السيرة الحلبية/باب ما جاء من أمر رسول الله عن أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتهم
قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله ﷺ قبل مبعثه لما تقارب زمانه. أما الأحبار من يهود والرهبان من النصارى، فلما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه. وأما الكهان من العرب، فجاءهم به الشياطين فيما تسترق به من السمع، إذ كانت لا تحجب عن ذلك كما حجبت عند الولادة والمبعث، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره، ولا تلقي العرب لذلك بالا حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرونها فعرفوها. وهذا فيه تصريح بأن الملائكة كانت تذكره في السماء قبل وجوده.
فأما أخبار الأحبار من اليهود فمنها ما تقدم ذكره. ومنها ما جاء عن سلمة بن سلامة وكان من أصحاب بدر قال: كان لنا جار من يهود بني عبد الأشهل، فذكر أي عند قوم أصحاب أوثان () القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، فقالوا له: ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال نعم، والذي يحلف به، وليودّ أي الشخص أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، بأن ينجو من تلك النار غدا، فقالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبيّ يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن، قالوا ومن يراه؟ فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنا، فقال: إن يستنفد: أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا وهو: أي ذلك اليهودي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر بغيا وحسدا فقلنا له: ويحك يا فلان، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به.
ومن ذلك ما جاء عن عمرو بن عنبسة السلمي قال: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية: أي ترك عبادتها، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء: أي وهي قرية بين المدينة والشام () فقلت: إني امرؤ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار، فيعين ثلاثة لقذره أي يستنجي بها، ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه تركه وأخذ ذلك الأحسن، فرأيت أنه إله باطل لا ينفع ولا يضر، فدلني على خير من هذا، قال: يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها. فإذا رأيت ذلك فاتبعه، فإنه يأتي بأفضل الدين، فلم يكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة، آتي فأسأل هل حدث حدث؟ فيقال لا، ثم قدمت مرة فسألت، فقيل لي: حدث، رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، فشددت راحلتي ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله بمكة، فسألت عنه فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا عليه أشداء، فتلطفت له حتى دخلت عليه، فسألته: أي شيء أنت؟ قال نبي. قلت: من نباك؟ قال الله. قلت: وبم أرسلك؟ قال «بعبادة الله وحده لا شريك له، وبحقن الدماء، وبكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأمان السبيل» فقلت: نعم ما أرسلت به، قد آمنت بك وصدقتك، أتأمرني أن أمكث معك أو أنصرف؟ فقال: ألا ترى كراهة الناس ما جئت به، فلا تستطيع أن تمكث، كن في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني، فكنت في أهلي حتى خرج إلى المدينة، فسرت إليه، فقدمت المدينة، فقلت يا نبي الله أتعرفني؟ قال: «نعم أنت السلمي الذي أتيتني بمكة ».
ومن ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهداه ما كنا نسمع من أحبار يهود. كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وإرم: أي يستأصلكم بالقتل () فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسوله محمدا أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا ففي ذلك نزلت هذه الآيات في البقرة {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}.
ومن ذلك ما حدث به شيخ من بني قريظة قال: إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان أي الجبان، قدم إلينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه: أي لا أظن أحدا من غير المسلمين، لأن المسلمين يصلون الخمس فلا أصلية لا زائدة، فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر: أي احتبس قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي نجواكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول صاعا من تمر ومدين من شعير فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا فوالله ما يبرح من محله حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة: أي لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا بل أكثر من ذلك، ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت، قال: يا معشر يهود ما ترينه أخرجني من أهل الخمر ـ بالتحريك وبإسكان الميم: الشجر الملتف والخمير ـ إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم، قال: فإنما قدمت هذه الأرض أتوكف: أي أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه: أي أقبل وقرب كأنه لقربه أظلهم: أي ألقى عليهم ظله وهذ البلد مهاجره، وكنت أرجو أن يبعث فاتبعه، فقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، فلما بعث الله رسوله محمدا وحاصر بني قريظة، قال لهم نفر من هَدَل ـ بفتح الهاء وفتح الدال المهملة ـ وقيل بسكونها إخوة بني قريظة، وهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية، ويقال أسيد بالتصغير وأسد بن عبيد وكانوا شبانا أحداثا، يا بني قريظة والله إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم كما سيأتي.
قال: ومن ذلك خبر العباس بن عبد المطلب قال: خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب فيه أبو سفيان بن حرب، فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان: إن محمدا قائم في أبطح مكة يقول: أنا رسول الله أدعوكم إلى الله، ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال: بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال. قال العباس: فقلت نعم، قال نشدتك الله هل كان لابن أخيك صبوة؟ قلت: لا والله ولا كذب ولا خان، وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين. قال: هل كتب بيده؟ فأردت أن أقول نعم، فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد عليّ، فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود، قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن يهود تفزع من ابن أخيك فقلت: قد رأيت لعلك أن تؤمن به، قال: لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء: أي بالمد. قلت ما تقول: قال كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع على كداء، قال العباس: فلما فتح رسول الله ﷺ مكة ونظر أبو سفيان إلى الخيل قد طلعت من كداء. قلت: يا أبا سفيان تذكر تلك الكلمة قال: إي والله إني لأذكرها انتهى.
أي ومن ذلك ما جاء عن أمية بن أبي الصلت الثقفي قال لأبي سفيان: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن أني هو، وكنت أتحدث بذلك، ثم ظهري لي أنه من بني عبد مناف، فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه إلا عتبة بن ربيعة، إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوح إليه، فعرفت أنه غيره. قال أبو سفيان: فلما بعث محمد قلت لأمية، فقال أمية: أما إنه حق فاتبعه. فقلت له: فأنت ما يمنعك قال: الحياء من نساء ثقيف، إني كنت أخبرهن أني هو، ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف، وسيأتي ذلك بأبسط مما هنا.
وأما أخبار الرهبان من النصارى، فمنها ما تقدم ذكره. قال: ومنها خبر طلحة بن عبد الله قال: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل فيكم أحد من أهل الحرم؟ فقلت نعم أنا، قال هل ظهر أحمد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، أي الذي يبعث فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخلة وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة، فوقع في قلبي ما قال الراهب، فلما قدمت مكة حدثت أبا بكر بذلك، فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله ﷺ فأخبره، فسر بذلك وأسلم طلحة. فأخذ نوفل بن العدوية أبا بكر وطلحة فشدهما في حبل واحد، فلذلك سميا القرينين اهـ.
أقول: يحتمل أن هذا الراهب هو بحيرا، ويحتمل أن يكون نسطورا، لأن كلا منهما كان ببصرى كما تقدم في سفره. ويحتمل أن يكون غيرهما، وهو أولى، لما تقدم أن كلا من بحيرا ونسطورا لم يدرك البعثة والله أعلم.
أي ومنها ما حدث به سعيد بن العاص بن سعيد، قال: لما قتل أبي العاص يوم بدر كنت في حجر عمي أبان بن سعيد، وكان يكثر السب لرسول الله، فخرج تاجرا إلى الشام فمكث سنة ثم قدم، فأول شيء سأل عنه قال: ما فعل محمد؟ قال له عمي عبد الله بن سعيد: هو والله أعز ما كان وأعلاه، فسكت ولم يسبه كما كان يسبه، ثم صنع طعاما وأرسل إلى سراة بني أمية أي أشرافهم، فقال لهم: إني كنت بقرية فرأيت بها راهبا يقال له بكاء لمن ينزل إلى الأرض منذ أربعين سنة: أي من صومعته، فنزل يوما، فاجتمعوا ينظرون إليه، فجئت فقلت: إن لي حاجة، فقال: ممن الرجل؟ فقلت: إني من قريش، وإن رجلا هناك خرج يزعم أن الله أرسله، قال: ما اسمه؟ فقلت محمد، قال: منذ كم خرج؟ فقلت عشرين سنة، قال: ألا أصفه لك؟ قلت بلى فوصفه، فما أخطأ في صفته شيئا، ثم قال لي: هو والله نبي هذه الأمة، والله ليظهرن، ثم دخل صومعته وقال لي اقرأ ﵇، وكان ذلك في زمن الحديبية: أي والحديبية سيأتي أنها كانت سنة ست فالعشرون تقريب.
أي ومنها ما حدث به حكيم بن حزام بالزاي قال: دخلنا الشام لتجارة قبل أن أسلم ورسول الله ﷺ بمكة، فأرسل إلينا ملك الروم فجئناه، فقال: من أي العرب أنتم؟ من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال حكيم: فقلت يجمعني وإياه الأب الخامس، فقال: هل أنتم صادقيّ فيما أسألكم عنه؟ فقلنا نعم، فقال: أنتم ممن اتبعه أم ممن رد عليه؟ فقلنا: ممن رد عليه وعاداه، فسألنا عن أشياء مما جاء رسول الله ﷺ فأخبرناه، ثم نهض واستنهضنا معه، فأتى محلا في قصره وأمر بفتحه، وجاء إلى ستر فأمر بكشفه فإذا صورة رجل، فقال أتعرفون من هذه صورته؟ قلنا لا، قال: هذه صورة آدم، ثم تتبع أبوابها ففتحها ويكشف عن صور الأنبياء ويقول: أما هذا صاحبكم؟ فنقول لا، فيقول لنا هذه صورة فلان، حتى فتح بابا وكشف عن صورة، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا نعم، هذا صورة محمد بن عبد الله صاحبنا، قال: أتدرون متى صورت هذه الصور؟ قلنا لا، قال: منذ أكثر من ألف سنة، وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه، ولوددت أني عبده فأشرب ما يغسل من قدميه.
ووقع نظير ذلك لجبير بن مطعم ، وأنه رأى صورة أبي بكر آخذة بعقب تلك الصورة، وإذا صورة عمر آخذة بعقب صورة أبي بكر، فقال: من ذا الذي آخذ بعقبه؟ قلنا نعم هو ابن أبي قحافة، قال: فهل تعرف الذي آخذ بعقبه؟ قلت نعم هو عمر بن الخطاب. قال: أشهد أن هذا رسول الله، وأن هذا هو الخليفة بعده، وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا.
ومنها ما حدّث به سلمان الفارسي قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ بفتح الجيم وتشديد الياء: أي وفي لفظ: من قرية من قرى الأهواز يقال لها رامهرمز، وفي لفظ: ولدت برامهرمز وبها نشأت، وأما أبي فمن أصبهان، وكان أبي دهقان قريته: أي كبير أهل قريته: أي وفي لفظ: كنت من أبناء أساورة فارس، وكنت أحب خلق الله تعالى إلى أبي، لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطِن النار بفتح القاف وكسر الطاء المهملة ويروى بفتحها بمعنى قاطن: أي خادمها الذي يوقدها، لا يتركها تخبا: أي تطفأ ساعة. وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي: يا بنيّ إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم، فاذهب إليها وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، إن احتبست عني كنت أهمّ إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري، فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون؟ فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: والله هذا خير من الذي نحن عليه، فوالله ما برحتم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أهل هذا الدين؟ قالوا بالشام، فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بنيّ أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بنيّ ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا، والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافني أي خاف مني أن أهرب، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته، وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم، فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة فأخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي، ثم قدمت معهم إلى الشام، فلما قدمتها قلت من أجلّ هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، والأسقف بتخفيف الفاء وتشديدها: هو عالم النصارى ورئيسهم في الدين، فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحبت أن أكون معك، فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه أشياء منها اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات، فاجتمعت النصارى ليدفنوه. فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا، فقالوا لي: وما أعلمك بذلك؟ فقلت: أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا. وفي رواية: وجدوا ثلاثة قماقم فيها نحو نصف أردب فضة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة: أي ولم يصلوا عليه صلاتهم مع أن هذا الراهب كان يصوم الدهر، وكان تقيا عن الشهوات. ومن ثم قال في الفتوحات المكية: أجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب. وقالوا: إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفا على نفسه من الفتنة التي حذرنا الله تعالى منها بقوله: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة } هذا كلامه.
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني : ومن فوائد الرهبان أنهم لا يدّخرون قوت الغد، ولا يكنزون فضة ولا ذهبا.
قال: ورأيت شخصا قال لراهب: انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي الملوك؟ فلم يرض، وقال: النظر إلى الدنيا منهيّ عنه عندنا.
قال: ورأيت الرهبان مرة، وهم يسحبون شخصا ويخرجونه من الكنيسة، ويقولون له: أتلفت علينا الرهبان، فسألت عن ذلك، فقالوا رأوا على عاتقه نصفا مربوطا. فقلت لهم: ربط الدرهم مذموم؟ فقالوا: نعم عندنا وعند نبيكم، هذا كلامه.
وعند ذلك جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه: أي لا أظن أحدا غير المسلمين أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، فأحببته حبا شديدا لم أحبه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا حتى حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصني؟ قال: أي بنيّ، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فلما مات وغيب: أي دفن لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل. فلما احتضر، قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: يا بنيّ والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به. فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما احتضر: أي حضرته الملائكة لقبض روحه، قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان، ثم إن فلانا أوصى بي إليك، فإلى من توصي بي وإلى من تأمرني؟ قال: يا بنيّ والله ما أعلم بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. فلما مات وغيب: أي دفن لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، فاكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله تعالى. فلما احتضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: أي بنيّ، والله ما أعلم أصبح ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل: أي أقبل وقرب زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات. يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ثم مات وغيب.
أقول: وهذا السياق يدل على أن الذين اجتمع بهم من النصارى على دين عيسى أربعة. وفي كلام السهيلي أنهم ثلاثون، وفي النور أنهم بضعة عشر، وأن هذا أظهر، والله أعلم.
قال سلمان: ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذه، فقالوا نعم، فأعطيتهموها: أي أعطيتهم إياها، وحملوني معهم حتى إذا بلغوا بي وادي القرى: وهو محل من أعمال المدينة المنوّرة ظلموني، فباعوني إلى رجل يهودي. فمكثت عنده، فرأيت النخل، فرجوت أن تكون البلدة التي وصف لي صاحبي ولم يحق عندي: أي لم أتحقق ذلك. فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عمّ له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة. فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها: أي تحققتها بصفة صاحبي، فأقمت بها.
وبعث رسول الله، وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق: أي نخل لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عمّ له حتى وقف عليه. فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة: أي وهم الأوس والخزرج، لأن قيلة أمهما. فقد جاء «إن الله أمدّني بأشد العرب ألسنا وأدرعا، بابني قيلة الأوس والخزرج» والله إنهم الآن لمجتمعون بقبا بالمد والقصر، وربما قيل قباة ـ بتاء التأنيث والقصر ـ على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، فلما سمعتها أخذتني العُروَاء: وهي الحمى النافض: أي الرعدة، والبرحاء: الحمى الصالب حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ما تقول؟ فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك، فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أثبته فيما قال وقد كان عندي شيء جمعته: أي وهو محتمل لأن يكون تمرا، ولأن يكون رطبا. فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله ﷺ وهو بقباء فدخلت عليه، فقلت له: إني قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقرّبته إليه، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه كلوا وأمسك يده، فلم يأكل. فقلت في نفسي هذه واحدة: أي ومن ثم لما أخذ الحسن بن علي وهو طفل تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه، قال له النبي: «كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة » رواه مسلم.
وروي أيضا أنه قال: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» ووجد تمرة فقال: «لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» وقال: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» وفي رواية «إن هذه الصدقات، إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» والراجح من مذهبنا حرمة الصدقتين عليه وحرمة صدقة الفرض دون النفل على آله. وقال الثوري: لا تحل الصدقة لآل محمد لا فرضها ولا نفلها ولا لمواليهم، لأن مولى القوم منهم، بذلك جاء الحديث.
قال سلمان: ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا هو أيضا يحتمل أن يكون تمرا ولأن يكون رطبا.
وتحوّل رسول الله ﷺ إلى المدينة ثم جئته فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله ﷺ وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان ثنتان: أي ومن ثم روى مسلم «كان إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قيل هدية أكل منها، وإن قيل صدقة لم يأكل منها».
قال سلمان: ثم جئت رسول الله ﷺ وهو ببقيع الغرقد، وقد تبع جنازة رجل من أصحابه: أي وهو كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه رسول الله ﷺ بقباء لما قدم المدينة.
وقيل هو أول من دفن به، وقيل أول من دفن به أسعد بن زرارة، وقيل أوّل من دفن به عثمان بن مظعون.
وجمع بأن أوّل من دفن به من المهاجرين عثمان: أي وقد مات في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة. وأول من دفن به من الأنصار كلثوم أو أسعد: أي وفي الوفيات لابن زبر: مات كلثوم، ثم من بعده أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوّال من السنة الأولى من الهجرة، ودفن بالبقيع هذا كلامه، ولم يذكر الوقت الذي مات فيه كلثوم. وفي النور عن الطبري أنه مات بعد قدومه المدينة بأيام قليلة. وأوّل من مات من الأنصار البراء بن معرور، مات قبل قدومه ﷺ المدينة مهاجرا بشهر. ولما حضره الموت أوصى بأن يدفن ويستقبل به الكعبة ففعلوا به ذلك، ولما قدم رسول الله ﷺ المدينة صلى على قبره هو وأصحابه وكبر أربعا، ولم أقف على محل دفنه.
وقولهم إن أول من دفن بالبقيع كلثوم يدل على أن البراء لم يدفن بالبقيع إلا أن يراد الأولية بعد قدومه المدينة. والظاهر أن هذه أول صلاة صليت على القبر.
قال سلمان: وكان عليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه، ثم ابتدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي؟ فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله ﷺ تحول، فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي. قال ابن عباس : فأعجب رسول الله ﷺ أن يسمع ذلك أصحابه: أي وفي شواهد النبوة لما جاء سلمان إلى النبي ﷺ لم يفهم النبي ﷺ كلامه فطلب ترجمانا فأتى بتاجر من اليهود كان يعرف الفارسية والعربية، فمدح سلمان النبي ﷺ وذم اليهود بالفارسية فغضب اليهودي وحرف الترجمة، فقال للنبي إن سلمان يشتمك، فقال النبي ﷺ: هذا الفارسي جاء ليؤذينا فنزل جبريل وترجم عن كلام سلمان، فقال النبي ﷺ ذلك: أي الذي ترجمه له جبريل لليهودي، فقال اليهودي: يا محمد إن كنت تعرف الفارسية فما حاجتك إلي؟ فقال: ما كنت أعلمها من قبل والآن علمني جبريل أو كما قال. فقال اليهودي: يا محمد قد كنت قبل هذا أتهمك والآن تحقق عندي أنك رسول الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قال النبي ﷺ لجبريل: علم سلمان العربية. فقال: قل له ليغمض عينيه ويفتح فاه ففعل سلمان، فتفل جبريل في فيه فشرع سلمان يتكلم بالعربي الفصيح، وهذا السياق يدل على أن ذلك كان عند مجيئه في المرة الثالثة. وحينئذ يشكل مجيئه أولا وثانيا وقوله ما تقدم بالعربية إلا أن يقال ذاك لقلته سهل عليه أن يعبر عنه بالعربية، بخلاف حكاية حاله لكثرته لم يحسن أن يعبر عنه بالعربية.
قال: وقد اختلفت الروايات عن سلمان في الشيء الذي جاء به للنبي أولا وثانيا، فالرواية الأولى المتقدمة ظاهرها يقتضي أنه تمر اهـ: أي وفيه من أين أن ظاهرها ذلك: بل هي محتملة، وقد جاء التصريح بكونه تمرا في الأولى والثانية. ففي بعض الروايات: فسألت سيدي أن يهب لي يوما ففعل، فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر وجئت به النبي، فلم رأيته لا يأكل الصدقة سألت سيدي أن يهب لي يوما آخر فعملت فيه على ذلك: أي على صاع أو صاعين من تمر، ثم جئت به النبي ﷺ فقبله وأكله منه.
أي والذي في كلام السهيلي قال سلمان: كنت عبدا لامرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما، الحديث.
وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عني بسيدته زوجة سيده، لأنه يقال لها سيدة في المتعارف بين الناس، أو أن المرأة هي التي اشترته، ويؤيده ما يأتي، وزوج تلك المرأة يقال له في المتعارف بين الناس سيد. قال: وقيل إن الذي جاء به أولا وثانيا رطب.
وفي رواية: احتطبت حطبا فبعته واشتريت بذلك طعاما والطعام خبز ولحم. وفي رواية جئت بمائدة عليها بط. وفي رواية عليها رطب. وجمع بأنه أولا قدم الخبز واللحم الذي هو البط والتمر، ثم قدم الرطب فلم يتحد المقدم. وفي مسند الإمام أحمد أن المرات ثلاث، وأن المقدم فيها متحد اهـ.
أقول: تقديم الرطب في المرة الثانية يخالفه ما تقدم أنه في المرة الثانية كان تمرا، والله أعلم.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله ﷺ بدر واحد، فكان أول مشاهده الخندق كما سيأتي، وكان بعد ذلك يقال له سلمان الخير، وكان معدودا من أخصائه. قال سلمان: ثم قال لي رسول الله ﷺ: كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أي ودية، على وزن فعيلة: وهي النخلة الصغيرة التي يقال لها الفسيلة أحييها له، بالتفقير بالفاء ثم القاف: أي الحفر؟ أي ومن ثم قيل للبئر الفقير: أي احفر لها واغرسها بتلك الحفرة وتصير حية بتلك الحفرة: أي وأتعهدها إلى أن تثمر. والودية والفسيلة: هي النخلة الصغيرة التي جرت العادة بأن تنقل من المحل الذي تنبت فيه إلى محل آخر، لكن في كلام بعضهم: إذا خرجت النخلة من النواة قيل لها غريسة ثم يقال لها ودية، ثم فسيلة، ثم إشاءة، فإذا فاتت اليد فهي جبارة ويقال للنخلة الطويلة عوانة بلغة عمان.
وفي الحديث «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها» وعلى أربعين أوقية أي من ذهب كما سيأتي، فقال رسول الله: «أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل الرجل بستين، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل يعين بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية » قال: وفي رواية «أنه كوتب على أن يغرس لهم خمسمائة فسيلة »: أي يحفر لها ويغرسها أي ويتعهدها إلى أن تثمر وعلى أربعين أوقية.
قال سلمان: فقال لي رسول الله ﷺ اذهب يا سلمان ففقر: أي بالفاء. وفي رواية فنقر أي بالنون: أي احفر لها، فإذا فرغت فائتني أنا أضعها بيدي ففقرت. وفي رواية فنقرتها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، فيضعه رسول الله ﷺ بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي عليّ المال، فأتى رسول الله ﷺ بمثل بيضة الدجاجة: أي وفي رواية مثل بيضة الحمامة من ذهب من بعض المعادن، ولعل هذه البيضة كانت مترددة بين بيضة الدجاجة وبين بيضة الحمامة: أي أكبر من بيضة الحمامة وأصغر من بيضة الدجاجة، فاختلف فيها التشبيه، فقال: «ما فعل الفارسي المكاتب؟ » فدعيت له. فقال: «خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان: أي تكون بعضا مما عليك».
وحينئذ قد يتوقف في جواب سلمان بقوله قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليّ لأن النبي يؤدي بعضه وإن قل ذلك البعض. إلا أن يقال العادة قاضية بأن ذلك البعض لا يقبل إلا إذا كان له وقع بالنسبة لكله.
وقد أشار للرد على سلمان بأن هذا الذي قلت فيه إنه لا يحسن أن يكون بعضا مما عليك يوفي به الله عنك جميع ما عليك، حيث قال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك، فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم: أي وبقي عندي مثل ما أعطيتهم. قال: وهذا أي سؤال سلمان وجوابه كالصريح في أن الأواقي التي كاتب عليها كانت ذهبا لا فضة.
وقد جاء أي مما يدل على ذلك في بعض الروايات أن سلمان لما قال للنبي وأين تقع هذه مما عليّ؟ فقلبها على لسانه ثم قال: «خذها فأوفهم منها».
وأيضا أي مما يدل على ذلك أيضا أن المعلوم أن قدر بيضة الدجاجة من الذهب يعدل أكثر من أربعين أوقية من الفضة اهـ: أي فلا يحسن قول سلمان وأين تقع هذه مما عليّ وقد صرح بذلك أي بكونها ذهبا البلاذري والقاضي عياض في الشفاء، فقالا: على. أربعين أوقية من ذهب، وإلى القصة أشار صاحب الهمزية بقوله:
ووفى قدر بيضة من نضار ** دين سلمان حين حان الوفاء
كان يدعى قنا فأعتق لما ** أينعت من نخيله الأقناء
أفلا تعذرون سلمان لما ** أن عرته من ذكره العرواء
أي ووفى قدر بيضة من بيض الدجاج أو الحمام من ذهب دين سلمان، وهو أربعون أوقية من ذهب حين قرب حلول الدين، وتقدم أنه وفي دينه منها وبقي عنده منها قدر ما أعطاهم.
وسبب هذا الدين على سلمان أنه كان يدعى قنا، أي أرقّ بالباطل كما تقدم، فكوتب على ذلك وعلى أن يغرس تلك النخيل ويتعهدها إلى أن تثمر، وأعتق بأداء هذا الدين حين أينعت العراجين من نخيله التي غرسها: أي غرست له، أفلا ترون لسلمان عذرا يمنعكم من إيذائه حين أن غشيته قوة الحمى من أجل سماع ذكره. قال سلمان: وشهدت مع رسول الله ﷺ الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.
وعن بريدة «أن رسول الله ﷺ اشترى سلمان أي كان سببا لشرائه أي مكاتبته من قوم اليهود بكذا وكذا درهما، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله ﷺ النخل كله إلا نخلة غرسها عمر ، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر، فقال رسول الله ﷺ من غرسها؟ قالوا عمر، فقلعها وغرسها رسول الله ﷺ بيده فأطعمت من عامها».
وذكر البخاري «أن سلمان غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله ﷺ سائرها فعاشت كلها إلا التي غرسها سلمان» قال: ويجوز أن يكون كل من سلمان وعمر غرس هذه النخلة أحدهما قبل الآخر انتهى.
أقول: وهذا الحائط الذي غرس فيه سلمان من حوائط بني النضير وكان يقال له المنبت، وقد آل إليه كما سيأتي.
ولا يخفى أن قول صاحب الهمزية كان يدعى قنا أنه لم يرقّ حقيقة، وقد تقدم ذلك. وفيه أنه لو لم يرق حقيقة لما أقره على الرق، وأمره بالمكاتبة وأدى عنه وكونه فعل ذلك تطييبا لخاطر ساداته بعيد فليتأمل.
فإن قيل: إذ رقّ حقيقة كيف جاز له أن يأمر أصحابه أن يأكلوا مما جاء به صدقة ويأكل هو وهم مما جاء به هدية والرقيق لا يملك وإن ملكه سيده على الأصح عندنا معاشر الشافعية، بل وعند باقي الأئمة؟
قلنا: يجوز أن يكون الرقيق كان في صدر الإسلام يملك ما ملكه له سيده ثم نسخ ذلك. على أن بعض أصحابنا ذهب إلى صحته، وفي كلام السهيلي: وذكر أبو عبيد أن حديث سلمان حجة على من قال إن العبد لا يملك هذا كلامه، وأنه لم يعلم رقه حينئذ، لأن الأصل في الناس الحرية، ولعدم تحقق رق سلمان وعدم مجيء مكاتبته على قواعد أئمتنا لم يستدلوا على مشروعية الكتابة بقصة سلمان.
وفي كلام السهيلي أن في خبر: سلمان من الفقه: قبول الهدية، وترك سؤال المهدي، وكذلك الصدقة. وفي الحديث «من قدم إليه الطعام فليأكل، ولا يسأل» والله أعلم.
وعن سلمان أنه قال لرسول الله ﷺ حين أخبره بالقصة المتقدمة: زاد أن صاحب عمورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فاسأله عن هذا الدين فهو يخبرك به.
قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصفه لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه فلم أخلص حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخلها إلا منكبه فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إليّ فقلت: يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فإنه يحملك عليه، ثم دخل. فقال رسول الله ﷺ: لئن كنت صدقتني لقد لقيت عيسى ابن مريم. والغيضة: الشجر الملتف.
قال السهيلي: هذا الحديث مقطوع، وفيه رجل مجهول. ويقال إن الرجل هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف بإجماع منهم، وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه.
فقد ذكر الطبري أن المسيح نزل بعد ما رفع وأمه وامرأة أخرى أي كانت مجنونة فأبرأها المسيح عند الجذع الذي فيه الصليب يبكيان، فأهبط إليهما فكلمهما وقال لهما علام تبكيان؟ فقالا عليك، فقال: إني لم أقتل ولم أصلب، ولكن الله رفعني وأكرمني، وأخبرهما أن الله أوقع شبهه على الذي صلب وأرسل إلى الحواريين: أي قال لأمه ولتلك المرأة أبلغا الحواريين أمري أن يلقوني في موضع كذا ليلا، فجاء الحواريون ذلك الموضع فإذا الجبل قد اشتعل نورا لنزوله فيه، ثم أمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وعبادة ربهم ووجههم إلى الأمم. وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا لكن لا نعلم أنه هو: أي حقيقة حتى ينزل النزول الظاهر «فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير» كما جاء في الصحيح هذا كلامه.
ويروى «أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام قبيلة باليمن. ويولد له ولدان يسمى أحدهما محمدا والآخر موسى، يمكث أربعين سنة، وقيل خمسا وأربعين، وقيل سبع سنين» كما في مسلم، وقيل ثمان سنين وقيل تسعا، وقيل خمسا: أي وجمع بين كون مدة مكثه أربعين سنة أو خمسا وأربعين سنة وبين كونها سبع سنين: أي وما بعد ذلك بأن المراد بالأول مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده والسبعة: أي وما بعدها من الأقوال يكون بعد نزوله ويدفن إذا مات في روضة النبي. قال: وقيل في حجرته: أي عند قبره الشريف، وقيل في بيت المقدس انتهى. أي وقيل يدفن معه في قبره، ويؤيده ما ورد «ويدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر».
أقول: وكما يقتل عيسى الخنزير يقتل الدجال. فقد جاء «ينزل عيسى حكما مقسطا يحكم بشرعنا يقتل الدجال، ونزوله يكون عند صلاة الفجر، فيصلي خلف المهدي بعد أن يقول له المهدي تقدم يا روح الله، فيقول له تقدم فقد أقيمت لك» وفي رواية «ينزل بعد شروع المهدي في الصلاة، فيرجع المهدي القهقري ليتقدم عيسى فيضع يده بين كتفيه ويقول له تقدم، فإذا فرغ من الصلاة أخذ حربته وخرج خلف الدجال فيقتله عند باب لدّ الشرقي» وورد أن المهدي يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال. وقد جاء أن المهدي من عترة النبي ﷺ من ولد فاطمة. قيل من ولد الحسين، وقيل من ولد الحسن، وقيل من ولد عمه العباس.
فعن ابن عباس «أن أمه أم الفضل مرت به، فقال: إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتيني به قالت: فلما ولدته أتيته به، فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وألبأه ـ أي أسقاه اللبأ من ريقه ـ وسماه عبد الله، وقال اذهبي بأبي الخلفاء، فأخبرت العباس، فأتاه فذكر له فقال: هو ما أخبرتك هذا أبو الخلفاء، حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي أي الخليفة » وهو أبو الرشيد بدليل قوله: «حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم: أي وهو المهدي الذي يأتي آخر الزمان اسمه محمد بن عبد الله، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد» وفي رواية «إلا ليلة واحدة يطول الله ذلك حتى يبعث، وظهوره يكون بعد أن يكسف القمر في أول ليلة من رمضان، وتكسف الشمس في النصف منه مثل ذلك لم يوجد منذ خلق الله السموات والأرض عمره عشرون سنة، وقيل أربعون سنة، ووجهه كوكب دري على خده الأيمن خال أسود، يخرج في زمان الدجال، وينزل في زمانه عيسى ابن مريم» وأما ما ورد «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم» فلا ينافي ذلك لجواز أن يكون المراد لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى ابن مريم .
فقد جاء «لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها، والمهدي من أهل بيتي في وسطها» وعن العباس قال: «كنت عند النبي ﷺ فقال انظر هل ترى في السماء من شيء؟ قلت نعم، قال ما ترى؟ قلت الثريا، قال: أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك» أي وقد اختلف الناس في عددها المرئي فقيل سبعة أنجم، وقيل تسعة.
وجمعنا بينهما بأن الأول يكون هو المرئي لغالب الناس ولو غير حديد البصر والثاني لمن يكون حديد البصر منهم، وأما المرئي له، فقيل كان يرى أحد عشر نجما. وقيل اثني عشر نجما.
وجمعنا بينهما بحمل الأول على ما إذا لم يمعن النظر. والثاني على ما إذا أمعن النظر، وحينئذ يقتضي هذا أن تكون الخلفاء من بني العباس اثني عشر.
وعن سعيد بن جبير: سمعت ابن عباس يقول: يكون منا ثلاثة أهل البيت السفاح والمنصور والمهدي. ورواه الضحاك عن ابن عباس مرفوعا. والمهدي في هذه الرواية يحتمل أن المراد به أبو الرشيد، ويحتمل أن يكون المنتظر.
وروى أبو نعيم بسند ضعيف «أنه خرج فتلقاه العباس، فقال: ألا أسرك يا أبا الفضل؟ قال بلى يا رسول الله، قال: إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه» وفي رواية «ويختمه بولدك».
وقد أفردت ترجمة المهدي المنتظر بالتأليف في مجلد حافل سماه مؤلفه (الفواصم عن الفتن القواصم).
وقد رويت قصة سلمان على غير هذا الوجه الذي تقدم. فعنه قال: كان لي أخ أكبر مني، وكان يتقنع بثوبه ويصعد الجبل يفعل ذلك غير ما مرة متنكرا، فقلت له: أما إنك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك؟ قال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء. قلت: لا تخف، قال: إن في هذا الجبل قوما لهم عبادة وصلاح يذكرون الله ويذكرون الآخرة » ويزعمون أنا على غير دين. قلت: فاذهب بي معك إليهم قال: حتى استأمرهم فاستأمرهم، فقالوا جيء به فذهبت معه فانتهيت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة » وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا فصعدنا إليهم، فحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم. قالوا: ولد بغير ذكر، وبعثه الله رسولا، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى، وخلق الطير، وإبراء الأعمى والأبرص؟ فكفر به قوم وتبعه قوم. ثم قالوا: يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا، وإن بين ذلك جنة ونارا لهما تصير وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة، لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين، ثم انصرفنا ثم عدنا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن، فلزمتهم ثم اطلع عليهم الملك فأمرهم بالخروج من بلاده، فقلت: ما أنا بمفارقكم فخرجت معهم حتى قدمنا الموصل، فلما دخلوا حفوا بهم، ثم أتاهم رجل من كهف جبل فسلم وجلس فحفوا به، فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه، فقال: ما هذا الغلام معكم. فأثنوا عليّ خيرا وأخبروه باتباعي إياهم ولم أر مثل إعظامهم له، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسله الله من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم، حتى ذكر عيسى ابن مريم، ثم وعظهم. وقال: اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى، ولا تخالفوا يخالف بكم، ثم أراد أن يقوم. فقلت: ما أنا بمفارقك، فقال: يا غلام إنك لا تستطيع أن تكون معي، إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد.
قلت: ما أنا بمفارقك فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه، فتكلم نحو المرة الأولى، ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه، فلبثت ما شاء الله أن يخرج في كل يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم ويوصيهم، فخرج في أحد. فقال مثل ما كان يقول. ثم قال: يا هؤلاء إني قد كبر سني ورق عظمي وقرب أجلي، وإني لا عهد لي بهذا البيت يعني بيت المقدس منذ كذا وكذا سنة فلا بد لي من إتيانه، فقلت: ما أنا بمفارقك، فخرج وخرجت معه حتى أتيت إلى بيت المقدس فدخل وجعل يصلي وكان فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد، يخرج من جبال تهامة، علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأما أنا فشيخ كبير لا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه. فقلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه. قال: وإن أمرك، ثم خرج من بيت المقدس وعلى بابه مقعد، فقال له ناولني يدك فناوله يده فقال له قم باسم الله فقام كأنما نشط من عقال، فقال لي المقعد: يا غلام احمل علي ثيابي حتى أنطلق، فحملت عليه ثيابه، فذهب الراهب وذهبت في أثره أطلبه كلما سألت عنه، قالوا أمامك حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم، فلما سمعوا لغتي أناخ رجل بعيره وحملني عليه، فجعلني خلفه حتى أتوا بي بلادهم فباعوني، فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها: أي بستان، وقدم رسول الله ﷺ فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائط ثم أتيته، فوجدت عنده أناسا، فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا؟ قلت صدقة قال للقوم كلوا ولم يأكل هو، ثم لبثت ما شاء الله، ثم أخذت مثل ذلك، ثم أتيته فوجدت عنده أناسا فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا؟ فقلت هدية، قال: بسم الله وأكل وأكل القوم فقلت في نفسي هذه من آياته. ويحتاج للجمع بين هذه الرواية وما تقدم على تقدير صحتهما.
وفي (الدر المنثور) «أن امرأة من جهينة اشترته وصار يرعى غنما لها، بينما هو يوما يرعى إذ أتاه صاحب له، فقال له: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى أتيك، فهبط سلمان إلى المدينة فاشترى بدينار ببعضه شاة فشواها وببعضه خبزا ثم أتاه به، فقال، ما هذا؟ قال سلمان: هذه صدقة، قال لا حاجة لي بها، فأخرجها فأكلها أصحابه، ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما، فأتى به النبي ﷺ فقال ما هذا؟ قال: هذه هدية: قال فاقعد فكل، فقعد وأكلا جميعا منها، فدرت خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته، ثم درت حتى جلست بين يديه، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله» وهذه الرواية تخالف ما تقدم فليتأمل، ولينظر كيف الجمع.
ونقل بعضهم الإجماع على أن سلمان عاش مائتين وخمسين سنة، وكان حبرا عالما فاضلا زاهدا متقشفا، وكان يأخذ من بيت المال في كل سنة خمسة آلاف، وكان يتصدق بها ولا يأكل إلا من عمل يده، وكان له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها.
قال بعضهم: دخلت عليه وهو أمير على المدائن، وهو يعمل الخوص، فقلت له لم تعمل هذا وأنت أمير وهو يجري عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي وربما اشترى اللحم وطبخه ودعا المجذومين فأكلوا معه.
وأول مشاهده الخندق كما تقدم، قيل وشهد بدرا وأحدا قبل أن يعتق: أي وهو مكاتب، فيكون أول مشاهده الخندق بعد عتقه، والله أعلم.
وأما أخبار الكهان لا عن ألسنة الجان فكثيرة، منها ما تقدم في ليلة ولادته وفي أيام رضاعه.
قال: ومنها أيضا خبر عمرو بن معد يكرب قال: والله لقد علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يبعث، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: فزعنا إلى كاهن لنا في أمر نزل بنا، فقال الكاهن: أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج، والريح ذات العجاج، إن هذا لامراج، لعله من أجيج النار وهو التهابها ولقاح ذي نتاج، قالوا وما نتاجه؟ قال: نتاجه ظهور نبي صادق، بكتاب ناطق، وحسام فالق، قالوا: وأين يظهر؟ وإلى ماذا يدعو! قال: يظهر بصلاح، ويدعو إلى فلاح، ويعطل القداح، وينهى عن الراح والسفاح، وعن كل أمر قباح، قالوا ممن هو؟ قال: من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، وعزه سرمد، وخصمه مكمد، انتهى.
ومنها خبر قس بن ساعدة الإيادي، وهو أول من قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وأول من اتكأ على عصا أو قوس أو سيف عند الخطبة.
وقيل إن أول من تكلم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر داود ، وأن ذلك فصل الخطاب.
وردّ بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته عن ابن عباس قال: «قدم وفد عبد القيس على رسول الله، فقال: أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: كلنا يا رسول الله نعرفه، قال: فما فعل؟ قالوا: هلك، قال: ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أقسم قس قسما حاتما لأن كان في الأمر رضا ليكونن سخطا، إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فقاموا أم تركوا هناك فناموا؟ ثم قال رسول الله ﷺ: أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه :
في الذاهبين الأوليـ ** ـن من القرون لنا بصابر
لما رأيت مواردا ** للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ** تسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلى ** ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ** لة حيث صار القوم صائر
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: «قدم الجارود بن عبد الله وكان سيدا في قومه، وقيل له الجارود لأنه أغار على قوم من بني بكر بن وائل فجردهم: أي أخذ جميع أموالهم، وإلى ذلك الإشارة بقول الشاعر:
ودسناهم بالخيل من كل جانب ** كما جرد الجارود بكر بن وائل
فلما قدم على رسول الله، فقال له النبي ﷺ: يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قسما؟ قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله» قال الجارود: وأنا بين يدي القوم كنت أقفو أي أتبع أثره، كان من أسباط العرب أي من ولد ولدهم، شيخا عمر سبعمائة سنة: أي وقيل ستمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله: أي تعبد من العرب: أي ترك عبادة الأصنام، وأول من قال أما بعد: أي وقيل أول من قال ذلك كعب بن لؤي كما تقدم، وقيل سحبان بن وائل، وقيل يعقوب، وقيل يعرب بن قحطان، وقيل داود وهو فصل الخطاب.
وردّ بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته: أي وبعد لفظة عربية، وفصل الخطاب الذي أوتيه هو فصل الخصومة: أي وهذا يؤيد ما تقدم عنه أنه أول من قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر وتقدم ما فيه. وجمع بأن الأولية بالنسبة لداود حقيقية، ولغيره إضافية، فلكعب بن لؤي بالنسبة للعرب ولغيره بالنسبة لقبيلته. وقس أول من كتب من فلان إلى فلان. قال الجارود: كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هوله ليبلغنّ الكتاب أجله، وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول:
هاج للقلب من جواه ادكار ** وليال خلالهن نهار
وجبال شوامخ راسيات ** وبحار مياههن غزار
ونجوم تلوح في ظلم الليل ** تراها في كل يوم تدار
والذي قد ذكرت دل على ** الله نفوسا لها هدى واعتبار
فقال النبي ﷺ: على رسلك يا جارود، والرسل بكسر الراء: التؤدة فلست أنساه بسوق عكاظ: أي وهو سوق بين بطن نخلة والطائف، كان سوقا لثقيف وقيس عيلان كما تقدم، على جمل أورق: أي يضرب لونه إلى السواد، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه» وفي لفظ «تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه الآن، فقال أبو بكر: يا رسول الله فإني أحفظه كنت حاضرا ذلك اليوم بسوق عكاظ، فقال في خطبته: يا أيها الناس ـ اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات جمع وأشتات، وآيات بعد آيات، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ليل داج: أي مظلم، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا، أقسم قس قسما حاتما، لا حنثا فيه ولا آثما إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيا قد حان حينه، وأظلكم زمانه؟ فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه فعصاه، ثم قال: تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية. يا معشر إياد: هي قبيلة من اليمن ـ أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعوّاد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بني وشيد. وزخرف ونجد؟ أي من زين وطوّل، وغره المال والولد؟ أين من بغى وطغى؟ وجمع فأوعى؟ وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا وأبعد منكم آمالا، طحنهم التراب بكلكله: أي بصدره، ومزقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية، كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود، ثم أنشأ يقول الأبيات المتقدمة ».
أي وفي رواية: «لما قدم وفد إياد على النبي ﷺ قال: «يا معشر وفد إياد، ما فعل قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: هلك يا رسول الله، قال: لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر، يتكلم بكلام معجب موفق، لا أجدني أحفظه الآن، فقام امرؤ أعرابي من أقاصي القوم، فقال: أنا أحفظه يا رسول الله، فسرّ النبي ﷺ بذلك. كان يقول: يا معشر الناس اجتمعوا، فكل من مات فات، وكل شيء آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية » الحديث.
وفي رواية «أين الصعب ذو القرنين؟ ملك الخافقين، وأذلّ الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان ذلك كلمحة عين».
قال: وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أن قس بن ساعدة كان يخطب قومه بسوق عكاظ فقال: سيأتيكم حق من هذا الوجه؟ وأشار بيده إلى نحو مكة، قالوا له: وما هذا الحق؟ قال: رجل أبلج أحور، من ولد لؤي بن غالب، يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش ونعيم لا ينفدان، فإذا دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه. وقد رويت هذه القصة من طرق متعددة.
قال الحافظ ابن كثير: هذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة. وقال الحافظ ابن حجر: طرق هذا الحديث كلها ضعيفة، وهو يردّ قول ابن الجوزي في موضوعاته: حديث قس بن ساعدة من جميع جهاته باطل اهـ.
أقول: ذكر في (النور) أن في قصة قس ما يرشد إلى التعدد مرتين: مرة حفظ كلامه، وكان قس على جمل أحمر. والثانية التي لم يحفظ فيها كلامه كان قس على جمل أورق. قال: لكن لا أدري أي المرتين كانت أوّلا، هذا كلامه.
وقد يقال: النسيان جائز عليه، فيجوز أن يكون نسي كلام قس بعد الإخبار به أولا، ويدل لذلك قوله: «لا أظن أني أحفظه الآن» أو قبل الإخبار به، فيكون خبره متأخرا عن خبر أبي بكر، فلا دلالة في ذلك على التعدد، ووصف الجمل بأنه أحمر، ووصفه بأنه أورق لا يدل على التعدد، لأنه يجوز أن يكون شديد الحمرة وشدة الحمرة تميل إلى السواد وهو الأورق، فأخبر عنه مرة بأنه أحمر، ومرة بأنه أورق. وهذا السياق يدل على تعدد مجيء وفد عبد القيس، مرة جاؤوا وحدهم، ومرة جاؤوا مع سيدهم الجارود، وقد جاء «رحم الله قسا إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم» والله أعلم.
ومن ذلك خبر نافع الجرشي، نسبة إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة قبيلة من حمير تسمى به بلدهم: أن بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله ﷺ وانتشر في العرب، جاؤوا إلى كاهنهم واجتمعوا إليه في أسفل جبل، فنزل إليهم حين طلعت الشمس، فوقف لهم قائما متكئا على قوس، فرفع رأسه إلى السماء طويلا. ثم قال: يا أيها الناس، إن الله أكرم محمدا واصطفاه وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل.
وأما أخبار الكهان على ألسنة الجان فكثيرة أيضا:
منها خبر سواد بن قارب ، وكان يتكهن في الجاهلية، وكان شاعرا ثم أسلم. فعن محمد بن كعب القرظي قال: بينا عمر بن الخطاب ذات يوم جالسا إذ مرّ به رجل، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المارّ؟ قال: ومن هذا؟ قالوا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه: أي تابعه من الجن، الذي يتراءى له، أتاه بظهور النبي ﷺ أي بعد أن قال عمر على المنبر أي منبر النبي ﷺ: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ فلم يجبه أحد، فلما كان السنة المقبلة ولعل ذلك كان في زمن المجيء للزيارة من الآفاق قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال بعضهم: يا أمير المؤمنين ما سواد بن قارب؟ قال: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا. قال البراء: فبينا نحن كذلك، إذ طلع سواد بن قارب، فأرسل إليه عمر فقال له: أنت سواد بن قارب؟ قال نعم، قال: أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي؟ قال نعم، قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك، فغضب سواد بن قارب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين، فقال له: سبحان الله: ما كنا عليه من الشرك: أي من عبادة الأصنام أعظم مما كنت عليه من كهانتك: أي وفي رواية أن عمر قال: اللهم غفرا، قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام والأوثان، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام.
أقول: وفيه أن المتبادر أن غضب سواد إنما هو بسبب ما فهمه من نسبته إلى الكهانة بعد الإسلام لا قبلها، بدليل قوله ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت. وجواب سيدنا عمر يدل على أنه فهم أن غضب سواد بسبب نسبته للكهانة قبل الإسلام، فلذلك قال: سبحان الله متعجبا منه.
وفي كلام السهيلي أن عمر مازح سوادا فقال له: ما فعلت كهانتك يا سواد؟ فغضب وقال له سواد : قد كنت أنا وأنت على شر من هذا من عبادة الأصنام وأكل الميتات، أفتعيرني بأمر قد تبت منه؟ فقال عمر : اللهم غفرا فليتأمل والله أعلم. ثم قال لسواد: أخبرني ما نبأ رئيك بظهور رسول الله.
وفي رواية قال: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال نعم يا أمير المؤمنين. بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان: إذ أتاني رئيي، فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول الله ﷺ من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها ** وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ** ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ** ليس قدماها كأذنابها
فقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا، فلما كانت الليلة الثانية أتاني، فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتخبارها ** وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ** ما مؤمن الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ** بين روابيها وأحجارها
فقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسها ** وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ** ما خيّر الجن كأنحاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ** وارمِ بعينيك إلى رأسها
فقمت فقلت: قد امتحن الله قلبي، فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة. وفي رواية: حتى أتيت مكة وهي كما قال البيهقي أقرب إلى الصحة من الأولى: أي لأن الجن إنما جاءت إليه للإيمان به في مكة فإذا رسول الله ﷺ وأصحابه حوله. وفي لفظ: والناس حوله. وفي لفظ: والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك. قلت: يا رسول الله، قد قلت شعرا، فاسمع مقالتي يا رسول الله، فقال: هات فأنشأت: أي ابتدأت أقول:
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة وفي لفظ:
أتاني رئيي بعد ليل وهجعة ** ولم يك فيما قد تلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ** أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت من ذيل الإزار وفي لفظ:
عن ساقي الإزار ** ووسطت بي الذعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيره ** وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ** إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ** وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ** سواك بمغن عن سواد بن قارب
وفي رواية:
وكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة ** بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
قال: ففرح النبي ﷺ وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤى الفرح في وجوههم: أي وضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه وقال: أفلحت يا سواد، فرأيت عمر التزمه وقال: لقد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك، فهل يأتيك رئيك اليوم؟ قال: منذ قرأت القرآن فلا، ونعم العوض كتاب الله تعالى من الجن: أي وهذا السياق يدل على أن سيدنا عمر لم يكن حاضرا عند النبي ﷺ لما أخبره سواد.
ولما مات وخشي سواد على قومه الردة قام فيهم خطيبا فقال: يا معشر دوس، من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم، ومن شقائهم أن لا يتعظوا إلا بأنفسهم. وإنه من لم تنفعه التجارب ضربه، ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل، وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس. ولا ينبغي لأهل البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية، ولست أدري لعله يكون للناس جولة، فإن لم تكن فالسلامة منها الأناة، والله يحبها فأحبوها، فأجابه القوم بالسمع والطاعة.
أي ومن ذلك أن امرأة كانت كاهنة بالمدينة يقال لها حطيمة، كان لها تابع من الجن فجاءها يوما فوقف على جدارها، فقالت له: ما لك لا تدخل تحدثنا ونحدثك؟ فقال: إنه قد بعث نبي بمكة يحرم الزنا، فحدثت بذلك، فكان أول خبر تحدث به بالمدينة عن رسول الله.
وأما ما سمع من جوف الأصنام فكثير أيضا.
فمنها أي غير ما تقدم في ليلة ولادته خبر عباس بن مرداس قال: كان لمرداس السلمي وثن يعبده يقال له ضمار بكسر الضاد المعجمة وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة، فلما حضرت مرداسا الوفاة قال للعباس ولده أي بني اعبد ضمارا فإنه ينفعك ويضرك، فبينا عباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول:
من للقبائل من سليم كلها ** أودى ضمار وعاش أهل المسجد
إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد
أودى ضمار وكان يعبد مدة ** قبل الكتاب إلى النبي محمد
فحرق عباس ضمارا ولحق بالنبي. وفي لفظ أن عباس بن مرداس كان في لقاح له نصف النهار، إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب بيض فقال له: يا عباس ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها، وأن الحرب قد حرقت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب الناقة القصواء؟ فقال عباس: فراعني ذلك، فجئت وثنا لنا يقال له الضمار كنا نعبده وتكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به، فإذا صائح يصيح من جوفه:
قل للقبائل من قريش كلها ** هلك الضمار وفاز أهل المسجد
هلك الضمار وكان يعبد مدة ** قبل الصلاة على النبي محمد
إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد
قال عباس: فخرجت مع قومي بني حارثة إلى رسول الله ﷺ بالمدينة، فدخلت المسجد، فلما رآني رسول الله ﷺ تبسم وقال: يا عباس كيف إسلامك، فقصصت عليه القصة، فقال: صدقت، وأسلمت أنا وقومي.
ومن ذلك خبر مازن بن الغضوبة قال: كنت أسدن: أي أخدم صنما بقرية بعمان: أي بالتخفيف تدعى سمائل، وسمال يقال له بادر. وفي لفظ باحر بالحاء المهملة، فعترنا ذات يوم عنده عتيرة وهي الذبيحة مطلقا. وقيل في رجب خاصة. فسمعنا صوتا من جوف الصنم يقول: يا مازن اسمع تسرّ ظهر خير وبطن شر، بعث نبي من مضر بدين الله الكبر، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حرّ سقر. قال مازن: ففزعت لذلك وقلت: إن هذا لعجب، ثم عترت بعد أيام عتيرة: أي ذبحت ذبيحة لذلك الصنم، فسمعت صوتا من الصنم يقول:
أقبل إليّ أقبل ** تسمع ما لا تجهل
هذا نبي مرسل ** جاء بحق منزل
آمن به كي تعدل ** عن حر نار تشعل
وقدها بالجندل فقلت: إن هذا لعجب، وإنه لخير يراد بي.
أقول: ورأيت في بعض السير تقديم هذه الأبيات على ما قبلها، وأن مازنا قال: ثم سمعت صوتا أبين من الأول، وهو يقول: يا مازن اسمع إلى آخره، والله أعلم.
قال مازن: فبينا نحن كذلك، إذ قدم رجل من أهل الحجاز قلنا له: ما الخبر وراءك؟ قال: قد ظهر رجل يقال له أحمد، يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله، فقلت هذا نبأ ما سمعته، فنزلت إلى الصنم فكسرته جذاذا، وركبت راحلتي وأتيت رسول الله ﷺ فشرح لي الإسلام وأسلمت، وقلت:
كسرت بادرا جذاذا وكان لنا ** ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ** ولم يكن دينه شيئا على بالي
يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها ** أنى لما قال ربي بادر قالي
عني بعمرو وإخوتها بني خطامة، وهي بطن من طيىء، وهذه الأبيات ساقطة في (أسد الغابة) قال مازن. فقلت: يا رسول الله إني مولع بالطرب: أي مغرم به، وبشرب الخمر وبالهلوك: أي الفاجرة من النساء التي تتمايل وتتثنى عند جماعها: وقيل الساقطة على الرجال أي لشدة شبقها، وألحت: أي دامت علينا سنون: أي أعوام القحط والجدب فذهبن بالأموال، وهزلن الذراري والعيال، وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد، ويأتيني بالحيا، ويهب لي ولدا، فقال النبي ﷺ: اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وبالخمر ريا لا إثم فيه، وبالعهر أي الزناعفة الفرج، وأته بالحيا: أي المطر، وهب له ولدا، قال مازن فأذهب الله عني ما كنت أجده، وتعلمت شطر القرآن، وحججت حججا، وأخصبت عمان يعني قريته وما حولها من قرى عمان، وتزوّجت أربع حرائر، ووهب الله لي حيان: يعني ولده وأنشأت أقول:
إليك رسول الله حنت مطيتي ** تجوب الفيافي من عُمان إلى العرجِ
لتشفع لي يا خير من وطىء الحصا ** فيغفر لي ذنبي وأرجع بالفلْجِ
أي بالفوز والظفر بالمطلوب:
إلى معشر خالفت في الله دينهم ** ولا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
أي بالشين والجيم: أي لا شكلهم شكلي، ولا طريقهم طريقي:
وكنت امرأ بالعهر والخمر مولعا ** شبابي حتى آذن الجسم بالنهج
أي البلاء.
فبدلني بالخمر خوفا وخشية ** وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي
فأصبحت همي في الجهاد ونيتي ** فللّه ما صومي ولله ما حجي
قال مازن: فلما رجعت إلى قومي أنبوني: أي عنفوني، ولاموني وشتموني وأمروا شاعرهم فهجاني، فقلت: إن هجوتهم فإنما أهجو نفسي، وتنحيت عنهم وأتيت مسجدا أتعبد فيه، وكان لا يأتي هذا المسجد مظلوم فيتعبد فيه ثلاثا ويدعو على من ظلمه إلا استجيب له ولا دعا ذو عاهة من برص أو غيره إلا عوفي. ثم إن القوم ندموا وطلبوا مني الرجوع إليهم فأسلموا كلهم، وضعف هذا الحديث.
وأما ما سمع من أجواف الذبائح. فمنه ما جاء عن عمر بن الخطاب قال: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم آل ذريح بالحاء المهملة، وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه، إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح. يشهد أن لا إله إلا الله: أي والمراد بالذريح: العجل الذي ذبح، لأنه ملطخ بالدم الأحمر، لقولهم: أحمر ذريحيّ: أي شديد الحمرة. والذي في البخاري يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله، والمراد بالجليح: العجل المذبوح أيضا، لأنه قد جلح: أي كشف عنه جلده.
وأما ما سمع من الهواتف، ولم يجىء على ألسنة الكهان، ولا سمع من جوف الأصنام، ولا من جوف الذبائح فكثير. من ذلك ما حدّث به بعضهم وذكره النبي ﷺ قال: يا رسول الله، لقد رأيت من قس عجبا، خرجت أطلب بعيرا لي حتى إذا عسعس الليل: أي أدبر، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول:
يا أيها الراقد في الليل الأحم (أي بالحاء المهملة يعني الأسود) ** قد بعث الله نبيا بالحرم
من هاشم أهل الوفاء والكرم ** يجلو دجنات الليالي والبهم
أي الظلمات والأمور المشكلة، فأدرت طرفي فما رأيت شخصا فأنشأت أقول:
يا أيها الهاتف في داجي الظلم ** أهلا وسهلا بك من طيف ألمّ
بين هداك الله في لحن الكلم ** من ذا الذي تدعو إليه يغتنم
فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدا بالحبور: أي السرور، صاحب النجيب الأحمر: أي الكريم من الإبل، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر: أي الأبيض المشرب بالحمرة، والحاجب: أي الجبين الأقمر: أي الأبيض، والطرف الأحور: أي شديد سواده، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله، فذاك محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر، أهل المدر والوبر: أي العجم والعرب، ثم أنشأ يقول:
الحمد لله الذي ** لم يخلق الخلق عبث
أرسل فينا أحمدا ** خير نبي قد بعث
صلى عليه الله ما ** حج له ركب وحث
وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
وتغنت بمدحه الجن حتى ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء
أي أظهرت الجن أوصافه الجميلة في صورة الغناء الذي تألفه النفس، ولا تصبر منها عند سماعه، فتسمع لغيره، حتى أطرب الإنس ذاك الغناء: الذي سمعوه من الجن، قال: فلاح الصباح، وإذا بالفنيق يشقشق. والفنيق: بفتح الفاء وكسر النون وسكون المثناة تحت ثم قاف: الفحل الكريم من الإبل، ويشقشق بشينين معجمتين وقافين: أي يهدر إلى النوق، فملكت خطامه، وعلوت سنامه، حتى إذا لغب بالغين المعجمة والموحدة: أي تعب، فنزل في روضة خضراء؟ فإذا أنا بقسّ بن ساعدة في ظل شجرة وبيده قضيب من أراك ينكت به الأرض. والنكت بالمثناة فوق، وهو يقول:
يا ناعي الموت والملحود في جدث (أي قبر) ** عليهم من بقايا بزهم خرق (أي والبز الثياب)
دعهم فإن لهم يوما يصاح به ** فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا
أي خافوا حتى يعودا بحال غير حالهم ** خلقا جديدا كما من قبله خلقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهم ** منها الجديد ومنها المنهج الخلق
والمنهج من الثياب: الذي أخذ في البلى، قال: فدنوت منه، فسلمت عليه فرد عليّ السلام، فإذا بعين خرارة: أي لمائها خرير: أي صوت في الأرض، خوارة: أي ضعيفة، ومسجد بين قبرين وأسدين عظيمين يلوذان به، وإذا بأحدهما قد سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء، فضربه بالقضيب الذي في يده وقال: ارجع، ثكلتك أمك: أي فقدتك حتى يشرب الذي قبلك فرجع، ثم ورد بعده، فقلت له: ما هذان القبران؟ قال: هذان قبرا أخوين كانا لي يعبدان الله معي في هذا المكان لا يشركان بالله شيئا: أي اسم أحدهما سمعون والآخر سمعان، فأدركهما الموت فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما، ثم نظر إليهما وأنشد أبياتا، فقال رسول الله ﷺ: رحم الله قسا، إني أرجو أن يبعثه الله أمة وحده: أي واحدا يقوم مقام جماعة كما تقدم، وقد أشار إلى ذلك صاحب الأصل بقوله:
وعنه أخبر قس قومه فلقد ** حلى مسامعهم من ذكره شنفا
ولما مات قس قبر عندهما، وتلك القبور الثلاثة بقرية يقال لها روحين، من أعمال حلب، وعليها بناء والناس يزورونهم، وعليهم وقف ولهم خدام.
ومن ذلك ما ذكره الواقدي بإسناد له قال: كان أبو هريرة يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا، وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم، فبينا الخثعميون عند صنم لهم إذ سمعوا هاتفا يهتف ويقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام ** ومسندو الحكم إلى الأصنام
أما ترون ما أرى أمامي ** من ساطع يجلو دجى الظلام
ذاك نبي سيد الأنام ** من هاشم في ذروة السنام
مستعلن بالبلد الحرام ** جاء يهدّ الكفر بالإسلام
أكرمه الرحمن من إمام
قال أبو هريرة: فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا، فلم يمض بهم ثالثهم حتى فجأهم خبر رسول الله ﷺ أنه قد ظهر بمكة، أي جاءهم ذلك بغتة، فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند أصنامهم.
وأما خبر زمل بن عمرو العذري قال: كان لبني عذرة، وهي قبيلة من اليمن صنم يقال له خمام بالخاء المعجمة المضمومة وتخفيف الميم وكانوا يعظمونه، وكان في بني هند بن حرام بالحاء المهملة المفتوحة والراء، وكان سادنه: أي خادمه رجلا يقال له طارق، قال في النور: لا أعلم له ترجمة ولا إسلاما، وكانوا يعترون، أي يذبحون الذبائح عتده، فلما ظهر النبي ﷺ سمعنا صوتا يقول: يا بني هند بن حرام، ظهر الحق وأودى خمام، أي هلك، ورفع الشرك الإسلام. قال زمل: ففزعنا لذلك، وهالنا أي أفزعنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا يقول: يا طارق يا طارق، بعث النبي الصادق، بوحي ناطق، صدع صدعة بأرض تهامة، لناصريه السلامة، ولخاذليه الندامة، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة، فوقع الصنم لوجهه.
فإن كان ذلك الصوت من جوف الصنم ويرشد إليه قوله: هذا الوداع مني إلى يوم القيامة، فهو من غير هذا النوع، وإن لم يكن فهو من هذا النوع. قال زمل: فابتعت أي اشتريت راحلة، ورحلت حتى أتيت النبي ﷺ مع نفر من قومي وأنشدته:
إليك رسول الله أعلمت نصه (االنص: هو الغاية في السير. ) ** أكلفها حزنا وقوزا من الرمل (والحزن ما ارتفع من الأرض، والقوز بالقاف والزاي: التل الصغير. )
لأنصر خير الناس نصرا موزرا (أي قويا) ** وأعقد حبلا من حبالك في حبلى (والحبل العهد والميثاق. )
وأشهد أن الله لا شيء غيره أدين له (أي أخضع وأضيع) ** ما أثقلت قدمي نعلي
ومن هذا النوع خبر تميم الداري: أي ويكنى أبا رقية اسم ابنة له لم يولد له غيرها روى عنه قصة الجساسة مع الدجال على المنبر، فقال: حدثني تميم الداري، وذكر القصة، قال بعضهم: وهذا أولى ما يخرّجه المحدثون في رواية الكبار عن الصغار.
وقد يكون من ذلك ما ذكر أبا بكر مر يوما على ابنته عائشة ، فقال: هل سمعت من رسول الله ﷺ دعاء؟ فقالت سمعت من رسول الله ﷺ دعاء كان يعلمناه، وذكر أن عيسى ابن مريم كان يعلمه أصحابه ويقول: لو كان أحدكم جبل دين ذهبا قضاه الله عنه، قال نعم يقول: «اللهم فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني، فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك» وعن أبي بكر قال: «كان عليّ دين وكنت له كارها فقلته، فلم ألبث إلا يسيرا حتى قضيته».
قال تميم الداري : كنت بالشام حين بعث رسول الله، فخرجت إلى بعض حاجاتي فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي، فلما أخذت مضجعي إذا مناد ينادي لا أراه، عذ بالله، فإن الجن لا تجير أحدا على الله، فقلت أيم تقوله؟ وأيم بتشديد الياء وبإسكانها وفتح الميم فيهما: أي أيما شيء تقول؟ فقال: «قد خرج رسول الأميين رسول الله ﷺ وصلينا خلفه بالحجون: أي وهو مقبرة مكة التي يقال لها المعلاة كما تقدم وأسلمنا واتبعناه، وذهب كيد الجن، ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد فأسلم، فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب، فسألت راهبه وأخبرته، فقال: صدقوك نجده يخرج من الحرم أي مكة، ومهاجره الحرم: أي المدينة، وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه، قال تميم: فطلبت الشخوص: أي الذهاب حتى جئت رسول الله ﷺ فأسلمت.
أقول: وهذا يدل ظاهرا على أن تميما الداري أسلم بمكة قبل الهجرة، فهو مما الكلام فيه، بل رأيت في تتمة الخبر: فسرت إلى مكة، فلقيت النبي ﷺ وكان مستخفيا فآمنت به.
ورأيت بعضهم قال: وهذه الرواية غلط، لأن تميما الداري إنما أسلم سنة تسع من الهجرة، والله أعلم.
قال: ومن ذلك ما حدّث به سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم حدث عن بدء إسلامه قال: إني لأسير برمل عالج ذات ليلة، إذ غلبني النوم، فنزلت عن راحلتي، وأنختها ونمت وتعوذت قبل نومي، فقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي عن الجن، فرأيت في منامي رجلا بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي، فانتبهت فزعا فنظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا، فقلت: هذا حلم، ثم عدت فتعوذت، فرأيت مثل ذلك وإذا بناقتي ترعد. ثم غفوت، فرأيت مثل ذلك، فانتبهت، فرأيت ناقتي تضطرب، فالتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيته في منامي بيده حربة ورجل شيخ يمسك بيده يرده عن ناقتي، وبينهما نزاع.
فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش، فقال الشيخ للفتى: قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإنسي، فقام الفتى وأخذ منها ثورا وانصرف، ثم التفت إلى الشيخ وقال: يا فتى إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله، فقل: أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها، فقلت له: ومن محمد؟ قال: نبي عربي لا شرقي ولا غربي، فقلت: أين مسكنه؟ قال: يثرب ذات النخل، فركبت ناقتي، وحثثت السر حتى أتيت المدينة، فرأيت رسول الله، فحدثني قبل أن أذكر له منه شيئا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت، وهذا السياق يدل على أن هذه القصة بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه.
ونظير هذا ما حدث به بعض الصحابة قال: خرجت في طلب إبل لي وكنا إذا نزلنا بواد قلنا نعوذ بعزيز هذا الوادي، فتوسدت ناقتي، وقلت: أعوذ بعزيز هذا الوادي فإذا هاتف يهتف بي ويقول:
ويحك عذ بالله ذي الجلال ** منزل الحرام والحلال
ووحد الله ولا تبال ** ما كيد ذي الجن من الأهوال
إذ يذكر الله على الأحوال ** وفي سهول الأرض والجبال
وصار كيد الجن في سفال ** إلا النبي وصالح الأعمال
فقلت له:
يا أيها القائل ما تقول ** أرشد عندك أم تضليل
فقال:
هذا رسول الله ذو الخيرات ** جاء بيس وحاميمات
وسور بعد مفصلات ** يأمر بالصلاة والزكاة
ويزجر الأقوام عن هنات ** قد كنّ في الإسلام منكرات
فقلت: أما لو كان لي من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي لأتيته حتى أسلم فقال: أنا أؤديها فركبت بعيرا منها ثم قدمت فإذا النبي ﷺ على المنبر. وفي رواية: فوافيت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة، فإني أنيخ راحلتي، إذ خرج إلي أبو ذر فقال لي: يقول لك رسول الله ﷺ ادخل، فدخلت، فلما رآني قال: ما فعل الرجل. وفي لفظ: ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك، أما إنه قد أداها سالمة، وقد قص الله تعالى على نبيه ما كان عليه الناس قبل بعثته، من أن الإنسان إذا نزل منزلا مخوفا قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه بقوله سبحانه وتعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال} أي يستعيذون برجال (من الجن) أي حين ينزلون في أسفارهم بمكان مخوف يقول كل رجل أعوذ بسيد هذا المكان من شر سفهائه {فزادوهم رهقا} أي زادوا الجن: أي ساداتهم باستعاذتهم بهم طغيانا، فيقولون: سدنا الإنس والجن.
أي ومن ذلك ما حكاه وائل بن حجر الحضرمي، ويكنى أبا هنيدة، كان قيلا من أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم. قال: «وفدت على رسول الله ﷺ وقد بشر أصحابه بقدومي، فقال: يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الله وفي رسوله، وهو بقية أبناء الملوك. قال وائل فما لقيني أحد من الصحابة إلا قال: بشرنا بك رسول الله ﷺ قبل قدومك بثلاث، فلما دخلت على رسول الله ﷺ رحب بي وأدناني من نفسه وقرب مجلسي وبسط لي رداءه فأجلسني عليه وقال: اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده، ثم صعد المنبر وأقامني بين يديه ثم قال: أيها الناس هذا وائل بن حجر أتاكم من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الإسلام فقلت: يا رسول الله بلغني ظهورك وأنا في ملك عظيم، فمن الله على أن رفضت ذلك كله، وآثرت دين الله قال صدقت، اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده».
قال: وسبب وفودي على رسول الله ﷺ أنه كان لي صنم من العقيق فبينما أنا نائم في الظهيرة إذا سمعت صوتا منكرا من المخدع الذي به الصنم فأتيت الصنم وسجدت بين يديه، وإذا قائل يقول:
واعجبا لوائل بن حجر ** يخال يدري وهو ليس يدري
ماذا يرجي من نحيت صخري ** ليس بذي نفع ولا ذي ضر
لو كان ذا حجر أطاع أمري*
قال: فقلت: أسمعت أيها الهاتف الناصح، فماذا تأمرني؟ فقال:
ارحل إلى يثرب ذات النخل ** تدين دين الصائم المصلي
محمد النبي خير الرسل
ثم خر الصنم لوجهه، فاندقت عنقه فقمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت مسرعا، حتى أتيت المدينة فدخلت المسجد الحديث.
وفيه أنه إن كان الصوت من جوف الصنم فهو من غير هذا النوع. ولوائل هذا حديث مع معاوية تركناه لطوله.
وأما ما سمع من بعض الوحوش، فمنه ما حدث به أبو سعيد الخدري قال: «بينا راع يرعى بالجزيرة إذ عرض الذئب لشاة من شياهه فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه فقال ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إليّ؟ فقال الراعي أعجب من ذئب يكلمني بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب مني؟ رسول الله ﷺ بين الحرتين».
وفي رواية بيثرب يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، وفي لفظ: يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم، فساق الراعي شياهه فأتى المدينة فغدا لرسول الله، فحدثه بما قال الذئب، فقال رسول الله ﷺ: صدق الراعي، إن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل شراك نعله أي وهو أحد سيورها الذي يكون على وجهها كما تقدم، وعذبة سوطه، أي طرفه وقيل أحد سيوره، ويخبره بما فعل أهله» أي وفي لفظ «فأمر رسول الله، فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج فقال للأعرابي: أخبرهم فأخبرهم».
وفي رواية أن راعي الغنم كان يهوديا. وفي رواية أن الذئب قال له أنت أعجب مني واقفا على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله قط أعظم منه قدرا وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها وأصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشعب، فتصير في جنود الله تعالى، فقال له الراعي: من لي بغنمي، فقال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم إليه غنمه ومضى إليه، وقال له رسول: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها» وفيه أن هذا وما تقدم من خبر سعيد بن جبير كما علمت بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه.
قال في النور هذا الراعي لا أعرف اسمه. قال وكلم الذئب غير واحد، فانظرهم في تعليقي على البخاري.
أقول: ذكر في حياة الحيوان عن ابن عبد البر: كلم الذئب من الصحابة ثلاثة: رافع بن عميرة، وسلمة بن الأكوع، ووهبان بن أوس.
وأما ما سمع من بعض الأشجار، فقد روي عن أبي بكر أنه قيل له: هل رأيت قبل الإسلام شيئا من دلائل نبوة محمد؟ قال نعم، بينا أنا قاعد في ظل شجرة في الجاهلية، إذ تدلى على غصن من أغصانها حتى صار على رأسي فجعلت أنظر إليه وأقول: ما هذا؟ فسمعت صوتا من الشجرة: هذا النبي يخرج في وقت كذا وكذا فكن أنت من أسعد الناس به، والله أعلم.
وأما تساقط النجوم، وطرد الجن بها عن استراق السمع. فقد قال ابن إسحاق لما تقارب أمر رسول الله ﷺ وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها فرموا بالنجوم فعرف الجن أن ذلك لأمر حدث من الله في العباد، يقول الله تعالى لنبيه حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا {وأنا لمسنا السماء} أي طلبنا استراق السمع منها ( ) {فوجدناها ملئت حرسا شديدا} أي ملائكة أقوياء يمنعون عنها {وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} لخلوها عن الحرس والشهب {فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} أي أرصد له ليرمي به: أي ومن يخطف الخطفة منهم بخفة حركته يتبعه شهاب ثاقب يقتله: أي أو يحرق وجهه أو يخبله قبل أن يلقيها إلى الكاهن، وذلك لئلا يلتبس أمر الوحي بشيء من خبر الشياطين مدة نزوله وبعد انقضائه وموته، لئلا تدخل الشهبة على ضعفاء العقول، فربما توهموا عود الكهانة التي سببها استراق السمع، وأن أمر رسالته تم فاقتضت الحكمة حراسة السماء في حياته وبعد موته، ومن ثم قال «لا كهانة بعد اليوم».
وقد حدث بعضهم قال: إن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمى بها ثقيف، وإنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية، وكان أدهى العرب، وأنكرها رأيا: أي أدهاها رأيا، وكان ضريرا، وكان يخبرهم بالحوادث فقالوا له: يا عمرو ألم تر: أي تعلم ما حدث في السماء من الرمي بهذه النجوم، فقال: بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم أي النجوم المشهورة ( ) التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء هي التي يرمي بها فهو والله طي هذه الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهو لأمر أراد الله بهذا الخلق: أي والنوء بالنون والهمز هنا: ما يحصل عند سقوط نجم في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما. وحقيقة النوء سقوط النجم وطلوع رقيبه في المدة المذكورة.
وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع منها، فتقول: مطرنا بنوء كذا، وسيأتي الكلام على ذلك في غزوة الحديبية.
وفي لفظ: فأمر أراد الله ونبي يبعث في العرب فقد تحدث بذلك. لا يقال: قد رجمت الشياطين بالنجوم قبل ذلك، وذلك عند مولده. لأنا نقول: المراد رجمت الآن بأكثر مما كان قبل ذلك، أو صارت تصيب ولا تخطىء.
ومن ثم حدث بعضهم، قال: لما بعث النبي ﷺ أي قرب زمن بعثه رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد يا ليل بن عمرو وهو بمثناتين تحتيتين وكسر اللام الأولى الثقفي وكان أعمى فقالوا: إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم، فقال لهم: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي تعرف أي وهي التي يهتدي بها في البر والبحر، وتعرف بها الأنواء فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهي من حدث، فنظروا فإذا نجوم لا تعرف، فقالوا: هذا من حدث.
أي وقد روى مسلم أنه قال: «النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما يوعدون، وأن آمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون، فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي ».
وفي لفظ: فما مكثوا إلا يسرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب فقال: ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل.
وهذا قد يخالف ما يأتي عن ابن عمر «لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله ﷺ منعت الشياطين من خبر السماء بالشهب» ولا مانع من تكرر سؤال ثقيف مرة لعمرو بن أمية ومرة لعبد يا ليل بن عمرو، وأن كلا منهما كان أعمى. ويحتمل اتحاد الواقعة.
ووقع الاختلاف في اسم الذي سألوه، فسماء بعضهم عمرو بن أمية، وبعضهم سماه عبد يا ليل بن عمرو، هذا كما ترى إنما كان عند المبعث، وبه يعلم ما في قول الماوردي الذي نقله عن شيخ بعض شيوخنا النجم الغيطي في معراجه وأقره.
وسببه أي رمي النجوم أن الله تعالى لما أراد بعثة محمد رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، ففزع أكثر العرب منها، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير وكان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها، فقال: انظروا البروج الاثني عشر، فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فلما بعث رسول الله ﷺ كان هو الأمر العظيم، فإنه يقتضي أن المراد ببعثه ولادته فكان يتعين إسقاط قوله قبل مولده، لما علمت أن هذا: أي كثرة تساقط النجوم إنما كان عند بعثه ونبوته لا عند ولادته. ومنه خبر أبي لهب أو لهيب بن مالك أي من بني لهب، فإن بني لهب فزعوا لفزع ثقيف. قال: «حضرت مع رسول الله ﷺ فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبي وأمي، نحن أول من عرف حراسة السماء ومنع الجن من استراق السمع، وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن يقال له خطر. بالخاء المعجمة والطاء المهملة والراء ابن مالك. قال في النور: لا أعرف له ترجمة إلا إسلاما، وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وكان من أعلم كهاننا، فقلنا له يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمي بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها، فقال ائتوني بسحر أي قبيل الفجر أخبركم الخبر الخير، أم ضرر أم لأمن أو حذر. قال. فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من الغد في وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه، فناديناه: يا خطر يا خطر، فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه، جمع وصب كجمل وجمال، فالهمزة بدل من الواو، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوابه: أي زال عنه جوابه، يا وليه ما حاله، بلبله بلباله، البلبال الغم، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله، ثم أمسك طويلا، ثم قال: يا معشر بني قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أقسم بالكعبة والأركان، والبلد المؤتمن السدان أي الخدام، قد منع السمع عتاة الجان، بثاقب يكون ذا سلطان، من أجل مبعوث عظيم الشأن، يبعث بالتنزيل والفرقان، وبالهدى وفاضل القرآن، تبطل به عبادة الأوثان، قال فقلنا له: ويلك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما، فماذا ترى لقومك؟ فقال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ** أن يتبعوا خير نبي الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس ** يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
والحمس بضم الحاء المهملة وإسكان الميم والسين المهملة: هم قريش وما ولدت من غيرها فإنهم كانوا لا يزوجون بناتهم لأحد من أشراف العرب إلا على شرط أن يتحمس أولادهم، فإن قريشا من بين قبائل العرب دانوا بالحمس، ولذلك تركوا الغزو، لما في ذلك من استحلال الأموال والفروج ومالوا للتجارة، ومن ثم يقال: قريش الحمس، سموا بذلك لتشددهم في دينهم، لأن الحماسة هي الشدة، فقلنا له: يا خطر ومن هو؟ فقال والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حكمه طيش. أي عدول عن الحق، من قولهم طاش السهم عن الهدف: إذا عدل عنه، ولا في خلقه هيش. أي ليس في طبيعته وسجيته قول قبيح، يكون في جيش، وأي جيش، من آل قحطان، وآل أيش، وآل قحطان هم الأنصار، قال: «رحى الإيمان دائرة في ولد قحطان» وآل أيش قبيلة من الجن المؤمنين، ينسبون إلى أبيهم أيش، شخص من كبير الجن. وقيل أراد بهم المهاجرين. أي ومن المهاجرين الذي يقال فيهم أيش، لأنه يقال في مقام المدح فلان أيش على معنى أي شيء هو؟ أي شيء عظيم لا يمكن أن يعبر عن عظمته وجلالته. وروي بدل أيش ريش. فقلنا له بين لنا من أي قريش؟ فقال: والبيت ذي الدعائم، يعني الكعبة، والركن يعني الحجر الأسود والأحائم، يعني بئر زمزم لأن الأحائم جمع أحوام والأحوام جمع أحوم وهو الماء في البئر؟ وأراد بئر زمزم أو أن الأصل الحوائم، ففيه قلب مكان الأصل فواعل فصار أفاعل، والحوائم: هي الطير التي تحوم على الماء، والمراد حمام مكة لهو نجل أي نسل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم يعني الحروب وقتل كل ظالم، ثم قال هذا هو البيان: أخبرني به رئيس الجان، ثم قال الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر، ثم سكن وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة أيام، فقال لا إله إلا الله، فقال رسول الله: «سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة » أي وحي وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده: أي مقام جماعة كما تقدم في نظيره.
قال: ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس عن نفر من الأنصار قالوا: «بينا نحن جلوس مع رسول الله ﷺ رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية؟ » أي قبل البعث قالوا: يا رسول الله كنا نقول إذا رأينا يرمى بها: مات ملك ولد مولود، مات مولود، فقال رسول الله ﷺ: ليس ذلك كذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعته حملة العرش فسبحوا فسبح من تحتهم بتسبيحهم فسبح من تحت ذلك، فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا، ثم يقول بعضهم لبعض لم سبحتم؟ فيقولون: قضى الله في خلقه كذا وكذا له الأمر الذي كان» أي يكون في الأرض «فيهبط به من سماء إلى سماء» أي تقوله أهل كل سماء لمن يليهم «حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاس، ثم يأتون به إلى الكهان، فيحدثونهم فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا».
أي وفي البخاري «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه» الحديث. وقولهم قال الحق: أي ثم يذكرونه، لما تقدم من قولهم قضى الله في خلقه كذا وكذا، ولما يأتي. وقوله، يرمى بها في الجاهلية صريح في أنه كان يرمي بالنجوم للحراسة في زمن الفترة بينه وبين عيسى قبل مولده. ويخالفه ما يأتي عن أبي بن كعب «وقد سئل عن الكهان؟ فقال: إنهم ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بالشيء يكون حقا، قال: تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة » ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة.
أي وفي البخاري أنه قال: «إن الملائكة تتحدث في العنان ـ أي الغمام ـ بالأمر يكون في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن، فيزيدونها مائة كذبة ».
وعن أبيّ بن كعب «لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول الله ﷺ رمى بها، فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد يا ليل» الحديث.
أقول: وهذا يفيد أنه لم يرم بها قبل مبعثه: أي قبل قربه الشامل لزمن الولادة، فلا يخالف ما تقدم، وأن النجوم كان يرمى بها قبل أن يرفع عيسى وذلك صادق بزمن آدم فمن بعده من الرسل، وهو الموافق لقول الزهري: الحجب وتساقط النجوم كان موجودا قبل البعث في سالف الأزمان: أي في زمن الرسل لا في زمن الفترات بين الرسل، لقول الكشاف: وقول بعضهم: ظاهر الأخبار يدل على أن الرجم للشياطين بالشهب كان في زمن غيره من الرسل وهو كذلك، وعليه أكثر المفسرين ـ حراسة لما ينزل من الوحي على الرسل. وأما في الزمن الذي ليس فيه رسول: أي وهو زمن الفترات بين الرسل، فكانوا يسترقون السمع في مقاعد لهم، ويلقون ما يسمعون للكهان: أي لأن الله تعالى ذكر فائدتين في خلق النجوم، فقال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} وقال تعالى {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد} وكونها إنما جعلت رجوما وحفظا ليس إلا عند قرب مبعثه، خاصة دون بقية الرسل من أبعد البعيد.
وحيث كان الغرض من الرمي بالنجوم منع الشياطين من استراق السمع اقتضى ذلك أنه لم يرم بها قبل مبعثه، ومنه زمن ولادته.
ويوافق ذلك قول ابن إسحاق: لما تقارب أمر رسول الله ﷺ وحضر مبعثه حجبت الشياطين، وقول ابن عمر : «لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله ﷺ منعت الشياطين من خبر السماء، رموا بالشهب فذكروا ذلك لإبليس، فقال: بعث أي لعله بعث نبي، عليكم بالأرض المقدسة أي لأنها محل الأنبياء، وهذا يدل على أن عند إبليس أن الرمي بالنجوم علامة على بعث الأنبياء، فذهبوا ثم رجعوا، فقالوا ليس بها أحد، فخرج إبليس يطلبه بمكة: أي لأنها مظنة ذلك بعد محل الأنبياء، فإذا رسول الله ﷺ بحراء منحدرا معه جبريل، فرجع إلى أصحابه، فقال: بعث أحمد ومعه جبريل». وفي رواية «إن إبليس قال لما أخبروه بأنهم منعوا من خبر السماء: إن هذا الحدث حدث في الأرض، فائتوني من تربة كل أرض فأتوه بذلك، فجعل يشمها، فلما شم تربة مكة قال: من ههنا الحدث، فمضوا فإذا رسول الله ﷺ قد بعث».
أقول: قد يقال لا منافاة بين الروايتين، لأنه يجوز أنهم لم يخبروه بمبعثه لما وجدوه، فذهب أو ذهب بعد إخبارهم له بذلك للاستيقان، وهذا يفيد أن الرمي بالنجوم إنما كان عند مبعثه: أي عند تقارب زمنه لا قبل ذلك الذي منه زمن ولادته. وحينئذ يشكل حصول مثل ذلك لإبليس وجنوده عند مولده. ومن ثم قدمنا أنه يجوز أن يكون من خلط بعض الرواة، وهذه الرواية تدل على أن إبليس لم يكن عنده علم بأن سقوط النجم على الشياطين علامة على مبعث النبي ﷺ والرواية التي قبلها تدل على ذلك كما علمت. وكلتا الروايتين يدل على أنه لم يعلم عينه ولا محله والله أعلم، وقد أشار صاحب الهمزية إلى أن حجب الشياطين كان عند مبعثه بقوله:
بعث الله عند مبعثه الشهـ ** ـب حراسا وضاق عنها الفضاء
تطرد الجن عن مقاعد للسمـ ** ـع كما يطرد الذئاب الرعاء
محت آية الكهانة آيا ** ت من الوحي ما لهن انمحاء
أي أرسل الله زمن إرساله الشعل من النار على الجن لأجل حراسة السماء منهم، ولكثرة تلك الشعل ضاقت عنها المفازات حال كون تلك الشهب تطرد الجن عن أمكنة قريبة يقعدون فيها لأجل أن يسمعوا شيئا من الملائكة المتكلمين بما سيقع في الأرض من المغيبات، وطرد تلك الشهب لأولئك الشياطين في الشدة كطرد الرعاة للذئاب عن الغنم إذا أرادت أن تعدو عليها، فبسبب ذلك الطرد البالغ للجن عن خبر السماء محت آيات من الوحي آية الكهانة التي هي الإخبار بالأمور المغيبة، ما لتلك الآيات من الوحي انمحاء: أي ذهاب، بل هي باقية إلى يوم القيامة. وفيه أنه لزم على كون الغرض من الرمي بالنجوم حفظ الوحي أن ذلك لا يكون إلا عند مبعثه ولا يكون قبل ذلك الذي قبل منه وقت ولادته. وأيضا لو كان ذلك موجودا قبل مبعثه واستمر إلى مبعثه لم تفزع العرب منه عند مبعثه.
وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون الغرض الأصلي من الرمي بها حفظ الوحي، فلا ينافي وجود ذلك قبل ذلك عند ولادته إرهاصا وتخويفا.
وكان هذا السؤال الثاني هو الحامل لأبيّ بن كعب على دعوى أنه لم يرم بالنجوم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول الله ﷺ رمى بها، ومن ثم قال: فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد يا ليل. ويجاب بأنه يجوز أن يكون الرمي بالنجوم عند المبعث مخالفا للرمي بها قبله، إما لفرط كثرتها وإما لأن الرمي بها بعد المبعث كان من كل جانب. وقيل كان من جانب واحد، وإما لأن الرمي بها صار لا يخطىء أبدا، وقبل ذلك كان يخطىء تارة ويصيب أخرى، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله: أي يصيره غولا يضل الناس في البراري، وكان ذلك سبب فزع العرب لأنه كان قبل ذلك لم يكن من كل جانب، ولم يكثر ويخطىء فيعود الشيطان إلى مكانه فيسترق السمع ويلقي ما يسترقه إلى كاهنه أي فلم تنقطع الكهانة قبل مبعثه بالمرة، بل كانت موجودة إلى زمن مبعثه، وعند مبعثه انقطعت بالمرة ومن ثم قال: «لا كهانة اليوم» وهذا كله على تسليم رواية ابن عباس أن النجوم رمى بها عند ولادته. وحفظ الوحي بالرمي بالشهب لا يخالف ما حكاه في الإتقان عن سعيد بن جبير «ما جاء جبريل بالقرآن إلى النبي ﷺ إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة » وسيأتي عن الينبوع عن ابن جرير «ما نزل جبريل بوحي قط إلا ونزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما، لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى ذلك النبي من الغيب الذي يوحيه إليه فيبلغوه إلى أوليائهم».
وعن بعضهم قال: سافرت عن زوجتي فخلفني عليها شيطان على صورتي وكلامي وسائر حالاتي التي تعرفها مني، فلما قدمت من السفر لم تفرح بي ولم تتهيأ لي، وكانت إذا قدمت من سفر تتهيأ لي كما تتهيأ العروس فقلت لها في ذلك، فقالت: إنك لم تغب، فبينما أنا كذلك، وقد ظهر لي ذلك الشيطان وقال لي أنا رجل من الجن عشقت امرأتك وكنت آتيها في صورتك فلا تنكر ذلك، فاختر إما أن يكون لك الليل ولي النهار، أو لك النهار ولي الليل، فراعني ذلك ثم اخترت النهار، فلما كان في بعض الليالي جاءني وقال: بت الليلة عند أهلك فقد حضرت نوبتي في استراق السمع من السماء فقلت: أنت تسترق السمع؟ فقال: نعم هل لك أن تكون معي؟ قلت: نعم، فلما جاء الليل أتاني، وقال حوّل وجهك فحولت وجهي، فإذا هو في صورة خنزير له جناحان فحملني على ظهره فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير، فقال لي: استمسك بها فإنك ترى أمورا وأهوالا فلا تفارقني تهلك، ثم صعد حتى لصق بالسماء فسمعت قائلا يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» فهوى بي ووقع من وراء العمران فحفظت الكلمات فلما أصبحت أتيت أهلي، فلما كان الليل جاء فقلتهن، فاضطرب، فلم أزل أقولهن حتى صار رمادا، وإن لم يحمل وقوع ذلك في زمن الجاهلية وإلا كان كذبا لأنهم أجابوا عن إيراد أن القول بقدرة الجن على التصور يلزمه رفع الثقة بشيء، فإن من رأى نحو ولده وزوجته احتمل أنه جني فيشك بأن الله تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي إلى ما يترتب عليه ريبة في الدين فليتأمل.
وقد جاء في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله «من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، والذي نفسي بيده إن لا حول ولا قوة إلا بالله شفاء من سبعين داء أدناها الهمّ والغم والحزن» وفرق بين الغم والهم، بأن الغم يعرض منه السهر، والهم يعرض منه النوم.
وفي حكمة آل داود: العافية ملك خفي، وهمّ ساعة هرم سنة. وقال الأطباء: الهم يوهن القلب، وفيه ذهاب الحياة، كما أن في الحزن ذهاب البصر. وفي الحديث «من كثر همه سقم بدنه» فعلم أن النجوم على تسليم أنه كان يرمي بها قبل الولادة وبعدها إلى البعثة كانت قبل قرب زمن المبعث تصيب تارة ولا تصيب أخرى مع قلتها، وعند البعثة تصيب ولا بد مع كثرتها، وإن الكثرة هي سبب الفزع لا دوام الإصابة، وإلا فمجرد دوام الإصابة لا يكون حاملا على الفزع لأنه لا يظهر لكل أحد، بخلاف الكثرة، ومجرد الكثرة لا يكون سببا لقطع الكهانة، أو أنها قبل البعث كانت ترمي من جانب دون آخر، وبعد البعثة رميت من جميع الجوانب وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ويقذفون من كل جانب دحورا} فكان ذلك سببا للفزع، والمراد وجود ذلك مع دوام الإصابة ليكون سببا لقطع الكهانة، وإلا فمجرد الرمي من كل جانب مع قلة الإصابة لا يكون سببا لقطع الكهانة، ولما انقطعت الكهانة بعدم إخبار الجن قالت العرب هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة حتى أسرعوا في أموالهم أي في إتلافها، فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي، والشمس والقمر؟ كذا في كلام بعضهم، ولعله لا يخالف ما تقدم من أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم ثقيف، وأنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية، ولرجل آخر يقال له عبد يا ليل، لجواز أن يكون ما ذكر هنا صدر من بعضهم لبعض، ثم اجتمعوا على عمرو وعبد ياليل والله أعلم.
وظاهر القرآن والأخبار أن الذي يرمي به الشياطين المسترقون نفس النجم، وإنه المعبر عنه بالكوكب وبالمصباح وبالشهاب. وقيل الشهاب عبارة عن شعلة نار تنفصل من النجم أي كما قدمنا فأطلق عليها لفظ النجم، ولفظ المصباح، ولفظ الكوكب، ويكون معنى {وجعلناها رجوما} جعلنا منها رجوما وهي تلك الشهب، ومعنى كونها حفظا باعتبار ما ينشأ عنها من تلك الشهب.
وقالت الفلاسفة: إن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجوّ عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التي دون الفلك. وقيل السحاب إذا اصطكت أجرامه تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدّتها سريعة الخمود. فقد حكي أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت قاله في الكشاف.
ومما يؤيد أن الشعل منفصلة من النجوم، ما جاء عن سلمان الفارسي أن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق القناديل بالمساجد مخلوقة من نور. وقيل إنها معلقة بأيدي ملائكة، ويعضد هذا القول قوله تعالى: {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت} إن انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة. وقيل إن هذا ثقب في السماء، وقد وقع في سنة تسع وتسعين من القرن السادس أن النجوم ماجت وتطايرت تطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر وأفزع الخلق، فلجؤوا إلى الله تعالى بالدعاء قال بعضهم: ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله.
أقول: وقد وقع نظير ذلك في سنة إحدى وأربعين من القرن الثالث: ماجت النجوم في السماء، وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل، كان أمرا مزعجا لم ير مثله. ووقع في سنة ثلثمائة تناثر النجوم تناثرا عجيبا إلى ناحية المشرق، والله أعلم.
وأما ما جاء من ذكره: أي ذكر اسمه وصفته وصفة أمته في الكتب القديمة: أي كالتوراة المنزلة على موسى لست ليال خلون من رمضان اتفاقا. والإنجيل المنزل على عيسى لثنتي عشرة خلت من رمضان، وقيل لثلاث عشرة، وقيل لثمان عشرة. والزبور المنزل على داود لثنتي عشرة، وقيل لثلاث عشرة، وقيل لثمان عشرة، وقيل في ست خلت من رمضان، وصحف شعياء، ويقال له أشعياء أو مزامير داود. وصحف شيث، فقد أنزلت عليه خمسون صحيفة، وقيل ستون. وصحف إبراهيم، فقد أنزل عليه عشرون صحيفة، وقيل ثلاثون أول ليلة من رمضان اتفاقا. وفي كتاب شعيب: ولم يذكر صحف إدريس، وقد أنزلت عليه ثلاثون صحيفة.
وذكر بعضهم أن موسى أنزل عليه قبل التوراة عشرون صحيفة، وقيل عشر صحائف، وهذا كما لا يخفى يزيد على ما اشتهر أن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب.
وفي كلام بعضهم اتفقوا على أن القرآن أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان. وعن أبي قلابة «أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان» وحينئذ يكون من حكى الاتفاق في التوراة وصحف إبراهيم لم يطلع على هذا أو لم يعتد به، فقد أشار إلى ذكره في جميع الكتب المنزلة الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وفي كل كتب الله نعتك قد أتى ** يقص علينا ملة بعد ملة
وهذا كما لا يخفى أبلغ من قول بعضهم:
ومن قبل مبعثه جاءت مبشرة ** به زبور وتوراة وإنجيل
وقد اعترض على هذا القائل بعض الأغبياء بأن التوراة والإنجيل قد صحت بشارتهما به. وأما الزبور فلا ندري ولا نقول إلا ما نعلم. ويرده ما ذكره الإمام السبكي، وسنده قوله تعالى: {وإنه لفي زبر الأولين} أي كتبهم. فقد قال بعض المفسرين إن الضمير عائد إلى النبي، لأن الإضافة حيث لا عهد تحمل على العموم، وسيأتي أيضا التصريح بوجود اسمه في الزبور وقد جاء «إن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء والأرض» كما تقدم.
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبي مهاجر، فأنزل الله الآية، وفيها أيضا محمد واسمه فيها أيضا حمياطا، وقيل: أي يحمي الحرم من الحرام. واسمه في التوراة أيضا قدمايا: أي الأول السابق، واسمه فيها أيضا ينديند. واسمه أيضا أحيد وقيل أحيد: أي يمنع نار جهنم عن أمته، واسمه فيها أيضا طاب طاب: أي طيب. واسمه فيها أيضا كما في الشفاء محمد حبيب الرحمن، ووصف فيها بالضحوك: أي طيب النفس. وفيها محمد بن عبد الله ولده بمكة، ومهاجره إلى طابة، وملكه بالشام. والتوراة أي على فرض أن تكون اسما عربيا مأخوذة من التورية وهو كتمان السر بالتعريض، لأن أكثرها معاريض من غير تصريح. واسمه في الإنجيل المنحمنا، والمنحمنا بالسريانية: محمد.
أي وما جاء عن سهل مولى خيثمة. قال: كنت يتيما في حجر عمي فأخذت الإنجيل فقرأته حتى مرت لي ورقة ملصقة بغراء ففتقتها فوجدت فيها وصف محمد، فجاء عمي، فلما رأى الورقة ضربني. وقال: ما لك وفتح هذه الورقة وقراءتها، فقلت فيها وصف النبي أحمد، فقال: إنه لم يأت بعد: أي الآن.
أي وفي الإنجيل أيضا اسمه حبنطا: أي يفرق بين الحق والباطل، ووصفه بأنه صاحب المدرعة وهي الدرع، وفيه أيضا وصفه بأنه يركب الحمار والبعير، وسيأتي أن راكب الحمار عيسى ، وراكب الجمل محمد، وسيأتي الجواب. وفي الإنجيل إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى ربي فيعطيكم بارقليط، والبارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب: أي وما جاء بذلك وأخبر بالحوادث والغيوب إلا محمد رسول الله، والبارقليط أو الفارقليط: الحكيم والرسول. قيل والإنجيل: أي على فرض أن يكون اسما عربيا، مأخوذ من النجل: وهو الخروج، ومن ثم سمي الولد نجلا لخروجه، أو مشتق من النجل: وهو الأصل، يقال لعن الله أناجيله: أي أصوله، فسمى هذا الكتاب بهذا الاسم لأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين. وقيل من النجلة وهي سعة العين لأنه أنزل وسعة لهم: أي لأن فيه تحليل بعض ما حرم عليهم.
ومن ذلك ما جاء من عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك بالمتوكل، ليس بفظ: أي سيىء الخلق، ولا غليظ: أي شديد القول، ولا صخاب بالسين والصاد في الأسواق: أي لا يصيح فيها» وفي الحديث «أشد الناس عذابا كل جعار نعار سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ـ أي ملة إبراهيم التي غيرتها العرب وأخرجتها عن استقامتها، بأن يقول لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» أي لا تفهم كأنها في غلاف. قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما أخطأ في حرف.
أقول: لكن في رواية كعب: وأعطى المفاتيح، ليبصرنّ الله به أعينا عورا، وليسمع به آذانا صما، ويقيم به ألسنة معوجة، يعين المظلوم، ويمنعه من أن يستضعف. وفيها وصفه بأنه يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
وعن بعض أحبار اليهود أنه قال: على جميع ما وصف به في التوراة وقفت إلا هذين الوصفين، وكنت أشتهي الوقوف عليها، فجاءه شخص يطلب منه ما يستعين به، وذكر له أنه لم يكن عنده ما يعينه به، فقلت: هذه دنانير ندفعها له، وتكون على كذا من التمر ليوم كذا ففعل، فجئته قبل الأجل بيومين أو ثلاثة، فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فقال لي عمر: أي عدو الله: تقول لرسول الله ﷺ ما أسمع وهمّ بي، فنظر إليه رسول الله ﷺ في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: «أنا وهو أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة ـ أي المطالبة ـ اذهب وأوفه حقه، وزده عشرين صاعا مكان ما روعته أي خفته فأسلم اليهوديّ» وذكر القصة.
وفي التوراة: لا يزال الملك في يهود إلى أن يجيء الذي إياه تنتظر الأمم: أي لا يزال أمرهم ظاهرا إلى أن يجيء الذي تنتظره الأمم. أي المرسل إليهم وهو محمد، لأنه المرسل لجميع الأمم.
وما زعمه اليهود بأنه يوشع رد بنص التوراة في محل آخر: إن الله ربكم يقيم نبيا من إخوتكم مثلي، وقد قال لي: إنه سوف يقيم نبيا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلمتي في فيه، وأيما إنسان لم يطع كلامه أنتقم منه، لأن قوله مثلي: أي رسولا بكتاب مشتمل على الأحكام والشرائع، وذكر المبدأ والمعاد، لأن يوشع لم يكن له كتاب، بل كان متابعا لسنة موسى في بني إسرائيل خاصة، وأيضا يوشع منهم لا من إخوتهم، فلو كان يوشع لقال منكم.
وما زعمه النصارى إنه المسيح ردّ عليهم بنصوص الإنجيل التي منها: إن الله يقيم لكم نبيا من إخوتكم، لأن المسيح ليس من إخوتهم بل منهم، لأنه من نسل داود. ففي زبور داود: سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، وإخوة بني إسرائيل إنما هم أولاد إسماعيل الذي هو أخو إسحق وبنو إسرائيل منه. وأيضا لو كان المسيح لم يحسن أن يخاطب بهذا اللفظ.
وفي الإنجيل: جاء الله من طور سينا، وظهر بساعير، وأعلن بفاران: أي عرف الله بإرساله موسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم، لأن ظهور نبوّة موسى كان في طور سينا، وتقدم أنه جبل بالشام. قيل هو الذي بين مصر وإيليا، وأنزلت التوراة عليه فيه. وظهور نبوّة عيسى كان في ساعير وهو جبل القدس، لأن عيسى كان يسكن بقرية بأرض الخليل يقال لها ناصرة، وباسمها سمي من اتبعه، وأنزل عليه الإنجيل بها. وظهور نبوّة محمد كان في فاران وهي مكة، وأنزل عليه القرآن بها.
وفي التوراة أن إسماعيل أقام بقرية فاران، وإنما عبر في جانب موسى بالمجيء لأنه أول المشرعين، لأن كتابه الذي هو التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك، وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده، ومن ثم قيل لها صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز. ولما حصل بعيسى وبكتابه الذي هو الإنجيل نوع ظهور عبر في جانبه بالظهور الذي هو أقوى من المجيء، ثم لما زاد الظهور بمجيء محمد عبر عنه بالإعلان الذي هو أقوى من مجرد الظهور.
وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} إنهم يجدون نعته {يأمرهم بالمعروف} وهو مكارم الأخلاق وصلة الأرحام {وينهاهم عن المنكر} وهو الشرك {ويحلّ لهم الطيبات} وهي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل، والبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام التي حرمتها الجاهلية {ويحرم عليهم الخبائث} التي كانت تستحلها الجاهلية من الميتة والدم ولحم الخنزير {ويضع عنهم إصرهم} من تحريم العمل يوم السبت، وعدم قبول دية المقتول، وأن يقطعوا ما أصابهم من البول والله أعلم.
ومن ذلك ما جاء عن النعمان السبائي وكان من أحبار يهود باليمن قال: لما سمعت بذكر النبي ﷺ قدمت عليه وسألته عن أشياء، ثم قلت له: إن أبي كان يختم على سفر ويقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه. قال النعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر، فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا فيه ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنت خير الأنبياء، وأمتك خير الأمم، واسمك أحمد، وأمتك الحمادون: أي يحمدون الله في السراء والضراء قربانهم دماؤهم: أي يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بإراقة دمائهم في الجهاد، وأناجيلهم في صدورهم: أي يحفظون كتابهم، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم، يتحنن الله عليهم كتحنن الطير على فراخه، ثم قال لي: يعني أباه: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدقه، فكان النبي ﷺ يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال له النبي: «يا نعمان حدثنا، فابتدأ النعمان الحديث من أوله، فرؤى رسول الله ﷺ يبتسم، ثم قال: أشهد أني رسول الله».
وما زعمه النصارى إنه المسيح ردّ عليهم بنصوص الإنجيل التي منها: إن الله يقيم لكم نبيا من إخوتكم، لأن المسيح ليس من إخوتهم بل منهم، لأنه من نسل داود. ففي زبور داود: سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، وإخوة بني إسرائيل إنما هم أولاد إسماعيل الذي هو أخو إسحق وبنو إسرائيل منه. وأيضا لو كان المسيح لم يحسن أن يخاطب بهذا اللفظ.
وفي الإنجيل: جاء الله من طور سينا، وظهر بساعير، وأعلن بفاران: أي عرف الله بإرساله موسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم، لأن ظهور نبوّة موسى كان في طور سينا، وتقدم أنه جبل بالشام. قيل هو الذي بين مصر وإيليا، وأنزلت التوراة عليه فيه. وظهور نبوّة عيسى كان في ساعير وهو جبل القدس، لأن عيسى كان يسكن بقرية بأرض الخليل يقال لها ناصرة، وباسمها سمي من اتبعه، وأنزل عليه الإنجيل بها. وظهور نبوّة محمد كان في فاران وهي مكة، وأنزل عليه القرآن بها.
وفي التوراة أن إسماعيل أقام بقرية فاران، وإنما عبر في جانب موسى بالمجيء لأنه أول المشرعين، لأن كتابه الذي هو التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك، وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده، ومن ثم قيل لها صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز. ولما حصل بعيسى وبكتابه الذي هو الإنجيل نوع ظهور عبر في جانبه بالظهور الذي هو أقوى من المجيء، ثم لما زاد الظهور بمجيء محمد عبر عنه بالإعلان الذي هو أقوى من مجرد الظهور.
وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} إنهم يجدون نعته {يأمرهم بالمعروف} وهو مكارم الأخلاق وصلة الأرحام {وينهاهم عن المنكر} وهو الشرك {ويحلّ لهم الطيبات} وهي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل، والبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام التي حرمتها الجاهلية {ويحرم عليهم الخبائث} التي كانت تستحلها الجاهلية من الميتة والدم ولحم الخنزير {ويضع عنهم إصرهم} من تحريم العمل يوم السبت، وعدم قبول دية المقتول، وأن يقطعوا ما أصابهم من البول والله أعلم.
ومن ذلك ما جاء عن النعمان السبائي وكان من أحبار يهود باليمن قال: لما سمعت بذكر النبي ﷺ قدمت عليه وسألته عن أشياء، ثم قلت له: إن أبي كان يختم على سفر ويقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه. قال النعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر، فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا فيه ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنت خير الأنبياء، وأمتك خير الأمم، واسمك أحمد، وأمتك الحمادون: أي يحمدون الله في السراء والضراء قربانهم دماؤهم: أي يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بإراقة دمائهم في الجهاد، وأناجيلهم في صدورهم: أي يحفظون كتابهم، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم، يتحنن الله عليهم كتحنن الطير على فراخه، ثم قال لي: يعني أباه: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدقه، فكان النبي ﷺ يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال له النبي: «يا نعمان حدثنا، فابتدأ النعمان الحديث من أوله، فرؤى رسول الله ﷺ يبتسم، ثم قال: أشهد أني رسول الله».
أقول: والنعمان هذا قتله الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، وقطعه عضوا عضوا وهو يقول: إن محمدا رسول الله، وإنك كذاب مفتر على الله، ثم حرقه بالنار: أي ولم يحترق كما وقع للخيل.
وقيل الذي أحرقه الأسود العنسي بالنار ولم يحترق ذؤيب بن كليب أو ابن وهب، ولما بلغه ذلك قال لأصحابه، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل، وهذا السفر يحتمل أن يكون ملخصا من التوراة، وقوله إلا وجبريل معهم يدل على أن جبريل يحضر كل قتال صدر من الصحابة للكفار، بل ظاهره كل قتال صدر حتى من جميع الأمة. وفي رواية بعضهم نقلا عن سفر من التوراة: لا يلقون أي أمته، عدوّا إلا وبين أيديهم ملائكة معهم رماح.
وفي التوراة في صفة أمته زيادة على ما سبق: يؤضؤون أطرافهم، ويتأزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم.
وقد جاء «ائتزوا كما رأيت الملائكة » أي ليلة الإسراء «تأتزر» أي مؤتزرة عند ربها إلى أنصاف سوقها.
وقد جاء «عليكم بالعمائم وأرخوها خلف ظهوركم فإنها سيما الملائكة » وكلاهما أي الاتزار وإرخاء العذبة من خصائص هذه الأمة.
وقد جاء «إن العمائم تيجان المسلمين» وفي رواية «من سيما المسلمين» أي علاماتهم المميزة لهم عن غيرهم.
ويؤخذ من وصفهم بأنهم يوضؤون أطرافهم أن الأمم السابقة كانوا لا يتوضؤون، ويوافقه قول الحافظ ابن حجر: إن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة، ويوافقه ما رواه ابن مسعود مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء» أي أن يكونوا طاهرين، أو أن هذا أي وجوب الطهر لكل صلاة كان في صدر الإسلام ولم ينسخ إلا في فتح مكة كما سيأتي.
ويخالف كون الوضوء من خصائص هذه الأمة ما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه ابن لهيعة عن بريدة قال: «دعا رسول الله ﷺ بوضوء فتوضأ واحدة واحدة فقال: هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال: هذا وضوء الأمم قبلكم، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» فإن هذا يفيد أن الوضوء كان للأمم السابقة، لكن مرتين ولأنبيائهم كان ثلاثا، وعليه فالخاص بهذه الأمة التثليث كوضوء الأنبياء: أي كما اختصت هذه الأمة عمن عداها بالغرة والتحجيل.
وعلى هذا يحمل قول ابن حجر الهيتمي إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم.
وفي كلام ابن عبد البر قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون، ولا أعرفه من وجه صحيح. وفي كلام ابن حجر: والذي من خصائصنا إما الكيفية المخصوصة أو الغرة والتحجيل، هذا كلامه، وهو يفيد أن كون الكيفية المخصوصة ومنها الترتيب من خصائصنا غير مقطوع به، بل الأمر فيه على الاحتمال.
ولا يخفى أن الإشارة في قوله: «هذا وضوء الأمم» يدل على الترتيب، فقد استدل أئمتنا على وجوب الترتيب بأنه لم يتوضأ إلا مرتبا باتفاق أصحابه، ولو كان جائزا لتركه في بعض الأحايين. وما اعترض به على دعوى الاتفاق بأنه جاء عن ابن عباس أنه وصف وضوءه «فتوضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم رجليه ثم مسح رأسه» أجيب عنه بضعف هذه الرواية.
وعلى تقدير صحتها يجوز أن يكون ابن عباس نسي مسح الرأس فذكره بعد غسل رجليه فمسحه ثم أعاد غسل رجليه. والراوي عن ابن عباس لم يقف على إعادة ابن عباس غسل رجليه.
وفي التوراة في صفة أمته: «دويهم في مساجدهم كدوي النحل» وفي رواية: «أصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل، رهبان بالليل، ليوث بالنهار وإذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر حسنات. وإذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول: أي وهو التوراة أو جنس الكتب السابقة والكتاب الآخر: أي وهو القرآن.
وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح قال الله تعالى لعيسى: يا عيسى إني باعث من بعدك نبيا، أمته إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون صبروا واحتسبوا ولا حلم ولا علم. قال: كيف يكون ذلك لهم ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي. وحينئذ يكون المراد ولا حلم ولا علم لهم كامل، وأن الله تعالى يكمل علمهم وحلمهم من علمه وحلمه، ويدل لذلك ما ذكره بعضهم أن هذه الأمة آخر الأمم فكان العلم والحلم الذي قسم بين الأمم كما شهد به حديث «إن الله قسم بينكم أخلاقكم» قد دق جدا فلم يدرك هذه الأمة إلا يسير من ذلك مع قصر أعمارهم فأعطاهم الله من حلمه وعلمه. وجاء أنهم مسمون في التوراة: صفوة الرحمن. وفي الإنجيل: حلماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء.
وفي الطبراني أن عمر قال لكعب الأحبار: كيف تجدني يعني في التوراة؟ قال خليفة قرن من حديد، أمير شديد، لا تخاف في الله لومة لائم. وزاد عن جواب السؤال قوله: ثم الخليفة من بعدك يقتله أمة ظالمون له ثم يقع البلاء بعد.
وفي صحف شعياء اسمه ركن المتواضعين. وفيها: إني باعث نبيا أميا أفتح به آذنا صما، وقلوبا غلفا، وأعينا عميا، مولده بمكة ومهاجرته بطيبة، وملكه بالشام، رحيما بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ويبكي لليتيم في حجر الأرملة، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته ولو يمشي على القضيب الرعراع يعني اليابس لم يسمع من تحت قدميه، إلى آخر الرواية فإن فيها طولا، وقد ساقها الجلال السيوطي في الخصائص الكبرى. وشعياء هذا كان بعد داود وسليمان، وقبل زكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام.
ولما نهي بني إسرائيل عن ظلمهم وعتوهم طلبوه ليقتلوه فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له ودخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها، فلما رأوا ذلك جاؤوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها.
وكان من جملة الرسل الذي عناهم الله تعالى بقوله: {وقفينا من بعده} أي موسى {بالرسل} وهم سبعة، وهو ثالث تلك الرسل السبعة: أي وهو المبشر بعيسى ومحمدا، فقال يخاطب بيت المقدس لما شكا له الخراب وإلقاء الجيف فيه: أبشر يأتيك راكب الحمار، يعني عيسى، وبعده راكب الجمل يعني محمد، وتقدم في وصفه أنه يركب الحمار والبعير.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون عيسى اختص بركوب الحمار، بخلاف محمد فإنه كان يركبهما، هذا تارة وهذا أخرى، فليتأمل.
ومن جملتهم أرمياء، قيل وهو الخضر، والله أعلم.
واسمه في الزبور حاط حاط، والفلاح الذي يمحق الله به الباطل وفارق وفاروق. أي يفرق بين الحق والباطل، وهو كما تقدم معنى فارقليط أو بارقليط، بالفاء في الأول والموحدة في الثاني.
وقيل معناه الذي يعلم الأشياء الخفية، وفي (الينبوع) ومن الألفاظ التي رضوها لأنفسهم، يعني النصارى وترجموها على اختيارهم أن المسيح قال: إني أسأل الله أن يبعث إليك بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد، وهو يعلمكم كل شيء، ويفسر لكم الأسرار، وهو يشهد لي كما شهدت له، ويكون خاتم النبيين، ولم يشهد له بالبراءة والصدق في النبوة بعده إلا محمد.
وقد ذكر صاحب الدرّ المنظم بإسناده أن النبي، قال لعمر : «يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي بعثني الله في التوراة لموسى، وفي الإنجيل لعيسى، وفي الزبور لداود ولا فخر» أي لا أقول ذلك على سبيل الافتخار، بل على سبيل التحدث بالنعمة «يا عمر أتدري من أنا؟ أنا اسمي في التوراة أحيد، وفي الإنجيل البارقليط، وفي الزبور حمياطا، وفي صحف إبراهيم طاب طاب ولا فخر».
وذكر صاحب كتاب (شفاء الصدور) في مختصره أن من فضائله ما رواه مقاتل بن سليمان قال: وجدت مكتوبا في زبور داود. إني أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي، ووصف في مزامير داود بأنه يقوي الضعيف الذي لا ناصر له، ويرحم المساكين ويبارك عليه في كل وقت، ويدوم ذكره إلى الأبد. وبالجبار، ففيها تقلد أيها الجبار سيفك.
فإن قيل: قال الله تعالى: {وما أنت عليهم بجبار}. أجيب بأن الأول هو الذي يجبر الخلق إلى الحق. والثاني هو المتكبر. وفيها: يا داود سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا لا أغضب عليه أبدا، ولا يعصيني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر: أي على فرض وقوع ذلك الذنب، والمراد به خلاف الأولى من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين: أي ما يعد حسنة بالنسبة لمقام الأبرار قد يعدّ سيئة بالنسبة لمقام المقربين، لعلوّ مقامهم وارتفاع شأنهم وأمته مرحومة، يأتون يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء.
وفي بعض مزامير داود: إن الله أظهر من صهيون إكليلا محمودا، وصهيون: اسم مكة. والإكليل: الإمام الرئيس وهو محمد.
وفي صحف شيث: أخو ناخ، ومعناه صحيح الإسلام، وهذا يدل على أن مزامير داود نسخة مختلفة بالزيادة والنقص.
وفي صحف إبراهيم اسمه يوذموذ. وقيل إن ذلك في التوراة، ولا مانع من وجوده فيهما. وتقدم أنه في صحف إبراهيم اسمه طاب طاب، ولا مانع من وجود الوصفين في تلك الصحف.
وفي كتاب شعيب ﵇: عبدي الذي يثبت شأنه، أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي، لا يضحك: أي مع رفع الصوت، ومن ثم قال: ولا يسمع صوته في الأصوات، لأن ضحكه كان التبسم، يفتح العيون العور والآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيته لا أعطيه أحدا. وفيه أيضا مشقح بالشين المعجمة والقاف والحاء المهملة: أي زاهي، يحمد الله حمدا جديدا، أي مخترعا لم يسبقه إليه أحد، يأتي من أقصى الأرض، لعل المراد به مكة، به تفرح البرية وسكانه، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ، سلطانه على كتفه. وذكر البرية وسكانها إشارة لدولة العرب، والمراد بسلطانه على كتفه خاتم النبوة لأنه علامة وبرهان على نبوته.
أي وذكر ابن ظفر أن في بعض كتب الله المنزلة: إني باعث رسولا من الأميين، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل الحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والإسلام ملته، أرفع به من الوضيعة، وأهدي به من الضلالة، وأؤلف به بين قلوب متفرقة وأهواء مختلفة، وأجعل أمته خير الأمم.
وأما ما جاء مما يدل على وجود اسمه الشريف أعني لفظ محمد مكتوبا في الأحجار والنبات والحيوان وغير ذلك بقلم القدرة فكثير.
من ذلك ما جاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله» قال: المراد فص خاتمه.
فعن عبادة بن الصامت مرفوعا: «إن فص خاتم سليمان بن داود كان سماويا: أي من السماء، ألقي إليه فوضعه في خاتمه» أي وكان به انتظام ملكه، وكان نقشه «أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي» وحينئذ يكون ما تقدم عن جابر وما يأتي يجوز أن يكون روي بالمعنى. وكان ينزعه إذا دخل الخلاء وإذا جامع، وكان عند نزعه يتنكر عليه أمر الناس ولم يجد من نفسه ما كان يجده قبل نزعه.
وفي (أنس الجليل) «كان نقش خاتم سليمان لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبده ورسوله» ووجد على بعض الحجارة القديمة مكتوب: محمد تقي مصلح، وسيد أمين. وفي جامع مدينة قرطبة بالمغرب عمود أحمر مكتوب فيه بقلم القدرة «محمد».
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، قال وكيف عرفت محمدا» وفي لفظ كما في (الوفاء) وما محمد ومن محمد؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد لما خلقتك» أي وفي لفظ كما في (الشفاء) «قال آدم لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله تعالى إليه، وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك، ولولاه ما خلقتك».
وفي الوفاء، عن ميسرة «قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا. قال: لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب اسمي، أي موصوفا بالنبوة أو بما هو أخص منها وهو الرسالة على ما هو المشهور، على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وآدم بين الروح والجسد ـ أي قبل أن تدخل الروح جسده ـ فلما أحياه الله نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه» أي فقد وصف بالنبوة قبل وجود آدم.
وفيه أيضا عن سعيد بن جبير اختصم ولد آدم أيّ الخلق أكرم على الله تعالى؟ فقال بعضهم: آدم خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته. وقال آخرون: بل الملائكة لأنهم لم يعصوا الله ، فذكروا ذلك لآدم، فقال: لما نفخ في الروح لم تبلغ قدميّ حتى استويت جالسا فبرق إلى العرش فنظرت فيه محمد رسول الله فذاك أكرم الخلق على الله . قيل وكان يكنى آدم بأبي محمد وبأبي البشر، وظاهره أنه كان يكنى بذلك في الدنيا، وتقدم أنه يكنى بأبي محمد في الجنة.
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا ، قال لكعب الأحبار : أخبرنا عن فضائل رسول الله ﷺ قبل مولده، قال: نعم يا أمير المؤمنين. قرأت أن إبراهيم الخليل وجد حجرا مكتوبا عليه أربعة أسطر الأول: أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني. والثاني: أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي، طوبى لمن آمن به واتبعه. والثالث: أنا الله لا إله إلا أنا الحرم لي، والكعبة بيتي من دخل بيتي أمن من عذابي، ولينظر الرابع.
أي وذكر بعضهم أن في سنة أربع وخمسين وأربعمائة عصفت ريح شديدة بخراسان كريح عاد انقلب منها الجبال وفرت منها الوحوش، فظن الناس أن القيامة قد مات، وابتهلوا إلى الله تعالى، فنظروا فإذا نور عظيم قد نزل من السماء على جبل من تلك الجبال ثم تأملوا الوحوش؟ فإذا هي منصرفة إلى ذلك الجبل الذي سقط فيه ذلك النور، فساروا معها إليه فوجدوا به صخرة طولها ذراع في عرض ثلاثة أصابع وفيها ثلاثة أسطر. سطر فيه {لا إله إلا أنا فاعبدون}. وسطر فيه محمد رسول الله القرشي. وسطر ثالث، فيه احذروا وقعة المغرب فإنها تكون من سبعة أو تسعة. والقيامة قد أزفت أي قربت.
وجاء أن آدم قال: طفت السموات فلم أر في السموات موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، ولم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوب عليه، ولقد رأيت اسمه على نحور الحور العين وورق آجام أي ورق قص آجام الجنة، وشجرة طوبى، وسدرة المنتهى والحجب، وبين أعين الملائكة، وهذا الحديث قد حكم بعض الحفاظ بوضعه.
أي وقد قيل: إن أول شيء كتب القلم في اللوح المحفوظ: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي وشكر على نعمائي، ورضي بحكمي، كتبته صديقا، وبعثته يوم القيامة من الصديقين. وفي رواية: مكتوب في صدر اللوح المحفوظ: لا إله إلا الله، دينه الإسلام محمد عبده ورسوله، فمن آمن بهذا أدخله الله الجنة.
وفي رواية «لما أمر الله القلم أن يكتب ما كان وما يكون كتب على سرادق العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله» يتأمل هذا فإنه إن كان المراد كما هو المتبادر أن القلم لما أمر أن يكتب ما ذكر كان أول شيء كتبه على سرادق العرش ما ذكر ثم تمم كتابة ما أمر به على ذلك كما كتب أول ما ذكر البسملة في اللوح المحفوظ ثم تمم كتابة ما أمر به يلزم أن يكون القلم كتب ما كان وما يكون في اللوح وعلى سرادق العرش.
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا عن النبي: «إن آدم قال: وجدت اسم محمد على ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى: أي وعلى ورق قصب آجام الجنة، ومن ثم قال السيوطي في الخصائص الكبرى: من خصائصه كتابة اسمه الشريف مع اسم الله تعالى على العرش. وفيها: ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن» ومكتوب اسمه على سائر ما في الملكوت: أي من السموات والجنان وما فيهن.
وفي (الخصائص الصغرى) له أيضا: ومن خصائصه كتابة اسمه الشريف على العرش وكل سماء والجنان وما فيها وسائر ما في الملكوت.
أقول: ولا يخالف هذا: أي ما تقدم عن آدم ما جاء على تقدير صحته أن آدم لما نزل إلى الأرض استوحش فنزل جبريل ﵇ فنادى بالأذان: الله أكبر الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، قال آدم: من محمد؟ قال جبريل: هو آخر ولدك من الأنبياء لجواز أن يكون آدم ﵇ أراد أن يستثبت هل هو محمد الذي رأى اسمه مكتوبا وأخبر بأنه آخر الأنبياء من ذريته، وأنه لولاه ما خلقه واستشفع به أو غيره فليتأمل. وإنما قلنا على تقدير صحته لأنه سيأتي في بدء الأذان أن في سند هذا الحديث مجاهيل.
وذكر صاحب كتاب (شفاء الصدورّ) في مختصره عن علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ عن الله أنه قال: «يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي، ولا رفعت هذه الخضراء، ولا بسطت هذه الغبراء». وفي رواية عنه «ولا خلقت سماءً ولا أرضا ولا طولا ولا عرضا».
وبهذا يرد على من رد على القائل في مدحه:
لولاه ما كان لا فلك ولا فلك ** كلا ولا بان تحريم وتحليل
بأن قوله لولاه ما كان لا فلك ولا فلك مثل هذا يحتاج إلى دليل، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على ذلك، فيقال له: بل جاء في السنة ما يدل على ذلك، والله أعلم.
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: غزونا الهند فوقعت في غيضة فإذا فيها شجر عليه ورق أحمر مكتوب عليه بالبياض: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وعن بعضهم: رأيت في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب عليه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله تعالى بقدرته، في الورقة ثلاثة أسطر: الأول لا إله إلا الله، والثاني محمد رسول الله، والثالث إن الدين عند الله الإسلام.
وعن بعض آخر قال: دخلت بلاد الهند فرأيت في بعض قراها شجر ورد أسود ينفتح عن وردة كبيرة سوداء طيبة الرائحة مكتوب عليها بخط أبيض: لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق. عمر الفاروق، فشككت في ذلك وقلت إنه معمول، فعمدت إلى وردة كبيرة لم تفتح فرأيت فيها كما رأيت في سائر الورق وفي البلد منها شيء كثير، وأهل تلك البلد يعبدون الحجارة.
ونقل ابن مرزوق في شرح البردة عن بعضهم قال: عصفت بنا ريح ونحن في لجج بحر الهند فأرسينا في جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر ذكي الرائحة مكتوب عليه بالأصفر: براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات النعيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال: رأيت في بلاد الهند شجرة تحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران، فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية، مكتوب عليها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله كتابة جلية، وهم يتبركون بتلك الشجرة، ويستسقون بها إذا منعوا الغيث. هذا وفي (مزيل الخفاء) الاقتصار على لا إله إلا الله: أي وحينئذ لا يكون شاهدا على ما ذكرنا.
أي ومن ذلك ما حكاه الحافظ السلفي عن بعضهم أن شجرة ببعض البلاد لها أوراق خضر، وعلى كل ورقة مكتوب بخط أشد خضرة من لون الورق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان أهل تلك البلاد أهل أوثان، وكانوا يقطعونها ويبقون أثرها فترجع إلى ما كانت عليه في أقرب وقت، فأذابوا الرصاص وجعلوه في أصلها. فخرج من حول الرصاص أربع فروع على كل فرع لا إله إلا الله محمد رسول الله، فصاروا يتبركون ويستشفون بها من المرض إذا اشتد ويخلقونها بالزعفران وأجلّ الطيب.
ومن ذلك أنه وجد في سنة سبع أو تسع وثمانمائة حبة عنب، فيها بخط بارع، بلون أسود «محمد».
ومن ذلك ما ذكره بعضهم أنه اصطاد سمة مكتوب على جنبها الأيمن: لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر: محمد رسول الله، قال: فلما رأيتها ألقيتها في النهر احتراما لها.
وعن بعض آخر قال: ركبت بحر الغرب ومعنا غلام معه سنارة فأدلاها في البحر فاصطاد سمكة قدر شبر بيضاء، فنظرنا فإذا مكتوب بالأسود على أذنها الواحدة: لا إله إلا الله، وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى: محمد رسول الله فقذفناها.
وعن بعضهم أنه ظهرت له سمكة بيضاء، وإذا على قفاها مكتوب بالأسود: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وعن ابن عباس قال: «كنا عند رسول الله ﷺ وإذا بطائر في فمه لوزة خضراء فألقاها فأخذها النبي ﷺ فوجد فيها دودة خضراء مكتوب عليها بالأصفر: لا إله إلا الله محمد رسول الله». ومن ذلك ما حكاه بعضهم أنه كان بطبرستان قوم يقولون لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا يقرّون لمحمد بالرسالة، وحصل منهم افتتان؟ ففي يوم شديد الحر ظهرت سحابة شديدة البياض، فلم تزل تنشأ حتى أخذت ما بين الخافقين، وأحالت بين السماء والبلد، فلما كان وقت الزوال ظهر في السحابة بخط واضح: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلم تزل كذلك إلى وقت العصر، فتاب كل من كان افتتن، وأسلم أكثر من كان بالبلد من اليهود والنصارى.
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب قال: بلغني في قول الله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} قال: كان لوحا من ذهب. وقيل لوح من رخام مكتوب فيه: عجبا لمن أيقن بالموت: أي بأنه يموت كيف يفرح، عجبا لمن أيقن بالحساب: أي أنه يحاسب كيف يغفل، عجبا لمن أيقن بالقضاء: أي أن الأمور بالقضاء والقدر كيف يحزن، عجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وروى البيهقي وغيره عن علي بن أبي طالب أن الكنز الذي ذكره الله تعالى في كتابة لوح من ذهب، فيه بسم الله الرحمن الرحيم: عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب أي يتعب. عجبت لمن ذكر النار ثم يضحك. عجبت لمن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي لفظ: لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي.
وفي تفسير القاضي البيضاوي: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق: أي أن الله رازقه كيف ينصب أي يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أقول: قد يقال يجوز أن يكون ما ذكر أولا في أحد وجهي ذلك اللوح، وما ذكر ثانيا في الوجه الثاني، أو أن بعض الرواة زاد، وبعضهم نقص، وبعضهم روى بالمعنى وحفظ ذلك الكنز لأجل صلاح أبيهما وكان تاسع أب لهما.
وقد قال محمد بن المنكدر: إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي هو فيها والدويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله وستره.
ويذكر أن بعض العلوية همّ هارون الرشيد بقتله، فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله فقيل له: بماذا دعوت حتى نجاك الله؟ فقال قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي، كذا في العرائس، والله أعلم.
ومن ذلك ما جاء عن جابر قال: «مكتوب بين كتفي آدم محمد رسول الله خاتم النبيين».
أي وذكر بعضهم أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا، على أحد جنبيه مكتوب: لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال: ولد عندي في عام أربعة وسبعين وستمائة جدي أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة، وفيها مكتوب «محمد» بخط في غاية الحسن والبيان.
وما حكاه بعضهم قال: شاهدت ببلدة من بلاد إفريقية بالمغرب رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل، مكتوب بعرق أحمر كتابة مليحة «محمد رسول الله».
وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته في كتابه (لواقح الأنوار القدسية في قواعد السادة الصوفية)، وفي يوم كتابتي لهذا الموضع رأيت علما من أعلام النبوّة، وذلك أن شخصا أتاني برأس خروف شواها وأكلها وأراني فيها مكتوبا بخط إلهيّ على الجبين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق، يهدي به من يشاء، يهدي به من يشاء. قال الشيخ عبد الوهاب: وتكرير ذلك لحكمة، فإن الله لا يسهو، هذا كلامه. وقد يقال: لعل الحكمة التأكيد لعلو مقام الهداية، كيف وهو المجانب لمقام الضلالة والغواية.
وعن الزهري قال: شخصت إلى هشام بن عبد الملك، فلما كنت بالبلقاء رأيت حجرا مكتوبا عليه بالعبرانية، فأرشدت إلى شيخ يقرؤه، فلما قرأه ضحك وقال: أمر عجيب، مكتوب عليه: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله وكتبه موسى بن عمران.
وقد قال محمد بن المنكدر: إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي هو فيها والدويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله وستره.
ويذكر أن بعض العلوية همّ هارون الرشيد بقتله، فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله فقيل له: بماذا دعوت حتى نجاك الله؟ فقال قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي، كذا في العرائس، والله أعلم.
ومن ذلك ما جاء عن جابر قال: «مكتوب بين كتفي آدم محمد رسول الله خاتم النبيين».
أي وذكر بعضهم أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا، على أحد جنبيه مكتوب: لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال: ولد عندي في عام أربعة وسبعين وستمائة جدي أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة، وفيها مكتوب «محمد» بخط في غاية الحسن والبيان.
وما حكاه بعضهم قال: شاهدت ببلدة من بلاد إفريقية بالمغرب رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل، مكتوب بعرق أحمر كتابة مليحة «محمد رسول الله».
وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته في كتابه (لواقح الأنوار القدسية في قواعد السادة الصوفية)، وفي يوم كتابتي لهذا الموضع رأيت علما من أعلام النبوّة، وذلك أن شخصا أتاني برأس خروف شواها وأكلها وأراني فيها مكتوبا بخط إلهيّ على الجبين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق، يهدي به من يشاء، يهدي به من يشاء. قال الشيخ عبد الوهاب: وتكرير ذلك لحكمة، فإن الله لا يسهو، هذا كلامه. وقد يقال: لعل الحكمة التأكيد لعلو مقام الهداية، كيف وهو المجانب لمقام الضلالة والغواية.
وعن الزهري قال: شخصت إلى هشام بن عبد الملك، فلما كنت بالبلقاء رأيت حجرا مكتوبا عليه بالعبرانية، فأرشدت إلى شيخ يقرؤه، فلما قرأه ضحك وقال: أمر عجيب، مكتوب عليه: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله وكتبه موسى بن عمران.