مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور
فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور
[عدل]جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما وعلى سائر المرسلين في أمور، مثل قوله: { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } 1.
وفي حديث أبي ذر الطويل، قلت: يا رسول الله، كم كتابًا أنزل الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب؛ ثلاثين صحيفة على شيث، وخمسين على إدريس، وعشر على إبراهيم، وعشر على موسى قبل التوراة. وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان». وقال في الحديث: فهل عندنا شيء مما في صحف إبراهيم؟ فقال: «نعم» وقرأ قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } 2.
فإن التزكي هو التطهر والتبرك بترك السيئات الموجب زكاة النفس، كما قال: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } 3، ولهذا تفسر الزكاة تارة بالنماء والزيادة وتارة بالنظافة والإماطة. والتحقيق أن الزكاة تجمع بين الأمرين: إزالة الشر، وزيادة الخير. وهذا هو العمل الصالح، وهو الإحسان.
وذلك لا ينفع إلا بالإخلاص للّه، وعبادته وحده لا شريك له، الذي هو أصل الإيمان. وهو قوله: { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }
فهذه الثلاث، قد يقال: تشبه الثلاث التي يجمع الله بينها في القرآن في مواضع، مثل قوله في أول البقرة: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } 4. ومثل قوله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } 5. { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } 6.
وقد يقال: تشبه الثنتين المذكورتين في قوله: { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا... } الآية 7، وقوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } 8.
لكن هنا التزكي في الآية أعم من الإنفاق، فإنه ترك السيئات الذي أصله بترك الشرك.
فأول التزكي التزكي من الشرك، كما قال: { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } 9، وقال: { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } 10.
والتزكي من الكبائر، الذي هو تمام التقوى، كما قال: { فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } 11، وقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } 12، فعلم أن التزكية هو الإخبار بالتقوى.
ومنه التزكي بالطهارة، وبالصدقة والإحسان، كما قال: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } 13.
و { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } 14، قد يعنى به الإيمان بالله، والصلاة: العمل، فقد يذكر اسم ربه من لا يصلي.
ومن الفقهاء من يقول: هو ذكر اسمه في أول الصلاة؛ ولهذا والله أعلم قدم التزكي في هذه الآية.
وكان طائفة من السلف إذا أدوا صدقة الفطر قبل صلاة العيد يتأولون بهذه الآية. وكان بعض السلف أظنه يزيد بن أبي حبيب 15 يستحب أن يتصدق أمام كل صلاة؛ لهذا المعنى.
ولما قدم الله الصلاة على النحر في قوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } 16، وقدم التزكي على الصلاة في قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } 17 كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر، وأن الذبح بعد الصلاة في عيد النحر.
ويشبه والله أعلم أن يكون الصوم من التزكي المذكور في الآية. فإن الله يقول { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } 18. فمقصود الصوم التقوى، وهو من معنى التزكي.
وفي حديث ابن عباس: «فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ». فالصدقة من تمام طهرة الصوم. وكلاهما تزكٍ متقدم على صلاة العيد.
فجمعت هاتان الكلمتان الترغيب فيما أمر الله به من الإيمان والعمل الصالح. وفي قوله: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ، الإيمان باليوم الآخر.
وهذه الأصول المذكورة في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } 19.
وقال: { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } ، وقال أيضا: { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفي أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفي } 20.
وأيضا، فإن إبراهيم صاحب الملة وإمام الأمة. قال الله تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } 21، وقال: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } 22، وقال: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } 23 وقال: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا } 24، وقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } 25.
وموسى صاحب الكتاب والكلام والشريعة، الذي لم يُنَزَّل من السماء كتاب أهدى منه ومن القرآن.
ولهذا قرن بينهما في مواضع، كقوله: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا } إلى قوله: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } 26، وقوله: { قَالُوا سِحْرَانِ } إلى قوله: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا } 27، وقول الجن: { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } 28، وقوله: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } 29، وقول النجاشي: 30.
وقيل في موسى: { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } 31، وفي إبراهيم: { وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } 32، وأصل الخلة عبادة الله وحده، والعبادة غاية الحب والذل. وموسى صاحب الكتاب والكلام.
ولهذا كان الكفار بالرسل ينكرون حقيقة خُلَّة إبراهيم وتكليم موسى.
ولما نبغت البدع الشركية في هذه الأمة أنكر ذلك الجعد بن درهم فقتله المسلمون لما ضحى به أمير العراق خالد بن عبد الله وقال: «ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإنى مضحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليمًا». ثم نزل فذبحه.
ولما بعث الله نبيه ﷺ بعثه إلى أهل الأرض، وهم في الأصل صنفان: أميون وكتابيون، والأميون كانوا ينتسبون إلى إبراهيم، فإنهم ذريته، وخُزَّان بيته، وعلى بقايا من شعائره. والكتابيون أصلهم كتاب موسى، وكلا الطائفتين قد بدلت وغيرت، فأقام ملة إبراهيم بعد اعوجاجها، وجاء بالكتاب المهيمن، المصدق لما بين يديه، المبين لما اختلف فيه وما حرف وكتم من الكتاب الأول.
هامش
- ↑ [الأعلى: 18، 19]
- ↑ [الأعلى: 14 - 19]
- ↑ [الشمس: 9]
- ↑ [البقرة: 2، 3]
- ↑ [التوبة: 5]
- ↑ [التوبة: 11]
- ↑ [البقرة: 62]
- ↑ [النساء: 125]
- ↑ [فصلت: 6، 7]
- ↑ [آل عمران: 164]
- ↑ [النجم: 32]
- ↑ [النساء: 49]
- ↑ [التوبة: 103]
- ↑ [الأعلى: 15]
- ↑ [هو أبو رجاء يزيد بن سويد الأزدي بالولاء المصري، مفتي أهل مصر في صدر الإسلام، وأول من أظهر علوم الدين والفقه بها، قال الليث: يزيد عالمنا وسيدنا، كان نوبيًا أسود، أصله من دنقلة، وفي ولادته للأزد ونسبته إليهم أقوال، وكان حجة حافظًا للحديث]
- ↑ [الكوثر: 2]
- ↑ [الأعلى: 14، 15]
- ↑ [البقرة: 183]
- ↑ [البقرة: 62]
- ↑ [النجم: 33 41]
- ↑ [النحل: 123]
- ↑ [البقرة: 130]
- ↑ [النساء: 125]
- ↑ [النحل: 120]
- ↑ [البقرة: 124]
- ↑ [الأنعام: 91، 92]
- ↑ [القصص: 48، 49]
- ↑ [الأحقاف: 30]
- ↑ [الأحقاف: 10]
- ↑ [إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة]
- ↑ [النساء: 164]
- ↑ [النساء: 125]