السيرة الحلبية/ذكر كتابه إلى قيصر
المدعو هرقل ملك الروم على يد دحية الكلبي ، والدحية: بلسان اليمن الرئيس.
وقيصر معناه في اللغة البقير لأنه شق عنه، لأن أم قيصر ماتت في المخاض فشق عنه وأخرج فسمي قيصر، وكان يفتخر بذلك ويقول: لم أخرج من فرج، أي لأن كل من ملك الروم يقال له قيصر.
كتب كتابا لقيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث به دحية الكلبي ، وأمره أن يدفعه إلى قيصر ففعل كذلك، أي بعد أن قال: «من ينطلق بكتابي هذا، فيسير إلى هرقل وله الجنة؟ ».
وقيل أمر دحية أن يدفعه إلى عظيم بصرى وهو الحارث ملك غسان ليدفعه إلى قيصر.
ولما انتهى دحية إلى الحارث أرسل معه عديّ بن حاتم ليوصله إلى قيصر، فذهب به إليه، فقال قومه لدحية : إذا رأيت الملك فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك.
قال دحية : لا أفعل هذا أبدا ولا أسجد لغير الله، قالوا: إذن لا يؤخذ كتابك، فقال له رجل منهم: أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك ولا تسجد له، فقال دحية وما هو؟ فقال: إن له على كل عتبة منبرا يجلس عليه، فضع صحيفتك تجاه المنبر فإن أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ثم يدعو صاحبها ففعل، فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، ثم قال: انظروا لنا من قومه أحدا نسأله عنه، وكان أبو سفيان بن حرب بالشام، أي بغزة مع رجال من قريش في تجارة زمن هدنة الحديبية، أي وكان أولها في ذي القعدة سنة ست.
وقيل كتب إليه من تبوك، وذلك في السنة التاسعة. وجمع بينهما بأنه كتب لقيصر مرتين، والأول ما هو في الصحيحين، والثاني قاله السهيلي، واستدل له بخبر في مسند الإمام أحمد: أي وأغرب من قال إن الكتابة له كانت سنة خمس.
قال أبو سفيان: فأتانا رسول قيصر: أي وهو والي شرطته، فانطلق بنا حتى قدمنا عليه: أي في بيت المقدس، فإذا هو جالس وعليه التاج وعظماء الروم حوله، فقال لترجمانه: أي وهو المعبر عن لغة بلغة وهو معرّب. وقيل اسم عربي، سلهم أيهم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ أي وفي لفظ: لهذا الرجل الذي خرج بأرض العرب يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان، أنا أقربهم نسبا إليه، لأنه لم يكن في الركب يومئذ من بني عبد مناف غيري: أي لأن عبد مناف هو الأب الرابع له وكذا لأبي سفيان، أي وزاد في لفظ: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي، فقال له: ادن مني ثم أمر بأصحابي، فجعلوا خلف ظهري ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إنما قدمت هذا أمامكم كي أسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وإنما جعلتكم خلف ظهره لتردوا عليه كذبا إن قاله: أي حتى لا تستحيوا أن تشافهوه بالتكذيب إذا كذب، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء يومئذ أن يردوا عليّ كذبا لكذبت، ولكني استحيت، فصدقت وأنا كاره، أي وفي رواية: لولا مخافة أن يؤثر عني الكذب لكذبت: أي لولا خفت أن ينقل عني الكذب إلى قومي ويتحدثوا به في بلادي لكذبت عليه، لبغضي إياه ومحبتي نفصه، وبه يعلم أن الكذب من القبائح جاهلية وإسلاما. ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قلت: هو منا ذو نسب. قال: قل له هل قال هذا القول أحد منكم قبله؟ قلت: لا قال: قل له هل كنتم تتهمونه بالكذب على الناس قبل أن يقول ما قال؟ قلت لا. أي وفي رواية: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره لعله يطلب ملكا وشرفا كان لأحد من أهل بيته قبله. قال: هل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا، أي وزاد في رواية: كيف عقله ورأيه؟ قال لم نعب عليه عقلا ولا رأيا قط. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، أي والمراد بأشراف الناس أهل النخوة وأهل التكبر، فلا يرد مثل أبي بكر وعمر وحمزة ممن أسلم قبل هذا السؤال.
