مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له
فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له
[عدل]وقال الشيخ رحمه الله:
قال ابن فُورَك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له قال: وجرى في كلام السلطان: أليس تقول إنه يرى لا في جهة؟ فقلت: «نعم، يرى لا في جهة، كما أنه لم يزل يرى نفسه لا في جهة، ولا من جهة، ويراه غيره على ما يرى ورأى نفسه. والجهة ليست بشرط في الرؤية». وقلت أيضا: «المرئيات المعقولة فيما بيننا هكذا نراها في جهة ومحل. والقضاء بمجرد المعهود لا يمكن دون السير والبحث؛ لأنا كما لا نري إلا في جهة ومحل، كذلك لم نر إلا متلونًا ذا قدر وحجم يحتمل المساحة، والثقل، ولا يخلو من حرارة ورطوبة أو يبوسة، إذا لم يكن عرضًا لا يقبل التثنية والتأليف وغير ذلك، ومع هذا فلا عبرة بشيء من هذا».
قال: ثم بلغني أن السلطان ذلك اليوم والليلة وثاني يوم، يكرر على نفسه في مجلسه: كيف يعقل شيء لا في جهة؟ وما شغل القلب في أول الأمر وتربي عليه فإن قلعه صعب، والله المعين. غير أنه فَرِحت الكرامية بما كان منه في ذلك. فلما رجعت إلى البيت فإذا أنا برقعة فيها مكتوب: «الأستاذ أدام الله سلامته على مذهبه أن الباري ليس في جهة، فكيف يرى لا في جهة؟ ».
فكتبت: خبر الرؤية صحيح. وهي واجبة كما بشرهم النبي ﷺ، وفيه دلالة على أن الله يرى لا في جهة؛ لأنه ﷺ قال: «لا تضامون في رؤيته»، ومعناه: لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته، فإنه لا في جهة. وكلامًا طويلا من كل وجه ملأت ظهر الرقعة وبطنها منه.
فلما رُدَّت إليه، أنفذها إلى حاكم البلد، وهو أبو محمد الناصحي، واستفتاه فيما قلته، فجمع قومًا من الحنفية، والكرامية، فكتب هو أعزك الله: بأن من قال بأن الله لا يري في جهة مبتدع ضال، وكتب أبو حامد المعتزلي مثله، وكتب إنسان بسطامي مؤدب في دار صاحب الجيش مثله، فردوا عليه، فأنفذ إلى ما في ذلك المحضر الذي فيه خطوطهم، وكتب إلى رقعة وقال فيها: إنهم كتبوا هكذا. فما تقول في هذه الفتاوى؟
فقلت: إن هؤلاء القوم يجب أن يسألوا عن مسائل الفقه التي يقال فيها بتقليد العامي للعالم؛ فأما معرفة الأصول والفتاوى فيها فليس من شأنهم، وهم يقولون: إنا لا نحسن ذلك.
قلت: قول هؤلاء إن الله يرى من غير معاينة ومواجهة، قول انفردوا به دون سائر طوائف الأمة، وجمهور العقلاء على أن فساد هذا معلوم بالضرورة.
والأخبار المتواترة عن النبي ﷺ ترد عليهم، كقوله في الأحاديث الصحيحة: «إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضارون في رؤيته»، وقوله لما سأله الناس: هل نري ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب؟ » قالوا: نعم. «وهل ترون القمر صحوًا ليس دونه سحاب؟ » قالوا: نعم. قال: «فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر».
فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي؛ فإن الكاف حرف التشبيه دخل على الرؤية. وفي لفظ للبخاري: «يرونه عيانًا». ومعلوم أنا نري الشمس والقمر عيانًا مواجهة، فيجب أن نراه كذلك، وأما رؤية ما لا نعاين ولا نواجهه فهذه غير متصورة في العقل، فضلا عن أن تكون كرؤية الشمس والقمر.
ولهذا، صار حُذَّاقُهم إلى إنكار الرؤية، وقالوا: قولنا هو قول المعتزلة في الباطن؛ فإنهم فسروا الرؤية بزيادة انكشاف ونحو ذلك مما لا ننازع فيه المعتزلة.
وأما قوله: إن الخبر يدل على أنهم يرونه لا في جهة، وقوله: «لا تضامون»؛ معناه: لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته، فإنه لا في جهة، فهذا تفسير للحديث بما لا يدل عليه، ولا قاله أحد من أئمة العلم، بل هو تفسير منكر عقلا وشرعا ولغة.
فإن قوله: «لا تضامون»، يروي بالتخفيف، أي: لا يلحقكم ضيم في رؤيته، كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال، فإنه قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يري، وهو سبحانه يتجلي تجليًا ظاهرًا، فيرونه كما تري الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته، وهذه الرواية المشهورة.
وقيل: «لا تضامُّون»، بالتشديد، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض، كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال. وكذلك: «تضارون»، و «تضارُّون».
