدا ومستند قائله أنه أوحى إليه في رمضان فيكون مولده في رمضان، وعلى أنها حملت به في أيام التشريق الذي لم يذكروا غيره يعلم ما في بقية الأقوال قال، وقيل ولد في صفر. وقيل في ربيع الآخر، وقيل في محرم، وقيل في عاشوراء أي كما ولد عيسى ﵇، وقيل لخمس بقين منه اهـ. أي وذكر الذهبي أن القول بأنه ولد في عاشوراء من الإفك: أي الكذب، وفيه إن كان ذلك لأنه لا يجامع أنها حملت به في أيام التشريق، وأنه مكث في بطنها تسعة أشهر كوامل لا يختص الإفك بهذا القول، بل يأتي فيما عدا القول بأنه ولد في رمضان، ثم رأيت بعضهم حكى أنه حمل في شهر رجب، وحينئذ يصح القول المشهور ولادته في ربيع الأول.
وعن ابن عباس : ولد يوم الإثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في ربيع الأول، وهاجر إلى المدينة يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين في ربيع الأول. قال بعضهم: وهذا غريب جدا.
وقيل لم يولد نهارا، بل ولد ليلا. فعن عثمان بن أبي العاص عن أمه أنها شهدت ولادة النبي ﷺ ليلا، قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نورا، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي. قال ابن دحية وهو حديث مقطوع. قال بعضهم: ولا يصح عندي بوجه أنه ولد ليلا، لقوله الثابت عنه بنقل العدل عن العدل «أنه سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: فيه ولدت» واليوم إنما هو النهار بنص القرآن. وأيضا الصوم لا يكون إلا نهارا.
وأفاد البدر الزركشي أن هذا الحديث: أي المتقدم عن أم عثمان بن أبي العاص على تقدير صحته لا دلالة فيه على أنه ولد ليلا، قال: فإن زمان النبوة صالح للخوارق. ويجوز أن تسقط النجوم نهارا: أي فضلا عن أن تكاد تسقط سيما إن قلنا ولد عند الفجر لأن ذلك ملحق بالليل، وإلى التردد في وقت ولادته هل هو في الليل أو النهار أشار صاحب الهمزية بقوله:
ليلة المولد الذي كان للد ** ين سرور بيومه وازدهاء
فهنيئا به لآمنة الفـ ** ـضل الذي شرفت به حواء
من لحواء أنها حملت أحـ ** ـمد أو أنها به نفساء
يوم نالت بوضعه ابنة وهب ** من فخار ما لم تنله النساء
أي ليلة المولد الذي وجد فيه الفرح والافتخار للدين بيومه، وقد أضاف كلا من الليل واليوم للولادة مراعاة للخلاف في ذلك، فهنيئا لآمنة الفضل الذي حصل لها بسبب ولادتها له: أي لا يشوب ذلك الفضل كدر ولا مشقة الذي شرفت بذلك الفضل حواء التي هي أم البشر، ومن يشفع لحواء في أنها حملت به وأنه أصابها نفاس به يوم أعطيت آمنة بنت وهب بسبب وضعه من الفخار، وهو ما يتمدح به من الخصال العلية، والشيم المرضية، ما لم يعطها غيرها من النساء.
أي وقد أقسم الله بليلة مولده قوله تعالى {والضحى والليل} وقيل أراد بالليل ليلة الإسرى، ولا مانع أن يكون الإقسام وقع بهما، أي استعمل الليل فيهما. ويدل لكون ولادته كانت ليلا قول بعض اليهود ممن عنده علم الكتاب لقريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلم قال: ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، إلى آخر ما يأتي، وسيأتي ما يدل على ذلك، وهو وضعه تحت الجفنة.
وولادته قيل كانت في عام الفيل، قيل في يومه. فعن ابن عباس قال: ولد رسول الله ﷺ يوم الفيل. وعن قيس ابن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله ﷺ يوم الفيل ضحا فنحن لدتان، قال الحافظ ابن حجر المحفوظ لفظ العام: أي بدل لفظ اليوم، وقد يراد باليوم مطلق الوقت فيصدق بالعام، كما يقال يوم الفتح ويوم بدر، وعليه فلدان معناه متقاربان في السن بالموحدة، وعلى أن المراد باليوم حقيقته يكون بالنون.
وفي تاريخ ابن حبان: ولد عام الفيل في اليوم الذي بعث الله تعالى الطير الأبابيل فيه على أصحاب الفيل.
وعند ابن سعد: ولد يوم الفيل يعني عام الفيل اهـ: أي لما تقدم عن ابن حجر، وعليه فيكون قول ابن حبان في اليوم تفسيرا للعام. على أن المراد باليوم مطلق الوقت الصادق بالعام.
وقيل ولد بعد الفيل بخمسين يوما، كما ذهب إليه جمع منهم السهيلي. قال بعضهم: وهو المشهور. قال: وقيل بخمسة وخمسين يوما. وقيل بأربعين يوما، وقيل بشهر، وقيل بعشر سنين، وقيل بثلاث وعشرين سنة، وقيل بثلاثين سنة، وقيل بأربعين سنة، وقيل بسبعين سنة اهـ: أي وعلى أنه بعد الفيل بخمسة وخمسين يوما اقتصر الحافظ الدمياطي . وعبارة المواهب: حكاه الدمياطي في آخرين، وكونه في عام الفيل قال الحافظ ابن كثير: هو المشهور عند الجمهور. وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري لا يشك فيه أحد من العلماء، ونقل غير واحد فيه الإجماع. وقال: كل قول يخالفه وهم: أي وقيل قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة. قال بعضهم: وهذا غريب منكر وضعيف أيضا.
أقول: والقول بأنه ولد قبل عام الفيل أو فيه أو بعده بعشر سنين يقتضي تضعيف ما ذكره الحافظ أبو سعيد النيسابوري أن نور النبي ﷺ كان يضيء في غرة جده عبد المطلب، وكانت قريش إذا أصابها قحط أخذت بيد عبد المطلب إلى جبل ثبير يستسقون به، فيسقيهم الله تعالى ببركة ذلك النور، وأنه لما قدم صاحب الفيل لهدم الكعبة لتكون كنيسته التي بناها. ويقال إنها القليس كجميز لارتفاع بنائها وعلوها ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس مكان الكعبة في الحج إليها.
وقد اجتهد أبرهة في زخرفتها، فجعل فيها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، كان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان ﵇، وجعل فيها صلبانا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس، وشدد على عمالها بحيث إذا طلعت الشمس قبل أن يأخذ العامل في عمله قطع يده، فنام رجل منهم ذات يوم حتى طلعت الشمس، فجاءت معه أمه وهي امرأة عجوز، فتضرعت إليه في أن لا يقطع يد ولدها فأبى إلا قطع يده، فقالت له اضرب بمعولك اليوم، فاليوم لك وغدا لغيرك، فقال لها: ويحك ما قلت؟ فقالت نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك فكذلك يصير منك إلى غيرك، فأخذته موعظتها فعفا عنه، ورجع عن هذا الأمر، فعند ذلك ركب عبد المطلب في قريش إلى جبل ثبير فاستدار ذلك النور، في وجه عبد المطلب كالهلال، وألقى شعاعه على البيت الحرام مثل السراج، فلما نظر عبد المطلب لذلك قال: يا معشر قريش ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر فوالله ما استدار هذا النور مني إلا أن يكون الظفر لنا فرجعوا فلما دخل رسول صاحب الفيل إلى مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيا عليه فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجدا لعبد المطلب: أي فإن صاحب الفيل أمره أن يقول لقريش: إن الملك إنما جاء لهدم البيت، فإن لم تحولوا بينه وبينه لم يزد على هدمه، وإن أحلتم بينه وبينه أتى عليكم، فقال له عبد المطلب؟ ما عندنا منعة ولا ندفع عن هذا البيت، وله رب إن شاء منعه: أي وفي لفظ قال عبد المطلب، والله ما نريد حربه وما لنا منه بذلك طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليل الله، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن لم يحل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه وأمر أبرهة رسوله أيضا أن يأتي له بسيد القوم، فقال لعبد المطلب: قد أمرني أن آتيه بك، فقال عبد المطلب أفعل، فجاءه راعي إبله وخيله، وأخبره أن الحبشة أخذت الإبل والخيل التي كانت ترعى بذي المجاز.
وفي سيرة ابن هشام بل وفي غالب السير الاقتصار على الإبل، وأنها كانت مائتي بعير، وقيل أربعمائة ناقة. فركتب عبد المطلب صحبة رسول صاحب الفيل وركب معه ولده الحارث فاستؤذن له على أبرهة أي قيل له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة يعني زمزم، وهو يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له. فلما دخل ورآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه على سرير ملكه، فنزل عن سريره وأجلسه معه على البساط وقال لترجمانه اسأله عن حاجته، فذكر إبله وخيله، فذكر الترجمان له ذلك، فقال للترجمان بلسان الحبشة قل له كنت أعجبتني إذ رأيتك ثم قد زهدت فيك إذ سألتني إبلا وخيلا، وتركت أن تسأل عن البيت الذي هو عزك، فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب أنا رب الإبل والخيل التي سألتها الملك، وأما البيت فله رب إن شاء أن يمنعه من الملك، فقال أبرهة ما كان ليمنعه مني، فرد عليه ما كان أخذ له وانصرف. وأبرهة بلسان الحبشة: الأبيض الوجه.
ثم إن الفيل لما نظر إلى وجه عبد المطلب برك كما يبرك البعير وخر ساجدا، وأنطق الله سبحانه وتعالى الفيل، فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب.
وفي كلام بعضهم أن أبرهة لما بلغه مجيء عبد المطلب إليه أمر أن عبد المطلب قبل دخوله عليه أن يذهب به إلى الفيلة ليراها ويرى الفيل العظيم وكان أبيض اللون.
أقول: رأيت أن ملك الصين كان في مربطه ألف فيل أبيض، وكان مع الفرس في قتال أبي عبيد بن مسعود الثقفي أمير الجيش في خلافة الصديق أفيلة كثيرة عليها الجلاجل، وقدّموا بين أيديهم فيلا عظيما أبيض، وصارت خيول المسلمين كلما حملت وسمعت حس الجلاجل نفرت، فأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة فقتلوها عن آخرها، وتقدم أبو عبيد لهذا الفيل العظيم الأبيض فضربه بالسيف فقطع زلومه، فصاح الفيل صيحة هائلة، وحمل على أبي عبيد فتخبطه برجله ووقف فوقه فقتله، فحمل على الفيل شخص كان أبو عبيد أوصى أن يكون أميراف بعده فقتله، ثم آخر حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحدا بعد واحد، وهذا من أغرب الاتفاقيات والله أعلم. وإنما أرى عبد المطلب الفيلة إرهابا لها وتخويفا فإن العرب لم تكن تعرف الأفيال، وكانت الأفيال كلها ما عدا الفيل الأعظم تسجد لأبرهة.
وأما الفيل الأعظم فلم يسجد إلا للنجاشي، فلما رأت الفيلة عبد المطلب سجدت حتى الفيل الأعظم. وقيل إن أبرهة لم يخرج إلا بالفيل الأعظم، ولما بلغ أبرهة سجود الفيلة لعبد المطلب تطير ثم أمر بإدخال عبد المطلب عليه، فلما رآه ألقيت له الهيبة في قلبه، فنزل عن سريره تعظيما لعبد المطلب. ثم رأيت العلامة ابن حجر في شرح الهمزية حاول الجواب عن هذا الذي تقدم عن الحافظ النيسابوري، من أن النور استدار في وجه عبد المطلب إلى آخره: أي وقول الفيل: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب مع أن ولادته في ذلك الوقت، يلزمها أن يكون النور انتقل من عبد المطلب إلى عبد الله، ثم انتقل من عبد الله إلى آمنة، بأن النور وإن انتقل من عبد المطلب، لكن الله سبحانه وتعالى أكرم عبد المطلب فأحدث ذلك النور في ظهره، وفي وجهه وأطلع الفيل عليه هذا كلامه فليتأمل.
وذكر بعضهم أن الفيل مع عظم خلقته صوته ضئيل أي ضعيف، ويفرق أي يخاف من السنور الذي هو القط ويفزع منه.
وفي المواهب: والمشهور أنه ولد بعد الفيل، لأن قصة الفيل كانت توطئة لنبوته ومقدمة لظهوره وبعثته، هذا كلامه. وفيه أنه قد يقال الإرهاصات إنما تكون بعد وجوده وقبل مبعثه الذي هو دعواه الرسالة، لا قبل وجوده بالكلية الذي هو المراد بظهوره. وحينئذ فقول القاضي البيضاوي: إنها من الإرهاصات، إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله ﷺ: أي بعد وجوده. ومن ثم قال ابن القيم في الهدي: إن مما جرت به عادة الله تعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل لها، فمن ذلك قصة مبعثه تقدمها قصة الفيل، هذا كلامه.
قال: فلما شرع أبرهة في الذهاب إلى مكة وصل الفيل إلى أول الحرم، والمواهب أسقط هذا، وهو يوهم أنهم دخلوا مكة، وأن الفيل برك دون البيت فليتأمل، وعند وصوله إلى أول الحرم برك، فصاروا يضربون رأسه ويدخلون الكلاليب في مراق بطنه فلا يقوم، فوجهوا وجهه إلى جهة اليمين، فقام يهرول، وكذا إلى جهة الشام فعل ذلك مرارا فأمر أبرهة أن يسقي الفيل الخمر ليذهب تمييزه فسقوه فثبت على أمره.
ويقال إنما برك لأن نفيل بن حبيب الخثعمي قام إلى جنب الفيل فعرك أذنه وقال: ابرك محمودا وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك.
قال السهيلي : الفيل لا يبرك، فيحتمل أن يكون بروكه سقوطه على الأرض لما جاءه من أمر الله سبحانه. ويحتمل أن يكون فعل البرك وهو الذي يلزم موضعه ولا يبرح فعبر بالبروك عن ذلك.
قال: وقد سمعت من يقول إن في الفيلة صنفا منها يبرك كما يبرك الجمل، وعند ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم الطير الأبابيل، خرجت من البحر أمثال الخطاطيف. ويقال إن حمام الحرم من نسل تلك الطير فأهلكتهم.
وقد يقال إن هذا اشتباه، لأن الذي قيل إنه من نسل الأبابيل إنما هو شيء يشبه الزرازير يكون بباب إبراهيم من الحرم. وإلا فسيأتي أن حمام الحرم من نسل الحمام الذي عشش على فم الغار على ما سيأتي فيه. وفي حياة الحيوان أن الطير الأبابيل تعشش وتفرخ بين السماء والأرض.
ولما هلك صاحب الفيل وقومه عزت قريش وهابتهم الناس كلهم، وقالوا: أهل الله لأن الله معهم. وفي لفظ: لأن الله سبحانه وتعالى قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم الذي لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة، وغنموا أموال أصحاب الفيل: أي ومن حينئذ مزقت الحبشة كل ممزق، وخرب ما حول تلك الكنيسة التي بناها أبرهة، فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات ومردة الجن، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن، واستمرت كذلك إلى زمن السفاح الذي هو أول خلفاء بني العباس، فذكر له أمرها، فبعث إليها عامله على اليمن فخرّ بها وأخذ خشبها المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من الذهب، فحصل له منها مال عظيم، وحينئذ عفا رسمها وانقطع خبرها، واندرست آثارها.
وقد كان عبد المطلب أمر قريشا أن تخرج من مكة وتكون في رؤوس الجبال خوفا عليهم من المعرة، وخرج هو وإياهم إلى ذلك بعد أن أخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش، يدعون الله سبحانه وتعالى، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، وقال:
لا هم إن العبد يحـ ** مى رحله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ** ومحالهم غدوا محالك
أي فإنهم كانوا نصارى. ولا هم: أصله اللهم، فإن العرب تحذف الألف واللام، وتكتفي بما يبقى، وكذلك تقول: لاه أبوك، تريد لله أبوك، والحلال بكسر الحاء المهملة: جمع حلة، وهي البيوت المجتمعة. والمحال بكسر الميم: القوة والشدة، والغدو بالغين المعجمة أصله الغد: وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك الذي أنت فيه. ويقال إن عبد المطلب جمع قومه وعقد راية وعسكر بمنى.
وجمع ابن ظفر بينه وبين ما تقدم من أنه خرج مع قومه إلى رؤوس الجبال، بأنه يحتمل أنه أمر أن تكون الذرية في رؤوس الجبال: أي وخرج معه تأنيسا لهم ثم رجع وجمع إليه المقاتلة: أي ويؤيد ذلك قول المواهب: ثم إن أبرهة أمر رجلا من قومه يهزم الجيش، فلما وصل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع إلى آخر ما تقدم. فإسقاط المواهب كون قريش جيشت جيشا مع قومه، ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش لا يحسن. ثم ركب عبد المطلب لما استبطأ مجيء القوم إلى مكة ينظر ما الخبر فوجدهم قد هلكوا: أي غالبهم، وذهب غالب من بقي، فاحتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم آذن: أي أعلم أهل مكة بهلاك القوم فخرجوا فانتهبوا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: وسبب غنى عثمان بن عفان أن أباه عفان وعبد المطلب وأبا مسعود الثقفي لما هلك أبرهة وقومه كانوا أول من نزل مخيم الحبشة، فأخذوا من أموال أبرهة وأصحابه شيئا كثيرا ودفنوه عن قريش، فكانوا أغنى قريش وأكثرهم مالا. ولما مات عفان ورثه عثمان .
أي ومن جملة من سلم من قوم أبرهة ولم يذهب بل بقي بمكة سائس الفيل وقائده.
فعن عائشة : أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس.
وأورد على هذا أن الحجاج خرّب الكعبة بضرب المنجنيق ولم يصبه شيء.
ويجاب بأن الحجاج لم يجيء لهدم الكعبة ولا لتخربها ولم يقصد ذلك، وإنما قصد التضييق على عبد الله بن الزبير ليسلم نفسه، وهذا أولى من جواب المواهب كما لا يخفى، والله أعلم.
وكان بمكة في الدار التي صارت تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج: أي وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب، ولم تزل بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار قاله الفاكهي: أي فأدخلها في داره وسماها البيضاء: أي لأنها بنيت بالجص ثم طليت به، فكانت كلها بيضاء، وصارت تعرف بدار ابن يوسف، لكن سيأتي في فتح مكة أنه قيل له «يا رسول الله تنزل في الدور؟ قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» فإن هذا السياق يدل على أن عقيلا باع تلك الدار فلم يبق بيده ولا بيد أولاده بعده. إلا أن يقال المراد باع ما عدا هذه الدار التي هي مولده: أي لأنه كما سيأتي في الفتح باع دار أبيه أبي طالب، لأنه وطالبا أخاه ورثا أبا طالب، لأنهما كانا كافرين عند موت أبي طالب، دون جعفر وعلي فإنهما كانا مسلمين، وعقيل أسلم بعد دون طالب، فإن طالبا اختطفته الجن ولم يعلم به، وإن عقيلا باع دار رسول الله ﷺ التي هي دار خديجة: أي التي يقال لها مولد فاطمة ، وهي الآن مسجد يصلى فيه، بناه معاوية أيام خلافته. قيل وهو أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام: أي واشتهر بمولد فاطمة لشرفها، وإلا فهو مولد بقية إخوتها من خديجة، ولعل معاوية اشترى تلك الدار ممن اشتراها من عقيل.
ويدل لما قلناه قول بعضهم: لم يتعرض عند فتح مكة لتلك الدار التي أبقاها في يد عقيل: أي التي هي دار خديجة، فإنه لم يزل بها حتى هاجر فأخذها عقيل.
وفي كلام بعضهم: لما فتح النبي ﷺ مكة ضرب مخيمه بالحجون، فقيل له: ألا تنزل منزلك من الشعب فقال «وهل ترك لنا عقيل منزلا» وكان عقيل قد باع منزل رسول الله ﷺ ومنازل إخوته حين هاجروا من مكة، ومنزل كل من هاجر من بني هاشم.
وفي كلام بعضهم: كان عقيل تخلف عنهم في الإسلام والهجرة، فإنه أسلم عام الحديبية التي هي السنة السادسة وباع دورهم، فلم يرجع النبي ﷺ في شيء منها، وهي أي تلك الدار التي ولد بها عند الصفا، قد بنتها زبيدة زوجة الرشيد أم الأمين مسجدا لما حجّت.
وفي كلام ابن دحية أن الخيزران أم هارون الرشيد لما حجت أخرجت تلك الدار من دار ابن يوسف وجعلتها مسجدا. ويجوز أن تكون زبيدة جددت ذلك المسجد الذي بنته الخيزران فنسب لكل منهما، وسيأتي أن الخيزران بنت دار الأرقم مسجدا، وهي عند الصفا أيضا، ولعل الأمر التبس على بعض الرواة لأن كلا منهما عند الصفا. وقيل ولد في شعب بني هاشم.