وعند ابن إسحاق : تبعه منا الضعفاء والمساكين والأحداث، وأما ذوو الأحساب والشرف فما تبعه منهم أحد، وهو محمول على الأكثر الأغلب: أي الأكثر والأغلب أن أتباعه ضعفاء. قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه: أي كراهة له وعدم رضا به بعد أن يدخل فيه؟ قلت لا. ولا يقال هذا منقوض بما لعبد الله بن جحش حيث ارتد ببلاد الحبشة لأنه يرتد كراهية للإسلام بل لغرض نفساني كما تقدم. قال: فهل يغدر إذا عاهد؟ قلت لا ونحن الآن منه في ذمة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت دول وسجال، ندل عليه مرة أي كما في أحد، ويدال علينا أخرى أي كما في بدر، وقد تقدم في أحد أن أبا سفيان رضي الله تعال عنه قال يوم أحد يوم بيوم بدر والحرب سجال: أي نوب.
وفي لفظ قال أبوسفيان: انتصر علينا مرة يوم بدر وأنا غائب ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وبجدع الآذان والأنوف والفروج، وأشار بذلك إلى يوم أحد.
قال: فما يأمركم به؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا أي والذي في البخاري يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة. وفي لفظ: والزكاة. وفي لفظ جمع بين الصدق والصدقة والعفاف أي ترك المحارم وخوارم المروءة، ويأمرنا بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة.
فقال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل هذا القول قاله أحد منكم قبله فزعمت أن لا فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت هو يأتم بقول قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى. وسألتك: هل كان من آبائه ملك فقلت لا فلو كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل: أي لأن الغالب أن أتباع الرسل أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار. وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، إذا حصل به انشراح الصدور والفرح به لا يسخطه أحد. وسألتك: هل قاتلتموه؟ قلت نعم، وإن حربكم وحربه دول وسجال يدال عليكم مرة وتدالون عليه أخرى، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون له العاقبة. وسألتك ماذا يأمركم به فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. أي وفي البخاري: وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر: أي لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يناله طالبه إلا بالغدر، فعلمت أنه نبي. وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه فيكم، وإن كان ما حدثتني به حقا فيوشك: أي يقرب أن يملك موضع قدمي هاتين.
أي وذكر بعضهم أن هذا يدل على أن هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل كانت عنده في الكتب القديمة من علامات نبوته.
وفيه أن هذا لا يأتي مع قوله ما تقدم إذ هو يقضي أن ذلك علامة على رسالة كل رسول ثم قال قيصر: ولو أعلم أني أخلص أي أصل إليه لتجشمت: أي تكلفت مع المشقة لقيه. أي وفي لفظ آخر: لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.
قال الإمام النووي : ولا عذر له في هذا، لأنه قد عرف صدق النبي ﷺ وإنما شح بالملك، فطلب الرياسة وآثرها على الإسلام، ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة.
قال الحافظ ابن حجر : لو تفطن هرقل لقوله في الكتاب إليه: «أسلم تسلم» وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم لو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله.
ثم قال: ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه: أي مبالغة في خدمته والتعبد له، ولا أطلب منه ولاية ولا منصبا.
قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب النبي ﷺ فقرىء عليه، فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى» أي ومن لم يتبع الهدى فلا سلام عليه، فليس في هذا بداءة الكافر بالسلام «أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام» أي بالكلمة الداعية للإسلام وهي كلمة التوحيد أي إليها، فالباء موضع إلى «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» أي لإيمانك بعيسى ثم بمحمد، أو لإيمان أتباعك بسبب إيمانك «فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين» أي فلاحي القرى: أي ومن ثم جاء في رواية: «إثم الفلاحين» وفي رواية «إثم الأكارين» والأكار: الفلاح، لأن أهل السواد وما والاهم أهل فلاحة، والمراد إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك. وخص هؤلاء بالذكر لأنهم أسرع انقيادا من غيرهم، لأن الغالب عليهم الجهل والجفاء وقلة الدين، والمراد عليك مع إثمك إثم رعاياك، لأنه إذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا، فهو متسبب في عدم إسلامهم، والفاعل لمعصية المتسبب لارتكاب غيره لها عليه الإثم من جهتين: جهة فعله وجهة تسببه {ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} والواو في قوله: «ويا أهل الكتاب» عاطفة على مقدر معطوف على قوله أدعوك. والتقدير أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك يا أهل الكتاب.
قيل وهذه الآية كتبها قبل نزولها لأنها إنما نزلت في وفد نجران، وذلك في سنة تسع. وهذه القصة كانت في سنة ست، وقيل بعد نزولها لأن نزولها كان في أول الهجرة في شأن اليهود. قال الحافظ ابن حجر : وجوز بعضهم نزولها مرتين وهو بعيد كذا قال فليتأمل.
قال أبو سفيان : فلما قضى مقالته وفرغ من الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم: أي أصواتهم التي لا نفهم.
وفي البخاري: كثر عنده الصخب: وارتفاع الأصوات. والصخب. اختلاط الأصوات عند المخاصمة. زاد البخاري: فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا، فلما خرجت أنا وأصحابي وخلصنا قلت لهم لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة: أي عظم أمره، هذا ملك بني الأصفر يخافه، فما زلت موقنا أن سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام، أي فأظهرت ذلك اليقين لأنه ارتفع. وفي لفظ: فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت.
وقد تقدم الكلام على كبشة، وهو أن جد وهب لأمه أبو آمنة أم النبي ﷺ كان يكنى أبا كبشة. قال في شرح مسلم: وهو الذي كان يعبد الشعرى، وأبو سلمة أم جده عبد المطلب كان يكنى أبا كبشة، وزوج مرضعته كان يكنى أبا كبشة، وتقدم الكلام أيضا على بني الأصفر.
ويروى أن أبا سفيان قال لقيصر لما سأله: هل كنتم تتهمونه بالكذب؟ فقال: لا لكن أخبرك عنه أيها الملك خبرا تعرف به أنه قد كذب، قال: وما هو؟ قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح، فقال بطريق: أي قائد من قواد الملك كان واقفا عند رأس قيصر: صدق أيها الملك، فنظر إليه قيصر، فقال: ما أعلمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول جبلا، فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا: لا نستطيع أن نحركه حتى نصبح، فلما أصبحت جئت إليه فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب. قال في النور: الذي يظهر لي أنه الصخرة: أي المراد بالصخرة في بعض الروايات كما قدمناه، وإذا فيه أثر مربط الدابة فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا لهذا الأمر، فقال قيصر لقومه: يا قوم ألستم تعلمون أن بين يدي الساعة نبيا بشركم به عيسى ابن مريم ترجون أن يجعله الله فيكم؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله قد جعله في غيركم، وهي رحمة الله عز وجل يضعها حيث يشاء، أي وأمر بإنزال دحية وإكرامه.
وذكر أن ابن أخي قيصر أظهر الغيظ الشديد وقال لعمه: قد ابتدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، ألق به: يعني الكتاب، فقال له: والله إنك لضعيف الرأي، أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر؟ هو حق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق، أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه. أي وفي لفظ أن أخا قيصر لما سمع الترجمان يقرأ: «من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم ضرب في صدر الترجمان ضربة شديدة، ونزع الكتاب من يده، وأراد أن يقطعه، فقال له قيصر: ما شأنك؟ فقال: تنظر في كتاب رجل قد بدأ بنفسه قبلك وسماك قيصر صاحب الروم وما ذكر لك ملكا؟ فقال له قيصر: إنك أحمق صغير أو مجنون كبير، أتريد أن تمزق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه؟ ولعمري إن كان رسول الله كما يقول لنفسه أحق أن يبدأ بها مني، ولئن سماني صاحب الروم لقد صدق، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم، ولكن الله سخرهم لي، ولو شاء لسلطهم عليّ كما سلط فارس على كسرى فقتلوه.
ولما جاءه الخبر عن قيصر قال: «ثبت ملكه» وفي لفظ: «سيكون لهم بقية، ولقد صدق الله ورسوله».
فقد ذكر الحافظ ابن حجر أن الملك المنصور قلاوون أرسل بعض أمرائه إلى ملك المغرب بهدية فأرسله ملك المغرب إلى الفرنج في شفاعة فقبله وأكرمه وقال له لأتحفنك بتحفة سنية فأخرج له صندوقا مصفحا بالذهب وأخرج منه مقلمة، وفي لفظ قصبة من الذهب.
فعن السيهلي قال: بلغني أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيما له، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصق عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وذكر لنا آباؤنا عن آبائهم أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزول الملك عنا فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه، ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا، أي ولا ينافيه ما جاء: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده» لأن المراد إذا زال ملكه عن الشام لا يخلفه فيه أحد، وكان كذلك لم يبق إلا ببلاد الروم.
أي ويروى أن قيصر لما رجع من بيت المقدس إلى محل دار ملكه وهي حمص، أي فإنه لما ظهر على الفرس وأخرجهم من بلاده نذر أن يأتي بيت المقدس ماشيا شكرا لله، فلما أراد الذهاب إلى بيت المقدس ماشيا بسط له البسط وطرح له عليها الرياحين، ولا زال يمشي على ذلك إلى أن وصل إلى بيت المقدس كما سيأتي، فلما رجع إلى حمص كان له فيها قصر عظيم، فأغلق أبوابه وأمر مناديا ينادي: ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه، فدخلت الأجناد في سلاحها وطافت تريد قتله فأرسل إليهم: إني أردت اختبار صلابتكم في دينكم، فقد رضيت فرضوا عنه.
والذي في البخاري أن قيصر لما سار إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع، فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد أغلقت، فلما رأى قيصر نفرتهم وأيس من الإيمان منهم أي وقالوا له اتدعونا أن نترك النصرانية ونصير عبيدا لأعرابي، فقال ردوهم عليّ وقال: إني قلت مقالتي أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه. وعند ذلك كتب كتابا وأرسله مع دحية إلى رسول الله ﷺ يقول فيه إني مسلم ولكنني مغلوب، وأرسل بهدية، فلما قرىء عليه الكتاب قال: كذب عدو الله، ليس بمسلم، وقبل هديته وقسمها بين المسلمين، ومصداق قوله: أن قيصر بعد هذه القصة بدون سنتين قاتل المسلمين بغزوة مؤتة.
وفي صحيح ابن حبان عن أنس : «أن النبي ﷺ كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه وأنه قارب الإجابة ولم يجب» وفي مسند الإمام أحمد: «أنه كتب من تبوك إلى النبي ﷺ إني مسلم، فقال النبي ﷺ: كذب إنه على نصرانيته». وفي لفظ: «كذب عدو الله والله إنه ليس بمسلم».
قال الحافظ ابن حجر : فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن: أي أظهر التصديق، لكنه لم يستمر عليه ولم يعمل بمقتضاه، بل شح بملكه، وآثر العافية على العاقبة لعنة الله عليه، أي لأنه تحقق كفره أي وقد ذكر حامل كتابه إليه قال جئت تبوك فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: هو هذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره، ثم قال: من أنت؟ قلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الإسلام دين الحنيفية ملة إبراهيم؟ قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم، فضحك وقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} فلما فرغ من قراءة كتابي قال: إن لك حقا، وإنك رسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا قوم سفر، فقال رجل: أنا أجوزه، فأتى بحلة فوضعها في حجري، فسألت عنه؟ فقيل لي: إنه عثمان بن عفان .