السيرة الحلبية/باب ذكر وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة رضي الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد: أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما، وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله:
وقضى عمه أبو طالب والد ** دهر في السراء والضراء
ثم ماتت خديجة ذلك العا ** م ونالت من أحمد المناء
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين، وبعد مضي عشر سنين من بعثته: أي من مجيء جبريل بالوحي. وهو يردّ قول ابن إسحاق ومن تبعه أن خديجة ماتت بعد الإسراء.
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب. وقيل كانت وفاة خديجة قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة. وقيل بعده بثلاثة أيام. ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة : أي بثلاثة أيام. ودفنت بالحجون، ونزل في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت.
وذكر الفاكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال: وروي «أن آدم لما توفي أتي بحنوط، وكفن من الجنة، ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه، ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث الذي هو وصيه معهم، فلما فرغوا قالوا له: هكذا فاصنع بولدك وإخوتك، فإنها سنتكم» هذا كلامه: أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له. ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير، لكن يبعده ما في العرائس عن ابن عباس «أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صلّ عليه، فقال له جبريل: بل أنت تقدم فصلّ على أبيك، فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة » وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد، ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة، بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء.
وحينئذٍ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش، إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك، وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك.
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين الذي هو زوجها، وسيأتي أنه لما قدم المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره، وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام، ومعرور معناه في الأصل مقصود.
لا يقال: يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء. لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا. وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي، وسيأتي عن الإمتاع: لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة، ولم ينقل أنه صلى على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى: ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية.
وفي كلام بعضهم: صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة، وأول من صلى عليه أسعد بن زرارة فليتأمل.
وفي كلام بعضهم: كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم، وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم. وهو أن يقوم ولي الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثني عليه ثم يقول: عليك رحمة الله ثم يدفن، أي وكأن رسول الله ﷺ يسمي ذلك العام عام الحزن، ولزم بيته وأقلّ الخروج، وكانت مدة اقامتها معه خمسا وعشرين سنة على الصحيح.
ويذكر «أنه دخل على خديجة وهي مريضة فقال لها: يا خديجة أتكرهين ما أرى منك، وقد يجعل الله في الكره خيرا؟ أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني» وفي رواية «أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران، وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء، وآسية امرأة فرعون، فقالت: آلله أعلمك بهذا يا رسول الله؟ » وفي رواية «آلله فعل ذلك يا رسول الله؟ قال نعم، قالت: بالرفاء والبنين» زاد في رواية «أنه أطعم خديجة من عنب الجنة » وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به في الجاهلية عند التزويج، والمراد منه الموافقة والملايمة، مأخوذ من قولهم رفأت الثوب: ضممت بعضه إلى بعض، ولعل هذا كان قبل ورود النهي عن ذلك.
هذا، وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني، فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت عليّ هذا كلامه، ولعل النهي لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله، كما لم يبلغ سيدنا عمر .
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة، وكانت قبله عند السكران ابن عمها، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها، فلما انقضت عدتها تزوّجها، وأصدقها أربعمائة درهم.
وقد كانت رأت في نومها أن النبي ﷺ وطيء عنقها فأخبرت زوجها، فقال: إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوّجك رسول الله، ثم رأت في ليلة أخرى أن قمرا انقضّ عليها من السماء وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها فقال: لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك.
وعقد على عائشة وهي بنت ست أو سبع سنين في شوّال. فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت «قلت لما ماتت خديجة: يا رسول الله ألا تتزوج؟ قال: من؟ قلت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، قال: فمن البكر؟ قلت: أحق خلق الله بك، بنت أبي بكر ، قال: ومن الثيب؟ قلت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول، قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ، قالت: فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطبك عليه، قالت: وددت، ادخلي على أبي فاذكري ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال: من هذه؟ قلت: خولة بنت حكيم، قال: فما شأنك؟ قلت: أرسلني محمد بن عبدالله أخطب عليه سودة، قال: كفء كريم، قال: ما تقول صاحبتك؟ قالت تحب ذلك، قال ادعيها إلي، فدعوتها قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبدالله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك منه؟ قالت نعم، قال: ادعيه لي، فجاء رسول الله ﷺ فزوجه إياها، ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثي على رأسه التراب، ولما أسلم قال: لقد كدني السفه يوم أحثي على رأسي التراب إذ تزوج رسول الله ﷺ سودة يعني أخته» وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها «ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير؟ قد أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت له: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قلت: قد أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح أي تحل له؟ إنما هي بنت أخيه، فرجعت إلى رسول الله ﷺ فذكرت له ذلك، فقال: ارجعي إليه، فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي ـ أي تحل، فرجعت فذكرت ذلك له، قالت أم رومان : إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده، والله ما وعد وعدا قط فأخلفه ـ تعني أبا بكر ـ فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور، فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان في نفسه من عدته لمطعم، فإن المطعم لما قال له أبو بكر: ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها: ما تقولين يا هذه؟ فأقبلت على أبي بكر وقالت له: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصبيه وتدخله في دينك الذي أنت عليه، فأقبل أبو بكر على المطعم وقال له: ماذا تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع، فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله ﷺ فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذٍ بنت ست سنين، وقيل سبع سنين وهو الأقرب».
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة، لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة وعلى عائشة كان في شوّال، ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة.
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي ﷺ عقد عليها قبل ذهابها لسودة وعقده عليها، ولا تخفى المخالفة، إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها. وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة.
ولما اشتكى أبو طالب: أي مرض وبلغ قريشا ثقله: أي اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أي يسلبونه، ومنه قولهم: من عزّ بز: أي من غلب أخذ السلب: وهو الثياب التي هي البز. وفي لفظ: إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء: أي قتل محمد كما في بعض الروايات، فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه، فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان ، فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتي، وأرسلوا رجلا يدعى المطلب؛ فاستأذن لهم علي أبي طالب فقال: هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك، قال أدخلهم؛ فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت. وفي لفظ قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك؛ وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاءه، ولما دخل على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس، فخشي أبو جهل أن يجلس النبي ﷺ في تلك الفرجة فيكون أرقى منه؛ فوثب أبو جهل فجلس فيها، فلم يجد النبي ﷺ مجلسا قرب أبي طالب، فجلس عند الباب انتهى.
وفي الوفاء أنه قال لهم: خلوا بيني وبين عمي، فقالوا: ما نحن بفاعلين؛ وما أنت بأحق به منا، إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك، فقال أبو طالب لرسول الله ﷺ: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك، وفي لفظ: هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم، وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك. وفي لفظ: سألوك النصف، وفي لفظ: أعط سادات قومك ما سألوك، فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك، فقال رسول الله ﷺ: أرأيتكم إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ أي تطيع وتخضع، فقال أبو جهل: نعم وآتيك عشر كلمات. وفي لفظ لنعطيكها وعشرا معها، فما هي؟ قال: تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب، فأنزل الله تعالى {ص? والقرآن ذي الذكر} إلى آخر الآيات، وفي لفظ قالوا: أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد، وفي لفظ قالوا: سلنا غير هذه الكلمة. وفي لفظ أن أبا طالب قال: يا بن أخي هل من كلمة غيرها، فإن قومك قد كرهوها، قال: يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها، ثم قال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها، ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وأمضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا. وفي لفظ قالوا عند قيامهم: والله لنشتمك وإلهك الذي يأمرك بهذا، أي وفي لفظ لتكفن عن سبّ آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي أمرك بهذا.
قال في الينبوع: وهذه العبارة أحسن من الأولى، لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله، وما كانوا ليسبوا الله عالمين، لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك، وذكر أن ذلك سبب نزول قوله تعالى{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}.
هذا، وفي النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: إما أن تنهى محمدا عن سب آلهتنا والنقص منها، وإما أن نسبّ إلهه ونهجوه، قال فيه: وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة، فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر، ولا يتعرض لما يؤدي إلى ذلك، لأن الطاعة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه.
وعند ذلك قال أبو طالب قال لرسول: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شحطا أي بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا، فلما قال ذلك طمع رسول الله ﷺ فيه، فجعل يقول: أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة: أي لو ارتكبت ذنبا بعد قولها، وإلا فالإسلام يجبّ ما قبله، فلما رأى حرص رسول الله ﷺ قال له: والله يا ابن أخي لولا مخافة السبة: أي العار عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا: أي بالجيم والزاي خوفا من الموت، وهذا هو المشهور. وقيل بالخاء المعجمة والراء، أي ضعفا لقلتها، وفي رواية: لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك، لكني أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف، فأنزل الله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت} الآية.
أي وعن مقاتل «أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال له النبي ﷺ: يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال. فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى، فقال: يا ابن أخي قد علمت أنك صادق لكني أكره أن يقال» الحديث، قال في الهدى: وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها: أي وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم، ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له، فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى إن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه، علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت.
وذكر «أنه لما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بقولها، فقال رسول الله ﷺ ولم أسمع». وفيه أنه لم يثبت أن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها في حق أبي طالب يردّ ذلك.
ويرده أيضا ما في الصحيحين عن العباس أنه قال «قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ قال نعم، وجدته ـ أي كشف لي عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة ـ فوجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح» أي وفي لفظ آخر «قال نعم، هو ـ أي يوم القيامة ـ في ضحضاح من النار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام، إذ لو أداها لقبلت.
وقد يقال: إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام، لأنه لما قال له أولا لم أسمع، فهم أنه حيث لم يسمعها لم يعتدّ بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا.
ويرده أيضا ما جاء في رواية «أنه لما كرر على أبي طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأبى إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال: أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك. أي عن الاستغفار لكّ فأنزل الله {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} أي وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها، أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها، لجواز أنه جوّز الفرق بين أمه وعمه، لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه، وفي منع استغفاره لأمه ما تقدم. ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد «اللهم اغفر لقومي» لأن ذلك أي غفران الذنوب مشروط بالتوبة: أي الإسلام، فكأنه دعا لهم بالتوبة التي هي الإسلام، ويؤيده رواية «اللهم اهد قومي» أي للإسلام. قال: وأيضا جاء في صحيح ابن حبان عن علي قال «لما مات أبو طالب أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره، قال علي : فلما واريته جئت إليه، فقال لي اغتسل».
أقول: لأنه غسله، وبه وبقوله «من غسل ميتا فليغتسل» استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل.
وروى البيهقي خبر «أن عليا غسله بأمر النبي ﷺ له بذلك» لكن ضعفه وفي رواية عن علي «لما أخبرت النبي ﷺ بموت أبي طالب بكى وقال: اذهب فاغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه».
وأما ما روي عنه أنه عارض جنازة عمه أبي طالب فقال: وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم» فقال الذهبي إنه خبر منكر، والله أعلم.
وجاء أيضا «أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: إنه ستنفعه شفاعتي» وفي رواية «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار» أي مقدار ما يغطى بطن قدميه. وفي رواية «في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه» وفي لفظ عن ابن عمر قال: قال رسول لله «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب، وأخ لي كان في الجاهلية » يعني أخاه من الرضاعة من حليمة كما في رواية تأتي.
أقول: يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الاستغفار لهما، والله أعلم.
وفي لفظ آخر «شفعت في أبي وعمي أبي طالب وأخي من الرضاعة ـ يعني من حليمة ـ ليكونوا من بعد البعث هباء».
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء «أنه قال لابنته فاطمة وقد عزّت قوما من الأنصار في ميتهم: لعلك بلغت معهم الكدى ـ بالدال المهملة أو الكرا بالراء، يعني القبور ـ فقالت: لا، فقال: لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعني عبد المطلب» ولم يقل جدك يعني أباه الذي هو عبدالله، وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا.
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك في أبيه وأمه. وفي رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث، وفي الثاني من هو ضعيف. وقال فيه ابن الجوزي: إنه موضوع بلا شك: أي وهذا أي قبول شفاعته في عمه أبي طالب عد من خصائصه، فلا يشكل بقوله تعالى{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين في الإخراج من النار بالكلية: أي وفي هذا الثاني أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء: أي في صيرورتهم هباء، إلا أن يقال إنه لم يستجب له في ذلك.
قال: وجاء أيضا عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال «إن أهون أهل النار ـ أي وهم الكفار ـ عذابا أبو طالب، وهو ينتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» أي وفي رواية «كما يغلي المرجل» أي القدر من النحاس «حتى يسيل دماغه على قدميه» وفي رواية «كما يغلى المرجل بالقمقم» قيل والقمقم بكسر القافين: البسر الأخضر يطبخ في المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة.
وذكر السهيلي الحكمة في اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم، واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر في الإصابة.
أي وقد قال: وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب، ولم يثبت من ذلك شيء.
وروى أبو طالب عن النبي ﷺ قال «حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام» وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره» وقال «سمعت ابن أخي الأمين يقول اشكر ترزق، ولا تكفر تعذب» انتهى.
وفي المواهب عن شرح التنقيح للقرافي أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، لأنه كان يقول: إني لا أعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أني أخاف أن يعيرني نساء قريش لاتبعته، فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان، غير أنه لم يذعن للأحكام، هذا كلامه. وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله، ولم يوجد ذلك منه كما علمت، وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار، التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع، وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع.
وقد روى الطبراني عن أم سلمة «أن الحارث بن هشام ـ أي أخا أبي جهل بن هشام ـ أتى النبي ﷺ يوم حجة الوداع، فقال: إنك تحث على صلة الرحم، والإحسان إلى الجار، وإيواء اليتيم، وإطعام الضيف، واطعام المسكين، وكل هذا مما يفعله هشام، يعني والده، فما ظنك به يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار، وقد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار، فأخرجه الله لمكانه مني وإحسانه إليّ، فجعله في ضحضاح من النار».
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم، وكان من وصيته أن قال: يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، فيكم المطاع، وفيكم المقدم الشجاع، والواسع الباع، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة. أوصيكم بتعظيم هذه البنية: أي الكعبة، فإن فيها مرضاة للرب، وقواما للمعاش. صلوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن في صلة الرحم منسأ ـ أي فسحة ـ في الأجل، وزيادة في العدد. واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم. أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات. وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العام. وإني أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش ـ أي وهو الصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان مخافة الشنآن ـ أي البغض ـ وهو لغة في الشنآن ـ وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل البر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد.
وفي لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره، فأطيعوه ترشدوا.
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبي ﷺ من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب، حتى إن بعض سفهاء قريش نثر على رأس النبي ﷺ التراب، فدخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي، ورسول الله ﷺ يقول لها لا تبكي لا تبكي يا بنية، فإن الله تعالى مانع أباك، وكان يقول «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه ـ أي أشد الكراهة ـ حتى مات أبو طالب» وتقدم، وسيأتي بعض ما أوذي به.
قال: ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك. ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له: يا محمد امض لما أردت، وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت.
واتفق أن ابن العطيلة ـ أي وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبي، فأقبل عليه أبو لهب ونال منه، فولى وهو يصيح: يا معشر قريش صبا أبو عتبة ـ يعني أبا لهب ـ فأقبلت قريش على أبي لهب وقالوا له: أفارقت دين عبد المطلب؟ فقال: ما فارقت» وفي لفظ «قالوا له: أصبوت؟ قال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكن أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد، قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله ﷺ على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبي معيط إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ أي المحل الذي يكون فيه، يزعم أنه في النار، فقال له أبو لهب: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار، فقال أبو لهب: لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى.
وفي لفظ «قال له: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال: مع قومه، فخرج أبو لهب إلى أبي جهل وعقبة، فقال: قد سألته، فقال: مع قومه، فقالا: يزعم أنه في النار، فقال: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله ﷺ نعم» الحديث، ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة، وتقدم الكلام عليهم والله أعلم.