مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان
فصل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان
[عدل]الفرق السابع من الحسنات والسيئات التي تتناول الأعمال والجزاء في كون هذه تضاف إلى النفس، وتلك تضاف إلى الله: أن السيئات التي تصيب الإنسان وهي مصائب الدنيا والآخرة ليس لها سبب إلا ذنبه الذي هو من نفسه، فانحصرت في نفسه.
وأما ما يصيبه من الخير والنعم فإنه لا تنحصر أسبابه؛ لأن ذلك من فضل الله وإحسانه، يحصل بعمله وبغير عمله، وعمله نفسه من إنعام الله عليه. وهو سبحانه لا يجزي بقدر العمل، بل يضاعفه له، ولا يقدر العبد على ضبط أسبابها، لكن يعلم أنها من فضل الله وإنعامه، فيرجع فيها إلى الله، فلا يرجو إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ويعلم أن النعم كلها من الله، وأن كل ما خلقه فهو نعمة كما تقدم فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، الذي لا يستحقه غيره.
ومن الشكر: ما يكون جزاء على ما يسره على يديه من الخير، كشكر الوالدين وشكر من أحسن إليك من غيرهما؛ فإنه من لا يشكر الناس لا يشكر الله، لكن لا يبلغ من حق أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية الله، أو أن يطاع بمعصية الله؛ فإن الله هو المنعم بالنعم العظيمة، التي لا يقدر عليها مخلوق. ونعمة المخلوق إنما هي منه أيضا، قال تعالى: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ } 1، وقال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } 2، وجزاؤه سبحانه على الطاعة والمعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله.
فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق، كما قال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } 3، وقال في الآية الأخرى: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } 4.
وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وفى الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: «إنما الطاعة في المعروف»، وقال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه»، وقال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، وأنه لا يقدر أن يأتي بها إلا الله، فلا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يذهب السيئات إلا هو، وأنه { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا
وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } 5 صار توكله ورجاؤه ودعاؤه للخالق وحده.
وكذلك إذا علم ما يستحقه الله من الشكر الذي لا يستحقه غيره صار علمه بأن الحسنات من الله يوجب له الصدق في شكر الله، والتوكل عليه.
ولو قيل: إنها من نفسه لكان غلطا؛ لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل، وما كان لعمله فيه مدخل فإن الله هو المنعم به، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا مَلْجَأ ولا مَنْجَى منه إلا إليه.
وعلم أن الشر قد انحصر سببه في النفس، فضبط ذلك وعلم من أين يؤتى، فاستغفر ربه مما فعل وتاب، واستعان الله واستعاذ به مما لم يعمل بعد، كما قال من قال من السلف: لا يَرْجُوَنّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يَخافنَّ عبد إلا ذَنبه.
وهذا يخالف قول الجهمية ومن اتبعهم، الذين يقولون: إن الله يعذب بلا ذنب، ويعذب أطفال الكفار وغيرهم عذابا دائما أبدا بلا ذنب.
فإن هؤلاء يقولون: يخاف الله خوفا مطلقا، سواء كان له ذنب أو لم يكن له ذنب، ويشبهون خوفه بالخوف من الأسد، ومن الملك القاهر الذي لا ينضبط فعله ولا سطوته، بل قد يقهر ويعذب من لا ذنب له من رعيته.
فإذا صَدَّقَ العبد بقوله تعالى: { وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } 6، علم بطلان هذا القول، وأن الله لا يعذبه ويعاقبه إلا بذنوبه، حتى المصائب التي تصيب العبد كلها بذنوبه.
وقد تقدم قول السلف ابن عباس وغيره أن ما أصابهم يوم أُحُد من الغم والفشل إنما كان بذنوبهم، لم يستثن من ذلك أحد.
وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص.
وفى الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب، ولا هَمٍّ ولا حزن ولا غَمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كَفَّر الله بها من خطاياه».
هامش