السيرة الحلبية/غزوة بني قريظة
وهم قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذٍ سعد بن معاذ كما تقدم.
لما رجع رسول الله ﷺ من الخندق وكان وقت الظهيرة، أي وقد صلى الظهر، ودخل بيت عائشة ، وقيل زينب بنت جحش ودعا بماء، فبينما هو يغتسل: أي غسل شق رأسه الشريف، وفي رواية بينما رسول الله ﷺ في الغسل يرجل رأسه قد رجل أحد شقيه. أي وفي رواية: غسل رأسه واغتسل ودعا بالمجمرة ليتبخر أتى جبريل ﵇ النبي ﷺ معتجرا بعمامة: أي سوداء من استبرق، وهو نوع من الديباج، مرخيا منها بين كتفيه، وفي رواية عليه لأمته.
ولا معارضة، لأنه يجوز أن يكون الاعتجار بالعمامة على تلك اللامة وهو على بغلة أي شهباء، عليها قطيفة: وهي كساء له وبر من ديباج أي أحمر.
وفي رواية: جاءه على فرس أبلق، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، قال جبريل ﵇: ما وضعت السلاح. وفي رواية: ما وضعت ملائكة الله السلاح بعد. قال: وفي رواية أنه قال: يا رسول الله ما أسرع ما حللتم، عذيرك من محارب عفا الله عنك: أي من يعذرك. وفي لفظ: غفر الله لك، أو قد وضعتم السلاح قبل أن تضعه الملائكة؟ فقال رسول الله: نعم، قال: فوالله ما وضعناه. وفي لفظ: ما وضعت الملائكة السلاح منذ نزل بك العدوّ؛ وما رجعنا الآن إلا من طلب القوم يعني الأحزاب حتى بلغنا الأسد انتهى: أي حمراء الأسد، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم، زاد في رواية: بمن معي من الملائكة، فمزلزل بهم الحصون، زاد في رواية، فقال رسول الله ﷺ: إن في أصحابي جهدا فلو نظرتهم أياما، فقال جبريل ﵇: إنهض إليهم، فوالله لأدقنهم كدق البيض على الصفا، ولأدخلن فرسي هذا عليهم في حصونهم ثم لأضعضعنها، فأدبر جبريل ﵇ ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم، وهم طائفة من الأنصار.
وفي البخاري عن أنس، قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم، موكب جبريل ﵇ حين سار لبني قريظة، والموكب بكسر الكاف؛ اسم لنوع من السير.
وعن عائشة أنها قالت: لما رجع النبي ﷺ يوم الخندق بينما هو عندي إذ دق الباب، أي وفي رواية: نادى مناد: أي في موضع الجنائز: عذيرك من محارب أي من يعذرك، فارتاع لذلك رسول الله ﷺ أي فزع، ووثب وثبة منكرة، وخرج فخرجت في أثره، فإذا رجل على دابة والنبي ﷺ متكيء على معرفة الدابة يكلمه فرجعت، فلما دخل قلت: من ذلك الرجل الذي كنت تكلمه؟ قال: ورأيته؟ قلت نعم، قال: بمن تشبهينه؟ قلت بدحية الكلبي، قال: ذاكِ بكسر الكاف جبريل ﵇، أمرني أن أمضي إلى بني قريظة، أي وهذا يؤيد أنه كان عند منصرفه من الخندق في بيت عائشة، وأبرز رسول الله ﷺ مؤذنا: أي وهو بلال كما في سيرة الحافظ الدمياطي، فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر، أي وفي رواية: الظهر إلا ببني قريظة.
قال في النور: والجمع بينهما أن الأمر بعد دخول وقت الظهر بالمدينة وقد صلى بعضهم دون بعض، فقيل للذين لم يصلوا الظهر لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة، وقيل للذين صلوها لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة.
وفي رواية: بعث رسول الله ﷺ يومئذٍ مناديا يا خيل الله؟ أي يا فرسان خيل الله اركبي. ثم سار إليهم قال، وقد لبس الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قناة بيده الشريفة، وتقلد السيف، وركب فرسه اللجيف بالضم، وقيل ركب حمارا وهو اليعفور عريانا، والناس حوله قد لبسوا السلاح وركبوا الخيل، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، له منها ثلاثة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم . وقدم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة.
أي وفي رواية دفع إليه لواءه، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق، ومر بنفر من بني النجار قد لبسوا السلاح. فقال: هل مرّ بكم أحد قالوا: نعم، دحية الكلبي مرّ على بغلة بيضاء.
أي وفي رواية: على فرس أبيض عليه اللامة، وأمرنا بحمل السلاح، وقال لنا: رسول الله ﷺ يطلع عليكم الآن فلبسنا سلاحنا وصففنا. فقال رسول الله ﷺ: ذاك جبريل ﵇، بعث إلى بني قريظة ليزلزل حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم.
فلما دنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من الحصن، أي ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، وغرز اللواء عند أصل الحصن، سمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه أي وحق أزواجه، أي فسكت المسلمون وقالوا: السيف بيننا وبينكم، فلما رأى علي كرم الله وجهه رسول الله ﷺ مقبلا أمر أبا قتادة الأنصاري أن يلزم اللواء، ورجع إليه، فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: لعلك سمعت منهم لي أذى، قال نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا.
