مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق
فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق
[عدل]وقوله: { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 1، وقوله: { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 2، يدل على إثبات أفعاله وأقواله.
فالخلق فعله، والتعليم يتناول تعليم ما أنزله، كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } 3، وقوله: { بِالْقَلَمِ } يتناول تعليم كلامه الذي يكتب بالقلم. ونزوله في أول السورة التي أنزل فيها كلامه، وعلم نبيه كلامه الذي يكتب بالقلم دليل على شمول الآية لذلك، فإن سبب اللفظ المطلق والعام لابد أن يكون مندرجًا فيه. وإذا دل على أنه خلق وتكلم.
وقد قال: { خَلَقَ الْإِنسَانَ }. ومعلوم بالعقل وبالخطاب أن الإنسان المخلوق غير خلق الرب له، وكذلك خلقه لغيره.
والذين نازعوا في ذلك إنما نازعوا لشبهة عرضت لهم، كما قد ذكر بعد هذا وفي مواضع. وإلا فهم لا يتنازعون أن خلق فعل له مصدر يقال: خلق يخلق خلقًا. والإنسان مفعول المصدر المخلوق ليس هو المصدر.
ولكن قد يطلق لفظ المصدر على المفعول، كما يقال: درهم ضرب الأمير. ومنه قوله: { هذا خلق الله } 4، والمراد هناك: هذا مخلوق الله. وليس الكلام في لفظ خلق المراد به المخلوق، بل في لفظ الخلق المراد به الفعل الذي يسمي المصدر، كما يقال: خلق يخلق خلقًا، وكقوله: { مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } 5، وقوله: { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ } 6، وقوله: { مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } 7.
وإذا كان الخلق فعله فهو بمشيئته، إذ يمتنع أن يكون فعله بغير مشيئة. وما كان بالمشيئة، امتنع قدم عينه، بل يجوز قدم نوعه.
وإذا كان الخلق للحادث لابد له من مؤثر تام أوجب حدوثه لزم أنه لم يزل متصفًا بما يقوم به من الأمور الاختيارية، لكن إن يثبت أنه كان قبل هذا المخلوق مخلوق آخر ثبت أنه متصف بخلق بعد خلق.
وكذلك الكلام، هو متكلم بمشيئته. ويمتنع ألا يكون متكلمًا ثم يصير متكلمًا لوجهين:
أحدهما: أنه سلب لكماله، والكلام صفة كمال.
والثاني: أنه يمتنع حدوث ذلك. فإن من لا يكون متكلمًا يمتنع أن يجعل نفسه متكلمًا، ومن لا يكون عالمًا يمتنع أن يجعل نفسه عالمًا، ومن لا يكون حيًا يمتنع أن يجعل نفسه حيًا. فهذه الصفات من لوازم ذاته.
وكذلك من لا يكون خالقًا يمتنع أن يجعل نفسه خالقًا. فإنه إذا لم يكن قادرًا على أن يخلق فجعله نفسه خالقة أعظم؛ فيكون هذا ممتنعًا بطريق الأولى، فإن جعل نفسه خالقة يستلزم وجود المخلوق.
ولهذا لما كان قادرًا على جعل الإنسان فاعلًا، كان هو الخالق لما يفعله الإنسان. فلو جعل نفسه خالقة كان هو الخالق لما جعلها تخلقه.
فإذا فرض أنه يمتنع أن يكون خالقًا في الأزل امتنع أن يجعل نفسه خالقة بوجه من الوجوه. ويلزم من القول بامتناع الفعل عليه في الأزل امتناعه دائمًا. وقد دلت الآية على أنه خلق. فعلم أنه ما زال قادرًا على الخلْق، ما زال يمكنه أن يَخْلُقَ، وما زال الخلْق ممكنًا مقدورًا. وهذا يبطل أصل الجهمية.
بل وإذا كان قادرًا عليه فالموجب له ليس شيئًا بائنًا من خارج، بل هو من نفسه. فيمتنع أن يجعل نفسه مريدة بعد أن لم تكن، فيلزم أنه ما زال مريدًا قادرًا. وإذا حصلت القدرة والإرادة، وجب وجود المقدور.
وأهل الكلام الذين ينازعون في هذا يقولون: لم يزل قادرًا على ما سيكون.
فيقال لهم: القدرة لا تكون إلا مع إمكان المقدور، إذا كانت القدرة دائمة، فهل كان يمكنه أن يفعل المقدور دائمًا؟ وهم يقولون: لا، بل الإمكان إمكان الفعل حادث. وهذا يناقض إثبات القدرة، وإن قالوا: بل الإمكان حاصل، تبين أنه لم يزل الفعل ممكنا فثبت إمكان وجود ما لا يتناهي من مقدور الرب.
وحينئذ، فإذا كان لم يزل قادرًا، والفعل ممكنًا، وهذا الممكن قد وجد، فما لا يزال، فالموجب لوجود جنس المقدور، كالإرادة مثلا، إما أن يكون وجودها في الأزل ممتنعًا، فيلزم امتناع الفعل، وقد بينا أنه ممكن.
وأيضا، إذا كان وجودها ممتنعًا، لم يزل ممتنعًا؛ لأنه لا شيء هناك يجعلها ممكنة، فضلًا عن أن تكون موجودة. ومعلوم أن وجودها بعد أن لم تكن، لابد له من موجب. وإذا كان وجودها في الأزل ممكنًا، فوجود هذا الممكن لا يتوقف على غير ذاته، وذاته كافية في حصوله. فيلزم أنه لم يزل مريدًا.
وهكذا في جميع صفات الكمال متي ثبت إمكانها في الأزل، لزم وجودها في الأزل. فإنها لو لم توجد لكانت ممتنعة، إذ ليس في الأزل شيء سوي نفسه يوجب وجودها. فإذا كانت ممكنة والمقتضي التام لها نفسه لزم وجوبها في الأزل.
وهذا مما يدل على أنه لم يزل حيًا، عليمًا، قديرًا، مريدًا، متكلمًا فاعلًا؛ إذ لا مقتضي لهذه الأشياء إلا ذاته، وذاته وحدها كافية في ذلك. فيلزم قدم النوع، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، لكن أفراد النوع تحصل شيئًا بعد شيء بحسب الإمكان والحكمة.
ولهذا قد بين في مواضع أنه ليس في نفس الأمر ممكن يستوي طرفًا وجوده وعدمه، بل إما أن يحصل المقتضي لوجوده فيجب، أو لا يحصل فيمتنع. فما اتصف به الرب، فاتصافه به واجب. وما لم يتصف به، فاتصافه به ممتنع. وما شاء، كان ووجب وجوده. وما لم يشأ، لم يكن وامتنع وجوده. فالممكن مع مرجحه التام واجب وبدونه ممتنع.
ففي قوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وفي قوله: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } 8، دلالة على ثبوت صفات الكمال له، وأنه لم يزل متصفًا بها.
وأقوال السلف في ذلك كثيرة. وبهذا فسروا قوله: { وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } 9، ونحوه، كما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم من عدة طرق لما قيل له: قوله: { وَكَانَ اللهُ.. }، كأنه كان شيء ثم مضى؟ فقال ابن عباس: هو سمى نفسه بذلك ولم يزل كذلك.
هذا لفظ ابن أبي حاتم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. فقال ابن عباس: كذلك كان ولم يزل.
ومن رواية عمرو بن أبي قيس، عن مُطرَّف، عن المِنْهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: أتاه رجل فقال: سمعت الله يقول: { وَكَانَ اللهُ... }، كأنه شيء كان؟ فقال ابن عباس: أما قوله: { كَانَ }، فإنه لم يزل ولا يزال، و { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } 10.
ومن رواية عبد الرحمن بن مَغْراء عن مُجَمّع بن يحيي، عن عمه، عن ابن عباس. قال، قال يهودي: إنكم تزعمون أن الله كان عزيزًا حكيمًا، فكيف هو اليوم؟ فقال ابن عباس: إنه كان في نفسه عزيزًا حكيمًا.
وهذه أقوال ابن عباس تبين أنه لم يزل متصفًا بخبر كان، ولا يزال كذلك، وأن ذلك حصل له من نفسه. فلم يزل متصفًا في نفسه إذا كان من لوازم نفسه، ولهذا لا يزال لأنه من نفسه.
وقال أحمد بن حنبل: لم يزل الله عالمًا، متكلمًا، غفورًا. وقال أيضا: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء.
هامش
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [العلق: 4، 5]
- ↑ [الرحمن: 1 - 4]
- ↑ [لقمان: 11]
- ↑ [لقمان: 28]
- ↑ [الزمر: 6]
- ↑ [الكهف: 51]
- ↑ [العلق: 1 4]
- ↑ [النساء: 158]
- ↑ [الحديد: 3]