فإما أن يروي بالتشديد ويقال: «لا تضامَّون»، أي لا تضمكم جهة واحدة، فهذا باطل؛ لأن التضام انضمام بعضهم إلى بعض، فهو "تفاعل"، كالتماس، والتراد، ونحو ذلك. وقد يروي: «لا تضامُّون» بالضم والتشديد، أي: لا يضام بعضكم بعضًا.
وبكل حال، فهو من "التضام" الذي هو مضامة بعضهم بعضًا، ليس هو أن شيئًا آخر لا يضمكم، فإن هذا المعني لا يقال فيه: «لا تضامون»، فإنه لم يقل: لا يضمكم شيء.
ثم يقال: الراؤون كلهم في جهة واحدة على الأرض، وإن قدر أن المرئي ليس في جهة، فكيف يجوز أن يقال: لا تضمكم جهة واحدة، وهم كلهم على الأرض أرض القيامة أو في الجنة، وكل ذلك جهة، ووجودهم نفسهم لا في جهة ومكان ممتنع حسا وعقلا.
وأما قوله: هو يري لا في جهة فكذلك يراه غيره. فهذا تمثيل باطل، فإن الإنسان يمكن أن يري بدنه، ولا يمكن أن يري غيره، إلا أن يكون بجهة منه، وهو أن يكون أمامه، سواء كان عاليًا أو سافلًا.
وقد تُخْرَق له العادة فيرى من خلفه، كما قال النبي ﷺ: «إني لأراكم من بعدي»، وفي رواية: «من بعد ظهري»، وفي لفظ للبخاري: «إني لأراكم من ورائي»، وفي لفظ في الصحيحين: «إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي»، لكن هم بجهة منه، وهم خلفه، فكيف تقاس رؤية الرائي لغيره على رؤيته لنفسه؟
ثم تشبيه رؤيته هو برؤيتنا نحن تشبيه باطل، فإن بصره يحيط بما رآه بخلاف أبصارنا.
وهؤلاء القوم، أثبتوا ما لا يمكن رؤيته، وأحبوا نصر مذهب أهل السنة والجماعة والحديث، فجمعوا بين أمرين متناقضين، فإن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه يمتنع أن يري بالعين لو كان وجوده في الخارج ممكنًا، فكيف وهو ممتنع؟ وإنما يقدر في الأذهان من غير أن يكون له وجود في الأعيان، فهو من باب الوهم والخيال الباطل.
ولهذا فسروا الإدراك بالرؤية في قوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } 1، كما فَسَّرَتْها المعتزلة، لكن عند المعتزلة: هذا خرج مخرج المدح فلا يري بحال، وهؤلاء قالوا: لا يرَي في الدنيا دون الآخرة.
والآية تنفي الإدراك مطلقًا دون الرؤية كما قال ابن كلاب، وهذا أصح. وحينئذ، فتكون الآية دالة على إثبات الرؤية، وهو أنه يرَي ولا يدْرَك، فيري من غير إحاطة ولا حصر، وبهذا يحصل المدح، فإنه وصف لعظمته أنه لا تدركه أبصار العباد وإن رأته، وهو يدرك أبصارهم. قال ابن عباس وعكرمة بحضرته لمن عارض بهذه الآية: «ألست ترى السماء؟ »، قال: «بلى»، قال: «أفكلها ترى؟ ».
وكذلك قال: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } 2، وهؤلاء يقولون: علمه شيء واحد لا يمكن أن يحاط بشيء منه دون شيء، فقالوا: ولا يحيطون بشيء من معلومه. وليس الأمر كذلك، بل نفس العلم جنس يحيطون منه بما شاء، وسائره لا يحيطون به.
وقال: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } 3، والراجح من القولين أن الضمير عائد إلى: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ، وإذا لم يحيطوا بهذا علمًا، وهو بعض مخلوقات الرب، فإن لا يحيطوا علما بالخالق أولي وأحري. قال تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } 4، وقال: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } الآية 5.
فإذا قيل: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } 6، أي: لا تحيط به، دل على أنه يوصف بنفي الإحاطة به مع إثبات الرؤية. وهذا ممتنع على قول هؤلاء، فإن هذا إنما يكون بزعمهم فيما ينقسم، فيري بعضه من بعض، فتكون هناك رؤية بلا إدراك وإحاطة، وعندهم: لا يتصور أن يري إلا رؤية واحدة متماثلة، كما يقولونه في كلامه: إنه شيء واحد لا يتبعض ولا يتعدد. وفي الإيمان به: إنه شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقصان.
وأما الإدراك والإحاطة الزائد على مطلق الرؤية، فليس انتفاؤه لعظمة الرب عندهم، بل لأن ذاته لا تقبل ذاك كما قالت المعتزلة: إنها لا تقبل الرؤية.
وأيضا، فهم والمعتزلة لا يريدون أن يجعلوا للإبصار إدراكًا غير الرؤية، سواء أثبتت الرؤية أو نفيت، فإن هذا يبطل قول المعتزلة بنفي الرؤية، ويبطل قول هؤلاء بإثبات رؤية بلا معاينة ومواجهة.
هامش