مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في حكمة الجمع بين الخيلاء والفخر والبخل في الآيات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل في حكمة الجمع بين الخيلاء والفخر والبخل في الآيات[عدل]

وقال شيخ الإِسلاَم رَحِمهُ اللَّه:

قد كتبنا في غير موضع الكلام على جمع الله تعالى بين الخيلاء والفخر وبين البخل، كما في قوله: { إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } في النساء 1 والحديد 2، وضد ذلك الإعطاء والتقوى المتضمنة للتواضع، كما قال: { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى } 3، وقال: { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } 4، وهذان الأصلان هما جماع الدين العام، كما يقال: التعظيم لأمر الله، والرحمة لعباد الله.

فالتعظيم لأمر الله يكون بالخشوع والتواضع، وذلك أصل التقوى والرحمة لعباد الله بالإحسان إليهم، وهذان هما حقيقة الصلاة والزكاة، فإن الصلاة متضمنة للخشوع لله والعبودية له، والتواضع له، والذل له، وذلك كله مضاد للخيلاء والفخر والكبر. والزكاة متضمنة لنفع الخلق والإحسان إليهم، وذلك مضاد للبخل.

ولهذا وغيره، كثر القِران بين الصلاة والزكاة في كتاب الله.

وقد ذكرنا فيما تقدم: أن الصلاة بالمعنى العام تتضمن كل ما كان ذكرا للّه أو دعاء له، كما قال عبد الله بن مسعود: مادمتَ تذكر الله فأنت في صلاة، ولو كنت في السوق، وهذا المعنى وهو دعاء الله أي قصده والتوجه إليه المتضمن ذكره على وجه الخشوع والخضوع هو حقيقة الصلاة الموجودة في جميع موارد اسم الصلاة، كصلاة القائم والقاعد والمضطجع. والقارئ والأمى والناطق والأخرس، وإن تنوعت حركاتها وألفاظها؛ فإن إطلاق لفظ الصلاة على مواردها هو بالتواطؤ المنافى للاشتراك والمجاز، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

إذ من الناس من ادَّعى فيها الاشتراك، ومنهم من ادعى المجاز، بناء على كونها منقولة من المعنى اللغوى، أو مزيدة، أو على غير ذلك، وليس الأمر كذلك، بل اسم الجنس العام المتواطئ المطلق إذا دل على نوع أو عين، كقولك: هذا الإنسان وهذا الحيوان، أو قولك: هات الحيوان الذي عندك وهى غنم، فهنا اللفظ قد دل على شيئين: على المعنى المشترك الموجود في جميع الموارد وعلى ما يختص به هذا النوع أو العين، فاللفظ المشترك الموجود في جميع التصاريف على القدر المشترك، وما قرن باللفظ من لام التعريف مثلا أو غيرها دل على الخصوص والتعيين، وكما أن المعنى الكلي المطلق لا وجود له في الخارج، فكذلك لا يوجد في الاستعمال لفظ مطلق مجرد عن جميع الأمور المعينة.

فإن الكلام إنما يفيد بعد العَقْدِ والتركيب، وذلك تقييد وتخصيص كقولك: أكرم الإنسان أو الإنسان خير من الفرس. ومثله قوله: { أَقِمِ الصَّلَاةَ } 5، ونحو ذلك. ومن هنا غلط كثير من الناس في المعانى الكلية، حيث ظنوا وجودها في الخارج مجردة عن القيود، وفي اللفظ المتواطئ حيث ظنوا تجرده في الاستعمال عن القيود. والتحقيق: أنه لا يوجد المعنى الكلي المطلق في الخارج إلا معينًا مقيدًا، ولا يوجد اللفظ الدال عليه في الاستعمال إلا مقيدا مخصصا، وإذا قدر المعنى مجردا كان محله الذهن، وحينئذ يقدر له لفظ مجرد غير موجود في الاستعمال مجردا.

والمقصود هنا أن اسم الصلاة فيه عموم وإطلاق، ولكن لا يستعمل إلا مقرونا بقيد إنما يختص ببعض موارده كصلواتنا، وصلاة الملائكة، والصلاة من الله سبحانه وتعالى وإنما يغلط الناس في مثل هذا، حيث يظنون أن صلاة هذا الصنف مثل صلاة هذا، مع علمهم بأن هذا ليس مثل هذا، فإذا لم يكن مثله لم يجب أن تكون صلاته مثل صلاته، وإن كان بينهما قدر متشابه، كما قد حققنا هذا في الرد على الاتحادية والجهمية والمتفلسفة ونحوهم.

ومن هذا الباب أسماء الله وصفاته، والتي يسمى ويوصف العباد بما يشبهها، كالحى والعليم والقدير، ونحو ذلك.

وكذلك اسم الزكاة هو المعنى العام، كما في الصحيحين عن النبي أنه قال: «كل معروف صدقة»؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: «على كل مسلم صدقة»، وأما الزكاة المالية المفروضة فإنما تجب على بعض المسلمين في بعض الأوقات، والزكاة المقارنة للصلاة تشاركها في أن كل مسلم عليه صدقة، كما قال النبي . قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق». قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: «يعين صانعا أو يصنع لأخْرَق». قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: «يكف نفسه عن الشر».

وأما قوله في الحديث الصحيح حديث أبى ذر وغيره: «على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة»، فهذا إن شاء الله كتضمن هذه الأعمال نفع الخلائق؛ فإنه بمثل هذا العامل يحصل الرزق والنصر والهدى، فيكون ذلك من الصدقة على الخلق.

ثم إن هذه الأعمال هي من جنس الصلاة، وجنس الصلاة الذي ينتفع به الغير يتضمن المعنيين: الصلاة والصدقة، ألا ترى أن الصلاة على الميت صلاة وصدقة؟ وكذلك كل دعاء للغير واستغفار، مع أن الدعاء للغير دعاء للنفس أيضا، كما قال النبي في الحديث الصحيح: «ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا، كلما دعا له بدعوة قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل».


هامش

  1. [36، 37]
  2. [23، 24]
  3. [الليل: 5]
  4. [النحل: 128]
  5. [الإسراء: 78]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الرابع عشر
فصل في أسماء القرآن | فصل في الآيات الدالة على اتباع القرآن | سئل عن بعض الآحاديث هل هي صحيحة أم لا | فصل في ذكر فضائل الفاتحة | سورة الفاتحة | فصل في تفصيل حاجة الناس إلى الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان أن الإنسان وجميع المخلوقات عباد لله | فصل في بيان أنه لا غنى عن الله تبارك وتعالى | فصل في بيان ما يصلح العباد من الأوامر والنواهي | فصل في ضرورة اقتفاء الصراط المستقيم | سورة البقرة | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة البقرة | فصل في تفسيرقوله تعالى ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق | فصل في معنى المثل | تفسير بعض المشكل من الآيات | فصل في تقسيم ذمم أهل الكتاب | سئل عن معنى قوله تعالى ما ننسخ من آية | تفسير قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام | سئل عن قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات | فصل فيما يبطل الصدقة | فصل في تفسير قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم | خواتيم سورة البقرة | فصل في الدعاء المذكور في آخر سورة البقرة | سورة آل عمران | فصل في كيفية شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان حال الشهادة | فصل في بيان ما يتبع الشهادة من العزة والحكمة | فصل فيما تضمنته أية الشهادة | فصل في قوله تعالى وهو العزيز الحكيم | فصل في أهمية شهادة أولي العلم | فصل في بيان عظمت شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل شهادة الرب بالسمع والبصر | فصل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة | فصل في بيان قوله تعالى لكن الله يشهد بما أنزل | فصل في بيان أن من شهادة الرب تبارك وتعالى ما يجعله في القلوب من العلم | سئل عن قوله تعالى ومن دخله كان آمنا | ما قاله الشيخ في قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه | سورة النساء | سئل عن قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن | فصل في قوله تعالى إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا | فصل في حكمة الجمع بين الخيلاء والفخر والبخل في الآيات | فصل في قول الناس الآدمي جبار ضعيف | تفسير قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل في قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيئات في القرآن الكريم | فصل في المعصية الثانية | فصل في معنى السيئات التي يعملها الإنسان | فصل ليس للقدرية أن يحتجوا بالآية من يعمل سوءا يجز به | فصل في ظن طائفة أن في الآية إشكالا | فصل في تأويل قوله تعالى وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك | فصل في ذكر كلام الجهمية | فصل في قول من قال لم فرق بين الحسنات والسيئات | فصل في أن الحسنات من فضل الله ومنه | فصل في أن الحسنات يضاعفها الله تبارك وتعالى | فصل في اضطراب الناس في مضاعفة الحسنات | فصل المقصود من الآية هو أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعم | فصل في أن ما يحصل للإنسان من الحسنات أمر وجودي أنعم الله به عليه | فصل في تنازع الناس في الترك | فصل في أن الثواب والعقاب على أمر وجودي | فصل منشأ السيئات من الجهل والظلم | فصل في أن الغفلة والشهوة أصل الشر | فصل في بيان تفضل الله على العباد | فصل في الذنوب عقوبة للإنسان على عدم فعله ما خلق له | فصل في قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم | فصل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان | فصل في أن السيئات خبيثة مذمومة | فصل في حتمية ألا يطلب العبد الحسنات إلا من الله تعالى | فصل في تفسير قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن | فصل في تفسير قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم | فصل في أنه لا يجوز الجدال عن الخائن | سورة المائدة | فصل في تفسير قوله تعالى أوفوا بالعقود | فصل في تفسير قوله تعالى قوله: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك | تفسير آيات أشكلت | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم | فصل في بيان ما جاءت به الشريعة الإسلامية | فصل في تفسير قوله تعالى عليكم أنفسكم | فصل في تفسير قوله تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم | سورة الأنعام | تفسير قوله تعالى ثم قضى أجلا | فصل في أن الله عز وجل يرفع درجات من يشاء بالعلم | تفسير بعض الآيات المشكلة | فصل في تفسير قوله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا