السيرة الحلبية/باب استخفائه وأصحابه في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ودعائه إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه
عن ابن اسحاق أن مدة ما أخفى أمره: أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول {يا أيها المدثّر} ثلاث سنين: أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفي بصلاته من المشركين: أي كما تقدم، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله ﷺ في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحى بعير فشجه، فهو أول دم أهريق في الإسلام، ثم دخل وأصحابه مستخفين في دار الأرقم: أي بعد هذه الواقعة، فإن جماعة أسلموا قبل دخوله دار الأرقم، ودار الأرقم هي المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا، اشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي، ثم أعطاها المهدي للخيزران أم ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد، ولا يعرف امرأة ولدت خليفتين إلا هذه، وولادة جارية عبد الملك بن مروان، فإنها (أم الوليد وسليمان).
وقد روت الخيزران عن زوجها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال: قال رسول الله «من اتقى الله وقاه كل شيء».
فكان وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم، ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين:
أي وهذا السياق يدل على أنه استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة، وأعلن في السنة الرابعة: أي وقيل مدة استخفائه أربع سنين وأعلن في الخامسة. وقيل أقاموا في تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون. وقد يقال الإقامة شهرا مخصوصة بالعدد المذكور، فلا منافاة، وإعلانه كان في الرابعة أو الخامسة بقوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} وبقوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} أي أظهر ما تؤمر به من الشرائع، وادع إلى الله تعالى، ولا تبال بالمشركين، وخوّف بالعقوبة عشيرتك الأقربين وهم بنو هاشم وبنو المطلب: أي وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عبد المطلب بدليل ما يأتي. قال بعضهم: آية {فاصدع بما تؤمر} اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها.
وقال بعضهم: إنما أمر بالصدع لغلبة الرحمة عليه. قال: ذكر بعضهم أنه لما نزل عليه قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} اشتد ذلك على النبي ﷺ وضاق به ذرعا: أي عجز عن احتماله ( ) فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أنه شاك: أي مريض، فدخلن عليه عائدات، فقال: «ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني بقوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} فأريد أن أجمع بني عبد المطلب لأدعوهم إلى الله تعالى، قلن: فادعهم ولا تجعل عبد العزى فيهم، يعنين عمه أبا لهب، فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه، وخرجن من عنده: أي وكني عبد العزى بأبي لهب لجمال وجهه ونضارة لونه كأن وجهه وجبينه ووجنتيه لهب النار: أي خلافا لما زعمه بعضهم أن ولده عقير الأسد أو ولد آخر غيره كان اسمه لهبا.
قال في الإتقان: ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبد العزى أي الصنم، لأنه حرام شرعا، هذا كلامه وفيه أن الحرام وضع ذلك لا استعماله.
وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الاستعمال حرام أيضا إلا أن يشتهر بذلك كما في الأوصاف المنقصة كالأعمش.
وفي كلام القاضي: وإنما كناه والكنية تكرمة أي بالعدول عن الاسم إليها لاشتهاره بكنيته، ولأن اسمه عبد العزى الذي هو الصنم فاستكره ذكره، ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله في الآخرة، فهي كنية تفيد الذم.
فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف، لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها.
قال: فلما أصبح رسول الله ﷺ بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب، فلما أخبرهم بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره، قال: تبا لك، ألهذا جمعتنا: أي وأخذ حجرا ليرميه به، وقال له: ما رأيت أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بأشرّ ما جئتهم به، فسكت رسول الله ﷺ ولم يتكلم في ذلك المجلس انتهى.
أي وفي الإمتاع: أن أبا لهب ظن أنه يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون، فقال له هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك، فتكلم بما تريد واترك الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة، وإن أحق من أخذك وحبسك أسرتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك، فهو أيسر عليك من أن تتب عليك بطون قريش وتمدها العرب، فما رأيت يا بن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به، وعند ذلك أنزل الله تعالى {تبت} أي خسرت وهلكت {يدا أبي لهب وتب} أي خسر وهلك بجملته: أي والمراد بالأول جملته، عبر عنها باليدين مجازا، والمراد به الدعاء، وبالثاني الخبر على حد قولهم: أهلكه الله وقد هلك.
أي ولما قال أبو لهب عند نزول {تبت يدا أبي لهب وتب} إن كان ما يقوله محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي نزل {ما أغنى عنه ماله وما كسب} أي وأولاده، لأن الولد من كسب أبيه: أي وفي رواية وهي في الصحيحين «أنه دعا قريشا فاجتمعوا، فخص وعم فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار: أي وفيه أنه إنما أمر بالإنذار لعشيرته الأقربين، ثم قال: يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، يا صفية عمة محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا» وفي لفظ «لا أملك لكم من الدنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيبا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله: أي لا تبقوا على كفركم اتكالا على قرابتكم مني» فهو حث لهم على صالح الأعمال، وترك الاتكال «غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها» أي أصلها بالدعاء: أي والبلال بالفتح كقطام ما يبل الحلق من الماء أو اللبن، وبل رحمه إذا وصلها، وبلوا أرحامكم: ندّوها بالصلة، وفي الحديث «بلو أرحامكم ولو بالسلام» أي صلوها: أي وقد ذكر أئمتنا ضابط الصلة.
وفي تخصيصه فاطمة من بين بناته مع أنها أصغرهن، وقيل أصغر بناته رقية. وتخصيصه صفية من بين عماته حكمة لا تخفى. ومن الغريب ما في الكشاف من زيادة «يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر».
وعندي أن ذكر عائشة وحفصة بل وفاطمة هنا من خلط بعض الرواة، وأن هذا ذكره بعد ذلك فذكره بعض الرواة هنا، فإن المراد بالإنقاذ من النار الإتيان بالإسلام، بدليل قوله: «إلى أن تقولوا لا إله إلا الله» مع أنه تقدم أن بناته لم يكن كفارا فليتأمل.
ثم مكث أياما ونزول عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى، فجمعهم رسول الله ﷺ ثانيا وخطبهم ثم قال لهم: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا، والله يا بني عبد المطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به؟ إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة » فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب، فإنه قال: يا بني عبد المطلب هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم، فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم، وإن منعتموه قتلتم، فقالت له أخته صفية عمة رسول الله ﷺ : أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك، فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضيء ـ أي أصل ـ عبد المطلب نبي فهو هو، قال: هذا والله الباطل والأماني، وكلام النساء في الحجال، إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم، فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا ثم دعا النبي ﷺ جميع قريش وهو قائم على الصفا، وقال: «إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سنح ـ بالنون والحاء المهملة ـ أي أصل، وفي لفظ: سفح بالفاء والحاء المهملة ـ هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد»، أي وفي لفظ «إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه أتيتم أتيتم».
ومن أمثاله «أنا النذير العريان» أي الذي ظهر صدقه، من قولهم: عري الأمر، إذا ظهر، وقولهم: الحق عار: أي ظاهر، وقيل الذي جرده العدو فأقبل عريانا ينذر بالعدو، وعن عبد الله بن عمر أنه حفظ عن رسول الله ﷺ ألف مثل.