أقول: قد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون تلك الدار من شعب بني هاشم، ثم رأيت التصريح بذلك. ولا ينافيه ما تقدم في الكلام على الحمل من أن شعب أبي طالب وهو من جملة بني هاشم كان عند الحجون، لأنه يجوز أن يكون أبو طالب انفرد عنهم بذلك الشعب، والله أعلم.
قال: وقيل ولد في الردم: أي ردم بني جمح، وهم بطن من قريش، ونسب لبني جمح لأنه ردم على من قتلوا في الجاهلية من بني الحارث، فقد وقع بين بني جمح وبين بني الحارث في الجاهلية مقتلة، وكان الظفر فيها لبني جمح على بني الحارث فقتلوا منهم جمعا كثيرا، وردم على تلك القتلى بذلك المحل. وقيل ولد بعسفان انتهى.
أقول: مما يردّ القول بكونه ولد بعسفان ما ذكره بعض فقهائنا، أن من جملة ما يجب على الولي أن يعلم موليه إذا ميز أنه ولد بمكة ودفن بالمدينة، إلا أن يقال ذاك بناء على ما هو الأصح عندهم. والردم: هو المحل الذي كانت ترى منه الكعبة قبل الآن، ويقال له الآن المدعي، لأنه يؤتى فيه بالدعاء الذي يقال عند رؤية الكعبة، ولم أقف على أنه وقف به، ولعله لم يكن مرتفعا في زمنه، لأنه إنما رفعه وبناه سيدنا عمر في خلافته، لما جاء السيل العظيم الذي يقال له سيل أم نهشل، وهي بنت عبيدة بن سعيد بن العاص، فإنه أخذها وألقاها أسفل مكة فوجدت هناك ميتة، ونقل المقام إلى أن ألقاه بأسفل مكة أيضا فجيء به وجعل عند الكعبة، وكوتب عمر بذلك فحضر وهو فزع مرعوب، ودخل مكة معتمرا فوجد محل المقام دثر، وصار لا يعرف، فهاله ذلك ثم قال: أنشد الله عبدا عنده علم من محل هذا المقام، فقال المطلب بن رفاعة : أنا يا أمير المؤمنين عندي علم بذلك، فقد كنت أخشى عليه مثل ذلك، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بحفاظ، فقال له اجلس عندي وأرسل، فأرسل فجيء بذلك الحفاظ فقيس به ووضع المقام بمحله الآن، وأحكم ذلك واستمر إلى الآن. فعند ذلك بني هذا المحل الذي يقال له الردم بالصخرات العظيمة ورفعه فصار لا يعلوه السيل، وصارت الكعبة تشاهد منه، والآن قد حالت الأبنية فصارت لا ترى، ومع ذلك لا بأس بالوقوف عنده والدعاء فيه تبركا بمن سلف، ولعل هذا محمل قول من قال: أول من نقل المقام إلى محله ـ وكان ملصقا بالكعبة ـ عمر بن الخطاب ، فلا ينافي أن الناقل له هو كما سيأتي، لكن رأيت ابن كثير قال: وقد كان هذا الحجر أي الذي هو المقام ملصقا بباب الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب فأخره عنه لئلا يشغل المصلين عنده الطائفون بالبيت، هذا كلامه.
وقوله من قديم الزمان ظاهره من عهد إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فليتأمل.
وعن كعب الأحبار: إني أجد في التوراة: عبدي أحمد المختار، مولده بمكة: أي وهو ظاهر في أن كعب الأحبار كان قبل الإسلام على دين اليهودية.
قال وعن عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفاء: أي بكسر الشين المعجمة وتخفيف الفاء، وقيل بفتحها وتشديد الفاء مقصورا قالت: لما ولدت آمنة رسول الله ﷺ وقع على يدي: أي فهي دايته. ووقع في كلام ابن دحية أن أم أيمن دايته.
وقد يقال إطلاق الداية على أم أيمن، لأنها قامت بخدمته، ومن ثم قيل لها حاضنته، وللشفاء قابلته.
وقد قيل: في اسم الوالدة والقابلة الأمن والشفاء، وفي اسم الحاضنة البركة والنماء، وفي اسم مرضعته أولا التي هي ثويبة الثواب، وفي اسم مرضعته المستقلة برضاعه التي هي حليمة السعدية الحلم والسعد. قالت أم عبد الرحمن: فاستهل، فسمعت قائلا يقول: يرحمك الله تعالى، أو رحمك ربك: أي أو يرحمك ربك، ولهذا القول الذي لا يقال إلا عند العطاس: أي الذي هو التشميت بالشين المعجمة والمهملة، حمل بعضهم الاستهلال الذي هو في المشهور صياح المولود أول ما يولد: يقال استهل المولود: إذا رفع صوته على العطاس مع الاعتراف بأنه لم يجيء في شيء من الأحاديث تصريح بأنه لما ولد عطس انتهى: أي فقد قال الحافظ السيوطي: لم أقف في شيء من الأحاديث يدل على أنه لما ولد عطس بعد مراجعة أحاديث المولد من مظانها: أي وعطس بفتح الطاء يعطس بالكسر والضم وحكي بالفتح، ولعله من تداخل اللغتين، لكن في الجامع الصغير «استهلال الصبي العطاس» وحينئذ يكون استهلال المولود له معنيان: هما مجرد رفع الصوت والعطاس، وحمل هنا على العطاس بقرينة الجواب الذي لا يقال إلا عند العطاس، وقد أشار إلى التشميت صاحب الهمزية بقوله:
شمتته الأملاك إذ وضعته ** وشفتنا بقولها الشفاء
أي قالت له الأملاك: رحمك الله، أو رحمك ربك وقت وضع أمه له، وفرحتنا بقولها المذكور الشفاء التي هي أم عبد الرحمن بن عوف.
أقول: قال بعضهم: ولعله حمد الله بعد عطاسه لما استقر من شرعه الشريف أنه لا يسن التشميت: إلا لمن حمد الله تعالى، هذا كلامه. ويدل لما ترجاه ما تقدم أنه حين خروجه من بطن أمه قال «الحمد لله كثيرا».
وفي كلام بعض شراح الهمزية: ويجوز أن يكون شمت من غير حمد، تعظيما لقدره. وقد جاء «العاطس إن حمد الله تعالى فشمتوه، وإن لم يحمد فلا تشمتوه» وجاء «إذا عطس فحمد الله تعالى فحق على كل من سمعه أن يشمته» وفي الصحيح «أن رجلا عطس عند النبي ﷺ وحمد الله فشمته. وعطس آخر فلم يحمد الله فلم يشمته» وفي حديث حسن «إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإذا زاد على ثلاث فهو مزكوم فلا يشمت بعد ثلاث» وتمسك بذلك: أي بالأمر بالتشميت بصيغة افعل التي الأصل فيها الوجوب، وبقوله حتى أهل الظاهر على وجوب التشميت على كل من سمع.
وذهب بعض الأئمة إلى وجوبه على الكفاية، وهو منقول عن مشهور مذهب مالك : أي وعن ابن عباس : ليس على إبليس أشد من تشميت العاطس.
وعن سالم بن عبيد الله الأشجعي وكان من أهل الصفة قال: قال رسول الله: «إذا عطس أحدكم فليحمد الله ، وليقل من عنده يرحمك الله، وليردّ عليه بقوله: يغفر الله لي ولكم».
ومن لطيف ما اتفق أن الخليفة المنصور وشي عنده ببعض عماله، فلما حضر عنده عطس المنصور فلم يشمته ذلك العامل، فقال له المنصور: ما منعك من التشميت؟ فقال إنك لم تحمد الله، فقال حمدت في نفسي، فقال قد شمتك في نفسي، فقال له ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لا تحابي غيري.
قال بعضهم: والحكمة في قول العاطس ما ذكر أنه ربما كان العطاس سببا لالتواء عنقه فيحمد الله على معافاته من ذلك. وقال غيره: لأن الأذى وهي الأبخرة المحتقنة تندفع به عن الدماغ الذي فيه قوة التذكر والتفكر: أي فهو بحران الرأس، كما أن العرق بحران بدن المريض، وذلك نعمة جليلة، وفائدة عظيمة، ينبغي أن يحمد الله تعالى عليها: أي ولأن الأطباء كما زعمه بعضهم نصوا على أن العطاس من أنواع الصرع، أعاذنا الله تعالى من الصرع. وقد ينازع فيه ما تقدم، وما ذكره بعض الأطباء أن العطاس للدماغ كالسعال للرئة.
قال: والعطاس أنفع الأشياء لتخفيف الرأس، وهو مما يعين على نقص المواد المحتبسة ويسكن ثقل الرأس فيحصل منه النشاط والخفة.
وفي نوادر الأصول للترمذي قال «هذا جبريل يخبركم عن الله تعالى: ما من مؤمن يعطس ثلاث عطسات متواليات إلا كان الإيمان في قلبه ثابتا».
وفي الجامع الصغير «إن الله تعالى يحب العطاس، ويكره التثاؤب» والعطسة الشديدة من الشيطان. وفي الحديث «العطاس شاهد عدل» وفي حديث حسن «أصدق الحديث ما عطس عنده».
وقد جاء أن روح آدم ﵇ لما نزلت إلى خياشيمه عطس، فلما نزلت إلى فمه ولسانه قال الله تعالى له قل {الحمد لله رب العالمين} فقالها آدم ﵇، فقال الحق يرحمك الله يا آدم، ولذلك خلقتك» وفي رواية «وللرحمة خلقتك» أي للموت.
وقد روى الترمذي مرفوعا بسند ضعيف «العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان» وروى ابن أبي شيبة موقوفا بسند ضعيف أيضا «إن الله يكره التثاؤب، ويحب العطاس في الصلاة » أي فمع كون كل واحد من العطاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان العطاس فيها أحب إلى الله تعالى من التثاؤب فيها، والتثاؤب فيها أكره إلى الله تعالى من العطاس فيها، لأن الكراهة مقولة بالتشكيك.
