مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل المقصود من الآية هو أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعم
فصل المقصود من الآية هو أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعم
[عدل]والمقصود هنا الكلام على قوله: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } 1، وأن هذا يقتضي أن العبد لا يزال شاكرا مستغفرا.
وقد ذكر أن الشر لا يضاف إلى الله إلا على أحد الوجوه الثلاثة. وقد تضمنت الفاتحة للأقسام الثلاثة، هو سبحانه: الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وقد سبقت وغلبت رحمته غضبه، وهو الغفور الودود، الحليم الرحيم.
فإرادته أصل كل خير ونعمة، وكل خير ونعمة فمنه: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ } 2.
وقد قال سبحانه: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ثم قال: { وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم } 3، وقال تعالى: { اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 4 فالمغفرة والرحمة من صفاته المذكورة بأسمائه. فهى من موجب نفسه المقدسة، ومقتضاها ولوازمها.
وأما العذاب، فمن مخلوقاته، الذي خلقه بحكمة، هو باعتبارها حكمة ورحمة. فالإنسان لا يأتيه الخير إلا من ربه وإحسانه وجوده، ولا يأتيه الشر إلا من نفسه، فما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه.
وقوله: { مَّا أَصَابَكَ } إما أن تكون كاف الخطاب له ﷺ كما قال ابن عباس وغيره وهو الأظهر؛ لقوله بعد ذلك: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا } 5.
وإما أن تكون لكل واحد واحد من الآدميين، كقوله: { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } 6.
لكن هذا ضعيف، فإنه لم يتقدم هنا ذكر الإنسان ولا مكانه، وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما قالوه. فلو أريد ذكرهم لقيل: «ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة».
لكن خوطب الرسول بهذا؛ لأنه سيد ولد آدم. وإذا كان هذا حكمه، كان هذا حكم غيره بطريق الأولى والأحرى، كما في مثل قوله: { اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } 7، وقوله تعالى: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } 8، وقوله: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } 9.
ثم هذا الخطاب نوعان: نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى، كقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } ثم قال: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمًْ } 10.
ونوع قد يكون خطابه خطابا به لجميع الناس، كما يقول كثير من المفسرين: الخطاب له والمراد غيره.
وليس المعنى: أنه لم يخاطب بذلك، بل هو المقدم. فالخطاب له خطاب لجميع الجنس البشري. وإن كان هو لا يقع منه ما نهى عنه، ولا يترك ما أمر به، بل هذا يقع من غيره، كما يقول ولي الأمر للأمير: سافر غدا إلى المكان الفلاني، أي أنت ومن معك من العسكر. وكما ينهى أعز من عنده عن شيء، فيكون نهيا لمن دونه، وهذا معروف من الخطاب.
فقوله: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } الخطاب له ﷺ، وجميع الخلق داخلون في هذا الخطاب بالعموم، وبطريق الأولى، بخلاف قوله: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا } 11، فإن هذا له خاصة. ولكن من يبلغ عنه يدخل في معنى الخطاب، كما قال ﷺ: «بَلِّغوا عني ولو آية»، وقال: «نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه»، وقال: «ليبلغ الشاهد الغائب»، وقال: «إن العلماء ورثة الأنبياء»، وقد قال تعالى في القرآن: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } 12.
والمقصود هنا أن الحسنة مضافة إليه سبحانه من كل وجه، والسيئة مضافة إليه لأنه خلقها، كما خلق الحسنة فلهذا قال: { كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ } . ثم إنه إنما خلقها لحكمة، ولا تضاف إليه من جهة أنها سيئة، بل تضاف إلى النفس التي تفعل الشر بها لا لحكمة، فتستحق أن يضاف الشر والسيئة إليها، فإنها لا تقصد بما تفعله من الذنوب خيرا يكون فعله لأجله أرجح، بل ما كان هكذا فهو من باب الحسنات؛ ولهذا كان فعل الله حسنا، لا يفعل قبيحا ولا سيئا قط.
وقد دخل في هذا سيئات الجزاء والعمل؛ لأن المراد بقوله: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } و { مِن سَيِّئَةٍ } النعم والمصائب كما تقدم لكن إذا كانت المصيبة من نفسه لأنه أذنب فالذنب من نفسه بطريق الأولى، فالسيئات من نفسه بلا ريب، وإنما جعلها منه مع الحسنة بقوله: { كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ } كما تقدم؛ لأنها لا تضاف إلى الله مفردة، بل إما في العموم، كقوله: { كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ } .
وكذلك الأسماء التي فيها ذكر الشر، لا تذكر إلا مقرونة، كقولنا: «الضار النافع، المعطي المانع، المعز المذل» أو مقيدة، كقوله: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } 13.
وكل ما خلقه مما فيه شر جزئي إضافى ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك، مثل إرسال موسى إلى فرعون، فإنه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه، وذلك شر بالإضافة إليهم، لكن حصل به من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة، والاعتبار بقصة فرعون ما هو خير عام، فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به، كما قال تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } 14 وقال تعالى بعد ذكر قصته: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } 15.
وكذلك محمد ﷺ، شقى برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب، وهم الذين كذبوه، وأهلكهم الله تعالى بسببه، ولكن سعد بها أضعاف أضعاف هؤلاء.
ولذلك من شقى به من أهل الكتاب كانوا مبدلين محرفين قبل أن يبعث الله محمدا ﷺ فأهلك الله بالجهاد طائفة، واهتدى به من أهل الكتاب أضعاف أضعاف أولئك.
والذين أذلهم الله من أهل الكتاب بالقهر والصَّغَار 16، أو من المشركين الذين أحدث فيهم الصغار، فهؤلاء كان قهرهم رحمة لهم؛ لئلا يعظم كفرهم، ويكثر شرهم.
ثم بعدهم حصل من الهدى والرحمة لغيرهم ما لا يحصيهم إلا الله، وهم دائما يهتدى منهم ناس من بعد ناس ببركة ظهور دينه بالحجة واليد.
فالمصلحة بإرساله وإعزازه، وإظهار دينه، فيها من الرحمة التي حصلت بذلك ما لا نسبة لها إلى ما حصل بذلك لبعض الناس من شر جزئي إضافى، لما في ذلك من الخير والحكمة أيضا؛ إذ ليس فيما خلقه الله سبحانه شر محض أصلا، بل هو شر بالإضافة.
هامش
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [النحل: 53]
- ↑ [الحجر: 49، 50]
- ↑ [المائدة: 98]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [الانفطار: 6]
- ↑ [الأحزاب: 1]
- ↑ [الزمر: 65]
- ↑ [يونس: 94]
- ↑ [التحريم: 1، 2]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [السجدة: 22]
- ↑ [الزخرف: 55]
- ↑ [النازعات: 26]
- ↑ [أي: الذل والهوان]