السيرة الحلبية/باب عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل من العرب أن يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق
أي لأنه أخفى رسالته ثلاث سنين، ثم أعلن بها في الرابعة على ما تقدم، ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كل عام، يتبع الحجاج في منازلهم أي بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق المواسم، وهي: عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، فقد تقدم أن العرب كانت إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوّال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما، ثم تجيء سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه.
فعن جابر بن عبدالله قال «كان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ألا رجل يعرض عليّ قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» وعن بعضهم «رأيت رسول الله ﷺ قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس في منازلهم أي بمنى يقول: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ووراءه رجل يقول يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم، فسألت من هذا الرجل؟ فقيل أبو لهب يعني عمه».
وفي رواية عن أبي طارق قال: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وخلفه رجل له غديرتان» أي ذؤابتان «يرجمه بالحجارة حتى أدمي كعبه يقول يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب، فسألت عنه، فقيل إنه غلام عبد المطلب، فقلت ومن الرجل الذي يرجمه؟ فقيل هو عمه عبد العزى يعني أبا لهب».
أي وفي السيرة الهشامية عن بعضهم قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله ﷺ يقف في منازل القبائل من العرب فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا لي وتصدقوني، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به، قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله ﷺ من قوله قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فقلت لأبي: من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب».
وذكر ابن إسحاق أنه عرض نفسه على كندة وكلب أي إلى بطن منهم، يقال لهم بنو عبدالله، فقال لهم «إن الله قد أحسن اسم أبيكم أي عبدالله» أي فقد قال «أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبد الرحمن» ثم عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم، وعرض على بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة أي فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك، فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث شاء؛ قال: فقال له، أنقاتل العرب دونك؟ وفي رواية، أنهدف نحورنا للعرب دونك» أي نجعل نحورنا هدفا لنبلهم «فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه، فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم؛ فلما قدموا عليه سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف» أي تدارك. «هل لها من مطلب؛ والذي نفس فلان بيده ما يقولها» أي ما يدعي النبوة «كاذبا أحد من بني إسماعيل قط، وإنها لحق، وإن رأيكم غاب عنكم».
وذكر الواقدي أنه أتى بني عبس أي وبني سليم وغسان وبني محارب أي وفزارة وبني نضر ومرة وعذرة والحضارمة، فيردون عليه أقبح الرد، ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بني حنيفة، أي وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب؟ وقيل لهم بنو حنيفة، لأن أمهم حنيفة قيل لها ذلك لحنف كان في رجلها وثقيف، أي ومن ثم جاء «شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف».
أي ودفع هو وأبو بكر إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم. وقال: ممن القوم، قالوا: من ربيعة؟ قال: وأي ربيعة؟ من هامتها أو من لهازمها قالوا: بل الهامة العظمى، قال: من أيها؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم حامي الذمار ومانع الجار فلان؟ قالوا لا، قال: منكم قاتل الملوك وسالبها فلان؟ قالوا لا، قال: منكم صاحب العمامة الفردة فلان؟ قالوا لا، قال: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه شاب حين بقل وجهه أي طلع شعر وجهه، فقال له: إن على سائلنا أن نسأله، يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك، فممن الرجل؟ فقال أبو بكر : أنا من قريش، فقال الفتى، بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة فقال الفتى: أمكنت أمنكم قصي الذي كان يدعى مجمعا قال لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه قال لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء قال لا، واجتذب أبو بكر زمام ناقته، ورجع إلى رسول الله ﷺ وأخبره بذلك؛ فتبسم رسول الله ﷺ وقال له عليّ : لقد وقعت من الأعرابي على باقعة أي داهية أي ذي دهاء. وهو في الأصل اسم لطائر حذر يطير يمنة ويسرة قال: أجل أبا حسن؛ ما من طامة إلا فوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق، أي واستفهام الفتى توبيخي لا حقيقي لأن من المعلوم أن من ذكر ليسوا من تيم، لأن أبا بكر كما تقدم إنما يجتمع مع النبي ﷺ في مرة؛ ومرة جد لقصي؛ فكأنه يقول له إن قبيلتكم لم تشتمل على هؤلاء الأشراف؛ أي كما أن قبيلتنا لم تشتمل على أولئك الأشراف.
وعن عبدالله بن عباس «أنه لقي جماعة من شيبان بن ثعلبة؛ وكان معه أبو بكر وعلي ؛ وأن أبا بكر سألهم ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ﷺ فقال: بأبي أنت وأمي، هؤلاء غرر، أي سادات في قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانىء» بالهمز «ابن قبيصة» بفتح القاف «ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك. وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا له غديرتان» أي ذؤابتان من شعر «وكان أدنى القوم، أي أقرب مجلسا من أبي بكر ، فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلة، والذي قاله «لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» قاله لما أراد أن يغزو هوازن، وكان جيشه العدد المذكور كما سيأتي «فقال أبو بكر ، كيف المنعة فيكم قال مفروق: علينا الجهد» أي بفتح الجيم وضمها أي الطاقة «ولكل قوم جد» بفتح الجيم أي حظ وسعادة» أي علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر، لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء، فقال أبو بكر : فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق: إنا لأشد ما يكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد أي من الخيل على الأولاد، والسلاح على اللَّقاح» أي ذوات اللبن من الإبل، وربما قيل للبقر والغنم أيضا «والنصر من عند الله، يديلنا» بضم أوله وكسر الدال المهملة: أي ينصرنا «مرة، ويديل علينا مرة» أي ينصر علينا أخرى «لعلك أخو قريش، فقال أبو بكر : أوقد بلغكم أن رسول الله ﷺ فيها هوذا فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله ﷺ فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت» أي تعاونت «على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، قال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} قال مفروق: ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم عرفناه، ثم قال: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش، فتلا رسول الله {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.
وهذه الآية ذكر العز بن عبد السلام أنها اشتملت على جميع الأحكام الشرعية، وبين ذلك في سائر الأبواب الفقهية، وضمن ذلك كتابا سماه الشجرة «فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم» أي صرفوا عن الحق {كذبوك وظاهروا} أي عاونوا «عليك، وكان مفروق أراد أن يشركه أي يشاركه في الكلام هانىء بن قبيصة، فقال: هذا هانىء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانىء قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب دون ما يلي أنهار كسرى فعلنا، فإنا إنما نزلنا على عهدأخذه علينا كسرى: أن لا نحدث حدثا، وأن لا نؤوي محدثا. وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك فقال رسول الله ﷺ: ما أسأتم في الرد، إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم، ويغرسكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا فتلا رسول الله {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين} ثم نهض رسول الله » أي وهؤلاء لم أقف على إسلام أحد منهم؛ إلا أن في الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيباني، وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم، ولعله هو هذا، لقول هانىء بن قبيصة فيه: إنه صاحب حربنا.
ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة، فيكون من الصحابة، أي وفي أسد الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة، ونقل عن أبي نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق إسلاما.
ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله ﷺ لأبي بكر ائتهم. فاعرضني عليهم، فأتاهم فعرض عليهم، فقال لهم: كيف العدد فيكم، قالوا: كثير مثل الثرى، قال: فكيف المنعة؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس فنحن لا نمنع منهم ولا نجير عليهم، قال: فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه وثلاثا وثلاثين وتكبروه ثلاثا وثلاثين؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا رسول الله، ثم مر بهم أبو لهب فقالوا له هل تعرف هذا الرجل؟ قال نعم، فأخبروه بما دعاهم إليه، وأنه زعم أنه رسول الله، فقال لهم: لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، فقالوا: لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر».
وفي رواية أنه لما سألهم قالوا له: حتى يجيء شيخنا حارثة، فلما جاء قال: إنا بيننا وبينك من الفرس حربا، فإذا فرغنا عما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول، فلما التقوا مع الفرس قال شيخهم: ما اسم الرجل الذي دعاكم إليه؟ قالوا محمد، قال: فهو شعاركم فنصروا على الفرس، فقال رسول الله ﷺ: بي نصروا، أي نصروا بذكرهم اسمي.
ولا زال يعرض نفسه على القبائل في كل موسم، ويقول «لا أكره أحدا على شيء، من رضي الذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد من تلك القبائل، ويقولون: قوم الرجل أعلم به ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه.
وعن ابن إسحاق لما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه، ، وإنجاز موعده له خرج رسول الله ﷺ في الموسم.
وفي سيرة مغلطاي ومستدرك الحاكم أن ذلك كان في شهر رجب يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم «فبينا هو عند العقبة التي تضاف إليها الجمرة فيقال جمرة العقبة، أي وهي عند يسار الطريق لقاصد منى مكة، وبها الآن مسجد يقال له مسجد البيعة، إذ لقي بها رهطا من الخزرج: أي لأن الأوس والخزرج كانوا يحجون فيمن يحج من العرب، أي والأوس في الأصل أي اللغة: العطية، ويقال للذئب، ويقال لرجل اللهو واللعب. والخزرج في الأصل: الريح الباردة، قيل هي الجنوب خاصة وكانوا ستة نفر، وقيل ثمانية أراد الله تعالى بهم خيرا، وقد عد الستة في الأصل، وبين الناس اختلاف في ذكرهم، فقال لهم: من أنتم؛ قالوا نفر من الخزرج، فقال: أمن موالي يهود: أي من حلفاء يهود المدينة قريظة والنضير، لأنهم تحالفوا معهم على التناصر والتعاضد على من سواهم، وأن يأمن بعضهم من بعض، وهذا كان في أول أمرهم قبل أن تقوى شوكتهم على يهود قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، وفي لفظ «وجدهم يحلقون رؤوسهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، أي ورأوا امارات الصدق عليه لائحة، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أنه للنبي الذي يوعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، لأن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شيء من الشر قالوا لهم: سيبعث نبي قد أظل: أي قرب زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتلة عاد وإرم: أي كما تقدم في أخبار الأحبار، والمراد نستأصلكم بالقتل، فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا له: إنا تركنا قومنا يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة والشر ما بينهم، أي فإن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت بينهما الحروب، فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة:
أي مائة وعشرين كما في الكشاف، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
أقول: وفي رواية «قالوا يا رسول الله إنما كانت بُعاث» أي بضم الموحدة ثم عين مهملة مخففة وفي آخره ثاء مثلثة، وقيل بفتح الموحدة وبدل المهلمة معجمة، قيل وذكر المعجمة تصحيف. فعن ابن دريد: صحف الخليل بن أحمد يوم بغاث بالغين المعجمة، وإنما هو بالمهملة. وفي القاموس بالمهملة والمعجمة «عام أول يوم من أيامنا اقتتلنا به ونحن كذلك، لا يكون لنا عليك اجتماع حتى نرجع إلى غابرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك» فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك» وبعاث مكان قريب من المدينة على ليلتين منها عند بني قريظة، ويقال إنه حصن للأوس كان به القتال قبل قدومه المدينة بخمس سنين بين الأوس والخزرج. وسيد الأوس ورئيسهم حينئذ حضير والد أسيد، وبه قتل مع من قتل من قومه، وكان النصر فيهم أولا للخزرج ثم صار للأوس.
وسبب القتل أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف، فقتل رجل من الأوس أي وهو سويد بن الصامت رجلا حليفا للخزرج: أي وهو ذياد والد المحذر بن ذياد، وذياد بالذال المعجمة، مكسورة ومفتوحة وتخفيف المثناة تحت، والمحذر بالذال المعجمة مشددة مفتوحة، فأرادوا أن يقتلوا سويدا فيه، فأبى عليه الأوس، وذلك لأن سويدا هذا كان تسميه قومه الكامل لشرفه، ونسبه وشعره وجلده، كان ابن خالة عبد المطلب لأن أمه أخت سلمى أم عبد المطلب، وكان قدم مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله حين سمع به لأنه كان لا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، فدعا سويدا إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله ﷺ اعرضها عليّ فعرضها عليه فقال رسول الله ﷺ: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله ﷺ القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج».
وفي كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل المدينة إلى قومه، فشعروا بإيمانه، فقتلته الخزرج بغتة وقيل القاتل له المحذر ولد ذياد الذي قتله سويد، لأن سويدا كان قد شرب الخمر وجلس يبول وهو ممتلىء سكرا، فضربه إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المحذر بن ذياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟ قال: ما هي، قال: سويد أعزل لا سلاح معه فخرج المحذر بالسيف مصلتا فلما أبصر سويدا قال له: قد أمكن الله منك، قال: ما تريد مني؟ قال: قتلك فقتله، فكان ذلك سبب الحرب بين الأوس والخزرج ببعاث، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أسلم الحارث بن سويد والمحذر بن ذياد وشهدا بدرا، فجعل الحارث بن سويد يطلب محذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه، حتى كان وقعة أحد قدر عليه فقتله غيلة كما سيأتي.
وممن قتل في هذه الحرب التي يقال لها بعاث شخص، يقال له إياس بن معاذ قدم مكة هو وشخص يقال له أبو الحيسر أنس بن رافع، مع جماعة من قومهم يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج، فأتاهم رسول الله ﷺ فجلس إليهم وقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له، قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني للعباد، وأدعوهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان صغيرا: أي قوم والله خير مما جئنا إليه، فأخذ أبو الحيسر حفنة من تراب فضرب بها وجه إياس وانتهزه، وقال له: دعنا منك لقد جئنا لغير هذا، فسكت إياس وقام رسول الله ﷺ عنهم، فلما دنا موت إياس صار يحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره حتى مات» والله أعلم. ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى بلادهم.
قال وفي رواية «أنهم لما آمنوا به وصدقوه قالوا له: إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك: أي على حالك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله ورسوله لعل الله يصلح ذات بينهم ونواعدك الموسم من العام المقبل؛ فرضي بذلك رسول الله ». انتهى أي فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة، ويسمى هذا ابتداء الإسلام للأنصار، وربما سماه بعضهم العقبة الأولى، فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا: أي عشرة من الخزرج واثنان من الأوس. وقيل: كانوا أحد عشر رجلا منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به عند العقبة أولا، فاجتمع بهم عند العقبة أيضا، فبايعهم: أي عاهدهم، أي وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها بالمعاوضة المالية، وتلا عليهم آية النساء: أي الآية التي نزلت بعد ذلك في شأن النساء يوم الفتح لما فرغ من مبايعة الرجال وأراد مبايعة النساء.
فعن عبادة بن الصامت «بايعنا رسول الله ﷺ بيعة النساء» أي كبيعة النساء أي كمبايعته للنساء التي كانت يوم فتح مكة، وهي على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا» أي لأن قتل الأولاد كان سائغا فيهم، وهو وأد البنات قيل والبنين خوف الإملاق.
وفي النهر: كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم، وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهن: وهو دفنهن أحياء؛ فبعضهم يئد خوف العيلة والافتقار، وبعضهم خوف السبي، قال: «ولا نأتي بهتان» أي الكذب الذي يبهت صاحبه سامعه «نقتريه بين أيدينا وأرجلنا» أي في الحال والاستقبال، قيل وغير ذلك، ولا نعصيه في معروف أي ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا.
قال الحافظ ابن حجر: المبايعة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما نص بيعة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره عن أهل المغازي «أن النبي ﷺ قال لمن حضر من الأنصار: أبايعكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك، وعلى أن ير حل إليهم هو وأصحابه» ثم ذكر جملة من الأحاديث، وقال: هذه أدلة صريحة في أن هذه البيعة بعد نزول الآية بعد فتح مكة.
