السيرة الحلبية/باب ذكر أزواجه وسراريه
لا يخفى أن أزواجه المدخول بهن اثنتا عشرة امرأة: خديجة ، وهي أول نسائه وكانت قبله تحت أبي هالة بن زرارة التيمي، وقيل كانت تحت عتيق بن عائد الخزومي أولا ثم تحت أبي هالة كما تقدم. وجاء: «أن رسول الله ﷺ أمر أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» أي ليس فيه رفع صوت ولا تعب: أي من درة مجوفة، فقد جاء: «أنها قالت له: يا رسول الله هل في الجنة قصب؟ فقال: إنه من لؤلؤ مجبى» بالجيم وبالموحدة مشددة: أي مجوف. وجوزيت بهذا البيت، لأنها أول من بنى بيتا في الإسلام بتزوجها برسول الله ﷺ كما جاء «من كسا مسلما على عري كساه الله من حلل الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق جزاء وفاقا».
وعن عائشة : ما غرت على أحد ما غرت على خديجة ، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني رسول الله ﷺ وقالت له يوما وقد مدح خديجة : ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد بدلك الله خيرا منها، فغضب رسول الله ﷺ وقال: «والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها» واتفق له: «أنه أرسل لحما لامرأة تناوله ودفعه لآخر يدفعه لها، فقالت له عائشة : لم تحرز يدك فقال: إن خديجة أوصتني بها، فقالت عائشة: لكأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة، فقام رسول الله ﷺ مغضبا، فلبث ما شاء الله ثم رجع، فإذا أم رومان أم عائشة ، فقالت يا رسول الله ما لك ولعائشة؟ إنها حديثة السن وأنت أحق من يتجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة ، وقال: ألست القائلة: كأنما ليس على وجه الأرض امرأة إلا خديجة، والله لقد آمنت بي إذ كفر بي قومك ورزقت منها الولد وحرمتموه».
ثم سودة بنت زمعة أي وأمها من بني النجار لأنها بنت أخي سلمى بنت عمرو، أم عبد المطلب كما تقدم.
ثم أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر الصديق ، اكتنت بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير بإذن من رسول الله ﷺ في ذلك، فصار يقال لها أم عبد الله كما تقدم.
وقال لعائشة: «هو عبد الله وأنت أم عبد الله» قالت: فما زلت أكتنى به، أي وكان يدعوها أما لأنه تربى في حجرها.
ويقال إنها أتت منه بسقط: أي وسمي عبد الله. قال الحافظ الدمياطي ولم يثبت كما تقدم، وتزوجها بمكة في شوال وهي بنت سبع سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين أي في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة على الصحيح كما تقدم، وروى البخاري عن عائشة : «أن رسول الله، قال لها: أريتك في النوم مرتين، أرى ملكا يحملك في سرقة» أي شقة حرير «فيقول: هذه امرأتك فأكشف فأراك فأقول، إن كان من عند الله يمضه» وقبض عنها وهي بنت ثمان عشرة ولم يتزوّج بكرا غيرها، وقبض ورأسه في حجرها، ودفن في بيتها كما سيأتي، وماتت وقد قاربت سبعا وستين سنة في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة بالبقيع، وقيل سعيد بن زيد، ودفنت به ليلا وذلك في زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية. وكان مروان استخلف أبا هريرة لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة.
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب ، وهي شقيقة عبد الله بن عمر وأسن منه، وأمها زينب أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة ، فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر، وقيل بأحد وهو خطأ لما سيأتي من أن تزوّجه لها في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة قبل أحد بشهرين.
أقول: وكانت ولادتها قبل النبوة بخمس سنين وقريش تبني البيت. وماتت بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير يومئذ، وحمل سريرها، وحمله أيضا أبو هريرة وقد بلغت ثلاثا وستين سنة. وقيل ماتت لما بويع معاوية سنة إحدى وأربعين والله أعلم، وطلقها .
وقيل في سبب طلاقها أنه كان في بيتها فاستأذنت في زيارة أبيها، أي وقيل في زيارة عائشة لأنهما كانتا متصادقتين: أي بينهما المصافاة فأذن لها، فأرسل رسول الله ﷺ إلى مارية وأدخلها بيت حفصة وواقعها، فرجعت حفصة فأبصرت مارية مع النبي ﷺ في بيتها، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، وقالت له: إني رأيت من كان معك في البيت وغضبت وبكت، أي وقالت: يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئت به إلى أحد من نسائك في يومي وفي بيتي وعلى فراشي، فلما رأى رسول الله ﷺ في وجهها الغيرة، قال لها: اسكتي فهي حرام عليّ أبتغي بذلك رضاك.
وفي رواية: «أما ترضين أن أحرمها على نفسي ولا أقربها أبدا؟ قالت: بلى، وحلف أن لا يقربها»: أي قال إنها حرام.
وفي رواية: «قد حرمتها عليّ، ومع ذلك أخبرك أن أباك الخليفة من بعد أبي بكر فاكتمي عليّ».
وفي رواية قال لها: «لا تخبري بما أسررت إليك» فأخبرت بذلك عائشة ، فقالت: قد أراحنا الله من مارية، فإن رسول الله ﷺ قد حرمها على نفسه وقصت عليها القصة. وقيل خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: اكتمي عليّ قد حرمت مارية على نفسي، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقتين بينهما المصافاة كما تقدم، فطلقها وأنزل الله تعالى عند تحريم مارية قوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أي أوجب عليكم كفارة ككفارة أيمانكم، لأن الكفارة تحل ما عقدته اليمين لأن هذا ليس من الأيمان: أي واطلع الله رسوله على أن حفصة قد نبأت عائشة بما أسرّه إليها من أمر مارية وأمر الخلافة، فلما أخبر عائشة ببعض ما أسرته لها وهو أمر مارية وأعرض عما أسره إليها من أمر الخلافة أن ينتشر ذلك في الناس، قالت عائشة: من أنبأك هذا؟ قال: «نبأني العليم الخبير»، ومن ثم كان ابن عباس يقول: والله إن خلافة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله ثم يقرأ هذه الآية.
ولما أفشت حفصة سره طلقها كما تقدم، فجاءه جبريل ﵇ يأمره بمراجعتها، لأنها صوامة قوامة، وإنها إحدى زوجاته في الجنة.
وفي رواية، تأتي: راجعها رحمة لعمر. وقيل همّ بتطليقها ولم يفعل، فقد جاء عن عمار بن ياسر أنه أراد أن يطلقها، فقال له جبريل ﵇: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة. وعليه فيراد بالمراجعة المصالحة والرضا عنها كما سيأتي. قال في الينبوع: وهذا هو المشهور، فسيأتي ما يدل على صحته: أي والذي سيأتي قول عمر للنبي لما اعتزل نساءه: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال لا.
وفيه أن هذا كان طلبهن منه النفقة، وهذه الواقعة غير تلك، وقيل في سبب نزول الآية غير ذلك.
وفي البخاري في سبب نزول الآية عن عائشة قالت: «كان رسول الله ﷺ يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له أكلت مغافير: أي أجد منك ريح مغافير، فدخل على حفصة ، فقالت له ذلك، فقال لها: لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» أي لأنه لا يحب أن يظهر منه ريح كريهة، لأن المغافير صمغ العوسج من شجر الثمام كريه الريح.
وعن عمر أن امرأته راجعته في شيء فأنكر عليها مراجعتها، فقالت له: عجبا لك يا ابن الخطاب: ما تريد أن تراجع، وإن ابنتك لتراجع رسول الله ﷺ حتى يظل يومه غضبان، فقام عمر ، فدخل على حفصة فقال لها: يا بنية إنك لتراجعي رسول الله ﷺ حتى يظل يومه غضبان، فقالت له حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسول الله، يا بنية لا تغررك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله ﷺ إياها، يريد عائشة، قال: ثم دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت: يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها، فأنا في منزلي، فجاءني صاحب لي من الأنصار، وأخبرني أن رسول الله ﷺ اعتزل نساءه، فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة فأخذت ثوبي وجئت إلى رسول الله ﷺ فإذا هو في مشربة له يرقى إليها بعجلة، وهو جذع يرقى عليه رسول الله ﷺ إلى المشربة وينحدر منها عليه، وغلام له أسود يقال له رباح على رأس العجلة، فقلت له قل له هذا عمر بن الخطاب، فأذن لي: أي بعد أن قال له: يا رباح استأذن لي رسول الله ﷺ ثلاث مرات، وفي كل مرة ينظر رباح إلى المشربة ولا يرد له جوابا، وفي الثالثة رفع له عمر صوته فأومأ إليه أن ارقَ، قال: فدخلت على رسول الله ﷺ فقصصت عليه القصة، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله ﷺ وتقدم، ويأتي أن هذا كان عند اجتماعهن عليه في النفقة لا لأجل معاتبة الله إياه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة. ويحتمل أنه لاجتماع الأمرين.
وفي رواية عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج رسول الله ﷺ اللتين قال الله تعالى فيهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} فقال: واعجبا لك يا ابن العباس هما عائشة وحفصة: أي فإن الله خاطبهما بقوله: {إن تتوبا إلى الله} أي فهو خير لكما {فقد صغت قلوبكما} أي مالتا عما يجب عليكما من طاعة رسول الله ﷺ وابتغاء مرضاته، ثم استقبل الحديث قال: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نسائهم، فصخبت عليّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك منهن، فدخلت على حفصة، فقلت له: أتغاضب إحداكن النبي ﷺ اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم فقلت: قد خبتِ وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله بغضب رسوله فتهلكي، لا تستكثري النبي، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي، يريد عائشة، فأخبرت أن النبي ﷺ طلق نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟ أطلقكن النبي؟ قالت: لا أدري، ها هو معتزل في المشربة: أي الغرفة، فإنه لما عاتبه الله سبحانه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة على عائشة حلف لا يدخل على نسائه شهرا، فصار يتغدى ويتعشى وحده في تلك المشربة، فجئت المشربة، فقلت لغلام أسود: استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي ﷺ ثم رجع، فقال: كلمته وذكرتك له فصمت، فانصرفت، ثم غلبني ما أجد، فجئت، فقلت للغلام: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فرجعت، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، ثم قلت: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ، فقال ذكرتك له، فصمت، فلما وليت منصرفا إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي، فدخلت على رسول الله ﷺ فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت له: وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع بصره إليّ فقال: لا، فقلت: الله أكبر، كنا معاشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة فإذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله، ثم قلت يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله، فتبسم النبي ﷺ تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم.
وفي رواية أن عمر لما بلغه أن النبي ﷺ طلق حفصة حثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها فنزل جبريل على النبي ﷺ من الغد وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر.
وقد يراد بالمراجعة المصالحة والرضا فلا ينافي ما تقدم أنه لم يطلقها وإنما أراد ذلك، ويدل له ما جاء عن عمار بن ياسر أنه أراد أن يطلقها فقال له جبريل ﵇: إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة، ومن هذا وما يأتي يعلم أنه آلى من نسائه، وأما الظهار فلم يظاهر أبدا خلافا لمن زعمه.
أي وجاء عن ابن عباس في سبب اعتزاله لنسائه في المشربة أنه شجر بين النبي ﷺ وبين حفصة أمر، فقال لها: اجعلي بيني وبينك رجلا، قالت: نعم، قال: فأبوك إذن، فأرسلت إلى عمر فجاء، فلما دخل عليهما قال لها النبي ﷺ: تكلمي، فقالت: بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقا، فرفع عمر يده فوجأها في وجهها فقال له النبي ﷺ: كف يا عمر، فقال عمر: يا عدوة الله، النبي ﷺ لا يقول إلا الحق، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي، فقام النبي ﷺ فصعد إلى الغرفة، فمكث فيها شهرا لا يعرف شيئا من نسائه ونزلت آية التخيير. ويقال: لا مانع من اجتماع هذا السبب مع ما تقدم.
ويروى أن سبب نزول آية التخيير أن نساءه اجتمعن عليه فسألنه النفقة ولم يكن عنده شيء فآلى أن لا يجتمع بهن شهرا وصعد المشربة الحديث.
وعن جابر بن عبد الله قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي ﷺ فوجد الناس جلوسا ببابه ليؤذن لهم، قال فأذن لأبي بكر رضي عنه فدخل، ثم أقبل عمر ماشيا، فأذن له فدخل فوجد النبي ﷺ حوله نساؤه: أي قد سأله النفقة وهو واجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر : لأقولن شيئا أضحك به النبي، فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي ﷺ وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها وكل يقول تسألن رسول الله ﷺ ما ليس عنده ثم أقسم رسول الله ﷺ أن لا يجتمع بهن شهرا.
وفي رواية أخرى عن عمر أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلا، فدق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: ماذا أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أمر أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله ﷺ نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، كنت أظن هذا كائنا حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت أطلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلا في هذه المشربة: أي لأن نساءه لما اجتمعن عليه في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن، قال عمر : لأقولن من الكلام شيئا أضحك به النبي، فأتيت غلاما له أسود، فقلت له: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج وقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، قد أذن لك، فدخلت، فسلمت على رسول الله ﷺ فإذا هو متكىء على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال: لا، فقلت: الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني، فأنكرت عليها، فقالت: تنكر أن راجعتك؟ فوالله لقد رأيت أزواج النبي ﷺ يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك وخسر، أتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب زوجها رسول الله، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله؟ فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله ﷺ لا تراجعين رسول الله ﷺ ولا تسألينه شيئا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله ﷺ منك؟ يعني عائشة ، فتبسم أخرى، فقلت، أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله، فلما مضى تسع وعشرون يوما أنزل الله تعالى عليه أن يخير نساءه في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية، فنزل ودخل على عائشة ، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوما أعددهن، فقال: إن الشهر تسع وعشرون. وفي رواية يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه وفي الثالثة حبس إبهامه، ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا: فلا عليك أن لا تعجلي. وفي رواية: إني أعرض عليك أمرا وأحب أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. قالت: وما هو يا رسول الله فقرأ عليّ: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية، قلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية: أفيك يا رسول الله أستشير أبويّ بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت : ثم قلت له لا تخبره امرأة من نسائك بالذي قلت لك، فقال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا، ثم فعل بقية أزواجه مثل ما فعلت عائشة .
ثم زينب بنت خزيمة ، وهي أخت ميمونة لأمها، كانت تدعى: أي في الجاهلية أم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم أي كما سمى جعفر بن أبي طالب بأبي المساكين لحبه لهم، وجلوسه عندهم، وتحدثه معهم، وإحسانه إليهم ، كانت قبله تحت الطفيل بن الحارث، فطلقها فتزوجها أخوة عبيدة بن الحارث، فقتل يوم بدر شهيدا، فخطبها، فجعلت أمرها إليه فتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي وذلك على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة قبل أحد بشهر. وفي لفظ أن عبيدة بن الحارث قتل عنها يوم أحد فخلف عليها رسول الله . وفي لفظ أنها كانت تحت عبد الله بن جحش، قتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله . قال في المواهب: وهو أصحّ.
وعن أنس قال: كان رسول الله عروسا بزينب، فعمدت أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيسا فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله، فقل: بعثت بهذا إليك أمي وهي تقرئك السلام، فقال: ادع لي فلانا وفلانا رجالا سماهم، وادع لي من لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت، فإذا البيت غاصّ، بأهله، قيل لأنس: ما عددهم؟ قال: كانوا ثلاثمائة فرأيت النبي ﷺ وضع يده الشريفة على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عنده عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: اذكروا الله وليأكل كل رجل مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال لي: يا أنس ارفع فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت، فمكثت عنده ثمانية أشهر وقيل شهران أو ثلاثة، ثم توفيت وصلى عليها رسول الله، ودفنت بالبقيع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها. ولم يمت من أزواجه في حياته إلا هي وخديجة .
ثم تزوج بعد زينب هذه أم سلمة. واسمها هند. وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد ابن عمته برة بنت عبد المطلب، وأخوه من الرضاعة، وكانت هي أول من هاجر إلى الحبشة على ما تقدم، فلما مات أبو سلمة ، قال لها رسول الله: سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرا، فقالت: ومن يكن خيرا من أبي سلمة؟ ولما اعتدت أم سلمة أرسل يخطبها مع حاطب بن أبي بلتعة ، أي وكان خطبها أبو بكر فأبت، وخطبها عمر فأبت، فلما جاءها حاطب، قالت: مرحبا برسول الله، تقول له: إني امرأة مسنة، وإني أم أيتام: أي لأنها كان معها أربع بنات: برة وسلمة وعمرة ودرة، وإني شديدة الغيرة، فأرسل يقول لها: أما قولك إني امرأة مسنة فأنا أسن منك، ولا يعاب على المرأة أن تتزوج أسن منها. وأما قولك: إني أم أيتام فإن كلهم على الله وعلى رسوله. وأما قولك: إني شديدة الغيرة فإني أدعو الله أن يذهب ذلك عنك. أي وفيه أنهم قالوا: يا رسول الله ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال: إن فيهن غيرة شديدة. وفي لفظ أنها قالت زيادة على ما تقدم: ليس لي ههنا أحد من أوليائي فيزوجني، فأتاها رسول الله ﷺ فقال لها: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله أن يذهبها عنك. وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم. وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني، فقالت لابنها: زوج رسول الله، فزوجه أي على متاع منه رحى وجفنة وفراش حشوه ليف، وقيمة ذلك المتاع عشرة دراهم، وقيل أربعون درهما. قالت: فتزوجني رسول الله، وأدخلني بيت زينب أم المساكين بعد أن ماتت، فإذا جرة فيها شيء من شعير، وإذا رحى وبرمة وقدر وكعب: أي ظرف الأدم، فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة، وأخذت الكعب فأدمته، فكان ذلك طعام رسول الله ﷺ وطعام أهله ليلة عرسه.
وماتت أم سلمة في ولاية يزيد بن معاوية، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة ، وقيل سعيد بن زيد وغلط قائله.
وذكر بعضهم أن تزويج ولدها لها إنما كان بالعصوبة لأنه كان ابن ابن عمها.
ثم تزوج بعد أم سلمة زينب بنت جحش ، وكان اسمها برة، فسماها زينب: أي خشي أن يقال خرج من عند برة، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة ثم طلقها، فلما انقضت عدتها زوجه الله إياها، أي لأنه أرسل زيد بن حارثة يخطبها له، قال زيد: فذهبت إليها فجعلت ظهري إلى الباب فقلت: يا زينب بعث رسول الله ﷺ يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أؤامر ربي ، فأنزل الله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} فدخل عليها رسول الله ﷺ بغير إذن، فكانت تفتخر بذلك على نسائه وتقول: إن الله أنكحني إياه من فوق سبع سموات، وهذا يرد ما قيل إن أخاها أبا أحمد بن جحش زوجها منه .
قال في النور: ويمكن تأويل تزويج أخيها إياها.
أي وقد ذكر مقاتل أن زيد بن حارثة لما أراد أن يتزوج زينب جاء إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله اخطب علي، قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، قال: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نفسا، فقال: يا رسول الله إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، فقال: إنها امرأة لسناء، فذهب زيد إلى عليّ كرم الله وجهه، فحمله على أن يكلم له النبي، فانطلق معه إلى النبي ﷺ فكلمه، فقال إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها فتكلمهم، ففعل، ثم عاد يخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك، فأرسل إليهم النبي ﷺ يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فأنكحوه، وساق لهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله، وأولم عليها، وأطعم المساكين خبزا ولحما: أي وتزوجها هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل نزلت في ذلك اليوم آية الحجاب، فإنه لما دعا القوم وطعموا تهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ﷺ ليدخل فإذا القوم جلوس فلم يدخل، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية وتكلم في ذلك المنافقون وقالوا: محمد حرم نساء الأولاد، وقد تزوج امرأة ابنه أي لأن زيد بن حارثة كان يقال له زيد بن محمد: أي لأنه كان تبناه كما تقدم، فأنزل الله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} وأنزل {أدعوهم لآبائهم} فمن حينئذ كان يقال له زيد بن حارثة كما تقدم.
وهي أول نسائه لحوقا به. ماتت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة. وصلى عليها عمر بن الخطاب ، أي فإن عمر أرسل إلى زينب بالذي لها من العطاء، فسترته بثوب، وأمرت بتفرقته، فكان خمسة وثمانين درهما، ثم قالت: اللهم لا تدركني عاما لعمر بعد عامي هذا فماتت.
وهي أول من جعل على نعشها قبة، أي بعد فاطمة ، فلا يخالف ما سبق مما ظاهره أنه فعل لها ذلك.
وفي كلام بعضهم أن زينب هذه أول من حمل على نعش، وقيل أول من حمل على نعش فاطمة ، وكانت عائشة تقول في حقها: هي التي كانت تساويني في المنزلة عند رسول الله، وما رأيت امرأة قط خيرا في الدين وأتقى لله وأصدق في حديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة من زينب .
وقال في حقها: إنها لأواهة، فقال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع. وهي أول نسائه لحوقا به كما تقدم. وقال له بعض نسائه: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا، فأخذن قصبة يذرعنها، وفي لفظ عن عائشة : فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله ﷺ نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فكانت سودة أطولهن، فلما ماتت زينب ، أي وكانت امرأة قصيرة علموا أن المراد بطول اليد الصدقة، لأنها كانت تعمل وتتصدق لا الجارحة وما في البخاري من أنها سودة، قال ابن الجوزي: غلط من بعض الرواة.
والعجب من البخاري كيف لم ينبه عليه ولا علم بفساد ذلك الخطأ، فإنه قال: لحوق سودة به من أعلام النبوّة وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب فإنها كانت أطولهن يدا بالعطاء. وجمع الطيبي بأنه يمكن أن يقال إن سودة أوّل نسائه موتا التي اجتمعن عند موته، وكانت زينب غائبة.
وفيه أن في رواية أن نساء النبي ﷺ اجتمعن عنده لم يغادر منهن واحدة أي فقد قال له بعضهن. وفي لفظ قلن له: أينا أسرع لحوقا بك يا رسول الله؟ وقد قال الإمام النووي: أجمع أهل السيرة على أن زينب أوّل من مات من أزواجه بعده.
ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق. سبيت في غزوة بني المصطلق، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على تسع أواق، فأدى عنها ذلك وتزوّجها.
وقيل جاء أبوها فافتداها، ثم نكحها رسول الله ﷺ كما تقدم. وقيل إنها كانت بملك اليمين فأعتقها وتزوّجها، وكان اسمها برة فسماها رسول الله ﷺ جويرية، أي لما تقدم. وكانت قبل رسول الله ﷺ عند مسافع بن صفوان، وتقدم عن عائشة أنها قالت كانت جويرية عليها ملاحة وحلاوة، لا يكاد يراها أحد إلا وقعت بنفسه. وكانت بنت عشرين سنة. أي وتوفيت في المدينة سنة ست وخمسين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو والي المدينة يومئذ، وقد بلغت سبعين سنة، وقيل خمسا وستين سنة.
ثم ريحانة بنت يزيد من بني النضير. وقيل من بني قريظة، وكانت قبل رسول الله ﷺ عند رجل من بني قريظة، يقال له الحكم. قال الحافظ الدمياطي : ولذلك ينسبها بعض الرواة إلى بني قريظة، وكانت جميلة وسيمة، وقعت في سبي بني قريظة، فكانت صفيّ رسول الله، فخيرها رسول الله ﷺ بين الإسلام ودينها، فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوّجها، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وقيل كانت موطوءة له بملك اليمين.
أي فقد ذكر بعضهم أنه خيرها بين أن يعتقها ويتزوّجها، وبين أن تكون له في ملكه، وعليه فتكون من السراري لا من الزوجات.
قال الحافظ الدمياطي: والأوّل، أي أنها زوجة أثبت عند أهل العلم. وقال العراقي إن الثاني: أي كونها سرية أضبط. ودخل بها بعد أن حاضت حيضة أي وذلك في بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس النجارية سنة ست من الهجرة، وغارت عليه غيرة شديدة فطلقها فأكثرت البكاء، فراجعها، وهذا مؤيد للقول بأنها كانت زوجة.
قيل ماتت مرجعه من حجة الوداع ودفنها بالبقيع.
ثم أم حبيبة ، وهي رملة بنت أبي سفيان بن حرب وهي بنت عمة عثمان بن عفان. هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فولدت له حبيبة وبها كانت تكني، وهي ربيبة رسول الله، وكانت في حجره ، وتنصر عبيد الله بن جحش هناك وثبتت هي على الإسلام .
وبعث رسول الله ﷺ عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوّجه إياها، وأصدقها النجاشي عن رسول الله ﷺ أربعمائة دينار، أي والذي تولى عقد النكاح خالد بن سعيد بن العاص على الأصح وكلته في ذلك، وهو ابن عم أبيها.
وقيل الذي تولى عقد النكاح عثمان بن عفان ، وقيل كان الصداق أربعة آلاف درهم، وجهزها النجاشي من عنده، وأرسلها مع شرحبيل بن حسنة في سنة سبع. وقيل تزوّجها رسول الله ﷺ بالمدينة، وعليه يحمل ما في كلام العامري أن النبي ﷺ جدد نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان تطييبا لخاطره.
ثم صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، قتل مع بني قريظة كما تقدم. وكانت عند سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وقتل عنها يوم خيبر، وتقدمت قصة قتله في خيبر، ولم تلد لأحد منهما، واصطفاها رسول الله ﷺ لنفسه فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، لأنه لما جمع سبي خيبر جاءه دحية الكلبي . فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية . فقيل: يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، فقال له النبي ﷺ خذ جارية من السبي غيرها، فحجبها وجهزتها له أم سليم ، وأهدتها له من الليل وكان عمرها لم يبلغ سبع عشرة سنة، فأولم عليها بتمر وسويق.
وفي لفظ: لما أصبح قال: من كان عنده شيء فليجيء به، فبسط نطعا، فجعل الرجل يأتي بالأقط، وجعل الرجل يأتي بالتمر، وجعل الرجل يأتي بالسمن، فحاسوا حيسا، فكانت وليمة رسول الله .