واختلفت الروايات في محل وقوفه. ففي رواية «وقف على الصفا» كما تقدم، وفي رواية «وقف على أضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا يهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد فاجتمعوا إليه، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا» الحديث وفي رواية «صاح على أبي قبيس: يا آل عبد مناف إني نذير» وروي أنه لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} جمع بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون» وفي الإمتاع خمسة وأربعون رجلا وامرأتان، فصنع لهم عليّ طعاما: أي رجل شاة مع مدّ من البر وصاعا من لبن، فقدّمت لهم الجفنة، وقال كلوا بسم الله، فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا حتى نهلوا. وفي رواية «حتى رووا» وفي رواية «قال ادنوا عشرة عشرة فدنا القوم عشرة عشرة، ثم تناول القعب الذي فيه اللبن فجرع منه ثم ناولهم، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة » وفي رواية «يشرب العس من الشراب في مقعد واحد» فقهرهم ذلك، فلما أراد رسول الله ﷺ يتكلم بدره أو لهب بالكلام، فقال: لقد سحركم صاحبكم سحرا عظيما. وفي رواية: محمد، وفي رواية: ما رأينا كالسحر اليوم، فتفرقوا ولم يتكلم رسول الله، فلما كان الغد قال: «يا عليّ عد لنا بمثل ما صنعت بالأمس من الطعام والشراب، قال عليّ: ففعلت، ثم جمعتهم له فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا، ثم قال لهم: يا بني عبد المطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني ـ أي يعاونني ـ على القيام به؟ قال عليّ: أنا يا رسول الله، وأنا أحدثكم سنا وسكت القوم» زاد بعضهم في الرواية «يكن أخي ووزيرا وورثي وخليفتي من بعدي، فلم يجبه أحد منهم، فقام عليّ وقال أنا يا رسول الله، قال اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانيا فصمتوا، فقام عليّ وقال أنا يا رسول الله، فقال: اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثالثا فلم يجبه أحد منهم، فقام عليّ فقال: أنا يا رسول الله، فقال اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي».
قال الإمام أبو العباس بن تيمية أي في الزيادة المذكورة أنها كذب وحديث موضوع من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك، وقد رواه: أي الحديث مع زيادته المذكورة ابن جرير والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه. وقال أحمد: إنه ليس بثقة، عامة أحاديثه بواطيل وقال ابن المديني: كان يضع الحديث، وفي رواية عن عليّ «أن رسول الله ﷺ أمر خديجة فصنعت له طعاما، ثم قال لي ادع لي بني عبد المطلب، فدعوت أربعين رجلا» الحديث، ولا مانع من تكرر فعل ذلك ويجوز أن يكون عليّ فعل ذلك عند خديجة وجاء به إلى بيت أبي طالب، ولعل جمعهم هذا كان متأخرا عن جمعهم مع غيرهم المتقدم ذكره ويشهد له السياق، فعل ذلك حرصا على إسلام أهل بيته، فلما دعا قومه ولم يردوا عليه ولم يجيبوه: أي وفي رواية: صار كفار قريش غير منكرين لما يقول فكان إذ مرّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء، وكان ذلك دأبهم حتى عاب آلهتهم: أي وسفه عقولهم وضلل آباءهم: أي حتى أنه مر يوما وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام، فقال: «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم، فقالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إلى الله فأنزل الله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فتناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم، وجاؤوا إلى أبي طالب وقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وعقولنا، ينسبنا إلى قلة العقل، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله ﷺ يظهر دين الله ويدعو إليه لا يرده عن ذلك شيء، وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
ثم قام النبي يدعو إلى الله ** وفي الكفر شدة وإباء
أمما أشربت قلوبهم الكفـ ** ـر فداء الضلال فيهم عياء
أي ثم قام يدعو جماعاتهم إلى الله تعالى بأن يقولوا لا إله إلا الله حسبما أمر، فقد جاء أن جبريل تبدى له في أحسن صورة وأطيب رائحة وقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أنت رسول الله إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله فدعاهم والحال أن في أهل الكفر قوة تامة وامتناعا عن اتباعه، اختلط الكفر بقلوبهم وتمكن فيها حبه حتى صارت لا تقبل غيره، وبسبب ذلك صار داء الضلال: أي داء هو الضلال فيهم عضال يعيي الأطباء مداواته وحصول شفائه، ثم شري الأمر ـ أي بالشين المعجمة وكسر الراء وفتح المثناة تحت ـ كثر وتزايد وانتشر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا: أي أضمروا العداوة والحقد وأكثرت قريش ذكر رسول الله ﷺ بينها وتذامروا عليه ـ بالذال المعجمة ـ وحض أي حث بعضهم بعضا عليه أي على حربه وعداوته ومقاطعته، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد طلبنا منك أن تنهي ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا: أي عقولنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه، فعظم علي بن أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله، فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله ﷺ أن عمه خاذله وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته، ثم استعبر رسول الله ﷺ: أي حصلت له العبرة التي هي دمع العين فبكى، ثم قام»
فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك وأنشد أبياتا منها:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا وحكمة تخصيص الشمس والقمر بالذكر وجعل الشمس في اليمين والقمر في اليسار لا تخفى، لأن الشمس النير الأعظم واليمين أليق به، والقمر النير الممحو واليسار أليق به وخص النيرين حيث ضرب المثل بهما لأن الذي جاء به نور، قال تعالى: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره}.
ومن غريب التعبير أن رجلا كان عاملا لسيدنا عمر فقال لسيدنا عمر: إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما نجوم فقال له عمر: مع أيهما كنت؟ قال مع القمر، قال: كنت مع الآية الممحوة، اذهب فلا تعمل لي عملا؟ فاتفق أن هذا الرجل كان مع معاوية يوم صفين وقتل ذلك اليوم.
فلما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ﷺ مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالو له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد ـ أي أشد ـ وأقوى فتى في قريش وأحمله، فخذه لك ولدا: أي بأن تتبناه وأسلم إلينا ابن أخيك الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل، فقال لهم أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله لا يكون أبدا: أي وقال أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها ( ) قال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال له أبو طالب: والله ما أنصفوني، ولكن قد أجمعت: أي قصدت خذلاني ومظاهرة القوم: أي معاوتهم عليّ فاصنع ما بدا لك: أي وقد مات عمارة بن الوليد هذا على كفره بأرض الحبشة بعد أن سحر وتوحش وسار في البراري والقفار كما سيأتي. ومات المطعم بن عدي المذكور على كفره أيضا فعند عدم قبول أبي طالب ما أرادوه اشتد الأمر.
ولما رأى أبو طالب من قريش ما رأى دعا بني هاشم، وبني المطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله ﷺ والقيام دونه فأجابوه إلى ذلك، غير أبي لهب فكان من المجاهرين بالظلم لرسول الله ﷺ ولكل من آمن به، وتوالى الأذى من قريش على رسول الله ﷺ وعلى من أسلم معه.
فما وقع لرسول الله ﷺ من الأذية ما حدث به عمه العباس قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال: لله عليّ إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ عنقه، فخرجت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى دخل المسجد، فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم من الحائط، وقرأ {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق} حتى بلغ شأن أبي جهل {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} إلى أن بلغ آخر السورة سجد، فقال إنسان لأبي جهل يا أبا الحكم، هذا محمد قد سجد، فأقبل إليه ثم نكص راجعا، فقيل له في ذلك، فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى، لقد سد أفق السماء عليّ. وفي رواية: رأيت بيني وبينه خندقا من نار، وسيأتي أن قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} إلى آخر السورة نزل في أبي جهل.
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: ذكر أن أبا جهل بن هشام قال يوما لقريش: يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلامكم وسب آبائكم إني أعاهد الله لأجل له يعني النبي ﷺ غدا بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد، فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله ﷺ ينتظره، وغدا رسول الله ﷺ كما كان يغدو إلى الصلاة: أي وكانت قبلته إلى الشام إلى صخرة بيت المقدس، فكان يصلي بين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام على ما تقدم، وقريش جلوس في أنديتهم وهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله ﷺ احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه: أي متغيرا بالصفرة مع الكدرة من الفزع وقد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده: أي بعد أن عالجوا فكه من يده فلم يقدروا كما سيأتي، وقامت إليه رجال من قريش وقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قط، همّ بي أن يأكلني، فلما ذكر ذلك لرسول الله ﷺ قال: «ذاك جبريل لودنا لأخذه» وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله:
وأبو جهل إذ رأى عنق الفحـ ** ـل إليه كأنه العنقاء
أي وأبو جهل الذي هو أشد الأعداء على رسول الله ﷺ وقت أن همّ أن يلقي الحجر عليه وهو ساجد أبصر عنق الفحل وقد برزت إليه كأنه الداهية العظيمة: أي فرجع عن ذلك الرمي بذلك الحجر: أي وفي رواية أن أبا جهل قال: أتت بيني وبينه كخندق من نار. ولا مانع أن يكون وجد الأمرين معا.
وذكر في سبب نزول قوله تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} أي إنا جعلنا أيديهم متصلة بأعناقهم واصلة إلى أذقانهم ملصقة بها، رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها من أقمح البعير رفع رأسه {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} أن الآية الأولى نزلت في أبي جهل لما حمل الحجر ليرضخ به رأس رسول الله ﷺ ورفعه أثبتت يداه إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم فلم يفكوا الحجر من يده إلا بعد تعب شديد. والآية الثانية نزلت في آخر لما رأى ما وقع لأبي جهل قال أنا ألقي هذا الحجر عليه، فذهب إليه، فلما قرب منه عمي بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إليهم فأخبرهم بذلك.
وعن الحكم بن أبي العاص: أي وابنه مروان بن الحكم، أن ابنته قالت له: ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله ﷺ منكم يا بني أمية، فقال لها: لا تلومينا يا بنية إني لا أحدثك إلا ما رأيت، لقد أجمعنا ليلة على اغتياله، فلما رأيناه يصلي ليلا جئنا خلفه فسمعنا صوتا ظننا أنه ما بقي بتهامة جبل إلا تفتت علينا: أي ظننا أنه يتفتت، وأنه يقع علينا، فما عقلنا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى، فلما جاء نهضنا إليه فرأينا الصفا والمروة التصقتا إحداهما على الأخرى، فحالتا بينا وبينه، ويتأمل هذا لأن صلاته إنما تكون عند الكعبة وليست بين الصفا والمروة.
وفي رواية «كان يصلي فجاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا فأنزل الله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} إلى آخر السورة ».
وفي رواية «أنه لما انصرف من صلاته زأره أبو جهل أي انتهره وقال: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله تعالى: {فليدع ناديه سندع الزبانية }» قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله: أي وقال يوما: ولقد لقي النبي ﷺ فقال للنبي: لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم، فأنزل الله تعالى فيه {ذق إنك أنت العزيز الكريم} كذا قاله الواحدي: أي تقول له الزبانية عند إلقائه في النار ما ذكر توبيخا له.
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: لما أنزل الله تعالى سورة {تبت يدا أبي لهب} جاءت امرأة أبي لهب وهي أم جميل واسمها العوراء، وقيل اسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر: أي بكسر الفاء وسكون الهاء حجر يملأ الكف، فيه طول يدق به في الهاون إلى النبي ﷺ ومعه أبو بكر ، فلما رآها قال: يا رسول الله إنها امرأة بذية: أي تأتي بالفحش من القول، فلو قمت لتؤذيك، فقال: «إنها لن تراني» فجاءت فقالت: يا أبا بكر صاحبك هجاني: أي وفي لفظ: ما شأن صاحبك ينشد فيّ الشعر؟ قال لا وما يقول الشعر أي ينشئه. وفي لفظ: لا ورب هذا البيت ما هجاك، والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر: أي لا يحسن إنشاءه، قالت له: أنت عندي تصدق، وانصرفت: أي وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها: أي تعني عبد مناف جدّ أبيها، ومن كان عبد مناف أباه لا ينبغي لأحد أن يتجاسر على ذمه، قلت: يا رسول الله لم لم ترك؟ قال: «لم يزل ملك يسترني بجناحه» أي فقد جاء في رواية أنه قال لأبي بكر: «قل لها: هل ترين عندي أحدا، فسألها أبو بكر، فقالت أتهزأ بي، والله ما أرى عندك أحدا».
أقول: وفي الإمتاع أنها جاءت وهو في المسجد معه أبو بكر وعمر وفي يدها فهر، فلما وقفت على النبي ﷺ أخذ الله على بصرها فلم تره ورأت أبا بكر وعمر، فأقبلت على أبي بكر ، فقالت: أين صاحبك؟ قال وما تصنعين به؟ قالت بلغني أنه هجاني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فمه، فقال عمر : ويحك إنه ليس بشاعر، فقالت إني لا أكلمك يا ابن الخطاب: أي لما تعلمه من شدته، ثم أقبلت على أبي بكر لم تعلمه من لينه وتواضعه، فقالت: والثواقب أي النجوم إنه لشاعر وإني لشاعرة: أي فكما هجاني لأهجونه وانصرفت، فقيل لرسول الله ﷺ إنها لم تراك، فقال إنها لن تراني، جعل بيني وبينها حجاب: أي لأنه قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا} وفي رواية أقبلت ومعها فهران وهي تقول:
مذمما أبينا * ودينه قلينا* وأمره عصينا* فقالت: أين الذي هجاني وهجا زوجي، والله لئن رأيته لأضربن أنثييه بهذين الفهرين. قال أبو بكر: فقلت لها يا أم جميل والله ما هجاك ولا هجا زوجك، قالت: والله ما أنت بكذاب، وإن الناس ليقولون ذلك، ثم ولت ذاهبة، فقلت: يا رسول الله إنها لم ترك. فقال النبي: «حال بيني وبينها جبريل» ولعل مجيئها قد تكرر فلا منافاة بين ما ذكر وكذا ما يأتي، وكما يقال في الحمد محمد يقال في الذم مذمم، لأنه لا يقال ذلك إلا لمن ذم مرة بعد أخرى، كما أن محمدا لا يقال إلا لمن حمد مرة بعد أخرى كما تقدم. وقد جاء «أنه قال: ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما وأنا محمد».