أقول: ليس في كلام عبادة أن هذه البيعة بيعة العقبة، إذ لم يقل بايعنا رسول لله بيعة العقبة وإن كان السياق يقتضيه، وحينئذ فلا يحسن أن يكون كلام عبادة شاهدا لمن قال، وتلا عليهم آية النساء، فلا يحسن التفريع المتقدم، بل هو دليل على أن هذه المبايعة متأخرة عن يوم الفتح كما قال الحافظ، والله أعلم.
زاد بعضهم «والسمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم، ثم قال: ومن وفى» بالتخفيف والتشديد: أي ثبت على العهد «فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو» أي العقاب «طهرة له، أو قال كفارة له».
واستشكل بأن أبا هريرة روى أنه قال «لا أدري، الحدود كفارة لأهلها أو لا» وإسلام أبي هريرة تأخر عن بيعة العقبة بسبع سنين كما سيأتي، فإنه كان عام خيبر سنة سبع.
ويجاب بأن هذه البيعة التي ذكرها عبادة ليست بيعة العقبة، بل بيعة غيرها وقعت بعد فتح مكة كما علمت.
وحينئذ يكون ما رواه أبو هريرة كان قبل أن يعلم ذلك ثم علمه: أي أن الحدود كفارة، قال «ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله ، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه» أي وكون الحدود كفارة وطهرة مخصوص بغير الشرك، فقتل المرتد لا يكون كفارة وطهرة له، لأن الله لا يغفر أن يشرك به.
وفي رواية «فإن رضيتم فلكم الجنة» وإن غشيتم، من ذلك شيئا فأصبتم بحد في الدنيا فهو كفارة لكم في الدنيا، وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله، إن شاء عذب، وإن شاء غفر» أي وفي هذا ردّ على من قال بوجوب التعذيب لمن مات بلا توبة، وعلى من قال بكفر مرتكب الكبيرة.
«فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله ﷺ معهم ابن أم مكتوم» واسمها عاتكة، واسمه عمرو، وقيل عبدالله، وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين .
قال الشعبي: غزا رسول الله ﷺ ثلاث عشرة غزوة، ما فيها غزوة إلا واستخلف ابن أم مكتوم على المدينة، وكان يصلي بهم» وليس له رواية، ومصعب ابن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ويعلمانهم: أي من أراد أن يسلم الإسلام، ويفقهانهم في الدين، ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام، وهذا ما في أكثر الروايات؛ وهو يفيد أنه بعث بهما معا، ويدل له ما روى عن البراء بن عازب «أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله ﷺ مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن» أي وفي رواية «أن رسول الله ﷺ بعث إليهم مصعبا حين كتبوا إليه يبعث إليهم».
وفي رواية «ثم بعثوا إلى رسول الله ﷺ معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن أبعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا ويدعو الناس بكتاب الله» وفي رواية «كتبوا إليه بذلك، فبعث إليهم رسول الله ﷺ مصعب بن عمير وكان يقال له المقرىء، وهو أول من تسمى بهذا الاسم، وهذا يدل على أن مصعبا لم يكن معهم.
أقول: وقد يقال لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون كتبوا وأرسلوا إليه بذلك عند خروجهم من مكة، وقبل أن ينصرفوا منها راجعين إلى المدينة، والاقتصار على مصعب لا ينافي ما تقدم من ذكر ابن أم مكتوم معه.
ثم رأيت ما يبعد الجمع الأول، وهو عن ابن إسحاق «أن رسول الله ﷺ إنما بعثه يعني مصعب بن عمير بعدهم» وإنما كتبوا إليه «إن الإسلام قد فشا فينا، فابعث إلينا رجلا من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا في الإسلام ويعلمنا بسنته وشرائعه ويؤمنا في صلاتنا، فبعث مصعب بن عمير» وما يبعد الجمع الثاني، وهو ما نقل عن الواقدي «أن ابن أم مكتوم قدم المدينة بعد بدر بيسير». وفي كلام ابن قتيبة: وقدم ابن أم مكتوم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين.
وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون كل من مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رجعا إلى مكة بعد مجيئهما مع القوم، وأن مكاتبتهم بأن الإسلام فشا فينا إلى آخره كانت وهم بالمدينة، فجاء إليهم مصعب وتخلف ابن أم مكتوم، فليتأمل ذلك، والله تعالى أعلم. وهذه المبايعة يقال لها العقبة الأولى لوجود تلك المبايعة عندها.
ولما قدم مصعب المدينة نزل على أبي امامة أسعد بن زرارة دون بقية رفقته، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين بقباء قبل أن يقدم رسول الله، وكان مصعب يؤمّ القوم: أي الأوس والخزرج، لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وجمع بهم أول جمعة جمعت في الإسلام قبل قدومه، المدينة وقبل نزول سورة الجمعة الآمرة بها فإنها مدنية.
وقال الشيخ أبو حامد: فرضت الجمعة بمكة ولم يتمكن من فعلها. قال الحافظ ابن حجر: وهو غريب، أي وعلى صحته فهو ما تقدم حكمه على تلاوته.
وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أبو امامة أسعد بن زرارة وكانوا أربعين رجلا: أي فعن كعب بن مالك قال: أول من جمع بنا في المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبي ﷺ في نقيع الخضمان، والنقيع بالنون قيل أو بالباء الموحدة، لكن قال الخطابي: إنه خطأ، والخضمان: جمع خضمة: وهي الماشية التي تخضم أي تأكل بفمها كله مما في ذلك المحل من الكلأ: وهو اسم لقرية من قرى المدينة، قال: وكنا أربعين رجلا: أي ولا مخالفة، لأن مصعب بن عمير كان عند أبي امامة أسعد بن زرارة كما علمت فكان هو المعاون على الجمع، وكان الخطيب والمصلي مصعب بن عمير، فنسب الجمع لكل منهما، أي ويكون ما في الرواية الآتية من أن أسعد بن زرارة هو الذي صلى بهم على التجوز: أي جمعهم على الصلاة، ويؤيده ما تقدم من أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وأيضا المأمور بالتجميع مصعب بن عمير كما سيأتي.
قال السهيلي: وتسميتهم: أي الأنصار إياها بهذا الاسم: أي تسميتهم اليوم بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه هداية من الله تعالى لهم، وإلا فكانت تسمى في الجاهلية العروبة: أي يسمى ذلك اليوم بيوم العروبة: أي الرحمة. وقال في حق ذلك اليوم «إنه اليوم الذي فرض عليهم» أي على اليهود والنصارى أي طلب منهم تعظيمه والتفرغ للعبادة فيه كما فرض علينا «أضلته اليهود والنصارى، وهداكم الله تعالى له» أي إن كلا من اليهود والنصارى أمر بذلك اليوم يعظمون فيه الحق سبحانه وتعالى ويتفرغون فيه لعبادته، واختار اليهود من قبل أنفسهم بدله السبت لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق سبحانه وتعالى من خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات، أي بناء على أن أول الأسبوع الأحد، وأنه مبدأ الخلق. قال بعضهم: وهو الراجح.
وفي كلام بعضهم: أول الأسبوع الأحد لغة، وأوله السبت عرفا: أي في عرف الفقهاء في الإيمان ونحوها. ويؤيد الأول أن السبت مأخوذ من السبات وهي الراحة، قال تعالى {وجعلنا نومكم سباتا} أي راحةٌ ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة.
واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد، أي بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة. وحينئذ يكون معنى قوله أضلوه: تركوه مع علمهم به، ويؤيد ذلك ما جاء «إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم، وهدى الله تعالى المسلمين ليوم الجمعة» أي وهداية المسلمين له تدل على أنهم لم يعلموا عينه، وإنما اجتهدوا فيه فصادفوه.
وفي (سفر السعادة): كان من عوائده الكريمة أن يعظم يوم الجمعة غاية التعظيم، ويخصه بأنواع التشريف والتكريم.
وجاء «إن أهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما تتباشر به أهل الدنيا في الدنيا واسمه عندهم يوم المزيد» كما تقدم «لأن الله تعالى يتجلى عليهم في ذلك اليوم، ويعطيهم كل ما يتمنونه ويقول لهم: لكم ما تمنيتم ولدينا مزيد» فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير.
وقد جاء في المرفوع «يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله تعالى، فهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان».
والذي في البخاري «ثم هذا» أي يوم الجمعة «يومهم الذي فرض عليهم: أي على اليهود والنصارى، فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» وقوله فاختلفوا فيه يدل على أنهم لم يعلموا عينه، ويوافقه ما نقل عن بعض أهل العلم أن اليهود أمروا بيوم من الأسبوع يعظمون الله تعالى فيه ويتفرغون لعبادته، فاختاروا من قبل أنفسهم السبت فأكرموه في شرعهم، وكذلك النصارى أمروا على لسان عيسى بيوم من الأسبوع، فاختاروا من قبل أنفسهم الأحد، فالتزموه شرعا لهم، وهو يخالف ما سبق فليتأمل.
قال بعضهم: والراجح أن أول الأسبوع السبت، لأنه أول يوم ابتدىء فيه بإيجاد المخلوقات، فقد جاء في الصحيح «إن الله خلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء» كذا في مسلم. وعليه يشكل تسمية اليوم الذي يليه الأحد. وأجيب بأنه من تسمية اليهود، وتبعهم غيرهم.
وقد ذكر السهيلي أن تسمية هذه الأيام طارئة؛ ولو كان الله سبحانه وتعالى سماها في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هي تسمية صادقة، لكن لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت، وإنهما ليسا مشتقين من العدد هذا كلامه.
وردّ بأنه جاء«إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد، ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسا فسماه الخميس».
وأجاب ابن حجر الهيتمي بأن هذه: أي التسمية المذكورة لم تثبت، وأن العرب تسمى خامس الورد أربعاء، هذا كلامه، فيكون أول الأسبوع السبت.
ثم رأيت السهيلي قال: لم يسمها رسول الله ﷺ بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا تسميتها، ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعا لهم، هذا كلامه فليتأمل.
وفي السبعيات للهمداني: أكرم الله موسى بالسبت، وعيسى بالأحد، وداود بالاثنين، وسليمان بالثلاثاء، ويعقوب بالأربعاء، وآدم بالخميس، ومحمدا بالجمعة، وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم فليتأمل الجمع.
وقد «سئل عن يوم السبت؟ قال: يوم مكر وخديعة» أي وقع فيه المكر والخديعة، أي لأنه اليوم الذي اجتمعت فيه قريش في دار الندوة، للاستشارة في أمره «وسئل عن يوم الأحد؟ فقال: يوم غرس وعمارة» لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها. وفي رواية لأن الجنة بنيت فيه وغرست «وسئل عن يوم الاثنين، فقال: يوم سفر وتجارة» لأن فيه سافر شعيب فربح في تجارته. «وسئل عن يوم الثلاثاء؟ فقال: يوم دم» لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه.
وذكر الهمداني في السبعيات أيضا أنه قتل فيه سبعة: جرجيس، وزكريا، ويحيى ولده عليهم الصلاة والسلام، وسحرة فرعون، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وبقرة بني إسرائيل، وهابيل بن آدم، وبين قصة كل واحد.
أي ومن ثم نهى رسول الله ﷺ عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي وقال «فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم، وفيه نزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلقت جهنم، وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم، وفيه ابتلي أيوب» وفي بعض الروايات أن اليوم الذي ابتلى الله فيه أيوب يوم الأربعاء.
وسئل «عن يوم الأربعاء؟ قال: يوم نحس» لأن فيه أغرق فرعون وقومه، وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح، أي ومن ثم كان يسمى في الجاهلية دبار، والدبار الملهى لكن الذي في الحديث الموقوف على ابن عباس الذي لا يقال من قبل الرأي «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر» وجاء «يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء».
وذكر الزمخشري أن بعضهم قال لأخيه اخرج معي في حاجة فقال: هذا الأربعاء، قال: فيه ولد يونس، قال لا جرم قد بانت له بركته: أي حيث ابتلعه الحوت؛ قال: وفيه ولد يوسف، قال: فما أحسن ما فعل به إخوته! طال حبسه وغربته، قال: وفيه نصر المصطفى يوم الأحزاب، قال: أجل، ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.
وورد في بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص.
وعن ابن الحاج صاحب المدخل أنه همّ بقص أظفاره يوم الأربعاء، فتذكر ذلك فترك، ثم رأى أن قص الأظفار سنة حاضرة ولم يصح عنده النهي فقصها فلحقه البرص فرأى النبي ﷺ في النوم، فقال له ألم تسمع نهي عن ذلك؟ فقال: يا رسول الله لم يصح ذلك عندي، فقال: يكفيك أن تسمع، ثم مسح بيده على بدنه فزال البرص جميعا. قال ابن الحاج، فجددت مع الله توبة أني لا أخالف ما سمعت عن رسول الله ﷺ أبدا.
وجاء في حديث أخرجه ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعا، وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا مرض إلا يوم الأربعاء» وكره بعضهم عيادة المريض يوم الأربعاء.
وفي منهاج الحليمي وشعب الإيمان للبيهقي «إن الدعاء مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر» لأنه أستجيب له الدعاء على الأحزاب في ذلك اليوم في ذلك الوقت. وكان جابر يتحرى ذلك بالدعاء في مهماته، وذكر أنه ما بدىء بشيء يوم الأربعاء إلا وتمّ، فينبغي البداءة بنحو التدريس فيه.
«وسئل عن يوم الخميس؟ فقال: يوم قضاء الحوائج» لأن فيه دخل إبراهيم الخليل على ملك مصر فقضى حاجته وأعطاه هاجر، ومن ثم زاد في رواية «والدخول على السلطان». «وسئل عن يوم الجمعة؟ فقال: يوم نكاح نكح فيه آدم حواء، ويوسف زليخا، وموسى بنت شعيب، وسليمان بلقيس» أي ونكح فيه خديجة وعائشة.
وعن ابن عباس «أذن النبي ﷺ لهم قبل الهجرة» أي قبل أن يهاجر «في إقامة الجمعة» أي فلم يفعلوها باجتهاد، بل باذنه. وكتب إلى مصعب بن عمير «أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أي اليوم الذي يليه يوم السبت، فأجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين، فجمع مصعب بن عمير عند الزوال: أي صلى الجمعة حتى قدم رسول الله ﷺ: أي استمر على ذلك حتى قدم النبي. وهذا يدل على أنه عين لهم ذلك اليوم، وهو خلاف قوله السابق «فهداكم الله له» الظاهر في أن هدايتهم له باجتهاد منهم.
ويدل له ما روي عن ابن عباس باسناد صحيح «أن الأنصار قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلمّ لنجعل يوما نجتمع فيه، فنذكر الله ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة» أي لأنه اليوم الذي وقع فيه خلق آدم الذي هو مبدأ هذا الجنس، وجعل فيه فناء الخلق وانقضاءهم إذ فيه تقوم الساعة، ففيه المبدأ والمعاد إذ هو المرويّ عن ابن عباس، يقتضي أن الأنصار اختاروه باجتهاد منهم. إلا أن يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون هذا العزم على ذلك حصل منهم أوّلا ثم أرسلوا له يستأذنونه في ذلك فأذن لهم فيه، فقد جاء الوحي موافقة لما اختاروه.
وفيه أنه لو كان كذلك لقال لمصعب بن عمير افعلوا ذلك ولم يقل له انظروا إلى اليوم إلى آخره. إلا أن يقال: يجوز أنهم لما استأذنوه في الاجتماع لم يعينوا له اليوم فبينه لهم. وتقدم عن الشيخ أبي حامد أن الجمعة أمر بها وهو بمكة، وتركها لعدم التمكن من فعلها، تقدم عن الحافظ ابن حجر أنه غريب، ويؤيده أنه لو كان أمر بها وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها لأمر بها مصعب بن عمير عند إرساله للمدينة ولم يأمره بها إلا بعد ذلك. إلا أن يقال: إنما لم يأمره بها حينئذ، لأنه يجوز أن يكون إنما أمر بها بعد ذهاب مصعب إلى المدينة، أو أنه إنما لم يأمره بذلك لأن لإقامتها شروطا منها العدد وهو عند إمامنا الشافعي أربعون بشروط ولم يكن ذلك موجودا عند إرساله، ومن ثم لما علم وجود العدد المذكور أرسل له يأمره بذلك في قوله: أما بعد فانظر اليوم الخ.
ثم لا يخفى أن ظاهر سياق الروايات يدل على أن الذي هداهم الله إليه إنما هو إيقاع العبادة في هذا اليوم لا تسميته بيوم الجمعة كما تقدم عن السهيلي، على أن تسميتهم له بذلك لم أقف عليها في رواية.
على أن السهيلي ذكر عن ابن عباس أن النبي ﷺ سماها يوم الجمعة لما أرسل لمصعب بن عمير أن يفعلها كما تقدم في الإسراء، وذكر أيضا أن كعب بن لؤيّ أول من سمى يوم العروبة الجمعة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون الأنصار ومن معهم من المهاجرين لم يبلغهم ما ذكر عن كعب بن لؤيّ إن ثبت أنهم سموها بهذا الاسم اجتهادا منهم.
وعن أبي هريرة «أنه سأل رسول الله ﷺ عن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة، فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيك آدم» وقدمنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وما تقدم في الإسراء والله أعلم.
وأسلم سعد بن معاذ وابن عمه أسيد بن حضير على يد مصعب بن عمير، وكان إسلام أسيد قبل سعد في يومه.
فعن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير إلى حائط: أي بستان من حوائط بني ظفر، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذٍ سيدا قومهما: أي بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبالك، انطلق بنا إلى هذين الرجلين؛ يعني أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير اللذين أتيا دارينا تثنية دار، وهي المحلة، والمراد قبيلتنا وعشيرتنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وأنهما: أي وفي لفظ قال له: ائت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره، فإنه بلغني أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب يسفه سفهاءنا وضعفاءنا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث علمت لكفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، ثم قال مصعب: إن يجلس هذا كلمته. قال: فوقف عليهما متشمتا، قال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، وفي لفظ قال: يا أسعد مالنا ولك؟ تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا وضعفاءنا.
وفي رواية: علام أتينا في دورنا بهذا الرجل الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه. فقال له مصعب: أو تجلس بفتح الواو استفهاما فتسمع بالنصب في جواب الاستفهام، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره: أي منعنا عنك ما تكره، قال أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليها، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال: ما أحسن هذا وأجمله بالنصب على التعجب، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل وتتطهر وتغسل ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق ثم تصلي، فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد بشهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين: أي وهما صلاة التوبة.
فقد روى أصحاب السنن، وقال الترمذي حديث حسن أنه قال «ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له» ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك: أي ينقضوا عهدك، فقام سعد مغضبا مبادرا فأخذ الحربة من يده وقال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، ولما أقبل سعد قال أسعد لمصعب: لقد جاءك والله سيد مَنْ وراءه مِنْ قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا امامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا، هذا يغشانا في دارنا بما نكره، فقال له مصعب: أو تقعد تسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وعرض عليه القرآن، فقال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ فقال: تغتسل وتتطهر وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تركع ركعتين، فقام سعد فاغتسل وطهر ثوبه ثم شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه: أي مع ذلك النادي أسيد بن حضير. فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا وأبركنا نقيبة أي نفسا وأمرا؛ قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في داري: أي قبيلة بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة فأسلموا في يوم واحد كلهم، وكان ذلك بعد العقبة الأولى وقبل العقبة الثانية، إلا ما كان من الأصيرم وهو عمرو بن ثابت من بني عبد الأشهل فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد، ولم يسجد لله سجدة، وأخبره أنه من أهل الجنة.
أي وفي كلام ابن الجوزي: أول دار أي قبيلة أسلمت من دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، ثم رجع مصعب إلى دار أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور من الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من سكان عوالي المدينة: أي قراها من جهة نجد، قال: وفي كلام بعضهم إلا جماعة من الأوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس وهو صيفي بن الأسلت، وكان شاعرا لهم يسمعون منه ويطيعونه، لأنه كان قوّالا بالحق معظما؛ وقد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، واغتسل من الجنابة، ودخل بيتا فاتخذه مسجدا وقال: أعبد إله إبراهيم لا يدخل فيه حائض ولا جنب، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير ا هـ أي سبب تأخر إسلامه ما ذكره بعضهم أنه لما أراد الإسلام عند قدومه المدينة لقيه أبي ابن سلول وكلمه بما أغضبه ونفره عن الإسلام وقال أبو قيس: لا أتبعه إلا آخر الناس، فلما احتضر أرسل إليه رسول الله ﷺ أن قل: لا إله إلا الله أشفع لك بها، فقالها وهمّ ابنه أن ينكح امرأة أبيه، أي على ما هو عادة الجاهلية، أي وكان ذلك في المدينة حتى في أول الإسلام أنّ أكبر أولاد الرجل يخلفه على زوجته بعد موته فنزل التحريم: أي قوله تعالى {ولا تَنكِحُوا ما نكح آباؤكم من النساء} وتقدم الكلام على سبب نزول هذه الآية مستوفى.
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع من خرج من المسلمين من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، أي وأخبر النبي ﷺ بمن أسلم، فسرّ بذلك.
وعن كعب بن مالك قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، والبراء بالمد لغة: آخر ليلة من الشهر، سمي بذلك لأنه ولد فيها. ومعرور: معناه لغة: مقصود، فلما خرجنا من المدينة قال البراء لنا: إني قد رأيت رأيا ما أدري أتوافقوني عليه أم لا، قال: قلنا وما ذاك؟ قال: رأيت أن لا أدع هذه البنية أي بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة تحت المفتوحة ثم تاء التأنيث على وزن فعيلة يعني الكعبة مني بظهر، وأن أصلي إليها، قال: قلنا والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام: يعنون بيت المقدس: أي صخرته، وما نريد أن نخالفه قال: فقال: إني أصلي إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام يعني بيت المقدس: أي واستدبرنا الكعبة، وصلى إلى الكعبة أي مستدبرا للشام حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ذلك وأبى إلا الإقامة على ذلك، فلما قدمنا مكة قال لي: يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله ﷺ حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله ﷺ وكنا لا نعرفه، لأنا لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله ﷺ فقال: تعرفانه؟ قلنا لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا نعم، وكنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد، فإذا هو الرجل الجالس مع العباس، فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله ﷺ معه، فسلمنا حين جلسنا إليه، فقال رسول الله ﷺ للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب ابن مالك، قال كعب: فوالله ما أنسى قول رسول الله ﷺ الشاعر؟ قال نعم، فقال له البراء بن معرور: يا رسول الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله بالإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر: يعني الكعبة، فصليت إليها، وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها، فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ﷺ وهي بيت المقدس: أي ولم يأمره بإعادة ما صلاه مع أنه كان مسلما؛ وبين له أنه كان الواجب عليه استقبال بيت المقدس، لأنه كان متأوّلا فليتأمل.
وفي هذا تصريح بأنه وأصحابه كانوا بمكة قبل الهجرة وبعدها يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحوّ ل القبلة، وقد تقدم الوعد بذلك.
قال كعب: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله ﷺ العقبة: أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم، ي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم، وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا، وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول، قال: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ لها وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، وكان من جملة المشركين أبو جابر عبدالله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين، سيد من ساداتنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله ﷺ فشهد معنا العقبة، فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله، أي بعد هدأة، يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بالتصغير، وهي أم عمارة من بني النجار، أي وكانت تشهد الحرب مع رسول الله ﷺ هي وزوجها وابناها حبيب وعبدالله . وحبيب هذا اكتنفه مسيلمة الكذاب وصار يعذبه يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم، ثم يقول: وتشهد، أني رسول الله، فيقول لا، فيقطع عضوا من أعضائه وهكذا حتى فنيت أعضاؤه ومات، وسيأتي ما وقع لها في حرب مسيلمة. وأم منيع: أي وهذه الرواية لا تخالف رواية الحاكم خمسة وسبعون نفسا، نعم تخالف قول ابن مسعود وهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان: أي منهم أحد عشر رجلا من الأوس، قال: فلا زلنا ننتظر رسول الله حتى جاءنا. أي وفي رواية «أن رسول الله ﷺ سبقهم وانتظرهم».
أقول: وقد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون سبقهم وانتظرهم، فلما لم يجيئوا ذهب، ثم جاءهم بعد مجيئهم ـ والله أعلم ـ ومعه عمه العباس بن عبد المطلب: أي ليس معه غيره، وهو يومئذٍ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق به.
أقول: وهذا لا يخالف ما جاء أنه كان معه أيضا أبو بكر وعليّ لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له، وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا، فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله أعلم، فلما جلسوا كان العباس أول من تكلم، فقال: يا معشر الخزرج أي قال ذلك، لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل الأوس، وكانت تغلب الخزرج على الأوس فيقولون الخزرجين إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، فهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له، بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، فقال البراء بن معرور: إنا والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنا نريد الوفاء والصدق، وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله ﷺ: أي والبراء بن معرور هو أول من أوصى بثلث ماله.
وفي رواية أن العباس قال: قد أبى محمد الناس كلهم غيركم، فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فأروا رأيكم وائتمروا بينكم، ولا تفرقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع، فإن أحسن الحديث أصدقه.
أقول: قول العباس قد أبى محمد الناس كلهم غيركم، ربما يفيد أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم، ولا يساعد عليه ما تقدم، ولولا التأكيد بلفظ كلهم لأمكن أن يراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة، فإنهم كما تقدم قالوا له: ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ذلك. ويحتمل أن المراد بالناس الذين أباهم أهله وعشيرته والله أعلم.
وعندما تكلم العباس بما ذكر، قالوا له: قد سمعنا مقالتك، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وفي رواية: خذ لنفسك ما شئت، واشترط لربك ما شئت، فقال النبي ﷺ: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم، فقال ابن رواحة: فإذا فعلنا فما لنا؟ فقال: لكم الجنة، قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
وفي رواية: «فتكلم رسول الله ﷺ فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» أي وفي رواية «أنهم قالوا له: يا رسول الله نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا» لأن العرب تكنى بالإزار عن المرأة وعن النفس«فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة» أي السلاح «ورثناها كابرا عن كابر، وبينا البراء يكلم رسول الله ﷺ قال أبو الهيثم بن التيهان» بتشديد المثناة تحت وتخفيفها «نقبله على مصيبة المال وقتل الأشراف، فقال العباس: اخفوا جرسكم: أي صوتكم، فإن علينا عيونا، ثم قال أبو الهيثم: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال؛ يعني اليهود حبالا أي عهودا، وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله، ثم قال: بل الدم الدم والهدمَ الهدمَ، بفتح الدال وسكونها: إهدار دم القتيل: أي دمي دمكم: أي تطلبون بدمي وأطلب بدمكم، فدمي ودمكم واحد» وفي لفظ بدل الدم «اللدم» وهو بالتحريك: الحرم من القرابات: أي حرمي حرمكم. تقول العرب: اللدم اللدم، إذا أرادت تأكيد المحالفة هدمي وهدمكم واحد، أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته «وذمتي ذمتكم، ورحلتي مع رحلتكم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» أي وعند ذلك قال لهم العباس «عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع عهدكم في هذا الشهر الحرام والبلد الحرام، يدالله فوق أيديكم لتجدّن في نصرته ولتشدن من أزره، قالوا جميعا نعم، قال العباس: اللهم إنك سامع شاهد، وإن ابن أخي قد استرعاهم ذمته واستحفظهم نفسه، اللهم كن لابن أخي عليهم شهيدا. ثم قال رسول الله ﷺ: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس» أي وفي رواية «أنه قال لهم: إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لي جبريل» أي لأنه حضر البيعة «فلما تخيرهم أي وهم سعد بن عبادة، وأسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وسعد بن أبي خيثمة، والمنذر بن عمرو، وعبدالله بن رواحة، والبراء بن معرور، وأبو الهيثم بن التيهان، وأسيد بن حضير، وعبدالله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، ورافع بن مالك، كل واحد على قبيلة» أجمعين. «وقال لأولئك النقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي يعني المهاجرين».
وقيل إن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول الله ﷺ أسعد بن زرارة: أي وهو من أصغرهم «فإنه أخذ بيد النبي ﷺ وقال: رويدا يا أهل يثرب إنا لن نضرب، إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن اخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب، وقتل خياركم، وإن تعطكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة: أي جميعا، فخذوه وأجركم على الله تعالى، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو عذر عند الله ، فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك، فوالله لا نذر: أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها: أي لا نطلب الإقالة منها.
وقيل إن الذي تكلم مع الأنصار وشدّ العقدة العباس بن عبادة بن نضلة، قال: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس: أي على من حاربه منهم، وإلا فهو لم يؤذن له في البداءة بالمحاربة إلا بعد أن هاجر إلى المدينة بمدة كما سيأتي، وكان قبل ذلك مأمورا بالدعاء إلى الله تعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، ثم ذكر ما تقدم عن أسعد بن زرارة أي ثم توافقوا على ذلك وقالوا: يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا؟ قال: «رضوان الله والجنة». قالوا: رضينا، ابسط يدك فبسط يده فبايعوه، أي وأول من بايعه البراء بن معرور، وقيل أسعد بن زرارة، وقيل أبو الهيثم بن التيهان، ثم بايعه السبعون كلهم، أي وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة/ «لأنه كان لا يصافح النساء إنما كان يأخذ عليهن، فإذا أحرزن قال: اذهبن فقد بايعتكن» كما سيأتي، فكانت هذه البيعة على حرب الأسود والأحمر أي العرب والعجم، فهؤلاء الثلاثة لم يتقدم عليهم أحد غيرهم، وحينئذ تكون الأولية فيهم حقيقية واضافية.
أي ويقال: إن أبا لهيثم قال: أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران ، وأن عبدالله بن رواحة قال: أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم ، وقال أسعد بن زرارة: أبايع الله يا رسول الله، فأبايعك على أن أتمّ عهدي بوفائي وأصدق قولي بفعلي في نصرك، وقال النعمان بن حارثة: أبايع الله يا رسول الله، وأبايعك على الإقدام في أمر الله ، لا أرأف فيه القريب ولا البعيد أي لا أعامل فيه بالرأفة والرحمة. وقال عبادة بن الصامت: أبايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وقال سعد بن الربيع: أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن لا أعصي لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا، فلما انتهت البيعة، وهذه البيعة يقال لها العقبة الثانية، ولما وقعت صرخ الشيطان من رأس العقبة بأشد صوت وأبعده: يا أهل الجباجب: أي بجيمين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم باء موحدة: وهي منازل مني. وفي الهدى: يا أهل الأخاشب هل لكم في مذمم والصباة معه، يعني بمذمم النبي، لأن قريشا كانت تقول بدل محمد مذمم، ويعني بالصباة أصحابه الذين بايعوه، لأنهم كانوا يقولون لمن أسلم صابىء، لأن الصابىء من خرج من دين إلى دين، وقد جاء «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يسبون مذمما وأنا محمد، فإنهم قد أجمعوا» أي عزموا «على حربكم «فقال رسول الله ﷺ هذا إزب العقبة أسمع، أي عدو الله، أما والله لا أفزعن» وإزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي ثم بالباء الموحدة الخفيفة، وقيل بفتح الهمزة وفتح الزاي وتشديد الموحدة: أي شيطان سمي بهذا الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه عامرها. والإزب في الأصل: القصير، ومن ثم رأى عبدالله بن الزبير رجلا طوله شبران على برذعة رحله، فقال له: ما أنت؟ قال إزب، قال. وما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود سوطة فهرب.
