مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في قول الناس الآدمي جبار ضعيف
فصل في قول الناس الآدمي جبار ضعيف
وقال:
قول الناس: الآدمى جَبَّار ضعيف، أو فلان جبار ضعيف؛ فإن ضعفه يعود إلى ضعف قواه، من قوة العلم والقدرة، وأما تجبره فإنه يعود إلى اعتقاداته وإراداته، أما اعتقاده: فأن يتوهم في نفسه أنه أمر عظيم فوق ما هو ولا يكون ذلك، وهذا هو الاختيال والخيلاء والمخيلة، وهو أن يتخيل عن نفسه ما لا حقيقة له، ومما يوجب ذلك مدحه بالباطل نظما ونثرا وطلبه للمدح الباطل، فإنه يورث هذا الاختيال.
وأما الإرادة: فإرادة أن يتعظم ويعظم، وهو إرادة العلو في الأرض والفخر على الناس، وهو أن يريد من العلو ما لا يصلح له أن يريده، وهو الرئاسة والسلطان، حتى يبلغ به الأمر إلى مزاحمة الربوبية كفرعون، ومزاحمة النبوة، وهذا موجود في جنس العلماء والعُبَّاد والأمراء وغيرهم.
وكل واحد من الاعتقاد والإرادة يستلزم جنس الآخر؛ فإن من تخيل أنه عظيم أراد ما يليق بذلك الاختيال، ومن أراد العلو في الأرض فلابد أن يتخيل عظمة نفسه وتصغير غيره، حتى يطلب ذلك، ففى الإرادة يتخيله مقصودا، وفى الاعتقاد يتخيله موجودا، ويطلب توابعه من الإرادات.
وقد قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } 1، وقال النبي ﷺ: «الكبر بَطَر الحق وغَمْط الناس»، فالفخر يشبه غمط الناس، فإن كليهما تكبر على الناس، وأما بطر الحق وهو جحده ودفعه فيشبه الاختيال الباطل، فإنه تخيل أن الحق باطل بجحده ودفعه.
ثم هنا وجهان:
أحدهما: أن يجعل الاختيال وبطر الحق من باب الاعتقادات، وهو أن يجعل الحق باطلا والباطل حقا، فيما يتعلق بتعظيم النفس وعلو قدرها، فيجحد الحق الذي يخالف هواها وعلوها، ويتخيل الباطل الذي يوافق هواها وعلوها، ويجعل الفخر وغمط الناس من باب الإرادات؛ فإن الفاخر يريد أن يرفع نفسه ويضع غيره، وكذلك غامط الناس.
يؤيد هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعى، عن النبي ﷺ أنه قال: «إنه أوحى إلى أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغى أحد على أحد»، فبين أن التواضع المأمور به ضد البغى والفخر. وقال في الخيلاء التي يبغضها الله: «الاختيال في الفخر والبغى»... 2، فكان في ذلك ما دل على أن الاستطالة على الناس، إن كانت بغير حق فهى بغى؛ إذ البغى مجاوزة الحد، وإن كانت بحق فهى الفخر، لكن يقال على هذا: البغى يتعلق بالإرادة، فلا يجوز أن يجعل هو من باب الاعتقاد وقسيمه من باب الإرادة، بل البغى كأنه في الأعمال والفخر في الأقوال، أو يقال: البغى بطر الحق، والفخر غمط الناس.
الوجه الثاني: أن يكونا جميعا متعلقين بالاعتقاد والإرادة، لكن الخيلاء غمط الحق، يعود إلى الحق في نفسه، الذي هو حق الله، وإن لم يكن يتعلق به حق آدمى، والفخر وغمط الناس يعود إلى حق الآدميين، فيكون التنويع لتمييز حق الآدميين مما هو حق لله لا يتعلق الآدميين؛ بخلاف الشهوة في حال الزنا، وأكل مال الغير؛ فلما قال سبحانه: { إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن
كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } 3 والبخل منع النافع قيد هذا بهذا، وقد كتبت فيما قبل هذا من التعاليق: الكلام في التواضع والإحسان والكلام في التكبر والبخل.
هامش