مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة
فصل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة
[عدل]وأما كونه سبحانه صادقا، فهذا معلوم بالفطرة الضرورية لكل أحد؛ فإن الكذب من أبغض الصفات عند بني آدم، فهو سبحانه منزه عن ذلك، وكل إنسان محمود يتنزه عن ذلك؛ فإن كل أحد يذم الكذب، فهو وصف ذم على الإطلاق.
وأما عدم علم الإنسان ببعض الأشياء، فهذا من لوازم المخلوق، ولا يحيط علما بكل شيء إلا الله، فلم يكن عدم العلم عند الناس نقصا كالكذب؛ فلهذا يبين الرب علمه بما يشهد به، وأنه أصدق حديثا من كل أحد، وأحسن حكما، وأصدق قيلا؛ لأنه سبحانه أحق بصفات الكمال من كل أحد، وله المثل الأعلى في السموات والأرض، وهو يقول الحق، وهو يهدى السبيل وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته.
و { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } 1، وهم أهل الكتاب، فهم يشهدون بما جاءت به الأنبياء قبل محمد، فيشهدون أنهم أتوا بمثل ما أتى به كالأمر بعبادة الله وحده، والنهى عن الشرك، والإخبار بيوم القيامة، والشرائع الكلية، ويشهدون أيضا بما في كتبهم من ذكر صفاته، ورسالته وكتابه. وهذان الطريقان بهما تثبت نبوة النبي ﷺ، وهى الآيات والبراهين الدالة على صدقه، أو شهادة نبي آخر قد علم صدقه له بالنبوة.
فذكر هذين النوعين بقوله: { قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } 2، فتلك يعلم بها صدقه بالنظر العقلى في آياته وبراهينه، وهذه يعلم بها صدقه بالخبر السمعى المنقول عن الأنبياء قبله.
وكذلك قوله: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ، فقوله: { قُلِ اللهِ } فيها وجهان:
قيل: هو جواب السائل، وقوله: { شَهِيدٌ } خبر مبتدأ، أي: هو شهيد. وقيل: هو مبتدأ، وقوله: { شَهِيدٌ } خبره، فأغنى ذلك عن جواب الاستفهام والأول: على قراءة من يقف على قوله: { قٍلٌ بلَّه }، والثاني: على قراءة من لا يقف، وكلاهما صحيح، لكن الثاني أحسن وهو أتم.
وكل أحد يعلم أن الله أكبر شهادة، فلما قال: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } علم أن الله أكبر شهادة من كل شيء، فقيل له: { قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } 3، ولما قال: { اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } كان في هذا ما يغنى عن قوله: إن الله أكبر شهادة. وذلك أن كون الله أكبر شهادة هو معلوم، ولا يثبت بمجرد قوله: { أَكْبَرُ شَهَادةً } بخلاف كونه شهيدا بينه وبينهم؛ فإن هذا مما يعلم بالنص والاستدال، فينظر: هل شهد الله بصدقه وكذبهم في تكذيبه؛ أم شهد بكذبه وصدقهم في تكذيبه؟ وإذا نظر في ذلك علم أن الله شهد بصدقه وكذبهم بالنوعين من الآيات، بكلامه الذي أنزله، وبما بين أنه رسول صادق.
ولهذا أعقبه بقوله: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } 4، فإن هذا القرآن فيه الإنذار، وهو آية شهد بها أنه صادق، وبالآيات التي يظهرها في الآفاق وفى الأنفس، حتى يتبين لهم أن القرآن حق.
وقوله في هذه الآية: { قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } 5، وكذلك قوله: { قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ، وكذلك قوله: { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا } 6، وكذلك قوله: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } 7، فذكر سبحانه أنه شهيد بينه وبينهم، ولم يقل: شاهد علينا، ولا شاهد لي؛ لأنه ضمن الشهادة الحكم، فهو شهيد يحكم بشهادته بينى وبينكم، والحكم قدر زائد على مجرد الشهادة؛ فإن الشاهد قد يؤدى الشهادة. وأما الحاكم فإنه يحكم بالحق للمحق على المبطل ويأخذ حقه منه، ويعامل المحق بما يستحقه، والمبطل بما يستحقه.
وهكذا شهادة الله بين الرسول ومتبعيه، وبين مكذبيه، فإنها تتضمن حكم الله للرسول وأتباعه، يحكم بما يظهره من الآيات الدالة على صدق الرسول على أنها الحق، وتلك الآيات أنواع متعددة، ويحكم له أيضا بالنجاة والنصر، والتأييد، وسعادة الدنيا والآخرة، ولمكذبيه بالهلاك والعذاب، وشقاء الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } 8، فيظهره بالدلائل والآيات العلمية التي تبين أنه حق، ويظهره أيضا بنصره وتأييده على مخالفيه، ويكون منصورا، كما قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } 9، فهذه شهادة حكم، كما قدمنا ذلك في قوله: { شَهِدَ اللهُ }.
قال مجاهد والفراء وأبو عبيدة: { شَهِدَ اللهُ } أي: حكم وقضى، لكن الحكم في قوله: { بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أظهر، وقد يقول الإنسان لآخر: فلان شاهد بينى وبينك، أي يتحمل الشهادة بما بيننا، فالله يشهد بما أنزله ويقوله، وهذا مثل الشهادة على أعمال العباد، لكن المكذبون ما كانوا ينكرون التكذيب، ولا كانوا يتهمون الرسول بأنه ينكر دعوى الرسالة، فيكون الشهيد يتضمن الحكم أثبت وأشبه بالقرآن، والله أعلم.
هامش
- ↑ [الرعد: 43]
- ↑ [الرعد: 43]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [العنكبوت: 52]
- ↑ [الأحقاف: 8]
- ↑ [التوبة: 33، والفتح: 28، والصف: 9]
- ↑ [الحديد: 25]