«وعند ذلك قال لهم رسول الله ﷺ: ارفَضّوا» وفي لفظ «انفضوا إلى رحالكم».
أقول: وفي رواية «لما بايع الأنصار بالعقبة صاح الشيطان من رأس الجبل: يا معشر. قريش هذه بنو الأوس والخزرج تحالف على قتالكم، ففزعوا: أي الأنصار عند ذلك، فقال رسول الله ﷺ: لا يروعكم هذا الصوت، فإنما هو عدوّ الله إبليس وليس يسمعه أحد مما تخافون».
ولا مانع من اجتماع صراخ إزب العقبة وصراخ إبليس الذي هو أبوالجن. ويجوز أن يكون المراد بعدو الله إبليس إزب العقبة، لأنه من الأبالسة وإنه أتى باللفظين معا، وقد حضر البيعة جبريل كما تقدم.
فعن حارثة بن النعمان «لما فرغوا من المبايعة قلت: يا نبي الله، لقد رأيت رجلا عليه ثياب بيض أنكرته قائما على يمينك قال: وقد رأيته؟ قلت: نعم، قال: ذاك جبريل» والله أعلم.
ثم إن الحديث نما وسمع المشركون من قريش بذلك: أي وفي كتاب الشريعة أن الشيطان لما نادى بما ذكر شبه صوته بصوت منبه بن الحجاج، فنال عمرو بن العاص ما نال أبو جهل، قال عمرو: ذهبت أنا وهو إلى عتبة بن ربيعة فأخبره بصوت منبه بن الحجاج فلم يرعه ما راعنا، وقال: هل أتاكم فأخبركم بهذا منبه؟ قلنا لا، فقال: لعله إبليس الكذاب الحديث. وفيه طول وأمور مستغربة.
ولا ينافي سماع عمرو وأبي جهل صوت إبليس قوله «ليس يسمعه أحد مما تخافون» لأن سماعهما لم يحصل منه خوف لهم «وعند فشوّ الخبر جاء أجلتهم وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار، فقالوا يا معشر الأوس والخزرج، وفي رواية: يا معشر الخزرج أي بالتغليب بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا، والله ما من حي أبغض إلينا أن نشب الحرب بيننا وبينه منكم، فصار مشركو الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء وما علمناه: أي حتى إن أبيّ ابن سلول جعل يقول هذا باطل، وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا عليّ بمثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومي حتى يؤامروني» وصدقوا لأنهم لم يعلموه كما علم مما تقدم: أي ونفر الناس من منى وبحثت قريش عن خبر الأنصار فوجدوه حقا، فلما تحققوا الخبر اقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأما سعد فأمسك وعذب في الله، وأما المنذر فأفلت ثم أنقذ الله سعدا من أيدي المشركين، قال: نقل عنه أنه قال: لما ظفروا بي ربطوا يدي في عنقي، فلا زالوا يلطموني على وجهي ويجذبوني بجمتي: أي وكان ذا شعر كثير حتى أدخلوني مكة، فأومأ إليّ رجل أي وهو أبو البختري بن هشام، مات كافرا وقال: ويحك ما بينك وبين أحد من قريش، جوار ولا عهد، قال: بلى، قد كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية: أي وهو أخو أبي سفيان، والأول أسلم بعد الحديبية، والثاني لا يعلم له إسلام، فقال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، ففعلت، فخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد، فقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح يهتف باسمكما، فقالا: من هو؟ قال: يقول إنه سعد بن عبادة، فجاءا فخلصاني من أيديهم ا هـ.
وعن سعد: بينا أنا مع القوم أضرب إذ طلع عليّ رجل أبيض وضيء شعشاع: أي طويل زائد الحسن حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا مني رفع يديه ولكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي والله ما عندهم بعد هذا خير، أي وهذا الرجل سهيل بن عمرو ؛ فإنه أسلم بعد ذلك.
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام، أي إظهارا كليا وتجاهروا، وإلا فقد تقدم أن الإسلام فشا فيهم قبل قدومهم لهذه البيعة، وكان عمرو بن الجموح وهو من سادات بني سلمة بكسر اللام وأشرافهم ولم يكن أسلم، وكان ممن أسلم ولده معاذ بن عمرو وكان لعمرو في داره صنم أي من خشب يقال له المناة لأن الدماء كانت تمنى: أي تصب عنده تقرّبا إليه، وكان يعظمه، فكان فتيان قومه ممن أسلم كمعاذ بن جبل وولده عمرو بن معاذ ومعاذ بن عمرو، يدلجون بالليل على ذلك الصنم فيطرحونه أي ولعله بعد إخراجه من داره في بعض الحفر التي فيها خرء الناس منكسا، فإذا أصبح عمرو قال: ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يعود يلتمسه؛ حتى إذا وجده غسله، فإذا أمسى عدوا عليه وفعلوا به مثل ذلك، إلى أن غسله وطيبه وحماه بسيف علقه في عنقه، ثم قال له: ما أعلم من يصنع بك، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها خرء الناس، فلما أصبح عمرو غدا إليه فلم يجده، ثم تطلبه إلى أن وجده في تلك البئر، فلما رآه كذلك رجع إلى عقله، وكلمه من أسلم من قومه، فأسلم وحسن إسلامه، وأنشد أبياتا منها:
فوالله لو كنت إلها لم تكن ** أنت وكلب وسط بئر في قرن
أي حبل.
«وأمر من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، أي لأن قريشا لما علمت أنه آوى: أي استند إلى قوم أهل حرب وتحمل ضيقوا على أصحابه؛ ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى، وجعل البلاء يشتد عليهم، وصاروا ما بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد شكوا إليه واستأذنوه في الهجرة: أي فمكث أياما لا يأذن لهم، ثم قال لهم: أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي» والسَراة بفتح السين: أعظم جبال بلاد العرب «ثم خرج إليهم مسرورا، فقال: قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فأذن لهم، وقال: من أراد أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا إليها أرسالا» أي متتابعين «يخفون ذلك» أي وفي رواية «أريت في المنام أني هاجرت من مكة إلى أرض بها نخل؛ فذهب وهلي» أي وهمي «إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب».
وفي الترمذي عن جابر بن عبدالله ، قال: قال رسول الله «إن الله أوحى إليّ: أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار هجرتك المدينة، أو البحرين، أو قنسرين» قال الترمذي، هذا حديث غريب، وزاد الحاكم «فاختار المدينة».
أقول: فيه أن هذا السياق المتقدم يدل على أن استئذانهم في الهجرة عبارة عن خروجهم من مكة لا لخصوص المدينة، وأن عدم إذنه لهم في الهجرة لعدم تعيين المحل الذي يهاجرون إليه له، ولك ذلك لا يناسب ما تقدم في حديث المعراج من قول جبريل له «صليت بطيبة وإليها المهاجرة».
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون أنسي قول جبريل المذكور حينئذ ثم تذكره بعد ذلك في قوله «قد أخبرت بدار هجرتكم» إلى آخره.
وفيه أن هذا لا يحسن بعد مبايعته للأوس والخزرج على مناصرته ومحاربة عدّوه مع علمه بأن وطنه المدينة، وكونهم يبايعونه على مناصرته مع كونه ساكنا في البحرين أو قنسرين في غاية البعد.
على أنه سيأتي في غزوة بدر «أنه خشي أن الأنصار لا ترى مناصرته إلا في المدينة» أي فإن في بعض الروايات «وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم بيثرب» والله أعلم.
وقبل الهجرة «آخى بين المسلمين» أي المهاجرين «على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر ، وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبادة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيدالله، وبين عليّ ونفسه، وقال: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت، قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة» قال: وأنكر أبو العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين سيما مؤاخاة النبي ﷺ لعليّ ، قال: لأن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إنما جعلت ليرتفق بعضهم ببعض، ولتألف قلوبهم بعضهم ببعض، فلا معنى لمؤاخاة مهاجريّ لمهاجريّ.
قال الحافظ ابن حجر: هذا ردّ للنص بالقياس، وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى، وليستعين الأعلى بالأدنى، ولهذا تظهر مؤاخاته لعليّ كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة.
وفي الصحيح في عمرة القضاء «أن زيد بن حارثة قال إن بنت حمزة بنت أخي» أي بسبب المؤاخاة ا هـ، وكان أول من هاجر منهم إليها أي لا معهم أبو سلمة عبدالله بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخوه من الرضاع وابن عمته. وهو أول من يدعى للحساب اليسير كما تقدم فإنه لما قدم من الحبشة لمكة آذاه أهلها وأراد الرجوع إلى الحبشة، فلما بلغه إسلام من أسلم من الأنصار، أي الاثني عشر الذين بايعوا البيعة الأولى خرج إليهم، وقدم المدينة بكرة النهار. ولما عزم على الرحيل رحل بعيره وحمل عليه أم سلمة وابنها سلمة في حجرها، وخرج يقود البعير رآه رجال من قوم أم سلمة فقاموا إليه وقالوا: يا أبا سلمة قد غلبتنا على نفسك فصاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد، ثم نزعوا خطام البعير منه، فجاء رجال من قوم أبي سلمة، وقالوا: إن ابننا معها إذا نزعتموها من صاحبنا ننزع ولدنا منها، ثم تجاذبوه حتى خلعوا يده وأخذه قوم أبيه ففرق بينها وبين زوجها وولدها، فكانت تخرج كل غداة بالأبطح فتبكي حتى المساء مدة سنة، فمرّ بها رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وقال لقومها: أما ترحمون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين ولدها وزوجها، فقالوا لها: الحقي بزوجك، فلما بلغ ذلك قوم أبي سلمة ردوا عليها ولدها، فارتحلت بعيرا وجعلت ولدها في حجرها وخرجت تريد المدينة وما معها أحد من خلق الله تعالى، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة: أي الحجبي صاحب مفتاح الكعبة وكان عثمان بن طلحة يومئذٍ مشركا ثم أسلم في هدنة الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما سيأتي، فتبعها إلى المدينة حتى إذا وافى على قباء قال لها: هذا زوجك هنا ثم انصرف، وهي أول ظعينة دخلت من المهاجرين المدينة ، وكانت أم سلمة تقول: ما رأيت صاحبا أكرم من عثمان بن طلحة.
قال: وقال ابن إسحاق وابن سعد: ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة ـ بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الثاء المثلثة ـ وهي أول ظعينة قدمت المدينة ا هـ.
أقول: فأم سلمة أو ظعينة قدمت المدينة لا مع زوجها، وليلى أول ظعينة قدمت المدينة مع زوجها، فلا منافاة.
وفي كلام ابن الجوزي: أول من هاجر إلى المدينة من النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والله أعلم.
قال: بينت: أي أم سلمة ما تقدم عنها في حق عثمان بن طلحة بقولها: فإنه لما رآني قال: إلى أين؟ قلت: إلى زوجي، قال: أو ما معك أحد؟ قلت لا، ما معي إلا الله وابني هذا، فقال: والله لا أتركك، ثم أخذ بخطام البعير وسار معي، فكان إذا وصلنا المنزل أناخ بي ثم استأجر، فإذا نزلت جاء وأخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة، ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه ثم استأخر عني وقال اركبي، فإذا ركبت أخذ بخطامه فقادني ا هـ.
أي وقد قال فقهاؤنا: من الصغائر مسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا امرأة ثقة في غير الهجرة وفرض الحج والعمرة؛ أما في ذلك فيجوز حيث أمنت الطريق.
وقولنا لا معهم لا ينافي أن أول من قدم المدينة من أصحاب النبي ﷺ مصعب بن عمير، لأن قدومه كان معهم على ما تقدم أو يقال: أبو سلمة أول من قدم المدينة بوازع طبعه. وأما مصعب فكان بإرسال منه. ثم رأيت في السيرة الهشامية: أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله ﷺ من بني مخزوم أبو سلمة، وعليه فلا إشكال. ثم جاء عمار وبلال وسعد.
وفي رواية: ثم قدم أصحاب رسول الله، أرسالا بعد العقبة الثانية فنزلوا على الأنصار في دورهم فأووهم وواسوهم، ثم قدم المدينة عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا. وكان هشام بن العاص واعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه وقال: تجدني أو أجدك عندمحل كذا، فتفطن بهشام قومه فحبسوه عن الهجرة.
وعن عليّ قال: ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب ، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد بسيفه و تنكب قوسه وانتضى في يديه أسهما واختصر عنزته: أي وهي الحربة الصغيرة علقها عند خاصرته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدا، فقال: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس: أي الأنوف، من أراد أن تثكله أمه: أي تفقده، أو يوتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، قال عليّ : فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه. ثم إن أبا جهل وأخاه شقيقه الحارث بن هشام ـ فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح ـ قدما المدينة والنبي ﷺ بمكة لم يهاجر، فكلما عياش بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما كان أصغر ولد أمه، وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها. وفي لفظ: ولا يمس رأسه مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه، أي وفي لفظ: أن لا تأكل ولا تشرب ولا تدخل مسكنا حتى يرجع إليها، وقالا له وأنت أحب ولد أمك إليها، وأنت في دين منه برّ الوالدين، فارجع إلى مكة فاعبد ربك كما تعبده بالمدينة، فرقت نفسه وصدّقهما: أي وأخذ عليهما المواثيق أن لا يغشياه بسوء، وقال له عمر: إن يريدا إلا فتنتك عن دينك فاحذرهما، والله لو آذى أمك القمل امتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال عياش: أبرّ أمي ولي مال هناك آخذه، فقال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما، فأبى إلا ذلك، فقال له عمر: فحيث صممت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك منهما ريب فانج عليها، فأبى ذلك وخرج راجعا معهما إلى مكة، فلما خرجا من المدينة كتفاه بتخفيف التاء: أي شدّا يديه إلى خلف بالكتاف في الطريق. أي وفي السيرة الهشامية أنه أخذ الناقة وخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على نافتك هذه؟ قال بلى، قال: فأناخ وأناخ ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه وأوثقاه رباطا ودخلا به مكة نهارا موثقا. وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوه بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا. وفي لفظ: بسفيهنا، فجلس بمكة مع هشام بن العاص، فإنه كما تقدم منع وحبس عن الهجرة، وجعل كل في قيد.
وفي لفظ: أنهما لما ذكرا له أن أمه حلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، وأعطياه موثقا أن لا يمنعاه وأن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه، فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة، وكان أعانهما عليه رجل من بني كنانة: أي يقال له الحارث بن يزيد القرشي وفي كلام ابن عبد البر أنه كان ممن يعذبه بمكة مع أبي جهل.
وفي الينبوع: جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وأنه لما جيء به إلى مكة ألقي في الشمس، وحلفت أمه أنه لا يحل عنه حتى يرجع عن دينه ففتن. قيل وكان ذلك سبب نزول قوله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه} الآية.
وفيه أنه تقدم أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص؛ إلا أن يقال يجوز أن يكون مما تكرر نزوله، فتكون نزلت فيهما، وحلف عياش ليقتلنّ ذلك الرجل إن قدر عليه. قيل ولم يزل عياش محبوسا حتى فتح رسول الله ﷺ مكة، فخرج عياش فلقي ذلك الرجل الكناني وكان قد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه، فقتله وأعلم النبي ﷺ بذلك، فأنزل الله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} فقرأها النبي ﷺ وقال لعياش «قم فحرر» أي أعتق رقبة. وما ذكر من أن عياشا استمر محبوسا إلى الفتح يخالف قول بعضهم: مكث وهو بالمدينة كما سيأتي أربعين صباحا يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع: أي من الركعة الأخيرة «وكان يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص، والمستضعفين من المؤمنين بمكة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا» فإن هذا يدل على أن هشام ابن العاص وعياش بن أبي ربيعة لم يفتتنا ولم يرجعا عن الإسلام. وفي السيرة الهشامية ما يفيد أنهما فتنا، الأول صريحا، والثاني ظاهرا.
وفي السيرة الهشامية التصريح بافتتانهما، وفيه نظر لما ذكر، ولأنهما لو كانا فتنا لأطلقا من الحبس والقيد وإدامة ذلك، إلا أن يقال فعل بهما ذلك لعدم الوثوق برجوعهما عن الإسلام. ومما يدل على أن رجوعهما عن الإسلام إن صح إنما كان ظاهرا فقط دعاؤه لهما.
أي وسيأتي أن الوليد كان سببا لتخليص عياش بن أبي ربيعة وهشام بن أبي العاص بعد أن تخلص من الحبس وهاجر إلى المدينة، فإن الوليد كان أسر ببدر ثم افتداه أخوه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة وذهبا به إلى مكة فأسلم وأراد الهجرة فحبساه بمكة. وقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفدى؟ قال: كرهت أن يظن فيّ أني جزعت من الأسر، ثم نجا وتوصل إلى المدينة ورجع إلى مكة مستخفيا وخلص عياشا وهشاما وجاء بهما إلى المدينة، فسر رسول الله ﷺ بذلك وشكر صنيعه، وبه يعلم ضعف ما تقدم من أن عياشا لم يزل محبوسا إلى يوم الفتح.
وممن هاجر قبل النبي ﷺ سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أي لأنه لما أعتقته زوجة أبي حذيفة وكانت أنصارية تبناه أبو حذيفة، وكان يؤمّ المهاجرين بالمدينة فيهم عمر بن الخطاب، لأنه كان أكثرهم أخذ للقرآن، فكان عمر بن الخطاب يثني عليه كثيرا، حتى قال لما أوصى عند قتله: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا ما جعلتها شورى. قال ابن عبد البر: معناه أنه كان يأخذ برأيه فيمن يوّليه الخلافة: أي فإنه قتل في يوم اليمامة، وأرسل عمر بميراثه لمعتقته فأبت أن تقبله، فجعله في بيت المال.
ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة، أي بعد أن هاجر إليها، خلافا لما يوهمه كلام الأصل والشامي قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندنا ثم تريد أن تخرج بمالك؟ لا والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب، أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم، قال: فإني جعلته لكم، فبلغ ذلك رسول الله، فقال «ربح صهيب».
أقول: «وذكر أن صهيبا تواعد معه أن يكون معه في الهجرة فلما أراد الخروج للغار أرسل إليه أبا بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي، فكره أن يقطع عليه صلاته» كما سيأتي، وحينئذ يكون قول صهيب المذكور بعد هجرته إلى المدينة كما تقدم، وهو ما في الخصائص الكبرى عن صهيب «لما خرج رسول الله ﷺ إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وقد كنت هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش» أي بعد أن أردت الخروج بعده «وقالوا له جئتنا فقيرا حقيرا صعلوكا فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك ونفسك لا يكون ذلك أبدا، قال فقلت لهم: أنا أعطيكم أواقي ممن الذهب. وفي لفظ ثلث مالي. وفي لفظ: مالي وتخلون سبيلي، ففعلوا، فقلت احفروا تحت أسكفة الباب، فإن تحتها الأواقي، وخرجت حتى قدمت على رسول الله ﷺ قباء قبل أن يتحوّل منها، فلما رآني قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا، فقلت: يا رسول الله إنه ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل » أي وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن المسيب قال «أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي ﷺ وقد أخذ سيفه وكنانته وقوسه، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته. ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلا وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقيّ في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي، فقالوا نعم، فقال لهم ما تقدم» وفي رواية «أنهم قالوا له: دلنا على مالك ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل».
وذكر بعض المفسرين «أن المشركين أخذوه وعذبوه فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني، وتتركوا لي راحلة ونفقة ففعلوا، ونزل قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} قال: فلما قدمت وجدت النبي ﷺ وأبا بكر جالسين، فلما رآني أبو بكر قام إليّ فبشرني بالآية التي نزلت فيّ أي وفي رواية «فتلقاني أبو بكر وعمر ورجال، فقال لي أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى، فقلت: وبيعك، هلا تخبرني ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليّ الآية».
وفي تفسير سهل بن عبدالله التستري أن صهيبا كان من المشتاقين لم يكن له قرار؛ كان لا ينام لا بالليل ولا بالنهار.
وقد حكي أن امرأة اشترته فرأته كذلك، فقالت: لا أرضى حتى تنام بالليل، لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي؛ فبكى وقال: إن صهيبا إذا ذكر النار طار نومه وإذا ذكر الجنة جاء شوقه، وإذا ذكر الله طال شوقه: أي وليتأمل هذا مع ما في تاريخ ابن كثير أن الروم أغارت على بلاد صهيب وكانت على دجلة، وقيل على الفرات، فأسرته وهو صغير، ثم اشتراه منهم بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبدالله بن جدعان فأعتقه وأقام بمكة حينا، فلما بعث رسول الله ﷺ أسلم وكان إسلامه وإسلام عمار بن ياسر في يوم واحد. وقد يقال: يجوز أن تكون تلك المرأة التي اشترته كانت من بني كلب.
وعن صهيب «صحبت النبي ﷺ قبل أن يوحى إليه وأنه قال له عمر : يا صهيب اكتنيت وليس لك ولد؛ فقال: كناني رسول الله ﷺ بأبي يحيى» فهو من جملة من كناه رسول الله ﷺ ولا ولد له؛ وكان في لسانه عجمة شديدة، وكان فيه دعابة «رآه رسول الله ﷺ يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه، فقال له: تأكل رطبا وأنت أرمد؟ فقال: إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك ».
وفي المعجم الكبير للطبراني عن صهيب، قال «قدمت على رسول الله ﷺ وبين يديه تمر وخبز، فقال: ادن فكل، فأخذت آكل من التمر، فقال لي: أتأكل التمر وعينك رمدة، فقلت: يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله » أي ولا مانع من التعدد «ولما أذن لأصحابه في الهجرة وهاجروا مكث بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر أي وصهيب كما علمت، ومن كان محبوسا أو مريضا أو عاجزا عن الخروج، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله ﷺ في الهجرة، فيقول له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو» وفي رواية «تجهز أبو بكر، فقال له رسول الله ﷺ: على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه وعلف راحلتين عنده الخبط» أي وفي لفظ «ورق السمر» بفتح المهملة وضم الميم، قال الزهري، وهو الخبط. قال ابن فارس: والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر، وكان مدة علفها أربعة أشهر، وان اشتراهما بثمانمائة درهم.
أقول: ظاهر هذا السياق أن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى له ما ذكر. ومعلوم أن ذلك بعد مبايعة الأنصار، والمدة بين مبايعة الأنصار له والهجرة كانت ثلاثة أشهر أو قريبا منها، لأنها كانت في ذي الحجة، ومهاجرته كانت في ربيع الأول.
وفي السيرة الشامية ما يصرح بأن علفة للراحلتين كان بعد قول المصطفى له ما ذكر. ففيها «أنه لما قال لأبي بكر وقد استأذنه في الهجرة: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» طمع بأن رسول الله ﷺ إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسها في داره يعلفهما إعدادا لذلك، وسيأتي عن الحافظ ابن حجر أن بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته شهرين ونصف شهر على التحرير، والله أعلم.
«فلما رأت قريش أن رسول الله ﷺ صار له شيعة» أي أنصار وأصحاب من غيرهم «ورأوا خروج أصحابه إليهم، وأنهم أصابوا منعة لأن الأنصار قوم أهل حلقة» أي سلاح وبأس «حذروا: أي خافواأن يخرج رسول الله، وأن يجمع على حربهم، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله، وكانت محل مشورتهم لا يقطعون أمرا إلا فيها» أي وهي أول دار بنيت بمكة، كانت منزل قصيّ بن كلاب كما تقدم، ثم صارت لولده عبد الدار، ثم ابتاعها معاوية لما حج وهو خليفة من أولاد عبد الدار.
وتقدم أن معاوية إنما اشتراها من حكيم بن حزام، ويدل لذلك ما جاء عن مصعب ابن عبدالله قال: جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم، فقال له عبدالله بن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال له حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إلى آخر ما تقدم، وكانت دار الندوة جهة الحجر عند المقام الحنفي الآن، وكان لها باب للمسجد، وكان لا يدخلها عند المشورة من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة.
وفي كلام بعضهم: ساد أبو جهل وما طرّ شاربه، ودخل دار الندوة وما استدارت لحيته، وقد أدخلت في المسجد. قيل لها دار الندوة لاجتماع الندي وهو الجماعة فيها، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة، لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح، وغيرهم مما لا يعدّ من قريش، ولم يتخلف من أهل الرأي والحجا أحد. ثم إن إبليس جاء إليهم في صورة شيخ نجدي عليه طيلسان من خز وقيل من صوف: أي وإنما فعل ذلك ليقبل منه ما يشير به، لأن أهل الطيالسة في العادة من أهل الوقار والمعرفة؛ ووقف ذلك الشيخ على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا أجل: أي نعم، فادخل فدخل معهم، أي وإنما قال لهم من أهل نجد، لأن قريشا قالوا: لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم كان مع محمد.
قيل لما سمعهم يقولون: لا يدخل معكم اليوم إلا من هو معكم، قال لهم لماسألوه وقالوا له من أنت؟ قال شيخ من نجد، وأنا ابن أختكم؛ فقالوا: ابن أخت القوم منهم.
وقيل إن إبليس لما دخل عليهم أنكروه وقالوا له من أنت وما أدخلك علينا في خلوتنا هذه بغير إذننا؟ فقال: إني رجل من أهل نجد، رأيتكم حسنة وجوهكم طيبة ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم، فإن كرهتم ذلك خرجت عنكم؛ فقال بعضهم لبعض: هذا نجدي ولا عين عليكم منه، وفي لفظ: هذا من أهل نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم. وعند المشورة قال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل يعني النبي ﷺ: قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله لا نأمنه الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا فتشاوروا، فقال قائل: أي وهو أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت، فقال الشيخ النجدي، لا والله ما هذا لكم برأي، والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلا تشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيدكم ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا برأي، فانظروا رأيا غيره، فتشاوروا، فقال قائل منهم، أي وهو الأسود بن ربيعة بن عمير: نخرجه من بين أظهرنا فنفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب، فقال الشيخ النجدي: والله ماهذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي الله به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل» بفتح أوله وضم الحاء المهملة أي ينزل، ويجوز أن يكون بكسرها: أي يسقط على حيّ من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير به إليكم حتى يطأكم بهم، فيأخذوا أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا؛ فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: الرأي أن تأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا: أي قويا حسيبا في قومه نسيبا وسطا، ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فيرضوا منا بالعقل: أي الدية فعقلنا لهم. فقال النجدي: القول ما قال هذا الرجل، هذا هو الرأي ولا أرى غيره، فتفرق القوم على ذلك، فأتى جبريل رسول الله ﷺ فقال: لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه: أي وأخبره بمكرهم، وأنزل الله عليه {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الآية، فلما كانت عتمة من الليل: أي الثلث الأول من الليل اجتمعوا على باب رسول الله ﷺ يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه: أي وكانوا مائة.
أقول في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير «لما ائتمروا بالنبي ﷺ ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يحبسوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من حدثك بهذا؟ قال: ربي، قال: نعم الرب، وربك فاستوص به خيرا، قال: أنا أستوصى به، بل هو يستوصى بي» هذا كلامه. ولم يتعقبه بأن هذا كان بعد موت أبي طالب قال: وكان ائتمارهم يوم السبت. فقد «سئل عن يوم السبت؟ فقال: يوم مكر وخديعة، قالوا: ولم يا رسول الله؟ قال: إن قريشا أرادوا أن يمكروا فيه بي» أي أرادوا فيه المكر «فأنزل الله تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا}.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فاجتمع أولئك القوم من قريش يتطلعون من صير الباب أي شقه ويرصدونه يريدون بياته: أي يوقعون به الأمر ليلا ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع» وفيه أن ائتمارهم في ذلك لا يناسب ما اجتمع رأيهم عليه من أنهم يجتمعون على قتله ليتفرق دمه في القبائل.
ثم رأيت بعضهم قال: وأحدقوا ببابه وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتله من جميع القبائل فلا يتمّ لهم أخذ ثأره وهو المناسب لما ذكر، والله أعلم.
فلما رأى رسول الله ﷺ مكانهم: أي علم ما يكون منهم «قال لعليّ ابن أبي طالب : نم على فراشي، واتشح بردائي هذا الحضرمي، وقد كان يشهد فيه العيدين، وقد كان طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر» وهل كان أخضر أو أحمر؟ يدل للثاني قول جابر «كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة» ثم رأيت في بعض الروايات أنه كان أخضر فلينظر الجمع.
وفي سيرة الدمياطي «وارتد بردائي هذا الأحمر» والحضرمي: منسوب إلى حضرموت التي هي البلدة أو القبيلة باليمن. كان رسول الله ﷺ يتسجى بذلك البرد عند نومه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
أقول: وأما ما روي «أن الله تعالى أوحى إلى جبريل ومكائيل: أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب: آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب؟ باهى الله بك الملائكة، وأنزل الله {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} قال فيه الإمام ابن تيمية: إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير.
وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له «لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق. وقد قيل إنها نزلت في صهيب لما هاجر أي كما تقدم؛ لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه قال لعليّ ما ذكر، وعليه فيكون فداؤه للنبي بنفسه واضحا، ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق عليّ وفي حق صهيب. وحينئذ يكون شري في حق عليّ رضي الله تعالى بمعنى باع: أي باع نفسه بحياة المصطفى، وفي حق صهيب بمعنى اشترى: أي اشترى نفسه بماله، ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية، لأن الحكم يكون للغالب.
وفي السبعيات «أنه نظر إلى أصحابه وقال: أيكم يبيت على فر اشي وأنا أضمن له الجنة، فقال عليّ: أنا أبيت واجعل نفسي فداءك» هذا كلامه، ولعله لا يصح.
ثم رأيت في الإمتاع ما يدل لعدم الصحة، وهو قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني بخروجه حين خرج إلا عليّ وأبو بكر الصدّيق، فليتأمل والله تعالى أعلم.
وكان في القوم الحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية ابن خلف وزمعة بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل، فقال: وهم على باب رسول الله ﷺ: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، أي بضم الهمزة وتشديد النون، وهو محل بأرض الشام بقرب بيت المقدس، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحترقون فيها، وسمعه رسول الله ﷺ فخرج عليهم وهو يقول: نعم أنا أقول ذلك، وأخذ حفنة من تراب وتلا قوله تعالى {يس? والقرآن الحكيم} إلى قوله {فأغشيناهم فهم لا يبصرون} فأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه.
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عن النبي «أنه ذكر في فضل {يس?} أنها إن قرأها خائف أمن، أو جائع شبع، أو عار كسي، أو عاطش سقي، أو سقيم شفي» «وعند خروجه جعل ينثر التراب على رؤوسهم، فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا محمدا، فقال: قد خيبكم الله، والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب». قال في النور وهذا يعارضه حديث مارية خادم النبي ﷺ تكنى أمّ الرباب «أنها طأطأت لرسول الله ﷺ حتى صعد حائطا ليلة فرّ من المشركين» وينبغي أن يوفق بينهما إن صحا وإلا فالعبرة بالصحيح منهما هذا كلامه.
أقول: التوفيق حاصل، وهو أنه يجوز أن يكون النبي ﷺ لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسوّر الحائط التي نزل منها عليهم والله أعلم، أي وكان ذهابه في تلك الليلة إلى بيت أبي بكر ، فكان فيه إلى الليل: أي إلى الليلة المقبلة، ثم خرج هو وأبو بكر ، ثم مضيا إلى جبل ثور كذا في سيرة الدمياطي ثم أي بعد اخبارهم بخروجه ووضعه التراب على رؤوسهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما على الفراش مسجى ببرد رسول الله؛ فيقولون: والله إن هذا محمد نائما عليه برده، فلم يزالوا كذلك، أي يريدون أن يوقعوا به الفعل، والله مانع لهم من ذلك «حتى أصبحوا واتضح النهار، فقام عليّ عن الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدّثنا، أي ولما قام عليّ سألوه عن رسول الله، قال لا علم لي به وفي رواية: «فلما أصبحوا ساروا إليه يحسبونه النبي، فلما رأوا عليا ردّ الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال لا أدري، فأنزل الله تعالى قوله {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} وأنزل الله {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} كذا في الأصل تبعا لابن إسحاق، ولا يخفى أن الآية الثانية موفية بما ذكروه من المشاورة.
قال: والمانع من اقتحام الجدار عليه في الدار مع قصر الجدار وقد جاؤوا لقتله، أنهم هموا بذلك فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمنا انتهى.
أقول: لا يخفى أن هذا لا يناسب ما قدمناه عن بعضهم أنهم إنما أرادوا قتله عند طلوع الفجر ليظهر لبني هاشم قاتلوه فلا يثبوا عليه لئلا يتسور الجدار، إلا أن يقال إرادة ذلك منهم كانت عند طلوع الفجر، ووجود الأسباب المانعة لهم من الوثوب عليه لا ينافي أن المانع لهم عن الوثوب عليه الذي جاؤوا بصدده وهم مائة رجل من صناديد قريش، إنما هي حماية الله تعالى الموجبة لخذلانهم وإظهار عجزهم، وفي ذلك تصديق لرسول الله ﷺ حيث قال لعلي «لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم» على ما تقدم، والمراد بقول بعضهم: كان المشركون يرمون عليا يظنون أنه النبي ﷺ يرمونه بأبصارهم لا بنحو حجارة أو نبل كما لا يخفى.
فإن قيل: هلا نام على فراشه؟ قلنا لو فعل ذلك لفات إذلالهم بوضع التراب على رؤوسهم وإظهار حماية الله تعالى له بخروجه عليهم ولم يبصره أحد منهم. وفي رواية «أنهم تسوروا عليه ودخلوا شاهرين سيوفهم، فثار علي في وجوههم فعرفوه، فقالوا: هو أنت أين صاحبك؟ فقال: لا أدري» وهذا مخالف لما تقدم، فلينظر الجمع بناء على صحة هذا.
وفي لفظ: «أمروه بالخروج فضربوه وأدخلوه المسجد وحبس به ساعة ثم خلوا عنه» والله أعلم.
ثم إن رسول الله ﷺ أذن له في الهجرة إلى المدينة، أي وأنزل الله تعالى عليه {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} قال زيد بن أسلم: جعل الله مدخل صدق المدينة، ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار.
ويعارضه ما جاء «أن عند رجوعه من تبوك إلى المدينة قال له جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، فقال: ما تأمرني أن أسأله؟ قال: قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، فأنزل الله تعالى عليه ذلك في رجعته من تبوك بعد ما ختمت السورة» أي إلا أن يدعى تكرار النزول «وعند الإذن له في الهجرة قال لجبريل: من يهاجر معي؟ قال جبريل: أبو بكر الصديق».
أي ومن الغريب قول بعضهم: ومن ذلك اليوم سماه الله تعالى صدّيقا، فقد تقدم أن تسميته بذلك كان عند تصديقه له عند إخباره بالإسراء، وعن صفة بيت المقدس.
ومن الغريب أيضا ما في السبعيات «أن النبي ﷺ تشاور مع أصحابه، فقال: أيكم يوافق معي ويرافقني، فقد أمرني الله تعالى بالخروج من مكة إلى المدينة؟ فقال أبو بكر : أنا يا رسول الله».
ويرده ما في السير «أنه أتى أبا بكر ذات يوم ظهرا، فناداه فقال أخرج من عندك، فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء ، قال شعرت: أي علمت أنه قد أذن لي في الهجرة؟ فقال: يا رسول الله الصحبة» أي أسألك الصحبة «فقال: أي رسول الله ﷺ الصحبة» أي لك الصحبة عندي «فانطلقا» أي ليلا كما تقدم عن سيرة الدمياطي، لكن تقدم عنها أنها دخل بيت أبي بكر في ليلة خروجه من على فراشه؛ وأنه مكث ببيت أبي بكر إلى الليلة القابلة التي كان فيه خروجه إلى جبل ثور، فيحتاج إلى الجمع.
وقد يقال: إن مجيئه ظهرا كان قبل تلك الليلة، ومع خروجهما خرجا مستخفين حتى أتيا الغار وهو بجبل ثور، فتواريا فيه.
وعن ابن عباس أنه قال عند خروجه من مكة أي متوجها إلى المدينة «والله إني لأخرج منك وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
أي وفي رواية «أنه وقف في وسط المسجد والتفت إلى البيت فقال: أني لأعلم ما وضع الله بيتا أحب إلى الله منك، وما في الأرض بلد أحب إليه منك، وما خرجت منك رغبة، ولكن الذين كفروا أخرجوني».
أي وهذا السياق يدل على أن وقوفه على الحزورة أو في وسط المسجد يقتضي أنه جاء بعد خروجه من الغار إلى ما ذكر، ثم ذهب إلى المدينة. وفي رواية «وقف على الحجون وقال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولو لم أخرج منك ما خرجت» وفي لفظ «ولو تركت فيك لما خرجت منك» ولا مانع من تكرر ذلك. ثم رأيت في كلام بعضهم أن وقوفه على الحجون كان في عام الفتح. وفي لفظ آخر «قال لمكة: ما أطيبك من بلدة وأحبك إليّ؛ ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك».
أي وفي (جمال القراء) للسخاوي «أن النبي ﷺ لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى؛ فأنزل الله عليه {وكأين من قرية هي أشد قوة} الآية».
وأما ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إليّ فأسكني في أحب البقاع إليك» فقال الذهبي: إنه موضوع. وقال ابن عبد البر: لا يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع.
أقول: والذي رأيته عن المستدرك للحاكم «اللهم: إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك» والمعنى واحد، وإليه وإلى ما روي عن الزهري «اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك» استند من قال بتفضيل المدينة على مكة، قال: لأن الله تعالى أجاب دعاءه فأسكنه المدينة. قيل وعليه جمهور العلماء، ومنهم الإمام مالك . وإلى الأحاديث الأول استند من قال بتفضيل مكة على المدينة وهم الجمهور، ومنهم إمامنا الشافعي ، واستندوا في ذلك إلى أنه قال في حجة الوداع «أيّ بلد تعلمون أعظم حرمة؟ قالوا لا نعلم إلا بلدنا هذه» يعنون مكة، وهذا إجماع من الصحابة أقرهم عليه أنها: أي مكة أفضل من سائر البلاد، لأن ما كان أعظم حرمة فهو أفضل. وقد قال «المقام بمكة سعادة، والخروج منها شقاوة» وقال «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام».
قال ابن عبد البر: وإني لأعجب ممن ترك قول رسول الله، وهو قوله «والله إني لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» وهذا حديث صحيح، ويميل إلى تأويل لا يجامع ما تأوله عليه: أي ولأن الحسنة فيها بمائة ألف حسنة. فعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال «من حج ماشيا كتبت له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة فيه بمائة ألف حسنة».
والكلام في غير ما ضم أعضاءه الشريفة من أرض المدينة، وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع، بل حتى من العرش والكرسي.
على أن صاحب (عوارف المعارف) ذكر أن الطوفان موّج تلك التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة، فهي من جملة أرض مكة. وحينئذ لا يحسن الاستناد في تفضيل المدينة على مكة بقول أبي بكر إنهم لما اختلفوا في أي محل يدفن رسول الله ﷺ لم يقبضه الله إلا في أحب البقاع إليه ليدفن فيه كما سيأتي، والله أعلم.
وعن عائشة أنها قالت «بينا نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر الصديق في نحر الظهيرة» أي وسطها وهو وقت الزوال «قال قائل لأبي بكر «أي وهذا القائل هي أسماء بنت أبي بكر. وفي كلام بعض الحفاظ: يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة أي مولى أبي بكر «قالت أسماء: قلت: يا أبت هذا رسول الله ﷺ متقنعا» أي متطيلسا «في ساعة لم يكن يأتينا فيها» أي فعن عائشة «لم يمر علينا يوم» أي قبل الهجرة «إلا يأتينا فيه رسول الله ﷺ طرفي النهار بكرة وعشيا» وفي لفظ «كان لا يخطىء أن يأتي رسول الله ﷺ بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشيا» أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحة الثانية وإلا فالأولى في البخاري. وتفسير التقنع بالتطيلس ذكره الحافظ ابن حجر، حيث قال: قوله: متقنعا: أي متطيلسا، وهو أصل في لبس الطيلسان، هذا كلامه.
واعترضه ابن القيم حيث قال: لم ينقل عنه أنه لبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه. وحينئذ لا يكون القناع هنا هو الطيلسان، بل التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه بالرداء من غير أن يجعل منه شيء تحت رقبته الذي يقال له التحنيك. وحمل قول ابن القيم المذكور على الطيلسان المقوّر التي تلبسها اليهود. قال بعضهم: وهذا الطيلسان المقور هو المعروف بالطرحة، وقد اتخذت خلفاء بني العباس الطرحة السوداء على العمامة عند الخطبة، واستمر ذلك شعارا للخلفاء.
فالحاصل أن ما يغطى به الرأس مع أكثر الوجه إن كان معه تحنيك: أي ادارة على العنق قيل له طيلسان، وربما قيل له رداء مجازا، وإن لم يكن معه تحنيك، قيل له رداء أو قناع، وربما قيل له مجازا طيلسان: هو ما كان شعارا في القديم لقاضي القضاة الشافعي خاصة. قال بعضهم: بل صار شعارا للعلماء، ومن ثم صار لبسه يتوقف على الإجازة من المشايخ كالإفتاء والتدريس. وكان الشيخ يكتب في إجازته: وقد أذنت له في لبس الطيلسان، لأنه شهادة بالأهلية، وما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء فقط، وربما قيل له طيلسان أيضا مجازا. وصح عن ابن مسعود وله حكم المرفوع «التقنع من أخلاق الأنبياء». وقد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى وفي حديث «لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» وكان ذلك من عادة فرسان العرب في المواسم والجموع كالأسواق.
وأول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم . وعن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخلّ بالمروءة أي وهو بحسب ما كان في زمنه . وفي الترمذي «لم تكن عادته التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد». وتعقب بأن في حديث أنس «أنه كان يكئر التقنع» وفي طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول الله ﷺ فقال: «هذا ثوب لا يؤدي شكره» أي لأن فيه غض البصر، ومن ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما تقدم.
ولما قيل لأبي بكر ذلك، أي هذا رسول الله ﷺ متقنعا، قال أبو بكر: فدا له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قال: فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن فأذن له فدخل، أي وتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله، فقال النبي ﷺ لأبي بكر : «أخرج من عندك، قال أبو بكر: إنما هي أهلك» أي لأنه كان عقد على عائشة كما تقدم، فأمها من جملة أهله وأختها كذلك، وقيل هو على حدّ قول الشخص لآخر أهلي أهلك. وفي رواية «قال رسول الله ﷺ: أخرج من عندك، فقال أبو بكر : لا عين عليك إنما هما ابنتاي» أي وسكت عن أمهما سترا «قال: فإنه قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله ﷺ نعم، أي فبكى أبو بكر سرورا؟ قالت عائشة : فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر» ولله درّ القائل:
ورد الكتاب من الحبيب بأنه ** سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور عليّ حتى إنني ** من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صارالدمع عندك عادة ** تبكين من فرح ومن أحزان
أي ومنه: أقرّ الله عينه لمن يدعى له، وهو قرّة عين لمن يفرح به. وأسخن عينه لمن يدعى عليه: وهو سخنة العين لما يحزن به، لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.
وقد روي «أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء، فسأل ربه عن ذلك؟ فأنطق الله تعالى الحجر، فقال: منذ سمعت أن لله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة وأنا أبكي هذا الدمع خوفا من تلك النار، فاشفع لي عند ربك، فشفع له، فشفع فيه وبشره بذلك. ثم مرّ به بعد مدة فإذا الماء يخرج منه، فقال: ألم أبشرك أن الله أنجاك من النار فما هذا؟ فقال: يا نبيّ الله ذاك بكاء الخوف والخشية، وهذا بكاء الفرح والسرور» ومن ثم لما قال لأبيّ بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا: أي {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} بكى من الفرح، وقال: أو ذُكِرْتُ هناك؟ » أي ذكرني الله » وفي لفظ «وسماني؟ قال نعم».
وفي سفر السعادة قال العلماء: البكاء على عشرة أنواع: بكاء فرح، وبكاء حزن لما فات، وبكاء رحمة، وبكاء خوف لما يحصل، وبكاء كذب كبكاء النائحة فإنها تبكي بشجو غيرها، وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكي مع عدم علمه بالسبب، وبكاء المحبة والشوق، وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله، وبكاء الخور والضعف، وبكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس. والبكى بالقصر: دمع العين من غير صوت. والممدود: ما كان معه صوت. وأما التباكي فهو تكلف البكاء. وهو نوعان: محمود ومذموم؛ فالأول ما يكون لاستجلاب رقة القلب، وهو المراد بقول سيدنا عمر لما رأى المصطفى وأبا بكر يبكيان في شأن أسارى بدر: أخبرني ما يبكيك يا رسول الله؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت، ومن ثم لم ينكر عليه ذلك. والثاني ما يكون لأجل الرياء والسمعة.
قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راجلتيّ هاتين، فإني أعددتهما للخروج، قال رسول الله: «بل بالثمن» أي لتكون هجرته إلى الله تعالى بنفسه وماله، أي وإلا فقد أنفق أبو بكر أكثر ماله عليه: أي فعن عائشة : «أنفق أبو بكر على النبي ﷺ أربعين ألف درهم». وفي لفظ «دينار» ومن ثم قال «ليس من أحد أمنّ عليّ في أهل ومال من أبي بكر» وفي رواية «ما أحد أمنّ علي في صحبته وذات يده من أبي بكر، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟ » وفي رواية «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا الله يكافئه بها يوم القيامة».
أقول: ولا ينافي كونه أخذ إحدى ناقتي أبي بكر بالثمن ما رواه أبان بن أبي عياش أحد التابعين عن أنس ، قال: قال رسول الله ﷺ لأبي بكر «ما أطيب مالك: منه بلال مؤذني، وناقتي التي هاجرت عليها، وزوجتني ابنتك وواسيتني بمالك كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي» لأن أبان بن أبي عياش معدود من الضعفاء.
وقد قال شعبة: لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحبّ إليّ من أن أقول حديثا عن أبان بن أبي عياش، وقال فيه مرة أخرى: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان. وقد طلب من شعبة أن يكف عن أبان هذا، فقال: الأمر دين، وهذا يكذب على رسول الله. وقد بين ابن حبان عذر أبان بأنه كان يروي عن أنس وأبان مجالس الحسن البصري فكان يسمع كلامه، فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعا وهو لا يعلم. وعلى تقدير صحة ما قاله لا منافاة أيضا، لأنها كانت من مال أبي بكر قبل أن يأخذها بثمنها.
على أن في الترمذي ما يوافق ما رواه أبان. ففيه عن عليّ ، قال: قال «رحم الله أبا بكر، زوّجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار، وأعتق بلالا من ماله».
قال: وهذا حديث غريب والله أعلم.
وكان الثمن عن تلك الناقة التي هي القصواء، وقد عاشت بعده، وماتت في خلافة أبي بكر أو الجدعاء أربعمائة درهم، أي لما علمت أن الناقتين اشتراهما أبو بكر بثمانمائة درهم.
وأما ناقته العضباء فقد جاء «أن بنته فاطمة تحشر عليها».
قالت عائشة «فجهزناهما أحب الجهاز» أي أسرعه. والجهاز: بكسر الجيم أفصح من فتحها. ما يحتاج إليه في السفر «ووضعناه لهما سفرة في جراب» أي زادا في جراب، لأن السفرة في الأصل الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد «وكان في السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب أي وأبقت الأخرى نطاقا لها» وهو يوافق ما في صحيح مسلم عن أسماء أنها قالت للحجاج: بلغني أنك تقول أي لولدها عبدالله بن الزبير تعيره بابن ذات النطاقين، أما أنا والله ذات النطاقين أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله ﷺ وطعام أبي بكر الصديق ، وأما الآخر فنطاق المرأة: أي الذي لا تستغني عنه، أي عند اشتغالها؛ لأن النطاق ما تشدّ به المرأة وسطها لئلا تعثر في ذيلها على ثوب يلقي على أسفله. وقيل النطاق إزار فيه تكة؛ ومن ثم جاءت ذات النطاق: أي وكلاهما صحيح، لكن في لفظ «قطعت نطاقها قطعتين، فأوكت بقطعة منه فم الجراب، وشدّت فم القربة بالباقي»، أي فلم يبق لها شيء منه ويوافقه ما في البخاري عن أسماء: لم نجد لسفرة رسول الله ﷺ: أي لمحلها الذي هو الجراب ولا لسقائه الذي هو القربة ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: لا والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقي، قال فشقيه اثنين، واربطي بواحد السقاء الذي هو القربة وبواحد السفرة ففعلت، فلذلك سميت ذات النطاقين: أي سماها رسول الله ﷺ وقال لها «أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة».
وفيه أن الرواية الأولى التي عن عائشة، والرواية الثانية التي عن أسماء رواها مسلم لم يذكر السقاء. وفي رواية البخاري ذكر السقاء وإسقاط الجراب، لكن ذكر بعد الجراب السفرة.
وقد يقال: المراد بربط السفرة ربط محلها الذي هو الجراب كما أشار إليه. قال بعضهم: وما تقدم عن مسلم ينبغي أن يكون أقرب إلى الضبط، لأن أسماء قالت في آخر عمرها مخبرة عن نفسها: أي ولم تربط إلا الجراب بأحد شقي النطاق وأبقت لها الآخر.
وقد يقال: الحصر ليس في محله لمنافاته لرواية البخاري. وحينئذ يجمع بأنه بجوازها لما شقت النطاق نصفين قطعت أحدهما قطعتين، فشدت بإحداهما الجراب والأخرى السقاء، فهي ذات النطاقين الذي أبقته، والذي فعلت به ما ذكر.
وفي السيرة الهشامية أن أسماء بنت أبي بكر جاءت إليهما لما نزلا من الغار بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فدهشت لغلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها فجعلته عصاما فعلقتها به وانتطقت الآخر: أي وهذا يدل على أن المراد بقول عائشة: فجهزناهما أحب الجهاز: أي عند خروجهما من الغار، لا عند ذهابهما إلى الغار كما قد يتبادر من السياق. ثم على المتبادر جرى ابن الجوزي حيث قال: أسما بنت أبي بكر أسلمت بمكة قديما، وبايعت وشقت نطاقها ليلة خروج رسول الله ﷺ إلى الغار، فجعلت واحدا لسفرة رسول الله، والآخر عصاما لقربته، فسميت ذات النطاقين هذا كلامه.
وقد قال: لا مانع من تعدد ذلك، وكون النطاق ما تشد به المرأة وسطها لئلا تعثر في ذيلها يخالفه قول بعضهم: النطاق هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل، وهذا يوافق القيل المتقدم، ولعل له إطلاقين، ويوافق الثاني ما قيل أول من فعله هاجر أم إسماعيل، اتخذت لتخفي أثر مشيتها على سارة، ولعله عند خروجها لما أمره الله بإخراجها مع إبراهيم، فيذهب بها إلى مكة قبل أن تركب مع إبراهيم على البراق.
«ثم استأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو عبدالله بن أريقط» ويقال ابن أرقط أو أرقد اسم أمه، فأريقط مصغرها «ليدلهما على الطريق للمدينة» وكان على دين قريش، أي ثم أسلم بعد ذلك. وقيل لم يعرف له إسلام.
وفي الروض ما وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك «فدفعا إليها راحلتيهما، وواعداه على جبل ثور بعد ثلاث ليال» وقيل للجبل ذلك لأنه على صورة الثور الذي يحرث عليه، وسياق النسائي يدل على أن استئجار عبدالله المذكور كان قبل التجهيز.
«قالت عائشة : ثم لحق رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور» أي ليلا كما تقدم.
وعن ابن سعد: «لما خرج رسول الله ﷺ من بيته إلى بيت أبي بكر فكان فيه إلى الليل، ثم خرج هو وأبو بكر فمضيا إلى غار ثور فدخلاه» أي وكان خروجهما من خوخة في ظهر بيت أبي بكر». فعن عائشة بنت قدامة. أن النبي، قال: «لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقيني أبو جهل لعنه الله فأعمى الله بصره عني» وعن أبي بكر «حتى مضينا».
وفي كلام سبط ابن الجوزي: وعن وهب بن منبه أن رسول الله ﷺ إنما خرج إلى الغار من بيت أبي بكر، فخرج من خوخة في ظهر الدار. والأصح إنما كان خروجه من بيت نفسه.
«وجعل أبو بكر يمشي مرة أمام النبي ﷺ ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، فسأله رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك لا آمن عليك».
أقول: في الدر المنثور «فمشى ليلته على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه، فلما رآهما أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتدّ به حتى أتى على فم الغار فأنزله» وفي لفظ «لم يصب رسول الله ﷺ الغار حتى قطرت قدماه دما» وفي كلام السهيلي عن أبي بكر أنه قال: «نظرت إلى قدمي رسول الله ﷺ في الغار وقد تقطرتا دما».
قال بعضهم: ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل، وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة، ويدل عليه قوله: فمشى ليلته رسول الله. وفي لفظ فانتهينا «إلى الغار مع الصبح» ولا يحتمل ذلك مشي ليلته إلا بتقدير ذلك، أو أنه كما قيل ذهب إلى جبل حنين فناداه اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه جبل ثور: إليّ يا رسول الله» وساق في الأصل رواية تقتضي أنه ذهب إلى غار ثور راكبا ناقته الجدعاء. ثم رأيته في النور أشار إلى أن ركوبه الجدعاء إنما كان بعد خروجه من الغار، لا أنه ركبها من منزل أبي بكر إلى الغار كما هو ظاهر الرواية.
وفي الخصائص الكبرى عن ابن عباس «لما تشاور المشركون في أمر رسول الله، وأطلع الله نبيه على ذلك، فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار، فلما أصبحوا اقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل» الحديث، أي وهو مخالف لما تقدم من أن خروجه إلى الغار كان في الليلة الثانية لا في ليلة خروجه على قريش.
وقد يقال: لا منافاة، لأن قوله: حتى لحق بالغار غاية لمطلق الخروج من بيته لا في خصوص تلك الليلة، أي خرج من بيته واستمر على خروجه حتى لحق بالغار وذلك في الليلة الثانية، لكن تقدم أنه جاء إلى بيت أبي بكر متقنعا في وقت الظهيرة فليتأمل.
وأعلم رسول الله ﷺ عليا بخروجه إلى الهجرة وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عند رسول الله ﷺ للناس، لأنه لم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلمون من أمانته، أي ولعل إعلام عليّ بذلك كان عند توجهه إلى بيت أبي بكر، لأنه لم يثبت أنه اجتمع بعلي بعد ذلك إلا في المدينة لكن سيأتي عن الدرّ ما يقتضى أنه اجتمع به عند خروجه من الغار.
وفي الفصول المهمة «أنه وصى عليا بحفظ ذمته وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس، وأمره أن يبتاع رواحل للفواطم»: فاطمة بنت النبي، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ولمن هاجر معه من بني هاشم ومن ضعفاء المؤمنين، وشراء علي الرواحل مخالف لما يأتي في الأصل «أنه أرسل إلي عليّ حلة وأرسل يقول: تشقها خمرا بين الفواطم، وهي فاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت عتبة، وفاطمة أم علي، وفاطمة بنته » وإرساله لتلك الحلة كان بعد وصوله إلى المدينة فليتأمل.
قال في الفصول المهمة: وقال له: أي لعليّ «إذا أبرمت ما أمرتك به كن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وبقدوم كتابي عليك، وإذا جاء أبو بكر توجهه خلفي نحو بئر أم ميمون» وكان ذلك في فحمة العشاء، والرصد من قريش قد أحاطوا بالدار ينتظرون أن تنتصف الليلة وتنام الناس، ودخل أبو بكر على عليّ وهو يظنه: أي وأبو بكر يظن عليا رسول الله، فقال له علي: إن رسول الله ﷺ خرج نحو بئر أم ميمون، وهو يقول لك: أدركني، فلحقه أبو بكر، ومضيا جميعا يتسايران حتى أتيا جبل ثور فدخلا الغار، فليتأمل الجمع بينه وبين ما تقدم.
«ولما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبي: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه، ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه، فبقي جحر، وكان فيه حية فوضع عقبه عليه، ثم دخل رسول الله، ثم إن الحية التي في الجحر لما أحست بعقب سيدنا أبي بكر جعلت تلسعه وصارت دموعه تتحدر» قال ابن كثير: وفي هذا السياق غرابة ونكارة «أي وقد كان وضع رأسه في حجر أبي بكر ونام، فسقطت دموع أبي بكر على رسول الله ﷺ قال: مالك يا أبا بكر؟ قال: لدغت» بالدال المهملة والغين المعجمة «فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله ﷺ على محل اللدغة فذهب ما يجده» قال بعضهم: وقاه بعقبه فبورك في عقبه.
قالت بعضهم: والسر في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رؤوسهم تعظيما للحية التي لدغت أبا بكر في الغار، أي لأنهم يزعمون أن ذلك علي صورة تلك الحية.
«ولما أصبح رسول الله، قال لأبي بكر: أين ثوبك؟ فأخبره الخبر» زاد في رواية «وأنه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه، فقال: من لدغة الحية، فقال: هلا أخبرتني؟ قال: كرهت أن أوقظك فمسحه النبي ﷺ فذهب ما به من الورم والألم».
أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما «وحين أخبره أبو بكر بذلك رفع رسول الله ﷺ يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة، فأوحى الله تعالى إليه: قد استجاب الله لك».
وروي أنه لما صار يسد كل جحر وجده أصاب يده ما أدماها، فصار يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول:
فهل أنت إلا أصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت
وسيأتي أن هذا البيت من كلام ابن رواحة. وقيل من كلامه، وأنه يجوز أن يكون ابن رواحة ضم ذلك البيت لأبياته.
ومما قد يؤيد أن ذلك من كلامه ما ذكره سبط ابن الجوزي «أن أبا بكر لما لحقه في أثناء الطريق ظنه رسول الله ﷺ من الكفار فأسرع في المشي، فانقطع قبال نعله، ففلق إبهامه حجر فسال الدم، فرفع أبو بكر صوته ليعرفه رسول الله ﷺ فعرفه».
ومما يصرح بذلك ما رأيت عن جندب البجلي قال «كنت مع النبي ﷺ في غار كذا فدميت أصبعه فذكر البيت المذكور» وأراد بالغار غارا من الغيران لا هذا الغار كما توهم.
وجاء في الصحيحين عن جندب بن عبدالله «بينا نحن مع رسول الله ﷺ إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت إلا إصبع دميت». . . . البيت.
«أي ولما دخل رسول الله ﷺ وأبو بكر الغار أمر الله تعالى شجرة» أي وهي التي يقال لها العشار، وقيل أم غيلان «فنبتت في وجه الغار فسترته بفروعها».
«أي ويقال إنه دعا تلك الشجرة وكانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وأنها كانت مثل قامة الإنسان وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها» أي نسجا متراكما بعضه على بعض أي كنسج أربع سنين كما قال بعضهم.
وقد نسج العنكبوت أيضا على عبدالله بن أنيس لما قتل سفيان بن خالد وقطع رأسه وأخذها ودخل في غار في الجبل وكنّ فيه حتى انقطع عنه الطلب كما سيأتي. ونسج على نبي الله داود لما طلبه طالوت. ونسج أيضا على عورة سيدنا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهو أخو الإمام محمد الباقر وعم الإمام جعفر الصادق، وهو الذي ينسب إليه الزيدية كان إماما مجتهدا، وكان ممن أخذ عن واصل بن عطاء الآخر عن الحسن البصري.
ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن البصري باعتزال مجلسه، فقيل له معتزلي، وصار يقال لأصحابه معتزلة.
ولا يلزم من كون شيخ سيدنا زيد معتزليا أن يسلك زيد مسلكه. وصلب سيدنا زيد عريانا، وأقام مصلوبا أربع سنين، وقيل خمس سنين فلم تر عورته، وقيل إن بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها. ولا مانع من وجود الأمرين. وكان عند صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التي صلب عليها إلى أن صار وجهه إلى القبلة، أي وقد وقع لخبيب نحو ذلك كما سيأتي، ثم أحرقوا خشبة زيد وجسده وذرى رماده في الرياح على شاطىء الفرات، فإنه خرج على هشام بن عبد الملك وقد سمت نفسه للخلافة، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك، فانهزم أصحاب زيد عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أكثرهم.
فقد بايعه ناس كثير من أهل الكوفة وطلبوا منه أن يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر لينصروه، فقال: كلا، بل أتولاهما، فقالوا إذن نرفضك، فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فسموا بذلك من حينئذ رافضة. وجاءت إليه طائفة وقالوا: نحن نتولاهما ونبرأ ممن يبرأ منهما وقاتلوا معه فسموا الزيدية.
أقول: والعجب ممن يتمذهب سيدنا زيد، ويتبرأ من الشيخين ويكرههما ويكره من يذكرهما بخير، بل ربما سبهما.
وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم في جبهته وحال الليل بين الفريقين، فطلبوا حجاما من بعض القرى لينزع له النصل، فاستخرجه فمات من ساعته، فدفنوه من ساعته، وأخفوا قبره، وأجروا عليه الماء، واستكتموا الحجام ذلك، فلما أصبح الحجام مشى إلى يوسف بن عمر منتصحا وأخبره، ودله على موضع قبره، فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام. فكتب إليه هشام أن أصلبه عريانا فصلبه كذلك.
ويقال إن هشام بن عبد الملك قال يوما لزيد: بلغني أنك تريد الخلافة ولا تصلح لك لأنك ابن أمة، فقال: قد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرة، فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم، فقال له هشام: قم، قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره. ومن شعره:
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
قيل ورأس زيد دفنت بمصر القديمة بمسجد له مشهد زيد العابدين بن الحسين. وكذلك وقع في طبقات الشيخ الشعراني، نفعنا الله به وببركاته، وليس كذلك؛ بل هو محل زيد بن زين العابدين كما ذكره المقريزي في الخطط، ويقال له زيد الأزياد.
وذكر في حياة الحيوان أن ما ينسجه العنكبوت يخرج من خارج جلدها لا من جوفها وعن عليّ «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيوت يورث الفقر».
وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار: أي ويروى «أنهما باضتا» أي وفرختا، قال لأبي بكر: «ضع قدمك موضع قدمي، فإن الرمل لا ينم» وتقدم ما في ذلك: أي لأن المشركين لما فقدوا رسول الله ﷺ شق عليهم ذلك وخافوا ذلك وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة: أي الذين يقصون الأثر في كل وجه يقفون أثره، فوجدوا الذي ذهب إلى جبل ثور أثره، وقال ما تقدم.
«وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم، أي ولما أقبلوا أشفق على صهيب وخاف عليه، وقال: واصهيباه ولا صهيب لي» أي لأنه تواعد معهما أن يكون ثالثها «فلما أراد الخروج للغار أرسل له أبو بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله وجدت صهيبا يصلي فكرهت أن أقطع عليه صلاته، فقال أصبت» وتقدمت الحوالة على هذا.
«فلما كان فتيان قريش على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم ينظر في الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين أي مع العنكبوت، فقال: ليس فيه أحد، فسمع النبي ﷺ ما قال، فعرف أن الله قد درأ عنه أي دفع عنه».
وفي رواية «فلما انتهوا إلى فم الغار، قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم» أي حاجتكم إلى الغار «إنّ عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد » أي ولو دخل الغار لانفتح ذلك العنكبوت وتكسر البيض. وهذا يدل على أن البيض لم يكن فرخ: أي ويحتمل أن بعض البيض فرخ و بعضه لم يفرخ «ثم جاء قبالة فم الغار فبال، فقال أبو بكر: يا رسول الله إنه يرانا، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا» وفي بعض الروايات «لو رآنا ما تكشف عن فرجه» أي ما استقبلنا بفرجه وبوله، وقال أبو جهل: أما والله إني لأحسبه قريبا يرانا، ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا، فانصرفوا.
وذكر ابن كثير أن بعض أهل السير ذكر أن أبا بكر لما قال للنبي: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، قال له النبي ﷺ: لو جاؤونا من هاهنا لذهبنا من هاهنا، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه. قال ابن كثير: وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا «ونهى النبي ﷺ يومئذٍ عن قتل العنكبوت، وقال: إنها جند من جند الله» انتهى.
وعن أبي بكر الصديق أنه قال «لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت رسول الله ﷺ أحبها، ويقول: جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت عليّ وعليك يا أبا بكر» إلا أن البيوت تطهر من نسجها، أي بنبغي ذلك لما تقدم أن وجود نسجها في البيوت يورث الفقر.
وفي الجامع الصغير «جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت على الغار».
أقول: فيه أن في الحديث «العنكبوت شيطان فاقتلوه» وفي لفظ «العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه» فإن صح وثبت تأخره فهو ناسخ له، وإن كان متقدما على ما هنا وصح ما هنا فهو منسوخ به والله أعلم/ «وبارك على الحمامتين، وفرض جزاء الحمام وانحدرتا في الحرم فأفرختا كل شيء في الحرم من الحمام» أي ولأجل ذلك ذهب الغزالي من أئمتنا إلى صحة الوقف على حمام مكة دون غيره من الطيور وهو الراجح.
ونظر في الإمتاع في كون حمام الحرم من نسل ذلك الزوج، فإنه روى في قصة نوح «أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض فوقعت بوادي الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها، ثم جاءته فمسح عنقها وطوّقها طوقا، ووهب لها الحمرة في رجليها، وأسكنها الحرم، ودعا لها بالبركة».
وفي شعر الحارث بن مضاض الذي أوله:
فكأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ويبك لبيت ليس يؤذى حمامه ** يظل به أمنا وفيه العصافر
ففي هذا الحمام قد كان في الحرم من عهد جرهم، أي ونوح. وذكر بعضهم «أن حمام مكة أظله يوم فتحها، فدعا له بالبركة».
ويروى «أن أبا بكر لما رأى قريشا أقبلت نحو الغار خصوصا ومعهم القافة بكى، أي ويقال لما سمع القائف يقول لقريش: والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار حزن وبكى، وقال: والله ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال له: لا تحزن إن الله معنا وأنزل الله تعالى سكينته على أبي بكر ، أي وأنزل عليه أمنته التي تسكن عندها القلوب» قيل قال له لا تحزن ولم يقل له لا تخف، لأن حزنه على رسول الله، وهذا النهي تأنيس وتبشير له كما في قوله تعالى له {ولا يحزنك قولهم} وبه يردّ ما زعمته الرافضة، أن ذلك غضبا من أبي بكر وذما له، لأن حزنه إن كان طاعة فالنبي ﷺ لا ينهى عن الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية.
وفي رواية عن أبي بكر «قلت للنبي ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه» أي لأنهما علوا على رؤوسهما.
فعن أبي بكر قال «نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
قال بعضهم: كان معهما وثالثهما باللفظ والمعنى؛ أما باللفظ فكان يقال: يا رسول الله ويقال لأبي بكر، يا خليفة رسول الله، وأما بالمعنى فكان مصاحبا لهما بالنصر والهداية والإرشاد، والضمير في {أيده بجنود لم تروها} راجع النبي، وتلك الجنود ملائكة أنزلهم الله تعالى عليه في الغار يبشرونه بالنصر على أعدائه.
وروي «أن أبا بكر عطش في الغار، فقال له رسول الله ﷺ: اذهب إلى صدر الغار فاشرب، فانطلق أبو بكر إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك فشرب منه، فقال له رسول الله ﷺ: إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرا من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب، قال أبو بكر: يا رسول الله، ولي عندالله هذه المنزلة؟ فقال النبي ﷺ: نعم وأفضل، والذي بعثني بالحق نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبيا».
أي وذكر بعضهم قال: «كنت جالسا عند أبي بكر ، فقال: من كان له عند رسول الله ﷺ عدة فليقم، فقام رجل فقال: إن رسول الله ﷺ وعدني بثلاث حثيات من تمر، فقال أرسلوا إلى عليّ فجاء، فقال: يا أبا الحسن إن هذا يزعم كذا وكذا فاحث له فحثى له، فقال أبو بكر. عدوّها، فعدوها فوجدوها كل حثية ستين تمرة لا تزيد ولا تنقص، فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، قال لي رسول الله ﷺ ليلة الهجرة من الغار: كفي وكف عليّ في العدد سواء» ذكر الذهبي أنه موضوع، ولعل قول الصديق صدق الله ورسوله علة لاختياره عليا على نفسه في أن يحثو، لا أن ذلك علة لكون كل حثية جاءت ستين حبة.
«ولما أيست قريش منهما أرسلوا لأهل السواحل إن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة ناقة» أي ويقال إن أبا جهل أمر مناديا ينادي في أعلى مكة وأسفلها: من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير، وإلى قصة الغار أشار صاحب الهمزية بقوله:
أخرجوه منها وآواه غار ** وحمته حمامة ورقاء
وكفته بنسجها عنكبوت ** ما كفته الحمامة الحصداء
واختفى منهم على قرب مرآ ** ه ومن شدة الظهور الخفاء
أي كانوا سببا لإخراجه من تلك الأرض التي هي مولده ومرباه ووطنه ووطن آبائه، بسبب مبالغتهم في إيذائه وإيذاء أصحابه خصوصا ضعفاءهم، وآواه غار وحمته منهم حمامة في لونها بياض وسواد، وكفته أعداءه عنكبوت بنسجها الذي كفته إياهم الحمامة الكثيرة الريش، فتلك الحمامة كانت ورقاء حصداء واستتر منهم مع قرب محل رؤيته.
وحكمة خفائه واستتاره منهم مع ظهوره لهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه شدة ظهوره عليهم بالغلبة والمعونة الإلهية، ومكثا في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو غلام يعرف ما يقال، يأتيهما حين يختلط الظلام ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش كبائت في بيته فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه ويخبرهما به.
وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر كان مملوكا للطفيل فأسلم وهو مملوك، وكان ممن يعذب في الله ، فاشتراه أبا بكر من الطفيل وأعتقه كما تقدم، فكان يروح عليهما بمنحه غنم: أي قطعة من غنم أبي بكر، فكان يرعاها حيث تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما ثم يغلس: أي إذا خرج من عندهما عبدالله تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفو أثر قدميه، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث: أي وذلك بارشاد من أبي بكر .
ففي السيرة الهشامية: وأمر أبو بكر ابنه عبدالله أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهارا، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام.
أقول: وفي الدر عن عائشة : ما كان أحد يعلم مكان ذلك الغار إلا عبدالله بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر، فإنهما كانا يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة، فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما.
وفي الفصول المهمة «وأقام رسول الله ﷺ ثلاثة أيام بلياليها في الغار وقريش لا يدرون أين هو؟ وأسماء بنت أبي بكر تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما، فلما كان بعد الثلاث أمرها أن تأتي عليا وتخبره بموضعهما وتقول له يستأجر لهما دليلا ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضي ساعة من الليلة الآتية: أي وهي الرابعة: فجاءت أسماء إلى علي كرم الله وجهه فأخبرته بذلك، فاستأجر لهما رجلا يقال له الأريقط بن عبدالله الليثي، وأرسل معه بثلاث من الإبل فجاء بهن إلى أسفل الجبل ليلا، فلما سمع النبي ﷺ رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه» أي والذي في البخاري «فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا». وتقدم أن المستأجر لهما للدليل النبي ﷺ وأبو بكر.
وقد يجمع بأن المراد باستئجار علي إعطاؤه الأجرة، وكونه استأجر لهما ثلاث رواحل وأتى بها معه فيه نظر ظاهر، وركب النبي ﷺ وركب أبو بكر وركب الدليل.
وفي الدر المنثور «فمكث هو وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعليّ يجهزهما، فاشترى ثلاثة أباعر واستأجر لهم دليلا، فلما كان في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم عليّ بالإبل والدليل». فليتأمل ذلك مع ما قبله.
وفي حديث مرسل «مكثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير» أي الأراك. وتقدم في باب رعية الغنم أن ثمر الأراك النضيج يقال له الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة.
قال ابن عبد البر: وهذا أي القول بأنهما مكثا في الغار بضعة عشر يوما غير صحيح عند أهل العلم بالحديث. قال لحافظ ابن حجر: والمراد كما قال الحاكم أنهما مكثا مختفيين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، وذكر في الغار: أي الاقتصار عليه من بعض الرواة، والله أعلم.
قال: وعن أسماء بنت أبي بكر «أن أبا بكر أرسل ابنه عبدالله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف، وكان حين أسلم أربعين ألف درهم» وفي لفظ «أربعين ألف دينار» أي ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس «أنفق أبو بكر على النبي ﷺ أربعين ألف دينار، فحمل إليه ذلك في الغار» قالت أسماء: فدخل علينا جدّي أبو قحافة ، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان قد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه ـ يعني أبا بكر ـ قد فجعكم بماله مع نفسه فقالت: كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا، قالت فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة: أي طاقة في البيت كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لابأس إن كان ترك لكم هذا، ففي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ ا هـ.
أي ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه وكان مريضا فقال: لا عذر لي في مقامي بمكة فأمر أهله فخرجوا به، فلما وصل إلى التنعيم مات به، فأنزل الله تعالى {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما} وقيل نزلت في خالد بن حرام بن خويلد بن أسد، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، فمات من نهش حية قبل أن يصل. وجاء «أنه قال لحسان هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ** طاف العدّو به إذ صاعدوا الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ** من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه» أي وفي لفظ «فتبسم، ثم قال صدقت يا حسان، هو كما قلت» إنه أحب البرية إليه، أي إلى رسول الله ﷺ لم يعدل به غيره.
أقول: في ينبوع الحياة: والذي أعرف في هذين البيتين، أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر هذا كلامه.
وقد يقال: لا مانع أن يكون أدخلهما حسان في مرثيته لأبي بكر بعد ذلك، والله أعلم. وعن أبي بكر قال لجماعة: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل أنا أقرأ، فلما بلغ {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} بكى وقال: أنا والله صاحبه.
وعن أبي الدرداء قال «رآني رسول الله أمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو أفضل منك في الدنيا والآخرة؟ فوالذي نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «أتاني جبريل فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر» وعن أنس قال: رسول الله «حب أبي بكر واجب على أمتي».
قال: وعن أسماء بنت أبي بكر «أن أبا بكر أرسل ابنه عبدالله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف، وكان حين أسلم أربعين ألف درهم» وفي لفظ «أربعين ألف دينار» أي ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس «أنفق أبو بكر على النبي ﷺ أربعين ألف دينار، فحمل إليه ذلك في الغار» قالت أسماء: فدخل علينا جدّي أبو قحافة ، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان قد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه ـ يعني أبا بكر ـ قد فجعكم بماله مع نفسه فقالت: كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا، قالت فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة: أي طاقة في البيت كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لابأس إن كان ترك لكم هذا، ففي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ ا هـ.
أي ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه وكان مريضا فقال: لا عذر لي في مقامي بمكة فأمر أهله فخرجوا به، فلما وصل إلى التنعيم مات به، فأنزل الله تعالى {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما} وقيل نزلت في خالد بن حرام بن خويلد بن أسد، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، فمات من نهش حية قبل أن يصل. وجاء «أنه قال لحسان هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقدطاف العدّو به إذ صاعدوا الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ** من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه» أي وفي لفظ «فتبسم، ثم قال صدقت يا حسان، هو كما قلت» إنه أحب البرية إليه، أي إلى رسول الله ﷺ لم يعدل به غيره.
أقول: في ينبوع الحياة: والذي أعرف في هذين البيتين، أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر هذا كلامه.
وقد يقال: لا مانع أن يكون أدخلهما حسان في مرثيته لأبي بكر بعد ذلك، والله أعلم. وعن أبي بكر قال لجماعة: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل أنا أقرأ، فلما بلغ {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} بكى وقال: أنا والله صاحبه.
وعن أبي الدرداء قال «رآني رسول الله أمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو أفضل منك في الدنيا والآخرة؟ فوالذي نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «أتاني جبريل فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر» وعن أنس قال: رسول الله «حب أبي بكر واجب على أمتي».