وعن أنس قال: كانت صفية عاقلة فاضلة، ودخل عليها يوما وهي تبكي. فقال لها في ذلك؟ فقالت قد بلغني أن عائشة وحفصة ينالان مني، ويقولان: نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: قولي لهن: كيف تكن خيرا مني، وأبي هارون، وعمي موسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجي محمد: أي فهي بنت نبي وزوج نبي، ورأى رسول الله ﷺ أثرا في وجهها، فسألها عن ذلك. فقالت: رأيت كأن القمر وقع في حجري، فذكرت ذلك لأبي. وتقدم في رواية أنها ذكرت ذلك لزوجها كنانة، فضرب وجهي ضربة أثرت فيّ هذا الأثر، وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب.
ولا مانع من تعدد الواقعة. فقد قال في النور: لعلهما فعلا بها ذلك، وتقدم في رواية أنها رأت الشمس وقعت على صدرها، وتقدم أنه يجوز تعدد الرؤيا، أو أنها رأت الشمس والقمر في وقت واحد.
وفي زمن خلافة عمر أتت جارية لها إلى عمر ، فقالت له: يا أمير المؤمنين إن صفية تحبّ السبت وتصل اليهود، فسألها عمر ، فقالت: أما السبت فإني لا أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة. وأما اليهود، فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة.
قال الحافظ الدمياطي : ماتت في رمضان سنة خمسين. وقيل سنة اثنتين وخمسين ودفنت بالبقيع. وخلفت ما قيمته مائة ألف درهم من أرض وعرض. وأوصت لابن أختها بثلثها وكان يهوديا.
وذكر الرافعي عن إمامنا الشافعي أنها أوصت لأخيها، وكان يهوديا بثلاثين ألفا، أي وهذا لا يعارض ما ذكر لأنه لا يجوز أن يكون من روى عنه إمامنا لم يعتبر ما زاد على الثلاثين الذي هو تتمة الثلث، وهو ثلاثة وثلث، لأن ثلث المائة ثلاثة وثلاثون وثلث، أو أن القائل أوصت بثلثها تجوّز وأطلق على الثلاثين ثلثا.
ثم ميمونة بنت الحارث، وكان اسمها برة فسماها ميمونة، زوّجها له عمه العباس ، وهي خالة ابنه عبد الله بن عباس، وأختها أسماء بنت عميس وسلمى بنت عميس وزينب بنت خزيمة أم المؤمنين، وخالة خالد بن الوليد . وكانت في الجاهلية عند مسعود بن عمرو ففارقها، فخلف عليها أبو رهم فتوفي عنها فتزوجها وهو محرم، أي كما عليه جمهور علماء المدينة في عمرة القضاء.
وفي الهدى: يشبه أنه تزوج ميمونة وهو محرم خلافا لابن عباس ووهمه في ذلك، قال: لأن السفير بينهما في النكاح وهو أبو رافع أعلم بالقصة وهو رجل بالغ، وابن عباس كان سنه نحو عشر سنين. قال: ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم، وكان ذلك سنة سبع.
وأقام بمكة ثلاثا وبنى بها بسرف بعد أن أحل على ما تقدم، وماتت سنة إحدى وخمسين على الأصح وبلغت ثمانين سنة، ودفنت بسرف الذي هو محل الدخول بها.
والحاصل أن جملة من خطبه من النساء ثلاثون امرأة منهن من لم يعقد عليه ومنهن من عقد عليه، وهذا القسم أيضا منه من دخل به ومنه من لم يدخل به.
وفي لفظ: جملة من عقد عليه ثلاث وعشرون امرأة، والذي دخل به منهن اثنتا عشرة.
فمن غير المدخول بها غزية، وهي أم شريك العامرية، وهذه قبل دخوله بها طلقها ولم يراجعها. وهناك أم شريك أخرى، وهي خولة أو خويلة ولم يدخل بها. وهناك أم شريك ثالثة وهي الغفارية. وأم شريك رابعة وهي الأنصارية.
واختلف في الواهبة نفسها، فقيل ميمونة، وقيل أم شريك غزية، وقيل أم شريك خولة التي لم يدخل بها.
ورجح القول الثاني الحصني حيث اقتصر عليه في كتاب المؤمنات، فقال: ومنهن أم شريك، واسمها غزية، وهي التي وهبت نفسها للنبي فلم يقبلها على ما قاله الأكثرون، فلم تتزوج حتى مات . قال ابن عباس : وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهن للإسلام وترغبهن فيه حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها، وقالوا لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا نسيرك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء ثم تركوني ثلاثا لا يطعموني ولا يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلا أوقفوني في الشمس واستظلوا، فبينما هم قد نزلوا منزلا وأوقفوني في الشمس إذا أنا بأبرد شيء على صدري فتناولته، فإذا هو دلو من ماء، فشربت قليلا ثم نزع مني ورفع، ثم عاد فتناولته فشربت من ثم رفع، ثم عاد ثم رفع مرارا فشربت منه حتى رويت ثم أفضت سائرة على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على ثيابي فقالوا: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه، فقلت: لا والله، ولكنه كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها فأسلموها عند ذلك، وأقبلت إلى النبي، فوهبت نفسها له بغير مهر فقبلها ودخل عليها.
قال: وفي ذلك أن من صدق في حسن الاعتماد على الله وقطع طعمه عما سواه جاءته الفتوحات من الغيب، هذا كلامه.
وقد كان أرجأ من نسائه خمسا: سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى إليه أربعا: عائشة وزينب وأم سلمة وحفصة، وهؤلاء التسعة مات عنهن . وقد نظمهن بعضهم فقال:
توفي رسول الله عن تسع نسوة ** إليهن تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة ميمونة وصفية ** وحفصة تتلوهن هند وزينب
جويرية مع رملة ثم سودة ** ثلاث وست ذكرهن مهذب
ومن جملة اللاتي لم يدخل به النبي ﷺ التي ماتت من الفرح، لما علمت أنه تزوج بها وهي عز أخت دحية الكلبي التي ماتت قبل دخوله بها.
ومن جملتهن سودة القرشية التي خطبها فاعتذرت ببنيها، وكانوا خمسة، وقيل ستة، فقال لها خيرا.
ومن جملتهن التي تعوذت منه، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله مني. وفي لفظ: عذت بعظيم، وفي لفظ: عائذ الله.
وفي كلام بعضهم أن نساء النبي ﷺ خفن أن تغلبهن عليه لجمالها، فقلن لها: إنه يعجبه إذا دنا منك أن تقولي له أعوذ بالله منك، فلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك. وفي رواية: قلن لها: إن اردت أن تحظي عنده فتعوّذي بالله منه فلما دخل عليها قالت له: أعوذ بالله منك، فصرف وجهه عنها وقال ما تقدم وطلقها، وأمر أسامة فمتعها بثلاثة أثواب.
وفي لفظ أتى أبو أسيد إلى رسول الله ﷺ بالجونية: أي أسماء بنت النعمان بن أبي الجون الكندية، فلما دخل عليها رسول الله ﷺ دعاها فقالت تعال أنت. وفي رواية فقال: هبي نفسك، فقالت: تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده إليها لتسكت، فقالت: أعوذ بالله منك، قال: عذت بمعاذ، فخرج فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيين وألحقها بأهلها، وهذا هو المشهور.
وروي هذا الخبر عن أسيد بن أبي أسيد قال: «بعثني رسول الله ﷺ إلى امرأة يتزوجها من بلجون: أي من بني الجون، فجئت بها، فأنزلتها بالشعب في أجم ثم أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله جئتك بأهلك، فأتاها، فأهوى إليها ليقبلها فقالت: أعوذ بالله منك» الحديث.
ومن جملتهن التي اختارت الدنيا. وقيل التي كانت تلتقط البعر هي المستعيذة منه.
ومن جملتهن قتيلة بضم القاف وفتح الباء المثناة فوق، بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجه إياها أخوها وهي بحضرموت، ومات قبل قدومها عليه، وأوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فتنكح من شاءت فاختارت الفراق، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر قال: هممت أن أحرق عليها بيتها، فقال له عمر : ما هي من أمهات المؤمنين، ما دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب، وقال: «ما تزوجت شيئا من نسائي ولا زوجت شيئا من بناتي إلا بوحي جاءني به جبريل من ربي » أي وعنه أن خديجة تزوجها قبل نزول الوحي.
أي وقد ألف في أزواجه الحافظ الدمياطي جزءا فليطلب، وكذا ألف فيهن الشمس الشامي.
وأما سراريه فأربع: مارية القبطية أم ولده سيدنا إبراهيم، وريحانة على ما تقدم، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش ، أخرى اسمها زليخة القرظية.