مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيئات في القرآن الكريم
فصل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيئات في القرآن الكريم
[عدل]ولفظ الحسنات و السيئات في كتاب الله يتناول هذا وهذا، قال الله تعالى عن المنافقين: { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } 1، وقال تعالى: { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ } 2، وقال تعالى: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } 3 وقال تعالى: { إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ } 4، وقال تعالى في حق الكفار المتطيرين بموسى ومن معه: { إِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } ذكر هذا بعد قوله: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } 5.
وأما الأعمال المأمور بها والمنهى عنها ففى مثل قوله تعالى: { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } 6 { وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } 7، وقوله تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } 8، وقوله تعالى: { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } 9.
وهنا قال: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } 10 ولم يقل: وما فعلت، وما كسبت، كما قال: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } 11 وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } 12، وقال تعالى: { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } 13، وقال تعالى: { وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ } 14، وقال تعالى: { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ } 15 وقال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } 16.
فلهذا كان قول { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } و { مِن سَيِّئَةٍ } متناول لما يصيب الإنسان، ويأتيه من النعم التي تسره، ومن المصائب التي تسوءه.
فالآية متناولة لهذا قطعا، وكذلك قال عامة المفسرين.
قال أبو العالية: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ } قال: هذه في السراء { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } قال: وهذه في الضراء.
وقال السدى: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } : قالوا: والحسنة؛ الخصب؛ ينتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم، ويحسن حالهم، وتلد نساؤهم الغلمان قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } قالوا والسيئة: الضرر في أموالهم، تشائما بمحمد قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } يقولون: بتركنا ديننا، واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله { قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ } الحسنة والسيئة { فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } قال القرآن.
وقال الوالبى عن ابن عباس: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ } قال: ما فتح الله عليك يوم بدر، وكذلك قال الضحاك.
وقال الوالبى أيضا عن ابن عباس: { مِنْ حَسَنَةٍ } قال: ما أصاب من الغنيمة والفتح فمن الله، قال: والسيئة ما أصابه يوم أحد؛ إذ شُجّ في وجهه، وكسرت رَبَاعيتَهُ.
وقال: أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك الله بها.
وروى أيضا عن حجاج عن عطية عن ابن عباس: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ } قال: هذا يوم بَدْر { أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } قال: هذا يوم أُحُد. يقول: ما كان من نَكْبَة فمن ذنبك، وأنا قدرت ذلك عليك.
وكذلك روى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى صالح: { فَمِن نَّفْسِكَ } قال: فبذنبك، وأنا قدرتها عليك. روى هذه الآثار ابن أبى حاتم وغيره.
وروى أيضا عن مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير قال: ما تريدون من القدر؟ أما تكفيكم هذه الآية التي في سورة النساء: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } ؟ 17 أي: من نفسك، والله ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا به، وإليه يصيرون.
وكذلك في تفسير أبى صالح عن ابن عباس: { إِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } : الخصب والمطر { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } : الجدب والبلاء.
وقال ابن قتيبة: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } قال: الحسنة النعمة، والسيئة: البلية.
وقد ذكر أبو الفرج في قوله: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } و { مِن سَيِّئَةٍ } ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحسنة: ما فتح الله عليهم يوم بدر، والسيئة: ما أصابهم يوم أحد. قال: رواه ابن أبى طلحة وهو الوالبى عن ابن عباس.
قال: والثاني: الحسنة: الطاعة، والسيئة: المعصية. قاله أبو العالية.
والثالث: الحسنة: النعمة، والسيئة: البلية. قاله ابن مُنَبِّه. قال: وعن أبى العالية نحوه. وهو أصح.
قلت: هذا هو القول المعروف بالإسناد عن أبي العالية، كما تقدم من تفسيره المعروف الذي يروى عنه هو وغيره، من طريق أبى جعفر الدارى عن الربيع بن أنس عنه وأمثاله.
وأما الثاني فهو لم يذكر إسناده، ولكن ينقل من كتب المفسرين الذين يذكرون أقوال السلف بلا إسناد، وكثير منها ضعيف، بل كذب لا يثبت عمن نقل عنه. وعامة المفسرين المتأخرين أيضا يفسرونه على مثل أقوال السلف، وطائفة منهم تحملها على الطاعة والمعصية.
فأما الصنف الأول، فهى تتناوله قطعا. كما يدل عليه لفظها وسياقها ومعناها وأقوال السلف.
وأما المعنى الثاني، فليس مرادا دون الأول قطعا، ولكن قد يقال: إنه مراد مع الأول؛ باعتبار أن ما يهديه الله إليه من الطاعة هو نعمة في حقه من الله أصابته، وما يقع منه من المعصية هو سيئة أصابته، ونفسه التي عملت السيئة. وإذا كان الجزاء من نفسه، فالعمل الذي أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه.
فلا منافاة أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر كما تقدم. وقد روى عن مجاهد عن ابن عباس؛ أنه كان يقرأ: «فمن نفسك وأنا قدرتها عليك».
هامش
- ↑ [آل عمران: 120]
- ↑ [التوبة: 50]
- ↑ [الأعراف: 168]
- ↑ [الشورى: 48]
- ↑ [الأعراف: 130، 131]
- ↑ [القصص: 84]
- ↑ [الأنعام: 160]
- ↑ [هود: 114]
- ↑ [الفرقان: 70]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [الشورى: 30]
- ↑ [المائدة: 49]
- ↑ [التوبة: 52]
- ↑ [الرعد: 31]
- ↑ [المائدة: 106]
- ↑ [البقرة: 155، 156]
- ↑ [النساء: 78]