ويمكن حمل كون العطاس من الشيطان على شدته ورفع الصوت به كما تقدم التقييد بذلك في الرواية السابقة، ومن ثم جاء «إذا عطس أحدكم» أي هم بالعطاس «فليضع كفيه على وجهه، وليخفض صوته» أي ولا ينافي وجود الشفاء ووجود أم عثمان بن العاص عند أمه عند ولادته ما روي عنها أنها قالت «لما أخذني ما يأخذ النساء» أي عند الولادة «وإني لوحيدة في المنزل رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي» وفي كلام ابن المحدّث «ودخل عليّ نساء طوال كأنهن من بنات عبد المطلب ما رأيت أضوأ منهن وجوها، وكأنّ واحدة من النساء تقدمت إليّ فاستندت إليها، وأخذني المخاض، واشتد عليّ الطلق، وكأنّ واحدة منهن تقدمت إليّ وناولتني شربة من الماء أشد بياضا من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من الشهد، فقالت لي اشربي فشربت، ثم قالت الثالثة: ازدادي فازددت، ثم مسحت بيدها على بطني وقالت: بسم الله اخرج باذن الله تعالى، فقلن لي: أي تلك النسوة: ونحن آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وهؤلاء من الحور العين» لجواز وجود الشفاء وأم عثمان عندها بعد ذلك، وتأخر خروجه عن القول المذكور حتى نزل على يد الشفاء، لما تقدم من قولها «وقع على يديّ» ولعل حكمة شهود آسية ومريم لولادته كونهما تصيران زوجتين له في الجنة مع كلثم أخت موسى.
ففي الجامع الصغير: «إن الله تعالى زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وامرأة فرعون وأخت موسى» وسيأتي عند موت خديجة أنه قال لها: «أشعرت أن الله تعالى قد أعلمني أنه سيزوجني» وفي رواية «أما علمت أن الله تعالى قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى. وآسية امرأة فرعون؟ فقالت: ألله أعلمك بهذا؟ قال نعم. قالت بالرفاء والبنين» وقد حمى الله هؤلاء النسوة عن أن يطأهن أحد.
فقد ذكر أن آسية لما ذكرت لفرعون أحب أن يتزوجها فتزوجها على كره منها ومن أبيها مع بذله لها الأموال الجليلة، فلما زفت له وهم بها أخذه الله عنها وكان ذلك حاله معها، وكان قد رضي منها بالنظر إليها.
وأما مريم فقيل إنها تزوجت بابن عمها يوسف النجار ولم يقربها، وإنما تزوجها ليرفقها إلى مصر لما أرادت الذهاب إلى مصر بولدها عيسى ﵇، وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة، ثم عادت مريم وولدها إلى الشام ونزلا الناصرة.
وأخت موسى لم يذكر أنها تزوجت، وهذا يفيد أن بنات عبد مناف أو بنات عبد المطلب على ما تقدم كنّ متميزات عن غيرهن من النساء في إفراط الطول.
وقد رأيت أن علي بن عبد الله بن عباس وهو جد الخليفتين السفاح والمنصور أول خلفاء بني العباس أبو أبيهما محمد كان مفرطا في الطول، كان إذا طاف كأن الناس حوله وهو راكب، وكان مع هذا الطول إلى منكب أبيه عبد الله بن عباس، وكان عبد الله بن عباس إلى منكب أبيه العباس، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب.
لكن ابن الجوزي اقتصر في ذكر الطوال على عمر بن الخطاب، والزبير بن العوام، وقيس بن سعد، وحبيب بن سلمة، وعلي بن عبد الله بن العباس. وسكت عن عبد الله بن عباس، وعن أبيه العباس، وعن أبيه عبد المطلب.
وفي المواهب أن العباس كان معتدلا، وقيل كان طوالا. ورأيت أن عليا هذا جد الخلفاء العباسيين كان على غاية من العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل، حتى قيل: إنه كان أجمل شريف على وجه الأرض، وكان يصلي في كل ليلة ألف ركعة ولذلك كان يدعى السجاد، وأن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو الذي سماه عليا وكناه أبا الحسن.
فقد روي أن عليا رضى الله تعالى عنه افتقد عبد الله بن عباس في وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه ما بال أبي العباس يعني عبد الله لم يحضر؟ فقالوا ولد له مولود، فلما صلى عليّ كرم الله وجهه قال امضوا بنا إليه، فأتاه فهنأه، فقال: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. زاد بعضهم. ورزقت بره، وبلغ أشده، ما سميته؟ قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه؟ فأمر به فأخرج إليه فأخذه فحنكه، ودعا له ثم رده إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك، قد سميته عليا، وكنيته أبا الحسن، فلما ولى معاوية الخلافة قال لابن عباس: ليس لكم اسمه ولا كنيته يعني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كراهة في ذلك، وقد كنيته أبا محمد فجرت عليه.
وقد يخالف ذلك ما ذكر بعضهم أن عليا المذكور لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له غير اسمك وكنيتك، فلا صبر لي على اسمك وهو عليّ وكنيتك وهي أبو الحسن، قال: أما الاسم فلا أغيره. وأما الكنية فأكتني بأبي محمد، وإنما قال عبد الملك ذلك كراهة في اسم علي بن أبي طالب وكنيته.
وعليّ هذا دخل هو وولدا ولده محمد وهما السفاح والمنصور وهما صغيران يوما على هشام بن عبد الملك بن مروان وهو خليفة، فأكرمه هشام، فصار يوصيه عليهما ويقول له: سيليان هذا الأمر يعني الخلافة، فصار هشام يتعجب من سلامة باطنه وينسبه في ذلك إلى الحمق. ويقال إن الوليد بن عبد الملك: أي لما ولي الخلافة وبلغه عنه أنه يقول ذلك ضربه بالسياط على قوله المذكور، وأركبه بعيرا، وجعل وجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله بن عباس الكذاب، قال بعضهم: فأتيته وقلت له ما هذا الذي يسنده إليك من الكذب؟ قال: بلغهم عني أني أقول إن هذا الأمر يعني الخلافة ستكون في ولدي، والله لتكوننّ فيهم، فكان الأمر على ما ذكر فقد ولي السفاح الخلافة ثم المنصور.
وفي دلائل النبوة للبيهقي أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية ، فأجازه وأحسن جائزته، ثم قال: يا أبا العباس هل تكون لكم دولة؟ قال اعفني يا أمير المؤمنين، قال لتخبرني، قال نعم، قال فمن أنصاركم؟ قال: أهل خراسان: أي وهو أبو مسلم الخراساني، يجيء بجيشه معه رايات سود يسلب دولة بني أمية، ويجعل الدولة لبني العباس. ويقال إن أبا مسلم هذا قتل ستمائة ألف رجل صبرا غير الذي قتله في الحروب، وهذه الرايات السود غير التي عناها بقوله: «إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأتوها، فإن فيها خليفة الله المهدي» فإن تلك الرايات تأتي قبيل قيام الساعة. ثم صارت الخلافة في أولاد المنصور. وقول عليّ في ولدي واضح، لأن ولد الولد ولد.
وقد حكي في مرآة الزمان عن المأمون، أنه قال: حدثني أبي يعني هارون الرشيد، عن أبيه المهدي، عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه عليّ، عن أبيه عبد الله بن عباس ، عن النبي ﷺ أنه قال: «سيد القوم خادمهم» وذكر أنه مما يؤثر عن المأمون أنه كان يقول: استخدام الرجل ضيفه لؤم.
وكان يقول: لو عرف الناس حبي للعفو لتقربوا إليّ بالجرائم، وإني أخاف إني لا أوجر على العفو، أي لأنه صار لي طبيعة وسجية.
قالت أمه: ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات: علما بالمشرق، وعلما بالمغرب، وعلما على ظهر الكعبة، والله أعلم.
ولما ولد رسول الله ﷺ وضعت عليه جفنة بفتح الجيم، فانفلقت عنه فلقتين قال: وهذا مما يؤيد أنه ولد ليلا. فعن ابن عباس قال: كان في عهد الجاهلية إذا ولد لهم مولود من تحت الليل وضعوه تحت الإناء لا ينظرون إليه حتى يصبحوا، فلما ولد رسول الله ﷺ وضعوه تحت برمة. زاد في لفظ ضخمة. والبرمة: القدر، فلما أصبحوا أتوا البرمة، فإذا هي قد انفلقت ثنتين وعيناه إلى السماء، فتعجبوا من ذلك.
وعن أمه أنها قالت: فوضعت عليه الإناء فوجدته قد تفلق الإناء عنه وهو يمص إبهامه يشخب أي يسيل لبنا اهـ.
أي وفي العرائس أن فرعون لما أمر بذبح أبناء بني إسرائيل جعلت المرأة: أي بعض النساء كما لا يخفى إذا ولدت الغلام انطلقت به سرا إلى واد أو غار فأخفته فيه، فيقيض الله سبحانه وتعالى له ملكا من الملائكة يطعمه ويسقيه حتى يختلط بالناس، وكان الذي أتى السامري لما جعلته أمه في غار من الملائكة جبريل ، فكان أي السامري يمص من إحدى إبهاميه سمنا ومن الأخرى عسلا، ومن ثم إذا جاع المرضع يمص إبهامه فيروى من المص، قد جعل الله له فيه رزقا. والسامري هذا كان منافقا يظهر الإسلام لموسى ويخفي الكفر.
وفي رواية أن عبد المطلب هو الذي دفعه للنسوة ليضعوه تحت الإناء.
أقول: هذا هو الموافق لما سيأتي عن ابن إسحاق من أن أمه لما ولدته أرسلت إلى جده: أي وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها: أي فقالت له يا أبا الحارث ولد لك مولود له أمر عجيب، فذعر عبد المطلب وقال: أليس بشرا سويا؟ فقالت نعم، ولكن سقط ساجدا، ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء، فأخرجته له ونظر إليه. وأخذه ودخل به الكعبة ثم خرج فدفعه إليها، وبه يظهر التوقف في قول ابن دريد: أكفئت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده، فجاء جده والجفنة قد انفلقت عنه، إلا أن يقال يجوز أن يكون جده أخذه بعد انفلاق الجفنة ثم دخل به الكعبة، ثم بعد خروجه به من الكعبة دفعه لها وللنسوة ليضعوه تحت جفنة أخرى إلى أن يصبح، فانفلقت تلك الجفنة الأخرى حتى لا ينافي ذلك ما تقدم عن أمه: فوجدت الإناء قد تفلق وهو يمص إبهامه.
وعن إياس الذي يضرب به المثل في الذكاء قال: أذكر الليلة التي وضعت فيها وضعت أمي على رأسي جفنة وقال لأمه ما شيء سمعته لما ولدت؟ قالت يا بني طست سقط من فوق الدار إلى أسفل ففزعت فولدتك تلك الساعة.
وقال بعضهم: يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، وإن إياسا منهم ولعل هذا هو المراد بما جاء في الحديث «يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» والمراد برأسها آخرها بأن يدرك أوائل المائة التي تليها بأن تنقضي تلك المائة وهو حي، إلا أني لم أقف على أن إياسا هذا كان من المجددين والله أعلم.
وفي تفسير ابن مخلد الذي قال في حقه ابن حزم. ما صنف مثله أصلا: أن إبليس رن أي صوّت بحزن وكآبة أربع رنات: رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله ﷺ: أي وهو المراد بقول بعضهم يوم بعثه، ورنة حين أنزلت عليه فاتحة الكتاب، وإلى رنته حين ولادته أشار صاحب الأصل بقوله.
لمولده قد رنّ إبليس رنة ** فسحقا له ماذا يفيد رنينه
وعن عطاء الخراساني لما نزل قوله تعالى: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} صرخ إبليس صرخة عظيمة اجتمع إليه فيها جنوده من أقطار الأرض قائلين: ما هذه الصرخة التي أفزعتنا؟ قال: أمر نزل بي لمن ينزل قط أعظم منه، قالوا: وما هو؟ فتلا عليهم الآية وقال لهم: فهل عندكم من حيلة؟ قالوا ما عندنا من حيلة، فقال: اطلبوا فإني سأطلب، قال: فلبثوا ما شاء الله، ثم صرخ أخرى فاجتمعوا إليه وقالوا: ما هذه الصرخة التي لم نسمع منك مثلها إلا التي قبلها؟ قال: هل وجدتم شيئا؟ قالوا: لا، قال: لكني قد وجدت؛ قالوا: وما الذي وجدت؟ قال أزين لهم البدع التي يتخذونها دينا ثم لا يستغفرون: أي لأن صاحب البدعة يراها بجهله حقا وصوابا ولا يراها ذنبا حتى يستغفر الله منها.
وقد جاء في الحديث «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته» أي لا يثيبه على عمله ما دام متلبسا بتلك البدعة.
وعن الحسن قال: بلغني أن إبليس قال: سوّلت لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالاستغفار، فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون الله منها وهي الأهواء أي البدع.
وقد جاء في الحديث «أخاف على أمتي بعدي ثلاثا: ضلالة الأهواء» الحديث، وأهل الأهواء هم أهل البدع.
وعن عكرمة أن إبليس لما ولد رسول الله ﷺ ورأى تساقط النجوم قال أي لجنوده؟ لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا، وهذا يدل على أن تساقط النجوم كان عند إبليس علامة على وجود نبينا، فقال له جنوده: لو ذهبت إليه فخبلته، فلما دنا من رسول الله ﷺ بعث الله جبريل فركضه برجله ركضة وقع بعدن. وكوت تساقط النجوم كان عند إبليس علامة على وجود نبينا، مشكل مع قول بعضهم، لما رجمت الشياطين ومنعت من مقاعدها في السماء لاستراق السمع شكوا ذلك لإبليس، فقال لهم: هذا أمر حدث في الأرض، وأمرهم أن يأتوه بتربة من كل أرض، فصار يشمها إلى أن أتى بتربة من أرض تهامة، فلما شمها قال: من ههنا الحدث، هكذا ساقه بعضهم عند ولادته. إلا أن يقال: لا إشكال لأن تساقط النجوم وإن كان علامة وجود نبينا لكن في أي أرض! على أن بعضهم أنكر كون ما ذكر كان عند الولادة. وقد تقدم أن المذكور في كلام غيره إنما هو عند مبعثه كما سيأتي، ولعله من خلط بعض الرواة.
وعبارة بعضهم: روي أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء ثم تجاوز سماء الدنيا إلى غيرها، فلما ولد عيسى ، منعوا من مجاوزة سماء الدنيا وصاروا يسترقون السمع في سماء الدنيا حتى ولد نبينا محمد، فمنعوا من التردد إلى السماء إلا قليلا: أي فصاروا يسترقون السمع في سماء الدنيا في بعض الأحايين، وفي أكثر الأحايين يسترقون دونها حتى بعث النبي ﷺ فمنعوا أصلا فصاروا لا يسترقون السمع إلا دون سماء الدنيا، ثم رأيتني نقلت في (الكوكب المنير في مولد البشير النذير) عن ابن عباس أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها مما سيقع في الأرض فيلقونها على الكهنة، فلما ولد عيسى حجبوا عن ثلاث سموات. وعن وهب عن أربع سموات، ولما ولد رسول الله ﷺ حجبوا عن الكل، وحرست بالشهب فما يريد أحد منهم استراق السمع إلا رمي بشهاب، وسيأتي عند المبعث إيضاح هذا المحل.
وقد أخبرت الأحبار والرهبان بليلة ولادته. فعن حسان بن ثابت قال: إني لغلام يفعة، أي غلام مرتفع ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذ بيهودي بيثرب يصيح ذات يوم غداة على أطمة: أي محل مرتفع: يا معشر يهود فاجتمعوا إليه وأنا أسمع وقالوا ويلك، ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة: أي الذي طلوعه علامة على ولادته في تلك الليلة في بعض الكتب القديمة، وحسان هذا سيأتي أنه ممن عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام مثلها، وكذا عاش هذا القدر وهو مائة وعشرون سنة أبوه وجده ووالد جده. قال بعضهم: ولا يعرف أربعة تناسلوا وتساوت أعمارهم سواهم. وكان حسان يضرب بلسانه أرنبة أنفه وكذا ابنه وأبوه وجده.
وعن كعب الأحبار : رأيت في التوراة أن الله تعالى أخبر موسى عن وقت خروج محمد أي من بطن أمه، وموسى أخبر قومه أن الكوكب المعروف عندكم اسمه كذا إذا تحرك وسار عن موضعه فهو وقت خروج محمد: أي وصار ذلك مما يتوارثه العلماء من بني إسرائيل.
وعن عائشة قالت: كان يهودي يسكن مكة، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله ﷺ قال في مجلس من مجالس قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود؟ ، فقال القوم: والله ما نعلمه، قال: احفظوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة: أي وهو منكم معاشر قريش، على كتفه أي عند كتفه علامة: أي شامة فيها شعرات متواترات، أي متتابعات كأنهن عرف فرس: أي وتلك العلامة هي خاتم النبوة أي علامتها، والدليل عليها لا يرضع لليلتين، وذلك في الكتب القديمة من دلائل نبوته، أي وعدم رضاعه لعله لتوعك يصيبه. وفي كلام الحافظ ابن حجر وأقره تعليلا لعدم رضاعه: لأن عفريتا من الجن وضع يده على فيه.
وعند قول اليهودي ما ذكر تفرق القوم من مجالسهم وهم متعجبون من قوله، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم آله وفي لفظ أهله، فقالوا: لقد ولد الليلة، لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا، فالتقى القوم حتى جاؤوا لليهودي وأخبروه الخبر: أي قالوا له أعلمت، ولد فينا مولود؟ قال: اذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا حتى أدخلوه على أمه، فقال أخرجي إلينا ابنك، فأخرجته وكشفوا على ظهره فرأى تلك الشامة فخر مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا ويلك ما لك؟ قال: والله ذهبت النبوة من بني إسرائيل أفرحتم به يا معشر قريش؟ أما والله ليسطونّ عليكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب.
أي وعن الواقدي أنه كان بمكة يهودي يقال له يوسف، لما كان اليوم أي الوقت الذي ولد فيه رسول الله ﷺ قبل أن يعلم به أحد من قريش قال: يا معشر قريش قد ولد نبي هذه الأمة الليلة في بحرتكم، أي ناحيتكم هذه، وجعل يطوف في أنديتهم فلا يجد خبرا، حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل، فقيل له: قد ولد لابن عبد المطلب: أي لعبد الله غلام، فقال، هو نبيّ والتوراة.
وكان بمرّ الظهران راهب من أهل الشام يدعى عيصا، وقد كان آتاه الله علما كثيرا وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة فيلقى الناس ويقول: يوشك أي يقرب أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة تدين له العرب، أي تذل وتخضع، ويملك العجم: أي أرضها وبلادها هذا زمانه، فمن أدركه أي أدرك بعثته واتبعه أصاب حاجته: أي ما يؤمله من الخير، ومن أدركه وخالفه أخطأ حاجته، فكان لا يولد بمكة مولود إلا ويسأل عنه ويقول ما جاء بعد أي الآن، فلما كان صبيحة اليوم أي الوقت الذي ولد فيه رسول الله ﷺ خرج عبد المطلب حتى أتى عيصا فوقف على أصل صومعته فناداه، فقال: من هذا؟ فقال: أنا عبد المطلب: أي وقيل الجائي له عبد الله والد النبي ﷺ بناء على أنه لم يمت وأمه حامل به: أي ولعل قائله أخذ ذلك من قول الراهب لما قيل له ما ترى عليه، أي على ذلك المولود، فقال: كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه وأن نجمه أي الذي طلوعه علامة على وجوده طلع البارحة، وعلامة ذلك أي أيضا أنه الآن وجع فيشتكي ثلاثا ثم يعافى.
أقول: أي ولا يرضع في تلك الثلاث ليلتين، فلا يخالف ما سبق من قول الآخر لا يرضع ليلتين، ولا دلالة في قوله كن أباه على أن الجائي للراهب عبد الله، لأن عبد المطلب كان يقال له أبو النبي، ويقال للنبي ابن عبد المطلب، وقال النبي: «أنا ابن عبد المطلب» كما تقدم والله أعلم ثم قال له فاحفظ لسانك: أي لا تذكر ما قلته لك لأحد من قومك، فإنه لم يحسد حسده أحد، ولم يبغ على أحد كما يبغي عليه. قال فما عمره؟ قال: إن طال عمره لم يبلغ السبعين يموت في وتر دونها في إحدى وستين أو ثلاث وستين، زاد في رواية وذلك جلّ أعمار أمته.
وعند ولادته تنكست الأصنام أي أصنام الدنيا، وتقدم أيضا أنها تنكست عند الحمل به، وتقدم أنه لا مانع من تعدد ذلك.
وجاء أن عيسى ﵇ لما وضعته أمه خر كل شيء يعبد من دون الله في مشارق الأرض ومغاربها ساجدا لوجهه وفزع إبليس.
فعن وهب بن منبه: لما كانت الليلة التي ولد فيها عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم أصبحت الأصنام في جميع الأرض منكسة على رؤوسهم، وكلما ردوها على قوائمها، انقلبت، فحارت الشياطين لذلك ولم تعلم السبب فشكت إلى إبليس، فطاف إبليس في الأرض ثم عاد إليهم، فقال: رأيت مولودا والملائكة قد حفت به فلم أستطع أن أدنوا إليه، وما كان نبي قبله أشد علي وعليكم منه، وإني لأرجو أن أضل به أكثر ممن يهتدي به.
أقول: قد علمت أن تنكيس الأصنام تكرر لنبينا محمد عند الحمل وعند الولادة، فالخاص به ما كان عند الحمل لا ما كان عند الولادة، لمشاركة عيسى ﵇ في ذلك، وبهذا يعلم ما في قول الجلال السيوطي في خصائصه الصغرى إن من خصائصه تنكيس الأصنام لمولده.
وعن عبد المطلب قال: كنت في الكعبة فرأيت الأصنام سقطت من أماكنها وخرت سجدا، وسمعت صوتا من جدار الكعبة يقول: ولد المصطفى المختار الذي تهلك بيده الكفار، ويطهر من عبادة الأصنام، ويأمر بعبادة الملك العلام.
ولا يقال: قال إبليس في حق عيسى ﵇ لا أستطيع أن أدنو إليه، وتقدم في حق نبينا أن إبليس دنا منه فركضه جبريل ﵇. لأنا نقول يجوز أن يكون الدنو في حق نبينا دنوا إلى محله الذي هو فيه لا إلى جسده، والدنو المنفي في حق عيسى ﵇ دنو إلى جسده.
فإن قيل: جاء في الحديث «ما من مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها» رواه الشيخان: أي لقول أم مريم {إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} وفي رواية «كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن الحجاب» وهي المشيمة التي يكون فيها الولد، ولعل المراد بجنبه جنبه الأيسر.
وعن قتادة: «كل مولود يمسه الشيطان بأصبعه في جنبه فيستهل صارخا إلا عيسى ابن مريم وأمه مريم ضرب الله عليهما حجابا، فأصابت الطعنة الحجاب فلم ينفذ إليهما من شيء» ولعل هذا الحجاب هو المشيمة. ويحتمل أن يكون غيرها.
قلت: وجاء عن مجاهد: «أن مثل عيسى في عدم طعن الشيطان في جسده حين يولد سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وذلك لا يقال من قبل الرأي. وعلى تقدير صحة ذلك يكون تخصيص عيسى وأمه بالذكر كان قبل أن يعلم بأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كعيسى وأمه.
وهذا الكلام يرد بيان القاضي عياض للضرر المنفي في قوله: «من قال إذا أراد أن يأتي أهله بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن قدر بينهما في ذلك الوقت ولد من ذلك الجماع لم يضره الشيطان أبدا» بأن المراد أنه لا يطعن فيه عند ولادته، بخلاف غيره، وهذا: أي عدم قربه من نبينا يجوز أن يكون في حق خصوص إبليس، فلا ينافي ما تقدم عن الحافظ ابن حجر أن عدم ارتضاعه في ليلتين بوضع عفريت من الجن يده في فيه على تسليم صحته.
وصاحب الكشاف أخرج المس ومثله الطعن عن حقيقته وقال: المراد به طمع الشيطان إغوائه، وتبعه القاضي على ذلك، وسيأتي في شق صدره كلام يتعلق بذلك.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: اعلم أنه لا بد لجميع بني آدم من العقوبة والألم شيئا بعد شيء إلى دخولهم الجنة، لأنه إذا نقل إلى البرزخ فلا بد له من الألم، أدناه سؤال منكر ونكير، فإذا بعث فلا بد له من ألم الخوف على نفسه أو غيره، وأول الألم في الدنيا استهلال المولود حين ولادته صارخا، لما يجده من مفارقة الرحم وسخونته، فيضربه الهواء عند خروجه من الرحم، فيحس بألم البرد فيبكي، فإن مات فقد أخذ حظه من البلاء. وقال بعد ذلك في قوله تعالى حكاية عن عيسى (والسلام علي يوم ولدت): معناه السلامة من إبليس الموكل بطعن الأطفال عند الولادة حين يصرخ الولد إذا خرج من طعنته، فلم يصرخ عيسى ﵇ بل وقع ساجدا لله حين خرج، فليتأمل هذا مع قوله إن استهلال المولود وصراخه حين يولد لحسه ألم البرد الذي يجده بعد مفارقة سخونة الرحم. وقوله: بل وقع ساجدا يدل على أن سجود نبينا حين ولد ليس من خصائصه والله أعلم.
وذكر أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وعبد الله بن جحش كانوا يجتمعون إلى صنم، فدخلوا عليه ليلة ولد رسول الله ﷺ فرأوه منكسا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردوه إلى حاله فانقلب انقلابا عنيفا فردوه فانقلب كذلك الثالثة، فقالوا: إن هذا الأمر حدث، ثم أنشد بعضهم أبياتا يخاطب بها الصنم ويتعجب من أمره: ويسأله فيها عن سبب تنكسه، فسمع هاتفا من جوف الصنم بصوت جهير أي مرتفع يقول:
تردى لمولود أضاءت بنوره ** جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب
الأبيات.
وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
وتوالت بشرى الهواتف أن قد ** ولد المصطفى وحق الهناء
أي تتابعت بشارة الهواتف جمع هاتف، وهو ما يسمع صوته، ولا يرى شخصه، بأن قد ولد المصطفى المختار على الخلق كلهم، وثبت لهم الفرح والسرور.
وليلة ولادته تزلزلت الكعبة، ولم تسكن ثلاثة أيام ولياليهن وكان ذلك أول علامة رأت قريش من مولد النبي، وارتجس: أي اضطرب وانشق إيوان كسرى أنو شروان. ومعنى أنو شروان: مجدد الملك: أي وكان بناء محكما مبنيا بالحجارة الكبار والجص بحيث لا تعمل فيه الفؤوس؟ مكث في بنائه نيفا وعشرين سنة: أي وسمع لشقه صوت هائل، وسقط من ذلك الإيوان أربع عشرة شرفة بضم الشين المعجمة وسكون الراء، أي وليس ذلك لخلل في بنائه، وإنما أراد الله تعالى أن يكون ذلك آية لنبيه باقية على وجه الأرض.
أي وقد ذكر أن الرشيد أمر وزيره يحيى بن خالد البرمكي: أي والد جعفر والفضل بهدم إيوان كسرى، فقال له يحيى: لا تهدم بناء دل على فخامة شأن بانيه، قال: بلى يا مجوسي، ثم أمر بنقضه، فقدر له نفقة على هدمه، فاستكثرها الرشيد، فقال له يحيى ليس يحسن بك أن تعجز عن هدم شيء بناه غيرك.
هذا والذي رأيته في بعض المجاميع أن المنصور لما بنى بغداد أحب أن ينقض إيوان كسرى. فإن بينه وبينها مرحلة ويبني به، فاستشار خالد بن برمك، فنهاه وقال: هو آية الإسلام ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزول أمره، وهو مصلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والمئونة في نقضه أكثر من الإنفاق عليه، ولا مانع من تكرر طلب نقضه من المنصور ومن ولد ولده الرشيد.
وإنما قال الرشيد ليحيى بن خالد يا مجوسي، لأن جده والد خالد البرمكي وهو برمك كان من خراسان، وكان أولا مجوسيا ثم أسلم، وكان كاتبا عارفا محصلا لعلوم كثيرة، جاء إلى الشام في دولة بني أمية، فاتصل بعبد الملك بن مروان، فحسن موقعه عنده وعلا قدره. ثم لما أن زالت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس صار وزيرا للسفاح، ثم لأخيه المنصور من بني العباس، ورأيت عن برمك هذا حكاية عجيبة، وهي أنه سار إلى زيارة ملك الهند، فأكرمه وأنس به وأحضر له طعاما وقال كل، فأكلت حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت لا أقدر والله أيها الملك، فأمر بإحضار قضيب فأخذه الملك وأمرّ به على صدري فكأني لم آكل شيئا قط، ثم أكلت أكلا كثيرا حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت لا والله لا أقدر أيها الملك، فأمرّ بالقضيب على صدري فكأني لم آكل شيئا قط، فأكلت حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت والله ما أقدر على ذلك، فأراد أن يمر بالقضيب على صدري، فقلت أيها الملك إن الذي دخل يحتاج إلى أن يخرج، فقال: صدقت، وأمسك عني، فسألته عن القضيب، فقال: تحفة من تحف الملوك.
ومما يحفظ عن يحيى بن خالد هذا زيادة على ما تقدم عنه: إذا أحببت إنسانا من غير سبب فارج خيره، وإذا أبغضت إنسانا من غير سبب فتوق شره.
ومما يحفظ عنه أيضا وقد قال له ولده وأظنه الفضل، وقد كان معه مقيدا في حبس الرشيد بعد قتله لولده جعفر وصلبه ونهبه أموال البرامكة ومن يلوذ بهم: يا أبت بعد العز ونفوذ الكلمة صرنا إلى هذه الحالة، فقال: يا ولدي دعوة مظلوم سرت ليلا غفلنا عنها وما غفل الله عنها: أي فقد قال أبو الدرداء: إياكم ودمعة اليتيم ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام.
أي ولأن الله تعالى يقول: «أنا أظلم الظالمين إن غفلت عن ظلم الظالم» وقد قال: «اتق دعوة المظلوم فإنما يسأل الله حقه، وإن الله تعالى لن يمنع ذا حق حقه» وجاء «اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» وجاء «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» والمراد بالغمام: الغمام الأبيض الذي فوق السماء السابعة، المعنيّ بقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} أي لا تقوى على حمله إذا سقط. ونصر دعوة المظلوم: استجابتها ولو بعد زمن طويل، فهو سبحانه وتعالى وإن أمهل الظالم لا يهمله، وجاء «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة » أي تصعد إلى السماء السابعة فما فوقها وجاء «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب».
وقد قال القائل:
تنام عيناك والمظلوم منتبه ** يدعو عليك وعين الله لم تنم
ومما قيل في يحيى بن خالد هذا من المدح البليغ:
سألت الندى هل أنت حر فقال لا ** ولكنني عبد ليحيى بن خالد
فقلت شراء؟ قال لا بل وراثة ** توارثني من والد بعد والد
ومما يحفظ عن والده خالد: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمولود. ومما يحفظ عن جعفر ولد يحيى قوله: شر المال ما لزمك الإثم في كسبه، وحرمت الأجر في إنفاقه، وقوله: المسىء لا يظن في الناس إلا سوءا لأنه يراهم بعين طبعه. ومما قيل في جعفر من المدح قول الشاعر:
تروم الملوك ندى جعفر ** ولا يصنعون كما يصنع
وليس بأوسعهم في الغني ** ولكن معروفه أوسع
وخمدت نار فارس أي مع إيقاد خدامها لها: أي كتب له صاحب فارس: إن بيوت النار خمدت تلك الليلة ولم تخمد قبل ذلك بألف عام. وغاضت أي غارت بحيرة ساوة أي بحيث صارت يابسة كأن لم يكن بها شيء من الماء مع شدة اتساعها: أي كتب له بذلك عامله باليمن، وإلى هذا يشير صاحب الأصل بقوله:
لمولده إيوان كسرى تشققت ** مبانيه وانحطت عليه شؤونه
لمولده خرت على شرفاته ** فلا شرف للفرس يبقى حصينه
لمولده نيران فارس أخمدت ** فنورهم إخماده كان حينه
لمولده غاضت بحيرة ساوة ** وأعقب ذاك المدّ جور يشينه
كأن لم يكن بالأمس ريا لناهل ** ووردا لعين المستهام معينه
وإلى ذلك أيضا يشير صاحب الهمزية بقوله:
وتداعى إيوان كسرى ولولا ** آية منك ما تداعى البناء
وغدا كل بيت نار وفيه ** كربة من خمودها وبلاء
وعيون للفرس غارت فهل كا ** ن لنيرانهم بها إطفاء
أي ومن العجائب التي ظهرت ليلة ولادته انهدام إيوان كسرى أنو شروان الذي كان يجلس به مع أرباب مملكته، وكان من أعاجيب الدنيا سعة وبناء وإحكاما، ولولا وجود علامة صادرة عنك إلى الوجود ما تهدّم هذا البناء العجيب الإحكام.
ومن ذلك أيضا أنه صار تلك الليلة كل واحد من بيوت نار فارس التي كانوا يعبدونها خامدة نيرانه والحال أن في ذلك البيت غما وبلاء عظيما من أجل سكون لهب تلك النيران التي كانوا يعبدونها في وقت واحد.
ومن ذلك أيضا غور ماء عيون الفرس في الأرض حتى لم يبق منها قطرة. وحينئذ يستفهم توبيخا وتقريعا لهم، فيقال: هل تلك المياه التي غارت كان بها إطفاء لتلك النيران؟ ويقال في جوابه، لا بل إطفاؤها إنما هو لوجود هذا النبي العظيم وظهوره.
ورأى الموبذان: أي القاضي الكبير. وفي كلام ابن المحدث، هو خادم النار الكبير ورئيس حكامهم، وعنه يأخذون مسائل شرائعهم، ورأى في نومه إبلا صعابا تقود خيلا عرابا: أي وهي خلاف البراذين، قد قطعت دجلة، أي وهي نهر بغداد، وانتشرت في بلادها، أي والإبل كناية عن الناس، ورأى كسرى ما هاله وأفزعه أي الذي هو ارتجاس الإيوان وسقوط شرافاته، فلما أصبح تصبر: أي لم يظهر الانزعاج لهذا الأمر الذي رآه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك: أي هذا الأمر الذي هاله وأفزعه عن مرازبته بضم الزاي: أي فرسانه وشجعانه، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيما بعثت إليكم؟ قالوا لا إلا أن يخبرنا الملك، فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النيران، أي وورد عليه كتاب من صاحب إيليا يخيره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة. وورد عليه كتاب صاحب الشام يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة. وورد عليه كتاب صاحب طبرية يخبره أن الماء لم يجر في بحيرة طبرية، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله: أي وهو ارتجاس الإيوان وسقوط شرافاته، فقال الموبذان، فأنا ـ أصلح الله الملك ـ قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل، فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب، فابعث إلى عاملك بالحيرة يوجه إليك رجلا من علمائهم، فإنهم أصحاب علم بالحدثان.
فكتب كسرى عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد: فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح الغساني: أي وهو معدود من المعمرين، عاش مائة وخمسين سنة فلما ورد عليه قال: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه، قال ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي علم منه، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بالذي وجه إليه فيه، قال علم ذلك عند خالي يسكن مشارف الشام بالفاء: أي أعاليها: أي وهي الجابية المدينة المعروفة، يقال له سطيح، قال فأته فاسأله عما سألتك عنه، ثم ائتني بتفسيره، فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى أي أشرف على الضريح. أي الموت: أي احتضر، وعمره إذ ذاك ثلثمائة سنة، وقيل سبعمائة سنة: أي ولم يذكره ابن الجوزي في المعمرين، وكان جسدا ملقى لا جوارح له، وكان لا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب فإنه ينتفخ فيجلس، وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق. وفي كلام غير واحد: لم يكن له عظم سوى عظم رأسه وفي لفظ لم يكن له عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفين، ولم يتحرك منه إلا اللسان، قيل لكونه مخلوقا من ماء امرأة لأن ماء الرجل يكون منه العظم والعصب: أي كما سيأتي عنه من قوله: «نطفة الرجل يخلق منها العظم والعصب، ونطفة المرأة يخلق منها اللحم والدم». قال ذلك لما سأله اليهود فقالوا له: مم يخلق الولد؟ فلما قال لهم ما ذكر، قالوا له: هكذا كان يقول من قبلك: أي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفيه أن عيسى على تسليم أنه خلق من نطفة وهي نطفة أمه كان فيه العظم والعصب.
فقد قيل: تمثل لها الملك في صفة شاب أمرد حتى انحدرت شهوتها إلى أقصى رحمها، وقيل لم يخلق من نطفة أصلا. وقد صرح بالأول الشيخ محيي الدين بن العربي حيث قال: أنكر الطبيعيون وجود ولد من ماء أحد الزوجين دون الآخر، وذلك مردود عليهم بعيسى ﵇ فإنه خلق من ماء أمه فقط، وذلك أن الملك لما تمثل لها بشرا سويا لشدة اللذة بالنظر إليه، فنزل الماء منها إلى الرحم، فتكون عيسى ﵇ من ذلك الماء المتولد عن النفخ الموجب للذة منها، فهو من ماء أمه فقط هذا كلامه.
أي وكون سطيح كان وجهه في صدره لم يختص سطيح بهذا الوصف. فقد رأيت أن عمرا ذا الأذعار إنما قيل له ذلك لأنه سبى أمة وجوهها في صدورها فذعرت الناس منهم وعمرو هذا كان في زمن سليمان بن داود عليهما السلام، وقيل قبله بقليل، وملكت بعده بلقيس بعد قتلها له.
وكان لسطيح سرير من الجريد والخوص إذا أريد نقله إلى مكان يطوي من رجليه إلى ترقوته. وفي لفظ إلى جمجمته كما يطوى الثوب، فيوضع على ذلك السرير فيذهب إلى حيث يشاء، وإذا أريد استخباره ليخبر عن المغيبات يحرك كما يحرك وطب المخيض: أي سقاء اللبن الذي يخض ليخرج زبده، فينتفخ ويمتلىء ويعلوه النفس، فيسأل فيخبر عما يسأل عنه، وكانت جمجمته إذا لمست أثر اللمس فيها للينها.
قيل وهو أول كاهن كان في العرب، وهذا يدل على أنه سابق على شق. وقد تقدم في حفر زمزم أن الكاهنة التي ذهب إليها عبد المطلب وقريش ليتحاكموا عندها تفلت في فم سطيح وفم شق، وذكرت أن سطيحا يخلفها، ومن ثم قال بعضهم: لم يكن أحد أشرف في الكهانة، ولا أعلم بها ولا أبعد فيها صيتا من سطيح وكان في غسان.
وذكر بعضهم أن سطيحا كان في زمن نزار بن معد بن عدنان، وهو الذي قسم الميراث بين بني نزار وهم مضر وإخوته، وهو يؤيد ما تقدم من أنه عمر سبعمائة سنة، ثم شق وعبد المسيح، وهؤلاء كانوا رؤوس الكهنة وأهل العلم الغامض منهم بالكهانة: أي وإلا فمنهم أي من أهل العلم الغامض: مسيلمة الكذاب في بني حنيفة، وسجاح كانت في بني تميم، وسجاح أخرى كانت في بني سعد. والكهانة: هي الإخبار عن الغيب، والكهانة من خواص النفس الإنسانية، لأن لها استعدادا للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها.
فسلم عبد المسيح على سطيح وكلمه، فلم يرد عليه سطيح جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن: أي سيدهم إلى آخر أبيات ذكرها، فلما سمع سطيح شعر عبد المسيح رفع رأسه.
أقول: قد يقال لا منافاة بين إثبات الرأس هنا، ونفيه في قوله: ولم يكن له رأس، لأنه يجوز أن يكون المراد بالرأس المثبت الوجه، لكن قد تقدم أنه لم يكن له عظم سوى ما في رأسه أو الجمجمة، ففي ذلك إثبات الرأس.
وقد يقال: لما كان رأسه وتلك الجمجمة يؤثر فيها اللمس للينهما لمخالفتهما لرأس غيره ساغ إثبات الرأس له ونفيه عنه والله أعلم. وعند رفع رأسه قال: عبد المسيح، على جمل مشيح: أي سريع إلى سطيح، وقد وافى على الضريح: أي القبر، والمراد به الموت كما تقدم. بعثك ملك ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، أي تلاوة القرآن، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاما، ولا الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه: أي مات من ساعته.
والهراوة بكسر الهاء: وهي العصا الضخمة: أي وهو النبي، لأنه كان يمسك العصا كثيراعند مشيه. وكان يمشي بالعصا بين يديه وتغرز له فيصلي إليها التي هي العنزة. وفي الحديث «حمل العصا علامة المؤمن، وسنة الأنبياء» وفي الحديث «من بلغ أربعين سنة ولم يأخذ العصا عدله» أي عدم أخذ العصا «من الكبر والعجب».
وقد يقال: مراد سطيح بالعصا العنزة التي تغرز ويصلي إليها في غير المسجد، لأنه لم يحفظ أن ذلك كان لمن قبله من الأنبياء.
وذكر الطبري أن أبرويز بن هرمز جاء له جاء في المنام فقيل له: سلم ما في يدك إلى صاحب الهراوة، فلم يزل مذعورا من ذلك حتى كتب إليه النعمان بظهور النبي ﷺ بتهامة، فعلم أن الأمر سيصير إليه.
وعند موت سطيح نهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول شعرا منه:
شمر فإنك ماضي العزم شمير ** ولا يغرنك تفريق وتغيير
والناس أولاد علات فمن علموا ** أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ** فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرن ** فالخير متبع والشر محذور
فلما قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره بما قاله سطيح، قال له كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان : أي فقد ذكر أن آخر من هلك منهم كان في أول خلافة عثمان ( ).
أي وكانت مدة ملكهم ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وأربعا وستين سنة.
ومن ملوك بني ساسان سابورد والأكتاف، قيل له ذلك، لأنه كان يخلع أكتاف من ظفر به من العرب. ولما جاء لمنازل بني تميم وجدهم فروا منه ومن جيشه، ووجد بها عمير بن تميم وهو ابن ثلثمائة سنة، وكان معلقا في قفة لعدم قدرته على الجلوس، فأخذ وجيء به إليه، فاستنطقه فوجد عنده أدبا ومعرفة، فقال للملك: أيها الملك لم تفعل فعلك هذا بالعرب؟ فقال: يزعمون أن ملكنا يصير إليهم على يد نبي يبعث في آخر الزمان فقال له عمير: فأين حلم الملوك وعقلهم؟ إن يكن هذا الأمر باطلا فلن يضرك، وإن يكن حقا ألفوك ولم تتخذ عندهم يدا يكافئونك عليها ويعظمونك بها في دولتك، فانصرف سابور وترك تعرضه للعرب، وأحسن إليهم بعد ذلك.
وقول سطيح يملك منهم ملوك وملكات، لم أقف على أنه ملك منهم من النساء إلا واحدة وهي بوران ولما بلغه ذلك قال: «لا يفلح قوم ملكتهم امرأة » فملكت سنة ثم هلكت.
وذكر ابن إسحاق أن أمه لما ولدته أرسلت خلف جده عبد المطلب إنه قد ولد لك غلام فانظر إليه، فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأته، فأخذه عبد المطلب ودخل به الكعبة: أي وقام يدعو الله: أي وأهله يؤمنون ويشكر له ما أعطاه. ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وقد تقدم الوعد بذلك وتقدم ما فيه.
قال وتكلم في المهد في أوائل ولادته. وأول كلام تكلم به أن قال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا اهـ.
أقول: وتقدم أنه قال حين ولد: جلال ربي الرفيع، كما أورده السهيلي عن الواقدي وروي أنه تكلم حين خروجه من بطن أمه، فقال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
ولا مانع من تكرر ذلك حين خروجه وحين وضعه في المهد وأنه زاد في المرة الثالثة وسبحان الله بكرة وأصيلا، وحينئذ يكون تكلمه حين خروجه من بطن أمه لم يشاركه فيه غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا الخليل وإلا نوح كما سيأتي، بخلاف تكلمه في المهد.
على أنه سيأتي أنه يجوز أن يكون المراد بالتكلم في المهد التكلم في غير أوان الكلام ويقال: إنه قال ذلك عند فطامه، وتقدم أنه قال: الحمد لله لما عطس على الاحتمال الذي أبداه بعضهم كما تقدم بما فيه.
ولا مانع من وجود هذه الأمور الثلاثة التي هي: جلال ربي الرفيع، والله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا حين ولادته، وعلم ترتيبها يتوقف على نقل، وحينئذ تكون الأولية في الواقعة في بعض ذلك إما حقيقية أو إضافية.
وقدمنا أن الأولية في قوله جلال ربي الرفيع بالنسبة لقوله: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا إضافية.
قال وقد تكلم جماعة في المهد نظمهم الجلال السيوطي في قوله:
تكلم في المهد النبي محمد ** ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف ** وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي ** يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها ** وفي زمن الهادي المبارك يختم
ا هـ.
قال بعضهم لكن هو حصر من تكلم في المهد في ثلاثة ولم يذكر نفسه، أي فقد رُوي عن أبي هريرة مرفوعا «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب جريج، وابن المرأة التي مر عليها بامرأة يقال لها إنها زنت» وقد يقال: هذا الحصر إضافي أي ثلاثة من بني إسرائيل، أو أن ذلك كان قبل أن يعلم مما زاد.
وذكر أن عيسى تكلم في المهد وهو ابن ليلة. وقيل وهو ابن أربعين يوما أشار بسبابته وقال بصوت رفيع إني عبد الله لما مر بنو إسرائيل على مريم عليها السلام وهي حاملة له وأنكروا عليها ذلك، وأشارت إليهم أن كلموه وضربوا بأيديهم على وجوههم تعجبا و{قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} قال لهم ما قصة الله سبحانه وتعالى، ثم رأيتني في الكلام على قصة الإسراء والمعراج ذكرت ذلك، وأن عيسى تكلم يوم ولادته، قال لابن خال أمه يوسف النجار وقد خرج في طلب أمه وقد خرجت لما أخذها ما يأخذ النساء من الطلق عند الولادة خارج بيت المقدس، وجلست تحت نخلة يابسة، فاخضرت النخلة من ساعتها وتدلت عراجينها وجرت من تحتها عين ماء ووضعته تحتها: أبشر يا يوسف وطب نفسا وقر عينا، فقد أخرجني ربي من ظلمة الأرحام إلى ضوء الدنيا، وسآتي بني إسرائيل وأدعوهم إلى طاعة الله، فانصرف يوسف إلى زكريا وأخبره بولادة مريم وقول ولدها ما ذكر.
وفي النطق المفهوم أن عيسى كلم يوسف المذكور وهو في بطن أمه.
فقد قيل: إنه أول من علم بحمل مريم عليها السلام، فقال لها مقرعا لها: يا مريم هل تنبت الأرض زرعها من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير فحل؟ فقال له عيسى وهو في بطن أمه: قم فانطلق إلى صلاتك، واستغفر الله مما وقع في قلبك.
وعن أبي هريرة أن عيسى تكلم في المهد ثلاث مرات ثم لم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان عادة: أي ولعل المرة الثالثة هي التي حمد الله فيها بحمد لم تسمع الأذان مثله، فقال: اللهم أنت القريب في علوك المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيء من خلقك، حارت الأبصار دون النظر إليك.
ومبري جريج تكلم كذلك أي في بطن أمه، قيل له: من أبوك، فقال الراعي عبد بني فلان، وتكلم بعد خروجه من بطن أمه، فقد تكلم مرتين مرة في بطن أمه ومرة وهو طفل كذا في (النطق المفهوم) ولم أقف على وقت كلامه، ولا على ما تكلم به حينئذ.
وأما يحيى فتكلم وهو ابن ثلاث سنين، قال لعيسى: أشهد أنك عبد الله ورسوله.
والخليل تكلم وقت ولادته، وسيأتي ما تكلم به، وفي كون ابن ثلاث سنين وفي كون من تكلم وقت ولادته يكون في المهد نظر، إلا أن يكون المراد بالتكلم في المهد التكلم في غير أوان الكلام.
ولم أقف على سن من تكلم في المهد حين تكلم غير من ذكر وغير الطفل الذي لذي الأخدود، فإنه لما جيء بأمه لتلقي في نار الأخدود لتكفر وهو معها مرضع: فتقاعست قال لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق: قال ابن قتيبة: كان سنه سبعة أشهر. وفي (النطق المفهومّ) أن شاهد يوسف الصديق كان عمره شهرين وكان ابن داية زليخا.
وفي الخصائص الصغرى: وخص بكلام الصبيان في المراضع، وشهادتهم له بالنبوة، ذكر ذلك البدر الدماميني ، هذا كلامه، وفيه نظر، لأنه لم يشهد له بالنبوة من هؤلاء إلا مبارك اليمامة حسبما وقفت عليه.
ورأيت في الأجوبة المسكتة لابن عون «أن اليهود قالوا للنبي: ألست لم تزل نبيا؟ قال نعم، قالوا: فلم لم تنطق في المهد كما نطق عيسى؟ قال: إن الله خلق عيسى من غير فحل، فلولا أنه نطق في المهد لما كان لمريم عذر وأخذت بما يؤخذ به مثلها، وأنا ولدت بين أبوين» هذا كلامه، وهو يخالف ما تقدم من أنه تكلم في المهد إلا أن يقال مرادهم لِمَ لَمْ تنطق في المهد بمثل الذي نطق به عيسى، أو أن ذلك منه إرخاء للعنان فليتأمل.
ثم رأيت أن إبراهيم الخليل لما سقط على الأرض استوى قائما على قدميه وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، الحمد لله الذي هدانا لهذا.
قال في (النطق المفهوم) ولد بالغار الذي ولد به نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام ويقال لهذا الغار في التوراة غار النور، ويضم لهؤلاء ما ذكره الشيخ محيي الدين بن العربي قال: قلت لبنتي زينب مرة وهي في سن الرضاعة قريبا عمرها من سنة ما تقولين في الرجل بجامع حليلته ولم ينزل؟ فقالت يجب عليه الغسل فتعجب الحاضرون من ذلك، ثم إني فارقت تلك البنت وغبت عنها سنة في مكة وكنت أذنت لوالدتها في الحج، فجاءت مع الحج الشامي، فلما خرجت لملاقاتها رأتني من فوق الجمل وهي ترضع، فقالت بصوت فصيح قبل أن تراني أمها هذا أبي، وضحكت وأرمت نفسها إلي.
قال: وقد رأيت أي علمت من أجاب أمه بالتشميت وهو في بطنها حين عطست وسمع الحاضرون كلهم صوته من جوفها شهد عندي الثقات بذلك، قال: وهذا واحد يخصه الله بعلمه وهو في بطن أمه ولا يحجبك قوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} لأنه لا يلزم من العالم حضوره مع علمه دائما.
و(في النطق المفهوم) أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه تكلم في بطن أمه فقال: أنا المفقود والمغيب عن وجه أبي زمنا طويلا، فأخبرت أمه والده بذلك، فقال لها: اكتمي أمرك.
وفيه أن نوحا تكلم عقب ولادته، فإن أمه ولدته في غار خوفا على نفسها وعليه فلما وضعته وأرادت الانصراف قالت وانوحاه، فقال لها لا تخافي أحدا علي يا أماه، فإن الذي خلقني يحفظني.
وفيه أن أم موسى لما وضعت موسى استوى قاعدا وقال: يا أماه لا تخافي، أي من فرعون، إن الله معنا.
ومبارك اليمامة قال بعض الصحابة، دخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله ﷺ وسمعت فيها عجبا: جاءه رجل بصبي يوم ولد وقد لفه في خرقة فقال له النبي، يا غلام من أنا؟ قال الغلام بلسان طلق: أنت رسول الله، قال صدقت بارك الله فيك. ثم إن الغلام لم يتكلم بشيء فكنا نسميه مبارك اليمامة. وكانت هذه القصة في حجة الوداع، وكان يناغي القمر وهو في مهده: أي يحدثه يقال ناغت المرأة الصبي إذا كلمته بما يسره ويعجبه، وعد ذلك من خصائصه. ففي حديث فيه مجهول، وقيل فيه إنه غريب المتن والإسناد، عن عمه العباس أنه قال يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك إشارة أي علامة نبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر: أي تحدثه، فتشير إليه بأصبعك، فحيثما أشرت إليه مال قال: كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته: أي سقطته حين يسجد تحت العرش أي ولم أقف على سنه حين ذلك، وكان مهده يتحرك بتحريك الملائكة، وعده ابن سميع من خصائصه.