فلما دنا رسول الله ﷺ من حصونهم: قال يا إخوان القردة هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟ قال: وفي رواية نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم وقال: أجيبوا يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت: أي وهو ما عبد من دون الله كما تقدم، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟ أتشتموني، فجعلوا يحلفون ويقولون ما قلنا ويقولون: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، أي وفي لفظ: ما كنت فاحشا. وفي رواية: تقدمه إلى يهود أسيد بن حضير ، فقال لهم: يا أعداء الله لا تبرحوا من حصنكم حتى تموتوا جوعا، إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر، فقالوا: يا ابن الحضير نحن مواليك وخاروا: أي خافوا، قال: لا عهد بيني وبينكم. وتقدم أسيد إلى بني قريظة يجوز أن يكون قبل مقدم عليّ لهم، ويجوز أن يكون بعده.
وإنما قال لهم: يا إخوان القردة والخنازير، لأن اليهود مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير عند اعتدائهم يوم السبت بصيد السمك، وقد حرم عليهم ذلك كسائر الأعمال. وقد أمرهم أن يتفرغوا لعبادة ربهم في ذلك اليوم، وكان ذلك في زمن داود ﵇ فلما مسخوا خرجوا من تلك القرية هائمين على وجوههم متحيرين، فمشوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون، ثم ماتوا، وهذا دليل لمن يقول إن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولم يحصل منه توالد ولا تناسل.
وفي الكشاف؛ قيل إن أهل أيلة: أي وهي قرية بين مصر ومدين لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم للناس آية، فمسخوا قردة.
ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة، قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي، هذا كلامه فليتأمل، فمكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون فماتوا.
ثم إن جماعة من الصحابة شغلهم ما لم يكن لهم منه بدّ عن المسير لبني قريظة ليصلوا بها العصر، فأخروا صلاة العصر إلى أن جاءوا بعد عشاء الآخرة، امتثالا لقوله «لا يصلين العصر إلا في بني قريظة» فصلوا العصر بها بعد عشاء الآخرة. أي وبعضهم قال: نصلي، ما يريد رسول الله ﷺ منا أن ندع الصلاة ونخرجها عن وقتها، وإنما أراد الحث على الإسراع فصلوها في أماكنهم، ثم ساروا فما عابهم الله في كتابه ولا عنفهم رسول الله، أي لأن كلا من الفريقين تأول.
قال في الهدى: كل من الفريقين مأجور بقصده، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين ولم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، وهو دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب.
وادعى ابن التين أن الذين صلوا العصر صلوها على ظهور دوابهم. قال لأنهم لو صلوا نزولا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع، ولا يظن ذلك مع تقرب أفهامهم.
قال الحافظ ابن حجر : وفيه نظر، لأنه لم يأمرهم بترك النزول، ولم أر أنهم صلوا ركبانا في شيء من طرق القصة. والتعليل بالإسراع يقتضي أنهم صلوا على ظهور دوابهم سائرة لا واقفة.
وحاصر رسول الله ﷺ بني قريظة خمسا وعشرين ليلة. وقيل خمسة عشر يوما، أي وقيل شهرا، وكان طعام الصحابة التمر يرسل به إليهم سعد بن عبادة : أي يجاء به من عنده. وقال رسول الله ﷺ يومئذٍ «نعم الطعام التمر» حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة حصنهم حين رجعت الأحزاب وفاء لكعب بما كان عاهده عليه، أي كما تقدم، فلما أيقنوا أن رسول الله ﷺ غير منصرف عنهم حتى يناجزهم أي يقاتلهم. قال كبيرهم كعب بن أسيد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا أيها شئتم، قالوا وما هي؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم ونسائكم وأبنائكم. قال: وزاد في لفظ آخر: وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن من بني إسرائيل، ولقد كنت كارها لنقض العهد، ولم يكن البلاء والشؤم إلا من هذا الجالس، يعني حيي بن أخطب، أتذكرون ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم؟ إنه يخرج بهذه القرية نبي فاتبعوه وكونوا له أنصارا، وتكونوا آمنتم بالكتابين الأول والآخر ا هـ أي التوراة والقرآن.
أي وكانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله ﷺ في كتبهم ويعلمون الولدان صفته، وأن مهاجره المدينة.
وفيه عن ابن عباس . قال: كانت يهود بني قريظة وبني النضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي ﷺ قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة، ولما قال لهم كعب ذلك، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال كعب: فإذا أبيتم على هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، ولم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا: أي ولدا يخشى عليه، وإن نظفر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال فإن أبيتم على هذه، فإن الليلة ليلة السبت وأن عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة: أي غفلة، فقالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت وأصابه ما لم يخف عليك من المسخ. قال: وقال لهم عمرو بن سعدى: قد خالفتم محمدا فيما حالفتموه: أي عاهدتموه عليه. ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية، وأعطوا الجزية، فوالله ما أدري يقبلها أم لا؟ قالوا: نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه، القتل خير من ذلك. قال فإني بريء منكم، وخرج في تلك الليلة، فمر بحرس رسول الله ﷺ وعليه محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: من هذا؟ قال عمرو بن سعدى، قال مرّ، اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام وخلى سبيله، وبعد ذلك لم يدر أين هو؟ وقيل وجدت رمته؟ وأخبر رسول الله ﷺ خبره، فقال: ذلك رجل نجاه الله بوفاته.
وفي لفظ أنه قال لهم قبل أن يقدم النبي ﷺ لحصارهم: يا بني قريظة لقد رأيت عبرا، رأيت دار إخواننا يعني بني النضير خالية بعد ذلك العز والخلد والشرف والرأي الفاضل والعقل، تركوا أموالهم قد تملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل، لا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط ولله بهم حاجة. وقد أوقع ببني قيقناع، وكانوا أهل عدّة وسلاح ونخوة، فلم يخرج أحد منهم رأسه حتى سباهم، فكلم فيهم فتركهم على إجلائهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به علماؤنا. ثم لا زال يخوفهم بالحرب والسبي والجلاء، ثم أقبل على كعب بن أسيد، وقال: والتوراة التي أنزلت على موسى يوم طور سيناء إنه للعز والشرف في الدنيا.
فبينما هم على ذلك لم يرعهم إلا مقدمة النبي ﷺ قد حلت بساحتهم، فقال: هذا الذي قلت لكم، أي وبعد الحصار قيل أرسلوا بنباش بن قيس إلى رسول الله ﷺ أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير من أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله ﷺ أن يحقن دماءهم ويسلم لهم نساءهم والذرية. فأرسلوه ثانيا بأنه لا حاجة لهم بشيء من الأموال لا من الحلقة ولا من غيرها، فأبى رسول الله ﷺ إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله، فعاد نباش إليهم بذلك ا هـ. ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله ﷺ أن أبعث إلينا أبا لبابة أي وهو رفاعة بن المنذر لنستشيره في أمرنا، أي لأنه كان من حلفاء الأوس وبنو قريظة منهم.
وفي لفظ: وكان أبو لبابة مناصحا لهم، لأن ماله وولده وعياله كانت في بني قريظة فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش: أي أسرع إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه من شدة المحاصرة وتشتيت ما لهم، فرّق لهم وقال: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم، وأشار بيده إلى حلقه: أي إنه الذبح.
أي وفي لفظ: ما ترى، إن محمدا قد أبى أن لا ننزل إلا على حكمه، قال. فانزلوا وأومأ إلى حلقه.
ويروى أنهم قالوا له: ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ، فأومأ أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا. قالوا أبو لبابة فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، أي لأن في ذلك تنفيرا لهم عن الانقياد له، ومن ثم أنزل الله فيه {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} الآية: أي وقيل نزل {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم} الآية، وهذا أثبت من الأوّل، وقد يقال: كلاهما نزل فيه تلك الآية في توجه اللوم عليه، وهذه في توبته.
لا يقال: هي ليست نصا في توبة الله عليه. لأنا نقول: الترجي في حقه تعالى أمر محقق.
وعن أبي لبابة : لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله ﷺ فسألوه أن يرسلني إليهم، دعاني قال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس، فذهبت إليهم، فقام كعب بن أسيد فقال: يا أبا بشير قد عرفت ما بيننا. وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد لا يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنه لحقنا بأرض الشام أو خيبر، ولم نطأ له أرضا، ولم نكثر عليه جمعا أبدا، أما ترى قد اخترناك على غيرك، أننزل على حكم محمد؟ قال أبو لبابة نعم فانزلوا، وأومأ إلى حلقه بالذبح. قال: فندمت واسترجعت، فقال لي كعب: مالك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنت الله ورسوله، فنزلت وإن عيني لتسيل من الدموع. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله ﷺ وارتبط بالمسجد إلى عمود من عمده: أي وهي السارية، ويقال لها الأسطوانة: وهي التي كانت عند باب أم سلمة زوج النبي ﷺ في حر شديد، وقيل الأسطوانة المخلقة التي يقال لها أسطوانة التوبة، والأوّل أثبت، وكانت تلك الأسطوانة أكثر تنقله عندها، وكان ينصرف إليها من صلاة الصبح، فكان يستبق إليها الفقراء والمساكين ومن لا بيت له إلا المسجد، فيجيء إليهم ويتلو عليهم ما أنزل من ليلته ويحدثهم ويحدثونه، وكان ارتباطه بسلسلة ريوض أي ثقيلة. وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا، فلما بلغ رسول الله ﷺ خبره وكان استبطأه. قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه.
هذا، وفي كلام البيهقي وأورده في الدر أن ارتباطه إنما كان لتخلفه عن تبوك. فقد ذكر أنه لما أشار بيده إلى حلقه وأخبر عنه بذلك، قال له رسول الله ﷺ: أحسبت أن الله غفل عن يدك حيث تشير إليهم بها إلى حلقك، فلبث حينا ورسول الله ﷺ عاتب عليه. ثم لما غزا رسول الله ﷺ تبوك كان أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله ﷺ: أي رجع جاءه أبو لبابة يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله، ففزع أبو لبابة وارتبط بالسارية.
واستغرب ذلك بعضهم، فقال: وأغرب من ادعى أن أبا لبابة إنما فعل ذلك لتخلفه عن غزوة تبوك.
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله، فأمر بهم فكتفوا وجعلوا ناحية، وكانوا ستمائة، وقيل سبعمائة وخمسين مقاتلا، وهو الذي تقدم عن حيي بن أخطب.
ولا يخالف هذا ما قيل إنهم كانوا بين الثمانمائة والسبعمائة. وقيل كانوا أربعمائة مقاتل.
ولا يخالف ما قبله، لأنه يجوز أن يكون ما زاد على ذلك كانوا أتباعا لا يعدون، وأخرج النساء والذراري من الحصون وجعلوا ناحية: أي وكانوا ألفا. واستعمل عليهم عبدالله بن سلام فتواثب الأوس. وقالوا: يا رسول الله موالينا وحلفاؤنا، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد فعلت، يعنون بني قينقاع، لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، ومن الخزرج عبدالله بن أبي ابن سلول. وقد نزلوا على حكم رسول الله، وقد كلمه فيهم عبدالله بن أبي ابن سلول، فوهبهم له على أن يجلوا كما تقدم، أي فظنت الأوس من رسول الله ﷺ أن يهب لهم بني قريظة كما وهب بني قينقاع للخزرج، فلما كلمته الأوس أبى أن يفعل ببني قريظة ما فعل ببني قينقاع. ثم قال لهم: أما ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؛ قالوا بلى، فقال: فذلك إلى سعد بن معاذ، أي وقيل إنه قال لهم: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ، أي وهو سيد الأوس حينئذٍ كما تقدم. وقيل إنهم قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ فرضي بذلك رسول الله، أي وكان سعد بن معاذ يومئذٍ في المسجد في خيمة رفيدة ، وقد كان قال لقوم سعد بن معاذ حين أصابه السهم بالخندق، اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قرب، أي لأن رفيدة كان لها خيمة في المسجد تداوي فيها الجرحى من الصحابة ممن لم يكن له من يقوم عليه، فأتاه قومه فحملوه على حمار؛ ثم أقبلوا به إلى رسول الله ﷺ وهم يقولون له: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله ﷺ إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فأحسن فيهم، فقد رأيت ابن أبيّ وما صنع في حلفائه، وهو ساكت، فلما أكثروا عليه، قال لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال بعضهم واقوماه.
فلما انتهى سعد إلى رسول الله ﷺ وإلى المسلمين وهم حوله جلوس قال رسول الله «قوموا إلى سيدكم» أي زاد في رواية «فأنزلوه» فقال عمر : السيد هو الله. وفي رواية «إلى خيركم» أي معاشر المسلمين من المهاجرين والأنصار، أو معاشر الأنصار، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله ﷺ قد ولاك أمر مواليك لتحكم. وفي رواية: فقمنا صفين يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلى رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: أحكم فيهم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال قد أمرك الله أن تحكم فيهم، فقال سعد: أي لمن في الناحية التي ليس فيها رسول الله ﷺ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت. قالوا نعم، قال: وعلى من هاهنا مثل ذلك، وأشار إلى الناحية التي فيها رسول الله ﷺ وهو معرض عن رسول الله ﷺ إجلالا له، فقال رسول الله ﷺ: نعم، أي وفي لفظ: فقال سعد لبني قريظة: أترضون بحكمي، قالوا نعم. فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وفي لفظ: أن يقتل كل من جرت عليه الموسى، وتغنم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، زاد بعضهم: وتكون الديار للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار، إخواننا يعنون المهاجرين لنا معهم، فقال: إني أحببت أن يستغنوا عنكم. فقال رسول الله ﷺ لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» أي السموات السبع، قيل سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم.
وجاء في الصحيح «من فوق سبع سموات» والمراد أن شأن هذا الحكم العلوّ والرفعة «قد طرقني بذلك الملك سحرا».
ثم أمر أن يجمع ما وجد في حصونهم من الحلقة والسلاح وغير ذلك فجمع، فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة ترس وحجفة ووجد أثاثا كثيرا، وآنية كثيرة، وأجمالا نواضح: أي يسقى عليها الماء، وماشية وشياها كثيرة، وخمس ذلك: أي مع النخل والسبي حتى الرثة: وهو السقط من أمتعة البيت خمسة أجزاء، ففضّ أربعة أسهم على الناس. فجعل للفارس ثلاثة أسهم، أي سهم له وسهمان لفرسه، والراجل سهما. قال بعضهم: وهو أوّل فيء وقعت فيه السهام. ورضخ للنساء اللاتي حضرن القتال، وهنّ صفية عمته، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسميراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ، وكبشة بنت رافع ولم يسهم لهن، وأخذ هو جزاء وهو الخمس. وعبارة بعضهم: وهو أوّل فيء وقعت فيه السهمان، وخمس: أي جزىء خمسة أجزاء، وكتب في سهم لله، ثم أخذ ذلك السهم الذي خرج عليه وعلى سنته مضت قسمة الغنائم.
وفي كون هذا أوّل فيء جرت فيه السهمان نظر، إنما كان ذلك في بني قينقاع، فإن الفيء الحاصل منهم خمس خمسة أخماس، أخذ واحدا، والأربعة لأصحابه: أي ووجد جرار خمر فأهريق ولم يخمس، وهذا يدل على أن الخمر كانت محرمة قبل ذلك.
ثم إن رسول الله ﷺ أمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زبد ، والنساء والذرية في دار ابنة الحرث النجارية، أي لأن تلك الدار كانت معدودة لنزول الوفود من العرب.
وقيل في دار كبشة بنت الحرث بن كريز، كانت تحت مسيلمة الكذاب ثم خلف عليها عبدالله بن عامر بن كريز، وهذه إنما نزل في دارها وفد بني حنيفة كما سيأتي وبالمتاع أن يحمل، وترك المواشي هناك ترعى الشجر.
ثم غدا إلى المدينة، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق: أي حفر فيها حفائر. ثم أمر بقتل كل من أنبت، فبعث إليهم فجاؤوا إليه أرسالا، تضرب أعناقهم ويلقون في تلك الخنادق. وقد قال بعضهم لسيدهم كعب بن أسيد: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: في كل موطن لا تعقلون، أما ترون أن من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل، قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم عليّ قالوا ليس حين عتاب، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله. أي وذلك ليلا على مشعل السعف.
ثم ردّ عليهم التراب في تلك الخنادق، وعند قتلهم صاحت نساؤهم، وشقت جيوبها، ونشرت شعورها، وضربت خدودها، وملأت المدينة نواحا.
وكان من جملة من أتى معهم عدوّ الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إليه رسول الله، قال: ألم يمكن الله منك يا عدوّ الله؟ قال بل، أبى الله إلا تمكينك مني، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل.
وفي كلام السهيلي أنه لما قال له: ألم يمكن الله منك فقال بلى، ولقد قلقنا كل مقلقل، ولكنه من يخذلك يخذل. فقوله يخذلك كقول الآخر في البيت: * ولكنه من يخذل الله يخذل * لأنه إنما نظم في البيت كلام حيي.
ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة. أي قتال كتب الله على بني اسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. قال: ولما أتي بكعب بن أسد سيد بني قريظة، قال له النبي ﷺ: يا كعب، قال نعم يا أبا القاسم، قال: ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدّقا بي، أما أمركم باتباعي وإن رأيتموني تقرؤوني منه السلام. قال: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكنه على دين يهود. فأمر رسول الله ﷺ أن يقدم فيضرب عنقه ففعل به ذلك. أي وكان المتولي لقتلهم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، والزبير بن العوام .
أقول: في الإمتاع: وجاء سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر. فقالا: يا رسول الله إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم، فقال سعد بن معاذ : ما كرهه أحد من الأوس فيه خير، فمن كرهه فلا أرضاه الله، فقام أسيد بن حضير، فقال: يا رسول الله لا تبق دارا من دور الأوس إلا فرقتهم فيها، ففرقهم في دور الأنصار فقتلوهم هذا كلامه. والضمير في قتلوهم ظاهر في رجوعه للأوس، وأنهم المراد بالأنصار.
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون المراد بالأوس الذين كرهوا ذلك طائفة منهم، وأن تلك الطائفة قتلوا من بعث به إلى دورهم، وما عدا ذلك تعاطى قتله عليّ والزبير والله أعلم.
ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة أخرجت من بين النساء يقال لها نباتة، وقيل مزنة، كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد فقتلته بإرشاد زوجها، لأنه أحب أن لا تبقى بعده فيتزوّجها غيره.
وقد أسهم لخلاد بن سويد هذا، وقال: إن له أجر شهيدين، وأسهم لسنان بن محصن، وقد مات في زمن الحصار.
وعن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم يعني بني قريظة إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا، أي وكانت جارية حلوة ورسول الله ﷺ يقتل رجلها في السوق، أي لأنها دخلت على عائشة، وبنو قريظة يقتلون. إذ هتف هاتف باسمها أين نباتة، قالت: أنا والله؛ قالت عائشة: فقلت لها، ويلك مالك؟ قالت: أقتل قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، أي وفي لفظ قتلني زوجي. فقالت لها عائشة: كيف قتلك زوجك، قالت: أمرني أن ألقي رحى على أصحاب محمد كانوا تحت الحصن مستظلين في فيئة، فأدركت خلاد بن سويد فشدخت رأسه فمات وأنا أقتل به.
وفي لفظ آخر: إني كنت زوجة رجل من بني قريظة، وكان بيني وبينه كأشد ما يتحاب الزوجان، فلما اشتد أمر المحاصرة، قلت لزوجي: يا حسرتي على أيام الوصال، كادت أن تنقضي وتتبدل بليالي الفراق وما أصنع بالحياة بعدك؟ فقال زوجي: إنك صادقة في دعوى المحبة، تعالي فإن جماعة من المسلمين جالسون في ظل حصن. قال الزبير بن بطا وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة فألقي عليهم حجر الرحا لعله يصيب واحدا منهم فيقتله، فإن ظفروا بنا فإنهم يقتلونك بذلك ففعلت، قالت: فانطلق بها فضرب عنقها فكانت عائشة تقول: والله ما ألقى عجبا منها، طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل.
وكان في بني قريظة الزبير بن بطا، وهو جد الزبير بن ابنه عبد الرحمن وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة كإسم جده. وقيل بضم الزاي وفتح المثناة، وهو قول البخاري في التاريخ، وكان شيخا كبيرا، وكان قد من على ثابت بن قيس في الجاهلية يوم بغاث، وهي الحرب التي كانت بين الأوس والخزرج قبل قدومه المدينة، وكان الظفر فيها للأوس على الخزرج آخرا كما تقدم أخذه فجزّ ناصيته، ثم خلى سبيله، فجاء ثابت للزبير، فقال له: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟ قال: فهل يجهل مثلي مثلك، قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليك اليوم. وعبد الرحمن هذا هو الذي تزوج امرأة رفاعة وشكته للنبي بأن الذي معه كهدبة الثوب وأحبت طلاقه لها.
ثم أتى ثابت إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إنه كان للزبير عليّ منة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال رسول الله ﷺ: هو لك فأتاه، فقال: إن رسول الله ﷺ قد وهب لي دمك فهو لك فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ قال ثابت: فأتيت رسول الله، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي امرأته وولده، فقال: هم لك، قال: فأتيته، فقلت: قد وهب لي رسول الله ﷺ أهلك وولدك فهم لك، فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ قال: فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله ماله، قال؛ هو لك، فأتيته فقلت له: قد أعطاني رسول الله ﷺ مالك فهو لك، فقال: أي ثابت، أما أنت فقد كافأتني، وقد قضيت الذي عليك، ما فعل بالذي كان وجهه مرآة مضيئة تتراءى منها عذارى الحي كعب بن أسد؟ أي سيد بني قريظة، قلت قتل، قال: فما فعل بسيد الحاضر والبادي: أي من يحملهم في الجدب، ويطعمهم في المحل حيي بن أخطب؟ قلت قتل. قال: فما فعل بمقدمتنا، بكسر الدال مشددة، إذا شددنا، وحامينا إذا فررنا عزال بالعين المهملة وتشديد الزاي ابن سموأل بالسين المهملة مفتوحة ومكسورة؟ قلت قتل، قال: فما فعل المجلسان بكسر اللام: محل الجلوس وبفتحها المصدر، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قلت قتلا، وفي لفظ قتلوا. قال: فإني أسألك يا ثابت بيدك عندي إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما بالعيش بعد هؤلاء من خير، أأرجع إلى دار قد كانوا حلولا فيها فأخلد فيها بعدهم، لا حاجة لي، فما أنا بصابر، لله إفراغة دلو ناضح: أي مقدار الزمن الذي يفرغ فيه ماء الدلو. وفي رواية: فتلة دلو ناضج بالفاء والتاء المثناة فوق، وقيل بالقاف والباء الموحدة: أي مقدار ما يتناول المستسقي للدلو حتى ألقى الأحبة. قال ثابت: فقدمته فضربت عنقه.
أي وقيل إن ثابتا قال له ما كنت لأقتلك، فقال: لا أبالي من قتلني، فقتله الزبير بن العوام .
ولما بلغ أبا بكر مقالته: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا.
قال في الأصل: وذكر أبو عبيدة هذا الخبر، وفيه «فقال رسول الله ﷺ: لك أهله وماله إن أسلم» أي ولم يسلم، فكان أهله وماله من جملة الفيء، وكان القتل لكل من أنبت ومن لم ينبت يكون في السبي.
قال عطية القرظي كنت غلاما فوجدني لم أنبت فخلوا سبيلي، أي عن القتل، وكان رفاعة قد أنبت فأرادوا قتله، فلاد بسلمى بنت قيس أم المنذر، وكانت إحدى خالاته: أي خالات جده عبد المطلب، لأنها من بني النجار، فقالت بأبي وأمي يا رسول الله هب لي رفاعة، فوهبه لها، أي فأسلم.
وقرت عين سعد بن معاذ بقتل بني قريظة حيث استجاب الله دعوته، فإنه سأل الله تعالى لما أصيب بالسهم في الخندق، وقال: لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة كما تقدم.
أي وفي بعض الروايات أن دعاءه بذلك، كان في الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله ﷺ على ما تقدم عن بعض الروايات.
أي ويجوز أن يكون دعا بذلك مرتين، وفي لفظ فدعا الله أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة.
ويمكن أن يكون صاحب الهمزية أشار إلى سب بني قريظة له، ونهى بعض أشرافهم لهم عن نقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه، الذي سببه حيي بن خطب لعنه الله، واغترارهم بالأحزاب بقوله:
وتعدوا إلى النبي حدودا ** كان فيها عليهم العدواء
واطمأنوا بقول الأحزاب إخوا ** نهم إننا لكم أولياء
وبيوم الأحزاب إذا زاغت الأ ** بصار فيه وضلت الآراء
وتعاطوا في أحمد منكر القو ** ل ونطق الأراذل العوراء
كل رجس يزيده الخلق السو ** ء سفاها والملة العوجاء
فانظروا كيف كان عاقبة القو ** م وما ساق للبذيّ البذاء
وجد السب فيه سما ولم يد ** ر إذ الميم في مواضع باء
كان من فيه قتله بيديه ** فهو من سوء فعله الزباء
أو هو النحل قرصها يجلب ** الحتف إليها وماله إنكاء
أي ولما انقضى شأن بني قريظة، قال رسول الله «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم» فكان كذلك وتقدم أنه قال ذلك بعد انقضاء الأحزاب. وانفجر جرح سعد بن معاذ، أي الذي في يده وسال الدم واحتضنه فجعلت الدماء تسيل على رسول الله ﷺ فمات منه وحمل إلى منزله ولم يعلم بموته، فأتى جبريل النبي ﷺ من الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا العبد الصالح، وفي لفظ: من هذا الميت التي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ وفي رواية عرش الرحمن: أي فتحت أبواب السماء لصعود روحه، واهتز العرش: أي تحرك فرحا بذلك. وقال النووي: اهتزاز العرش هو فرح الملائكة بقدوم روحه.
وفيه أن هذا لا يحتاج إليه إلا لو كان تحرك العرش مستحيلا، فقام رسول الله ﷺ سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات.
وعن سلمة بن أسلم بن حريش . قال «دخل رسول الله ﷺ وما في البيت أحد إلا سعدا مسجى، فرأيته يتخطى وأومأ إليّ قف، فوقفت ورددت من ورائي وجلس ساعة، ثم خرج فقلت: يا رسول الله ﷺ ما رأيت أحدا ورأيتك تتخطى، فقال: ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه».
أقول: قد وقع له نظير ذلك عند تشييعه لجنازة ثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري ، فإنه صار يمشي على أطراف أنامله، فلما دفن قيل: يا رسول الله رأيناك تمشي على أطراف أناملك، قال: والذي بعثني بالحق ما قدرت أن أضع قدمي من كثرة ما نزل من الملائكة لتشييعه، وقصته مذكورة في السيرة الشامية.
ولما حملوا نعش سعد ، وكان جسيما وجدوا له خفة؛ فقال رسول الله ﷺ: إن له حملة غيركم؛ أي من الملائكة؛ لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا: أي جنازته؛ ومنهم جملة ما وطئوا الأرض إلا يومهم هذا.
وعن أبي سعيد الخدري . قال: كنت ممن حفر لسعد قبره؛ فكان يفوح علينا المسك؛ كلما حفرنا قبره من تراب.
وجاء «لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد ضم ضمة؛ ثم فرج الله عنه» وعن جابر بن عبدالله ؛ قال «لما دفن سعد ونحن مع رسول الله ﷺ سبح رسول الله ﷺ فسبح الناس معه؛ ثم كبر فكبر الناس معه؛ فقالوا: يا رسول الله لم سبحت؛ أي وكبرت؟ قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه».
وجاء «إن بعض أهل سعد سئل: ما بلغكم من قول رسول الله » أي في سبب تضايق القبر على سعد كما يرشد إليه جوابهم بقولهم، فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله ﷺ سئل عن ذلك، فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول بعض التقصير» وهذا قد يخالف ما في الخصائص الصغرى: وخص رسول الله ﷺ بأنه لا يضغط في قبره وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم يسلم من الضغطة صالح ولا غيره سواهم، وكذا ما في التذكرة للقرطبي إلا فاطمة بنت أسد ببركته، أي حيث اضطجع في قبرها. ويحتاج للجمع بينه وبين ما في الخصائص.
وجاء عن عائشة «أنها قالت: يا رسول الله ما انتفعت بشيء منذ سمعتك تذكر ضغطة القبر وضمته، فقال: يا عائشة إن ضغطة القبر على المؤمن كضمة الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها يشكو إليها الصداع، وضرب منكر ونكير عليه كالكحل في العين، ولكن يا عائشة ويل للشاكين الكفارين، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطا يقبض على الصخر» أي وحينئذٍ يكون المراد بالمؤمن الذي هذا شأنه الذي لم يحصل منه تقصير، فلا ينافي ما تقدم عن سعد فليتأمل. وقد روى البيهقي «أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» وبه استدلّ أئمتنا على أن ذلك أفضل من حمل الجنازة بالتربيع الذي اعتاده الناس الآن «ومشى أمام جنازته، ثم صلى عليه. وجاءت أمه ونظرت إليه في اللحد، وقالت: أحتسبك عند الله؛ وعزاها رسول الله وهو واقف على قدميه على القبر، فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء، ثم وقف ودعا ثم انصرف وناحت عليه أمه، فقال: كل نائحة تكذب إلا نائمة سعد بن معاذ ». أي فإنه موصوف بكل ما يقال فيه من الأوصاف الحسنة، بخلاف غيره.
وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول الله بجبة من سندس كما سيأتي، فجعل أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم يعجبون من تلك الجبة. فقال رسول الله «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن» يعني من هذا، ومن المعلوم أن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للامتهان، فثيابه في الجنة أعلى وأغلى. وقد وهب تلك الجبة لعمر بن الخطاب ، ونزلت توبة أبي لبابة على رسول الله ﷺ وهو في بيت أم سلمة . قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله ﷺ من السحر يضحك. قالت: فقلت ممّ تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة. قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها. قيل وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب وهو لا يناسب ما تقدم في قصة الإفك، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يطلقني بيده الشريفة.
وقيل المبشر له عائشة ، فلما مر على أبي لبابة خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وجاء أن فاطمة أرادت إطلاقه فأبى، فقال رسول الله «فاطمة بضعة مني» أي وظاهر هذا أنه كان يبرّ بإطلاق سيدتنا فاطمة له فليتأمل.
وقد أقام مربوطا ست ليالي أي أو سبع ليال. وقيل سبع عشرة ليلة. وقيل خمس عشرة ليلة، وعليه اقتصر في الإمتاع، وكانت تأتيه امرأته أو بنته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة وكذا إذا أراد حاجة الإنسان، ثم يعود فيربط بالعمود حتى كاد يذهب سمعه وبصره، ولا مانع أن امرأته وبنته كانتا تتناوبان في ذلك.
أي وجاء أنه قال للنبي «من تمام توبتي أن أهجر دار قوم أصبت فيها الذنب» وفيه أنه تقدم أنه عاهد الله على ذلك «قال: وأن انخلع من مالي، فقال له : يجزيك الثلث أن تتصدق به» أي ولم يأمره أن يهجر تلك الدار. والجمع بينه وبين ما تقدم من أنه عاهد الله أن لا يطأ تلك الدار ممكن.
ثم بعث رسول الله ﷺ سعد بن زيد الأنصاري بسبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا. قال: وفي لفظ بعث سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا يبيعهم ويشتري بهم سلاحا وخيلا. أي فاشترى بذلك خيلا كثيرا قسمها رسول الله ﷺ على المسلمين، واشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف جملة من السبايا، فجعلت تلك الجملة من السبايا قسمين، جعلت الشوابّ على حدة، وجعلت العجائز على حدة ثم خير عبد الرحمن بن عوف عثمان بن عفان، فأخذ العجائز، وأخذ عبد الرحمن الشواب، وجعل عثمان على كل واحدة منهن شيئا إن أتت به عتقت، فكان المال يوجد عند العجائز ولا يوجد عند الشواب فربح عثمان مالا كثيرا. أقول: ويحتاج إلى الجمع.
وقد يقال: إن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة وعثمان وعبد الرحمن سبايا بني قريظة، فيكون قسموا ثلاثة أقسام: قسم أعطي لسعد بن زيد، وقسم أعطي لسعد بن عبادة، وقسم اشتراه عثمان وعبد الرحمن، ووقع الفداء في سبايا بني قريظة. وحينئذٍ يكون المراد بقول القائل: وبعث سعد بن زيد بسبايا بني قريظة: أي بجملة منهم. وبعث سعد بن عبادة بسبايا أي بسبايا بني قريظة: أي بجملة منهم وإن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة غير سبايا بني قريظة فالأمر ظاهر، ويدل لهذا الثاني إسقاط بني قريظة منه.
ثم رأيته في الإمتاع أسقط قصة سعد بن زيد الأنصاري واقتصر على سعد بن عبادة حيث قال: ولما سبيت السبايا والذرية بعث رسول الله ﷺ بطائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة يبيعهم ويشتري سلاحا هذا كلامه، والله أعلم.
ونهى رسول الله ﷺ أن يفرق بين الأم وولدها، أي في السبايا الأعم من قريظة، وقال «لا يفرق بين أم وولدها حتى يبلغ، قيل: يا رسول الله وما بلوغه؟ قال: تحيض الجارية ويحتلم الغلام» وكان إذا وجد الولد الصغير ليس له أم لم يبع من المشركين أي مشركي العرب ولا من يهود، وإنما يباع من المسلمين، أي وكانت أم الولد الصغير تباع من المشركين هي وولدها من العرب ومن يهود المدينة.
قال في الإمتاع: وكان يفرق بين الأختين إذا بلغتا، ومقتضاه أنهما إذا لم يبلغا لا يفرق بينهما. وأئمتنا معاشر الشافعية لم يحرموا إلا التفرقة بين الأصول والفروع إذا لم يميزوا، وهو محمل قوله «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» ولعله لم تصح تلك الرواية عند إمامنا الشافعي .
واصطفى لنفسه منهم ريحانة بنت عمرو وهو شمعون مولى رسول الله ﷺ من بني النضير، وكانت متزوّجة في بني قريظة، ولعله مراد من قال إنها كانت من بني قريظة، أي وكانت جميلة، وأسلمت بعد أن أبت الإسلام ووجد في نفسه: أي غضب بسبب ذلك، أي بسبب عدم إسلامها، ولم يظهر ذلك، ثم لما أسلمت سرّ رسول الله ﷺ بذلك.
فقد جاء «لما أبت ريحانة الإسلام عزا لها ووجد في نفسه لذلك، وأرسل إلى ثعلبة بن شعبة وكان ممن نزل من حصون بني قريظة في الليلة التي صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، أي على ما في بعض الروايات «وأسلم هو وإخوته أسيد وأسيد وأسد وابن عمه، وأحرزوا دماءهم وأموالهم، وليسوا من بني قريظة، وإنما هم من بني هذيل «فذكر له ذلك، فقال سعد: فداك أبي وأمي هي مسلمة» أي ظنا منه أنها تسلم «فخرج حتى جاءها ولا زال يقول لها أسلمي يصطفيك رسول الله ﷺ لنفسه، فأجابت إلى ذلك وأسلمت، فبينما هو في مجلس من أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إن هاتين لنعلا مبشري بإسلام ريحانة فكان كذلك، وأخبره أنها أسلمت، فسر بذلك، واستمرت عند رسول الله ﷺ وهي في ملكه، اختارت بقاءها في ملكه على العتق والنكاح، أي فقد خيرها بين أن يعتقها ويتزوجها أو تكون في ملكه يطؤها بالملك؟ فاختارت أن تكون في ملكه».
قال بعضهم: والأثبت عند أهل العلم أنه أعتقها وتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وأعرس بها في المحرم سنة ست بعد أن حاضت حيضة، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه، فطلقها تطليقة، فأكثرت من البكاء، فراجعها، ولم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، فدفنها بالبقيع. ووجوب استبرائها بحيضة يدل لما قاله فقهاؤنا أن من ملك أمة وطئها غيره وطئا غير محرم لا يحل له تزوجها قبل استبرائها وإن أعتقها.
وتقدّم أن قريظة والنضير أخوان من أولاد هارون على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام.