السيرة الحلبية/غزوة بن لحيان
بناحية عسفان، ولحيان بكسر اللام وفتحها: قبيلة من هذيل.
لا يخفى أن بعد مضي ستة أشهر من غزوة بني قريظة غزا رسول الله ﷺ بني لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع، أي وهم خبيب وأصحابه الذين قتلوا ببئر معونة كما سيأتي ذكر ذلك في السرايا. أي لأنه وجد: أي حزن وجدا شديدا على أصحابه المقتولين بالرجيع، وأراد أن ينتقم من هذيل فأمر أصحابه بالتهيؤ، وأظهر أنه يريد الشام: أي ليدرك من القوم غرة: أي غفلة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وخرج في مائتي رجل ومعهم عشرون فرسا، ولما وصل إلى المحل الذي قتل فيه أهل الرجيع ترحم عليهم ودعا لهم بالمغفرة، فسمعت به بنو لحيان، فهربوا إلى رؤوس الجبال أي وأرسل السرايا في كل ناحية فلم يجدوا أحدا أي وأقام على ذلك يومين، فلما رأى أنه فاته ما أراده من غرتهم. قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة، فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، وهذا يدل على أن أصحابه كانوا أكثر من مائتين، وهو يخالف ما تقدم أنه خرج في مائتي رجل. إلا أن يقال زادوا على المائتين بعد خروجه.
ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا راجعين. وفي لفظ آخر فبعث أبا بكر في عشرة فوارس القصة. أي وقد يقال: لا منافاة بين اللفظين.
ثم توجه رسول الله ﷺ إلى المدينة. قال جابر : سمعت رسول الله ﷺ يقول حين وجه أي توجه إلى المدينة «آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون» أي وفي رواية «لربنا عابدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر» أي مشقة السفر «وكآبة» أي حزن «المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال» قال وزاد بعضهم «اللهم بلغنا بلاغا صالحا يبلغ إلى خير مغفرتك ورضوانك» قيل ولم يسمع هذا الدعاء منه قبل ذلك، وكانت غيبته عن المدينة أربع عشرة ليلة ا هـ.
وذكر بعضهم «أنه لما رجع من بني لحيان وقف على الأبواء فنظر يمينا وشمالا، فرأى قبر أمه آمنة، فتوضأ ثم صلى ركعتين فبكى وبكى الناس لبكائه ثم قام فصلى ركعتين ثم انصرف إلى الناس وقال لهم: ما الذي أبكاكم؟ قالوا: بكيت فبكينا يا رسول الله، قال: ما ظننتم؟ قالوا، ظننا أن العذاب نازل علينا، قال: لم يكن من ذلك شيء، قالوا: ظننا أن أمتك كلفت من الأعمال ما لا تطيق، قال: لم يكن من ذلك شيء ولكني مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فزجرت زجرا» أي منعت عن ذلك منعا شديدا «فأبكاني» وفي لفظ «فعلى بكائي هذا» أي فعلى هذا بكائي.
والذي في الوفاء «أنه وقف على عسفان، فنظر يمينا وشمالا، فأبصر قبر أمه فورد الماء، فتوضأ ثم صلى ركعتين، قال بريدة: فلم يفجأنا إلا ببكائه، فبكينا لبكاء رسول الله، ثم انصرف فقال: ما الذي أبكاكم؟ » الحديث.
«ثم دعا براحلته فركبها، فسار يسيرا فأنزل الله تعالى{ما كان للنبي} {والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} إلى آخر الآيتين، فلما سري عنه الوحي قال: أشهدكم أني بريء من آمنة كما تبرأ إبراهيم من أبيه.
أي وهذا السياق يدل على أن هاتين الآيتين غير ما زجر به عن الاستغفار لها المتقدّم في قوله «فزجرت زجرا» فليتأمل.
وفي مسلم عن أبي أيوب قال «زار رسول الله ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزورها» أي بعد ذلك «فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت».
وسيأتي عن عائشة «أن في حجة الوداع مرّ على عقبة الحجون فنزل وقال لها: وقفت على قبر أمي» وسيأتي أن ذلك يدل على أن قبر أمه بمكة لا بالأبواء، وتقدم الجمع بين كونه بالأبواء، وكونه بمكة، وسيأتي بالحديبية أنه زار قبرها وفي فتح مكة أيضا، وسيأتي الكلام على ذلك وأن ذلك كان قبل إحيائها له وإيمانها به.