وفي الدر المنثور «أنها أتت رسول الله ﷺ وهو جالس في الملأ، فقالت: يا محمد علام تهجوني؟ قال: إني والله ما هجوتك، ما هجاك إلا الله. قالت: رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد» وهذا مما يؤيد ما قاله بعض المفسرين أن الحطب عبارة عن النميمة، يقال: فلان يحطب عليّ: أي ينمّ، لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة، وتغري زوجها وغيره بعداوته، وتبلغهم عنه أحاديث لتحثهم بها على عداوته، وأن الحبل عبارة عن حبل من نار محكم.
وعن عروة بن الزبير: مسد النار سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا، والله أعلم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
وأعدت حمالة الحطب الفهر وجاءت كأنها الورقاء
ثم جاءت غضبى تقول أفي مثلي من أحمد يقال الهجاء
وتولت وما رأته ومن أين ترى الشمس مقلة عمياء
أي وهيأت حمالة الحطب الفهر، ولقبت بذلك لأنها كانت تحتطب: أي تجمع الحطب وتحمله لبخلها ودناءة نفسها، أو كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريقه. ولا مانع من اجتماع الأوصاف الثلاثة، لكن استفهامها يبعد الوصفين الأخيرين. والفهر الحجر الذي يملأ الكف كما تقدم، لتضرب به النبي ﷺ والحال أنها جاءت في غاية السرعة والعجلة كأنها في شدة السرعة الحمامة الشديدة الإسراع، حالة كونها غضبى من شدة ما سمعت من ذمها في سورة {تبت يدا أبي لهب}، تقول: أفي مثلي وأنا بنت سيد بني عبد شمس يقال الهجاء والسب حالة كونه من أحمد وتولت والحال أنها ما رأته، وكيف ترى الشمس عين عمياء.
أقول: في ينبوع الحياة أنها لما بلغها سورة {تبت يدا أبي لهب} جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي مضطرمة: أي منحرقة غضبى، فقالت له: ويحك يا أخمس: أي يا شجاع أما تغضب أن هجاني محمد، فقال سأكفيك إياه، ثم أخذ سيفه وخرج ثم عاد سريعا فقالت: هل قتلته؟ فقال لها: يا أخية أيسرك أن رأس أخيك في فم الثعبان؟ قالت: لا والله، قال: فقد كان ذلك يكون الساعة. أي فإنه رأى ثعبانا لو قرب منه لالتقم رأسه.
ولما نزلت هذه السورة التي هي {تبت يدا أبي لهب} قال أبو لهب لابنه عتبة أي بالتكبير فإنه أسلم يوم الفتح كما سيأتي: رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد، يعني رقية فإنه كان تزوّجها ولم يدخل بها ففارقها ووقع في كلام بعضهم طلقها لما أسلم فليتأمل.
وكان أخوه عتيبة بالتصغير متزوّجا ابنته أم كلثوم، ويدخل بها. فقال: أي وقد أراد الذهاب إلى الشام: لآتين محمدا فلأوذينه في ربه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم: أي وفي لفظ برب النجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم بصق في وجه النبي ﷺ وردّ عليه ابنته وطلقها، فقال النبي: «اللهم سلط» وفي رواية «اللهم ابعث عليه كلبا من كلابك» وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها أبو طالب. وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتيبة إلى أبيه أبي لهب فأخبره بذلك، ثم خرج هو وأبوه إلى الشام في جماعة، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير. فقال لهم: إن هذه الأرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه إنكم قد عرفتم نسبي وحقي، فقالوا أجل يا أبا لهب. فقال أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فأجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا لابني عليه ثم افرشوا حوله، ففعلوا ثم جمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله. وفي رواية «فضخ رأسه» وفي رواية «ثنى ذنبه ووثب وضربه بذنبه ضربة واحدة فخدشه فمات مكانه» وفي رواية «فضغمه ضغمة فكانت إياها» فقال وهو بآخر رمق ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة ومات، فقال أبوه: قد عرفت والله ما كان ليفلت من دعوة محمد: أقول: وحلفه بالنجم إلى آخره يدل على أن ذلك كان بعد الإسراء والمعراج.
ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق، قيل له: هذا فلان ينشد الناس هجاءكم يعني أهل البيت بالكوفة، فقال لذلك القائل: هل علقت من قوله بشيء؟ قال نعم قال فأنشد:
صلبنا لكم زيدا علة رأس نخلة ** ولم أر مهديا على الجذع يصلب
وقستم بعثمان عليا سفاهة ** وعثمان خير من عليّ وأطيب
فعند ذلك رفع جعفر يديه، وقال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك، فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد، وإنما سمي الأسد كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله. ونم ثم قيل: إن كلب أهل الكهف كان أسدا. وقيل كان رجلا منهم جلس عند الباب طليعة لهم، فسمي باسم الكلب لملازمته للحراسة، ووصف ببسط الذراعين لأن ذلك من صفة الكلب الذي هو الحيوان.
وقد جاء «أنه ليس في الجنة من الحيوان إلا كلب أهل الكهف، وحمار العزير، وناقة صالح» والله أعلم.
ومما وقع لرسول الله ﷺ من الأذية ما حدّث به عبد الله بن مسعود قال: «كنا مع رسول الله ﷺ في المسجد وهو يصلي، وقد نحر جزور وبقي فرثه: أي روثه في كرشه. فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد» أي وفي رواية «قال: قائل: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه» وفي رواية: «أيكم يأخذ سلي جزور بني فلان لجزور ذبحت من يومين أو ثلاثة فيضعه بين كتفيه إذا سجد، فقام شخص من المشركين» وفي لفظ «أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط. وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي ﷺ وهو ساجد: أي فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض أي من شدة الضحك. قال ابن مسعود: فهبنا أي خفنا أن نلقيه عنه » وفي لفظ «وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله، حتى جاءت فاطمة أي بعد أن ذهب إليها إنسان وأخبرها بذلك واستمر ساجدا حتى ألقته عنه، واستمراره في الصلاة عند فقهائنا لعدم علمه بنجاسة ما ألقي عليه، ولما ألقته عنه أقبلت عليهم تشتمهم، فقام النبي ﷺ فسمعته يقول وهو قائم يصلي: اللهم اشدد وطأتك: أي عقابك الشديد، على مضر سنين كسني يوسف. اللهم عليك بأبي الحكم بن هشام، يعنى أبا جهل، وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف. زاد بعضهم: وشيبة بن أبي ربيعة، والوليد بن عتبة » بالمثناة فوق لا بالقاف كما وقع في رواية مسلم.
فقد اتفق العلماء على أنه غلط، لأنه لم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان صغيرا جدا وعمارة بن الوليد: أي وهو المتقدم ذكره الذي أرادوا أن يجعلوه عوضا عنه.
أقول: والذي في المواهب «فلما قضى رسول الله ﷺ الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، ثم سمى، اللهم عليك بعمرو بن هشام» إلى آخر ما تقدم ذكره. وفي الإمتاع: «فلما قضى النبي ﷺ صلاته رفع يديه ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا ثلاثا ثم قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته ذهب منهم الضحك وهابوا دعوته، ثم قال: اللهم عليك بأبي جهل بن هشام» الحديث، وإن ابن مسعود قال: والله لقد رأيتهم، وفي رواية: رأيت الذي سمى رسول الله ﷺ صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر.
واعترض بأن عمارة بن الوليد مات بالحبشة كافرا كما تقدم ويأتي، وبأن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر وإنما أخذ أسيرا منها وقتل بعرق الظبية كما سيأتي، وبأن أمية بن خلف لم يطرح بالقليب وأجيب بأن قول ابن مسعود: رأيتهم أي رأيت أكثرهم.
وقد يقال: لا مانع أن يكون أتى بهذا الدعاء وهو قائم يصلي، وبعد الفراغ من الصلاة فلا منافاة والله أعلم.
والمراد بسني يوسف بتخفيف الياء، ويروى سنين باثبات النون مع الإضافة: القحط والجدب: أي فاستجاب الله دعاءه، فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم، أي يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع، وجاءه جمع من المشركين فيهم أبو سفيان، قالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم «فدعا رسول الله ﷺ فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، فشكا الناس كثرة المطر فقال: اللهم حوالينا ولا علينا. فانحدرت السحابة ».
وجاء أنهم {قالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} أي لا نعود لما كنا عليه، فلما كشف عنهم ذلك عادوا: أي وفيه أن هذا إنما كان بعد الهجرة فسيأتي «أنه مكث شهرا إذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء، وسيأتي ما فيه.
وقد يقال: لا مانع أن يكون حصل لهم ذلك قبل الهجرة وبعد الهجرة مرة أخرى سيأتي الكلام عليها.
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يوافق ذلك حيث قال: قال البيهقي: قد روي في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك كان بعد الهجرة، ولعله كان مرتين، أي وسيأتي في السرايا أن ثمامة لما منع عن قريش الميره أن تأتي من اليمن حصل لهم مثل ذلك وكتبوا في ذلك لرسول الله.
وفي البخاري «لما استعصت قريش على النبي ﷺ دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر» وفي رواية فيه أيضا: لما أبطؤوا على النبي ﷺ بالإسلام قال: اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصت كل شيء» الحديث. وفي رواية «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم} فأتى أبو سفيان رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله استسق لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى فسقوا، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}» يعني يوم بدر.
ومن ذلك ما حدث به عثمان بن عفان قال: «كان رسول الله ﷺ يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس: عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، فمرّ رسول الله ﷺ عليه، فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره، فعرف ذلك في وجه النبي، فدنوت منه حتى وسطته: أي جعلته وسطا، فكان بيني وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي وطفنا جميعا، فلما حاذاهم قال أبو جهل: والله لا نصالحك ما بلّ بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله، أنا ذلك، ثم مشى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك، حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه، أي قاموا له، ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه، فدفعت في صدره فوقع على استه، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله ﷺ عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول الله ﷺ وهو واقف. ثم قال: أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه أي ينزل عليكم عاجلا. قال عثمان: فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذته الرعدة، فجعل رسول الله ﷺ يقول: بئس القوم أنتم لنبيكم، ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته، ثم أقبل علينا بوجهه. فقال: أبشروا، فإن الله مظهر دينه، ومتمم كلمته، وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا، ثم انصرفنا إلى بيوتنا، فوالله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر».
أقول: ولا يخالف ذلك كون عقبة بن أبي معيط حمل أسيرا من بدر وقتل بعرق الظبية صبرا وهم راجعون من بدر، ولا كون عثمان بن عفان لم يحضر بدرا والله أعلم.
وفي رواية «أن عقبة بن أبي معيط وطىء على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان».
أي وفي رواية «دخل عقبة بن أبي معيط الحجر فوجده يصلي فيه فوضع ثوبه على عنقه وخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله ﷺ وقال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم}.
أي وفي البخاري عن عروة بن الزبير قال: «قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله؟ قال: بينما رسول الله ﷺ يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ﷺ ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفع عن رسول الله » الحديث، ولعل أشدية ذلك باعتبار ما بلغ عبد الله بن عمرو أو ما رآه.
وعنه قال: «ما رأيت قريشا أصابت من عداوة أحد ما أصابت من عداوة رسول الله، ولقد حضرتهم يوما وقد اجتمع ساداتهم وكبراؤهم في الحجر، فذكروا رسول الله ﷺ فقالوا: ما صبرنا لأمر كصبرنا لأمر هذا الرجل قط ولقد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله، فأقبل يمشي، حتى استلم الركن ثم مرّ طائفا بالبيت، فلما مر بهم لمزوه ببعض القول فعرفنا ذلك في وجهه ثم مر بهم الثانية فلمزوه بمثلها فعرفنا ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فلمزوه، فوقف عليهم وقال: أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح، فارتعبوا لكلمته تلك، وما بقي رجل منهم إلا كأنما على رأسه طائر واقع، فصاروا يقولون، يا أبا القاسم انصرف، فوالله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله، فلما كان الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منك وما بلغكم عنه حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله ﷺ فتواثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به وهم يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ـ يعني عيب آلهتهم ودينهم ـ فقال نعم: أنا الذي أقول ذلك، فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه ، فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فأطلقه الرجل ووقعت الهيبة في قلوبهم فانصرفوا عنه» فذلك أشد ما رأيتهم نالوا من رسول الله.
وفي رواية «ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا؟ قال بلى، فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له أدرك صاحبك، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، فكفوا عن رسول الله ﷺ فأقبلوا على أبي بكر يضربونه، قالت بنته أسماء: فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا أجابه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام».
وجاء «أنهم جذبوا رأسه ولحيته حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله: أي وهو يبكي، فقال رسول الله ﷺ: دعهم يا أبا بكر، فوالذي نفسي بيده إني بعثت إليهم بالذبح ففرجوا عنه ».
وعن فاطمة قالت: «اجتمعت مشركو قريش في الحجر، فقالوا إذا مر محمد فليضربه كل واحد منا ضربة فسمعت فدخلت على أبي فذكرت ذلك له: أي قالت له وهي تبكي، تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر، فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك فقال: يا بنية اسكتي، وفي لفظ: لا تبكي، ثم خرج أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد، فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم، ثم قال: شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم إلا قتل ببدر».
أي وكان بجواره جماعة منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان وعقبة بن أبي معيط فكانوا يطرحون عليه الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه وخرج به ووقف على بابه ويقول: يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا ثم يلقيه في الطريق، ولم يسلم ممن ذكر إلا الحكم وكان في إسلامه شيء. وتقدم أنه نفاه إلى وج الطائف، وأنه سيأتي السبب في نفيه، وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الأذية له لا يظن ظانّ أنها منقصة له، بل هي رفعة له، ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه، لكثرة صبره وحلمه واحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال: «أشد الناس بلاء الأنبياء» وذلك سنة من سنن النبيين السابقين عليهم الصلاة والسلام بقوله:
لا تخل جانب النبي مضاما ** حين مسته منهم الأسواء
كل أمر ناب النبيين فالشـ ** ـدة فيه محمودة والرخاء
لو يمس النضار هون من النا ** ر لما اختير للنضار الصلاء
أي لا تظن أن النبي ﷺ حصل له الضيم وقت مسته الأذيات حالة كونها صادرة منهم، لأن كل أمر من الأمور العظيمة التي أصابت النبيين فالشدة التي تحصل لهم منه محمودة، لأنها لرفع الدرجات، والضيقة التي تحصل لهم أيضا محمودة، لأنه لو كان يمس الذهب هوان من إدخاله النار لما اختير له العرض على النار، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالذهب والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب، فإن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسنا، فكذلك الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة.
قال: ومما وقع لأبي بكر من الأذية، ما ذكره بعضهم «أن رسول الله ﷺ لما دخل دار الأرقم ليعبد الله تعالى ومن معه من أصحابه فيها سرا أي كما تقدم، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألحَّ أبو بكر على رسول الله ﷺ في الظهور ـ أي الخروج إلى المسجد ـ فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم يزل به حتى خرج رسول الله ﷺ ومن معه من أصحابه إلى المسجد، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله ﷺ جالس ودعا إلى الله ورسوله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا، ووطىء أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين، أي مطبقتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب إلى أن أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، أي ثم رجعوا فدخلوا المسجد، فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب، حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال: ما فعل رسول الله، فعذلوه، فصار يكرر ذلك، فقالت أمه والله ما لي علم بصاحبك، فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب: أي فإنها كانت أسلمت كما تقدم، وهي تخفي إسلامها فأسأليها عنه، فخرجت إليها وقالت لها، إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبد الله، فقالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر، ثم قالت لها: تريدين أن أخرج معك؟ قالت نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعا، فصاحت وقالت إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم، فقال لها أبو بكر، ما فعل رسول الله؟ فقالت له: هذه أمك تسمع، قال: فلا عين عليك منها، أي أنمها لا تفشي سرك، قالت سالم، فقال: أين هو؟ فقالت في دار الأرقم، فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله، قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس فخرجنا به يتكىء عليّ حتى دخل على رسول الله، فرق له رقة شديدة، وأكب عليه يقبله، وأكب عليه المسلمون كذلك، فقال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، فعسى الله أن ينقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله ﷺ ودعاها إلى الإسلام فأسلمت انتهى.
هذا، وذكر الزمخشري في كتابه خصائص العشرة أن هذه الواقعة حصلت لأبي بكر لما أسلم وأخبر قريشا بإسلامه فليتأمل، فإنّ تعدد الواقعة بعيد.
ومما وقع لابن مسعود من الأذية أن أصحاب رسول الله ﷺ اجتمعوا يوما، فقال: والله ما سمعت قريش القرآن جهرا إلا من رسول الله، فمن فيكم يسمعهم القرآن جهرا؟ فقال عبد الله بن مسعود ، أنا فقالوا نخشى عليك منهم، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم، فقال: دعوني فإن الله سيمنعني منهم. ثم إنه قام عند المقام وقت الشمس وقريش في أنديتهم فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم} رافعا صوته {الرحمن علم القرآن} واستمر فيها فتأملته قريش، وقالوا ما بال ابن أم عبد، فقال بعضهم: يتلو بعض ما جاء به محمد ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءته حتى قرأ غالب السورة، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه، فقال له أصحابه: هذا الذي خشينا عليكم منه فقال: والله ما رأيت أعداء الله أهون عليّ مثل اليوم، ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غدا، قالوا لا قد أسمعتهم ما يكرهون.
ومما وقع له من الأذية، أنه كان إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من يمينه وجماعة عن يساره ويصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، لأنهم تواصوا {وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} حتى كان من أراد منهم سماع القرآن أتى خفية واسترق السمع خوفا منهم.
ومما وقع له من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة ، وهو ما حدث به ابن إسحاق قال: حدثني به رجل من أسلم أن أبا جهل مر برسول الله ﷺ عند الصفا: أي وقيل عند الحجون، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهه: أي وقيل إنه صب التراب على رأسه: أي وقيل ألقى عليه فرثا ووطىء برجله على عاتقه، فلم يكلمه رسول الله ﷺ ومولاة لعبد الله بن جدعان في سكن لها تسمع ذلك وتبصره، ثم انصرف أبو جهل إلى نادي قريش: أي محل تحدثهم في المسجد فجلس معهم، فلم يلبث حمزة أن أقبل متوحشا بسيفه راجعا من قنصه: أي من صيده، وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت، فمرّ على تلك المولاة، فأخبرته الخبر: أي فقالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، تعني أبا جهل، وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد: أي وقيل الذي أخبرته مولاة أخته صفية بنت عبد المطلب، قالت له: إنه صب التراب على رأسه، وألقى عليه فرثا، ووطىء برجله على عاتقه. وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان في النهر، فقال لها حمزة: أنت رأيت هذا الذي تقولين؟ قالت نعم.
وفي رواية فلما رجع حمزة من صيده إذا امرأتان تمشيان خلفه، فقالت إحداهما: لو علم ماذا صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته، فالتفت إليهما فقال: ما ذاك؟ قالت أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا. ولا مانع من تعدد الأخبار من المرأتين والمولاتين فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد، فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه رفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد عليّ ذلك إن استطعت.
أي وفي لفظ: أن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول: سفه عقولنا وسب آلهتنا، وخالف آباءنا قال ومن سفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقامت رجال من بني مخزوم: أي من عشيرة أبي جهل إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقالوا: ما نراك إلا قد صبأت، فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه، أنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقوله حق، والله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا عمارة: أي ويكنى أيضا بأبي يعلى اسم ولد له أيضا فإني والله لقد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا، وتم حمزة على إسلامه: أي استمر، أي بعد أن وسوس له الشيطان، فقال لنفسه لما رجع إلى بيته أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك؟ الموت خير لك مما صنعت، ثم قال: اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة، ثم لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله، فقال: يا بن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غيّ شديد فأقبل عليه رسول الله ﷺ فذكره ووعظه وخوفه وبشره، فألقى الله تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول الله، فقال: أشهد أنك لصادق، فأظهر يا ابن أخي دينك ( ).
وقد قال ابن عباس : إن هذه الواقعة سبب لنزول قوله تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} يعني حمزة {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} يعني أبا جهل، وسر رسول الله ﷺ بإسلام حمزة سرورا كبيرا لأنه كان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة: أي أعظمهم في عزة النفس وشهامتها، ومن ثمّ لما عرفت قريش أن رسول الله ﷺ قد عزّ كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه، وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم الذين لا جوار لهم: أي لا ناصر لهم، فإن كل قبيلة غدت على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه () بالحبس والضرب، والجوع والعطش، وغير ذلك: أي حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي به، وكان أبو جهل يحرضهم على ذلك، وكان إذا سمع بأن رجلا أسلم وله شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له: ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك، وإن كان تاجرا قال: والله لتكسدنّ تجارتك ويهلك مالك، وإن كان ضعيفا أغرى به () حتى أن منهم من فتن عن دينه ورجع إلى الشرك، كالحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج، وكل هؤلاء قتلوا على كفرهم يوم بدر.
وممن فتن عن دينه وثبت عليه ولم يرجع للكفر بلال وكان مملوكا لأمية بن خلف، فعن بعضهم أن بلالا كان يجعل في عنقه حبل يدفع إلى الصبيان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول «أحد، أحد» بالرفع والتنوين أو بغير تنوين: أي الله أحد أو يا أحد، فهو إشارة لعدم الإشراك، وقد أثر الحبل في عنقه.
وعن ابن إسحاق أن أمية بن خلف كان يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه يوما وليلة فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال هكذا، حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول أحد أحد: أي أنا لا أشرك بالله شيئا، أنا كافر باللات والعزى.
أي وقيل كان بلال مولدا من مولدي مكة، وكان لعبد الله بن جدعان التيمي وكان من جملة مائة مملوك مولدة له، فلما بعث الله تعالى نبيه أمر بهم فأخرجوا من مكة: أي خوف إسلامهم، فأخرجوا إلا بلالا فإنه كان يرعى غنمه، فأسلم بلال وكتم إسلامه فسلح بلال يوما على الأصنام التي حول الكعبة.
ويقال إنه صار يبصق عليها ويقول خاب وخسر من عبدكنّ، فشعرت به قريش فشكوه إلى عبد الله وقالوا له أصبوت؟ قال ومثلي يقال له هذا، فقالوا له إن أسودك صنع كذا وكذا فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكنهم من تعذيب بلال، فكانوا يعذبونه بما تقدم، أي ويجوز أن يكون ابن جدعان بعد ذلك ملكه لأمية بن خلف. فلا يخالفه ما تقدم من أن أمية بن خلف كان يتولى تعذيبه، وما يأتي من أنا أبا بكر اشتراه منه. ويقال إنه مر عليه وهو يعذب فقال سينجيك أحد أحد.
أي وقيل مر عليه ورقة بن نوفل، وهو يقول أحد أحد فقال نعم أحد أحد والله يا بلال، ثم أتى إلى أمية، وقال له: والله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما، لأنه من أهل الجنة، وتقدم أن هذا يدل على أن ورقة أدرك البعثة التي هي الرسالة، وتقدم ما فيه، فكان بلال بقوله أحد أحد يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان.
وقد وقع له أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه، فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء.
وقد ذكر بعضهم أن هذا قاله أبو موسى الأشعري، ومن معه لما وفدوا عليه وهو في خيبر: أي صاروا يقولون: غدا نلقى الأحبة، محمدا وحزبه.
ومر به أبو بكر يوما وهو ملقى على ظهره في الرمضاء، وعلى ظهره تلك الصخرة، فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين؟ حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر: عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى: أي على دينك، أعطيكه به؟ قال: قبلت، قال: هو لك، فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه.
وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق في بلال حين قال أتبيعنيه؟ قال: نعم أبيعه بقسطاس، يعني عبدا لأبي بكر ، كان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا يأبى الإسلام، فاشتراه أبو بكر به، هذا كلامه.
وفي الإمتاع: لما ساوم أبو بكر أمية بن خلف في بلال، قال أمية لأصحابه: لألعبن بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد بأحد، ثم تضاحك وقال له: أعطني عبدك قسطاس، فقال أبو بكر: إن فعلت تفعل؟ قال نعم. قال: قد فعلت، فتضاحك، وقال لا والله حتى تعطيني معه امرأته، قال: إن فعلت تفعل؟ قال نعم، قال: قد فعلت ذلك، فتضاحك وقال: لا والله حتى تعطيني ابنته مع امرأته، قال: إن فعلت تفعل؟ قال نعم، قال: قد فعلت ذلك، فتضاحك وقال: لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار، فقال أبو بكر : أنت رجل لا تستحيي من الكذب، قال: لا واللات والعزى لأن أعطيتني لأفعلنّ، فقال: هي لك، فأخذه، هذا كلامه.
وقيل اشتراه بتسع. وقيل بخمس أواق، أي ذهبا: أي وقيل ببردة وعشرة أواق من فضة، وفي رواية برطل من ذهب.
ويروى أن سيده قال لأبي بكر: لو أبيت إلا أوقية أي لو قلت لا أشتريه إلا بأوقية لبعناكه، فقال: لو طلبت مائة أوقية لأخذته بها.
ولما قال المشركون: إنما أعتق أبو بكر بلالا ليد كانت له عنده فيكافئه بها أنزل الله تعالى {والليل إذا يغشى} السورة، فالأتقى أبو بكر ، والأشقى أمية بن خلف.
قال الإمام فخر الدين، أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر. وذهب الشيعة إلى أن المراد به عليّ وكرم وجهه. ويرده وصف الأتقى بقوله تعالى: {وما لأحد من نعمة تجزى} لأن هذا الوصف لا يصدق على عليّ ، لأنه كان في تربية النبي ﷺ أي كما تقدم، فكان منعما عليه نعمة يجب عليه جزاؤها: أي نعمة دنيوية، لأنها التي يجازى عليها، بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له عليه نعمة دنيوية، وإنما كان له نعمة الهداية وهي نعمة لا يجازى عليها. قال الله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا} فتعين حمل الآية على أبي بكر ، فيلزم من ذلك أن يكون أبو بكر بعد رسول الله، وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق، لأن الله تعالى يقول: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} والأكرم هو الأفضل، وبين ذلك الفخر الرازي بأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد النبي ﷺ إما أبو بكر وإما علي، فلا يمكن حمل الآية على عليّ لما تقدم، فتعين حملها على أبي بكر.
وذكر بعض أهل المعاني: أي المبينين لمعاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي، فأوقع أفعل التفضيل موضع فعيل، فهو عام في أمية بن خلف وأبي بكر وغيرهما وإن كان السبب خاصا، والذي بخل واستغنى المراد به أبو سفيان، لأنه كان عاتب أبا بكر في إنعامه وإعتاقه وقال له أضعت مالك والله لا تصيبه أبدا، وقيل المراد به أمية بن خلف.
ولما بلغ النبي ﷺ أن أبا بكر اشترى بلالا قال له الشركة يا أبا بكر، فقال: قد أعتقته يا رسول الله: أي لأن بلالا قال لأبي بكر حين اشتراه: إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني لله فأعتقه.
هذا، وذكر «أن النبي ﷺ لقي أبا بكر ، فقال لو كان عندنا مال اشتريت بلالا، فانطلق العباس فاشتراه فبعث به إلى أبي بكر: أي ملكه له فأعتقه» فليتأمل الجمع بين هذا وما تقدم.
وقد اشترى أبو بكر جماعة آخرين ممن كان يعذب في الله، منهم حمامة أم بلال. ومنهم عامر بن فهيرة، فإنه كان يعذب في الله تعالى حتى لا يدري ما يقول، وكان لرجل من بني تيم من ذوي قرابة أبي بكر . ومنهم أبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية، أسلم حين أسلم بلال، فمر به أبو بكر وقد أخذه أمية أبو صفوان وأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء، فوضع على بطنه صخرة، فخرج لسانه وأخو أمية يقول له زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره فاشتراه أبو بكر . ومنهم امرأة وهي زنيرة بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة، وهي في اللغة الحصاة الصغيرة، عذبت في الله تعالى حتى عميت، قال لها يوما أبو جهل: إن اللات والعزى فعلا بك ما ترين، فقالت له: كلا والله لا تملك اللات والعزى نفعا ولا ضرا، هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد عليّ بصري، فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله تعالى عليها بصرها، فقالت قريش: إن هذا من سحر محمد، فاشتراها أبو بكر وأعتقها، أي وكذا ابنتها.
وفي السيرة الشامية أم عنيس بالنون أو الباء الموحدة فمثناة تحتية فسين مهملة، أمة لبني زهرة، كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ولم يصفها بأنها بنت زنيرة، فاشتراها أبو بكر وأعتقها. وكذا النهدية وابنتها، وكانتا للوليد بن المغيرة. وكذا امرأة يقال لها لطيفة. وكذا أخت عامر بن فهيرة أو أمه، كانت لعمر بن الخطاب قبل أن يسلم.
فقد جاء أن أبا بكر مر على عمر بن الخطاب وهو يعذب جارية أسلمت استمر يضربها حتى ملّ قبل أن يسلم، ثم قال لها: إني أعتذر إليك فإني لم أتركك حتى مليت، فقالت له كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم، فاشتراها منه وأعتقها.
وفي السيرة الشامية وصفها بأنها جارية بني المؤمل بن حبيب، وكان يقال لها لبينة، فجملة هؤلاء تسعة.
وممن فتن عن دينه فثبت عليه خباب بن الأرتّ بالمثناة فوق، فإنه سبي في الجاهلية فاشترته أم أنمار أي وكان قينا أي حدادا، وكان يألفه ويأتيه، فلما أسلم وأخبرت بذلك مولاته صارت تأخذ الحديدة وقد أحمتها بالنار فتضعها على رأسه، فشكا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: «اللهم انصر خبابا، فاشتكت مولاته رأسها فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها فيكوي رأسها».
وفي البخاري عن خباب قال: «أتيت رسول الله ﷺ وهو متوسد برده في ظل الكعبة » ولقد لقينا يعني معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد محمرا وجهه، فقال: إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه».
قال: وعن خباب أنه حكى عن نفسه، قال: لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ظهري: أي دهنه.
وممن فتن عن دينه فثبت عمار بن ياسر ، كان يعذب بالنار.
وفي كلام ابن الجوزي «كان يمرّ به وهو يعذب بالنار فيمرّ يده على رأسه، ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم» هذا كلامه.
ثم إن عمارا كشف عن ظهره فإذا هو قد برص، أي صار أثر النار أبيض كالبرص، ولعل حصول ذلك كان قبل دعائه بأن النار تكون بردا وسلاما عليه.
وعن أم هانىء أن عمار بن ياسر وأباه ياسرا وأخاه عبد الله، وسمية أم عمار كانوا يعذبون في الله تعالى، فمرّ بهم رسول الله ﷺ فقال: صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة » أي وفي رواية «صبرا يا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت» فمات ياسر في العذاب، وأعطيت سمية لأبي جهل: أي أعطاها له عمه أبو حذيفة بن المغيرة، فإنها كانت مولاته فطعنها في قلبها فماتت: أي بعد أن قال لها: إن آمنت بمحمد إلا لأنك عشقتيه لجماله، ثم طعنها بالحربة في قُبُلها حتى قتلها، فهي أول شهيدة في الإسلام اهـ.
أي وعن بعضهم كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه، ويجعل لعمار درعا من حديد في اليوم الصائف، فنزل قوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}.
وجاء «أن عمار بن ياسر قال لرسول الله ﷺ: لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ، فقال له النبي ﷺ: صبرا أبا اليقظان، ثم قال: اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار».
قال بعضهم: وحضر عمار بدرا ولم يحضرها من أبواه مؤمنان إلا هو: أي من المهاجرين. فلا ينافي أن بشر بن البراء بن معرور الأنصاري حضر بدرا وأبواه مؤمنان.
ومما أوذي به أبو بكر الصديق ما روي عن عائشة ، قالت: «لما ابتلي المسلمون بأذى المشركين: أي وحصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب، وأذن لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد» ( ) بالغين المعجمة موضع بأقاصي هجر، وقيل موضع وراء مكة بخمسة أميال، أي وفي رواية «حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة ـ بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون ـ وهو سيد القارة: أي وهو اسمه الحارث» والقارة: قبيلة مشهورة كان يضرب بهم المثل في قوّة الرمي، ومن ثم قيل لهم: رماة الحدق لا سيما ابن الدغنة. والقارة: أكمة سوداء نزلوا عندها فسموا بها «قال له: أين تريد يا أبا بكر؟ قال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك، فرجع مع ابن الدغنة. فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش، وقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق وهو في جواري؟ فلم تكذب قريش بجواب ابن الدغنة » أي لم يردّ جواره «وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر ، فمكث أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فكانت نساء قريش يزدحمن عليه، فأفزع ذلك كثيرا من أشراف قريش» أي مع المشركين «فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يبعد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناءنا بهذا، فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه في داره فعل، وإن رأى أن يعلن فاسأله أن يردّ إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ـ أي نزيل خفارتك ـ أي ننقض جوارك ونبطل عهدك، فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت: أي أزيلت خفارتي في رجل عقدت له، فقال له أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى، قال: ولما رد جوار ابن الدغنة لقيه بعض سفهاء قريش وهو عابر إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا، فمرّ عليه بعض كبراء قريش من المشركين، فقال له أبو بكر : ألا ترى ما صنع هذا السفيه؟ فقال له: أنت فعلت بنفسك، فصار أبو بكر يقول: رب ما أحلمك، قال ذلك ثلاثا انتهى».
أي وفي كلام بعضهم: وينبغي لك أن تتأمل فيما وصف به ابن الدغنة، أبا بكر بين أشراف قريش بتلك الأوصاف الجليلة المساوية لما وصفت به خديجة النبي، ولم يطعنوا فيها مع ما هم متلبسون به من عظيم بغضه ومعاداته بسبب إسلامه، فإن هذا منهم اعتراف: أي اعتراف بأن أبا بكر كان مشهورا بينهم بتلك الأوصاف شهرة تامة، بحيث لا يمكن أحد أن ينازع فيها، ولا أن يجحد شيئا منها، وإلا لبادروا إلى جحدها بكل طريق أمكنهم، لما تحلوا به من قبيح العداوة له بسبب ما كانوا يرون منه من صدق موالاته لرسول الله ﷺ وعظيم محبته له.
ومما يؤثر عنه : صنائع المعروف تقي مصارع السوء. ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي، والنكث، والمكر.