مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء
فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء
[عدل]وأما الأفعال اللازمة كالاستواء والمجيء فالناس متنازعون في نفس إثباتها؛ لأن هذه ليس فيها مفعول موجود يعلمونه حتي يستدلوا بثبوت المخلوق على الخلق، وإنما عرفت بالخبر. فالأصل فيها الخبر، لا العقل.
ولهذا كان الذين ينفون الصفات الخبرية ينفونها ممن يقول: الخلق غير المخلوق. وممن يقول: الخلق هو المخلوق ومن يثبت الصفات الخبرية من الطائفتين يثبتها.
والذين أثبتوا الصفات الخبرية لهم في هذه قولان:
منهم من يجعلها من جنس الفعل المتعدي بجعلها أمورًا حادثة في غيرها. وهذا قول الأشعري، وأئمة أصحابه ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلي، وابن الزاغوني، وابن عقيل في كثير من أقواله.
فالأشعري يقول: الاستواء فعل فعله في العرش، فصار به مستويا على العرش. وكذلك يقول في الإتيان، والنزول. ويقول: هذه الأفعال ليست من خصائص الأجسام، بل توصف بها الأجسام والأعراض، فيقال: جاءت الحمى، وجاء البرد، وجاء الحر. ونحو ذلك.
وهذا أيضا قول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وغيرهما.
وحملوا ما روي عن السلف، كالأوزاعي وغيره، أنهم قالوا في النزول: يفعل الله فوق العرش بذاته، كما حكاه القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر، وكما حكوه عن الأشعري وغيره، كما ذكر في غير موضع من كتبه.
ولكن عندهم هذا من الصفات الخبرية. وهذا قول البيهقي وطائفة وهو أول قولي القاضي أبي يعلي.
وكل من قال: إن الرب لا تقوم به الصفات الاختيارية، فإنه ينفي أن يقوم به فعل شاءه سواء كان لازمًا أو متعديًا. لكن من أثبت من هؤلاء فعلًا قديمًا كمن يقول بالتكوين. وبهذا فإنه يقول: ذلك القديم قام به بغير مشيئته، كما يقولون في إرادته القديمة.
والقول الثاني: أنها كما دلت عليه أفعال تقوم بذاته بمشيئته واختياره، كما قالوا مثل ذلك في الأفعال المتعدية. وهذا قول أئمة السنة، والحديث، والفقه، والتصوف، وكثير من أصناف أهل الكلام، كما تقدم.
وعلي هذا، ينبني نزاعهم في تفسير قوله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } 1.
وقوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } 2.
وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } 3، ونحو ذلك.
فمن نفي هذه الأفعال يتأول إتيانه بإتيان أمره أو بأسه، والاستواء على العرش بجعله القدرة والاستيلاء، أو بجعله علو القدر.
فإن الاستواء للناس فيه قولان: هل هو من صفات الفعل أو الذات؟ على قولين:
والقائلون بأنه صفة ذات، يتأولونه بأنه قدر على العرش. وهو مازال قادرًا، ومازال عالي القدر؛ فلهذا ظهر ضعف هذا القول من وجوه:
منها: قوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فأخبر أنه استوي بحرف ثم.
ومنها: أنه عطف فعلًا على فعل، فقال: خلق ثم استوى.
ومنها: أن ما ذكروه لا فرق فيه بين العرش وغيره، وإذا قيل: إن العرش أعظم المخلوقات، فهذا لا ينفي ثبوت ذلك لغيره، كما في قوله: { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } 4، لما ذكر ربوبيته للعرش لعظمته، والربوبية عامة، جاز أن يقال: رب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، ويقال: { بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } 5.
والاستواء مختص بالعرش باتفاق المسلمين مع أنه مستول مقتدر على كل شيء من السماء والأرض وما بينهما. فلو كان استواؤه على العرش هو قدرته عليه، جاز أن يقال: على السماء والأرض وما بينهما.
وهذا مما احتج به طوائف، منهم الأشعري. قال: في إجماع المسلمين على أن الاستواء مختص بالعرش دليل على فساد هذا القول.
وأيضا، فإنه مازال مقتدرًا عليه من حين خلقه.
ومنها: كون لفظ الاستواء في لغة العرب يقال على القدرة أو علو القدر ممنوع عندهم. والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة وكلام العرب يمنع هذا، كما قد بسط في موضعه.
وتكلم على البيت الذي يحتجون به:
ثم استوي بِشْرٌ على العراق ** من غير سيفٍ ودم مهراق
وأنه لو كان صحيحًا، لم يكن فيه حجة. فإنهم لم يقولوا: استوى عمر على العراق لما فتحها، ولا استوي عثمان على خراسان، ولا استوى رسول الله ﷺ على اليمن.
وإنما قيل: هذا البيت إن صح في بشر بن مروان لما دخل العراق واستوى على كرسي ملكها. فقيل هذا كما يقال: جلس على سرير الملك، أو تخت الملك، ويقال: قعد على الملك، والمراد هذا.
وأيضا، فالآيات الكثيرة والأحاديث الكثيرة وإجماع السلف يدل على أن الله فوق العرش، كما قد بسط في مواضع.
وأما الذين قالوا: الاستواء صفة فعل، فهؤلاء لهم قولان هنا على ما تقدم: هل هو فعل بائن عنه لأن الفعل بمعني المفعول، أم فعل قائم به يحصل بمشيئته وقدرته:
الأول: قول ابن كُلاب، ومن اتبعه كالأشعري وغيره. وهو قول القاضي، و ابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم.
والثاني: قول أئمة أهل الحديث والسنة، وكثير من طوائف الكلام، كما تقدم.
ولهذا صار للناس فيما ذكر الله في القرآن من الاستواء والمجيء ونحو ذلك ستة أقوال:
طائفة يقولون: تجري على ظاهرها، ويجعلون إتيانه من جنس إتيان المخلوق، ونزوله من جنس نزولهم. وهؤلاء المشبهة الممثلة، ومن هؤلاء من يقول: إذا نزل خلا منه العرش، فلم يبق فوق العرش.
وطائفة يقولون: بل النصوص على ظاهرها اللائق به، كما في سائر ما وصف به في نفسه، وهو { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 6، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. ويقولون: نزل نزولًا يليق بجلاله، وكذلك يأتي إتيانًا يليق بجلاله. وهو عندهم ينزل ويأتي ولم يزل عاليًا وهو فوق العرش، كما قال حماد بن زيد: هو فوق العرش يقرب من خلقه كيف شاء. وقال إسحاق بن راهويه: ينزل ولا يخلو منه العرش. ونقل ذلك عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد.
وتفسير النزول بفعل يقوم بذاته هو قول علماء أهل الحديث، وهو الذي حكاه أبو عمر ابن عبد البر عنهم، وهو قول عامة القدماء من أصحاب أحمد، وقد صرح به ابن حامد وغيره.
والأول نفي قيام الأمور الاختيارية: هو قول التميمي موافقة منه لابن كلاب، وهو قول القاضي أبي يعلى وأتباعه.
وطائفتان يقولان: بل لا ينزل ولا يأتي، كما تقدم، ثم منهم من يتأول ذلك، ومنهم من يفوض معناه.
وطائفتان واقفتان، منهم من يقول: ما ندري ما أراد الله بهذا. ومنهم من لا يزيد على تلاوة القرآن.
وعامة المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف، يبطلون تأويل من تأول ذلك بما ينفي أن يكون هو المستوي الآتي، لكنْ كثير منهم يرد التأويل الباطل ويقول: ما أعرف مراد الله بهذا.
ومنهم من يقول: هذا مما نهي عن تفسيره، أو مما يكتم تفسيره.
ومنهم من يقرره كما جاءت به الأحاديث الصحيحة والآثار الكثيرة عن السلف من الصحابة والتابعين.
قال أبو محمد البغوي الحسين بن مسعود الفرَّاء الملقب ب محيي السنة في تفسيره: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } 7: قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء. وقال الفراء، وابن كيسان، وجماعة من النحويين: أي أقبل على خلق السماء. وقيل: قصد.
وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي في تفسيره. قال: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } ، أي: عمد إلى خلقها.
وكذلك هو يرجح قول من يفسر الإتيان بإتيان أمره، وقول من يتأول الاستواء. وقد ذكر ذلك في كتب أخري، ووافق بعض أقوال ابن عقيل. قال: ابن عقيل له في هذا الباب أقوال مختلفة وتصانيف يختلف فيها رأيه واجتهاده.
وقال البغوي في تفسير قوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } 8: قال الكَلْبي، ومقاتل: استقر. وقال أبو عبيدة: صعد. وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء.
وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة للّه بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله. وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } 9، كيف استوى؟ فأطرق مالك رأسه مليًا، وعلاه الرُّحَضاء 10، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالا. ثم أمر به فأخرج.
قال: روي عن سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: أمروها كما جاءت بلا كيف.
وقال في قوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } 11: الأولَي في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله، ويعتقد أن الله منزه عن سمات الحدث. على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة.
قال الكَلْبي: هذا من المكتوم الذي لا يفسر.
قلت: وقد حكي عنه أنه قال في تفسير قوله: { ثُمَّ اسْتَوَى }: استقر. ففسر ذاك، وجعل هذا من المكتوم الذي لا يفسر؛ لأن ذاك فيه وصفه بأنه فوق العرش، وهذا فيه إتيانه في ظلل من الغمام.
قال البغوي: وكان مكحول 12 والزهري، والأوزاعي، ومالك، وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، يقولون فيه وفي أمثاله: أمروها كما جاءت بلا كيف. قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه؛ ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله.
وهذه الآية أغمض من آية الاستواء؛ ولهذا كان أبو الفرج يميل إلى تأويل هذا وينكر قول من تأول الاستواء بالاستيلاء.
قال في تفسيره: قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير، وكل سرير للملك يسمى عرشًا وقلما يجمع العرش إلا في الاضطرار.
قلت: وقد روي ابن أبي حاتم عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: يسمي عرشًا لارتفاعه. قلت: والاشتقاق يشهد لهذا، كقوله: { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } 13، وقوله: { مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } 14، وقول سعد: وهذا كافر بالعرش. ومقعد الملك يكون أعلى من غيره. فهذا بالنسبة إلى غيره عال عليه، وبالنسبة إلى ما فوقه هو دونه. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن». فدل على أن العرش أعلى المخلوقات، كما بسط في مواضع أخر.
قال أبو الفرج: واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام. قال أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ** ربنا في السماء أمسي كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النا ** س وسوى فوق السماء سريرًا
شرْجَعا لا يناله بصر العي ** ن تري دونه الملائك صورا 15
قلت: يريد أنه ذكره من العرب من لم يكن مسلمًا أخذه عن أهل الكتاب. فإن أمية ونحوه إنما أخذ هذا عن أهل الكتاب، وإلا فالمشركون لم يكونوا يعرفون هذا.
قال أبو الفَرَج ابن الجوزي، وقال كعب: إن السموات في العرش كقنديل معلق بين السماء والأرض.
قال: وإجماع السلف منعقد على ألا يزيدوا على قراءة الآية. وقد شذ قوم فقالوا: العرش بمعني المُلْك. وهو عدول عن الحقيقة إلى التجوز مع مخالفة الأثر. ألم يسمعوا قوله: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } 16، أفتراه كان المُلْك على الماء؟
قال: وبعضهم يقول: استوى بمعني استولي، ويستدل بقول الشاعر:
حتي استوى بِشْر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق
وقال الشاعر أيضا:
قد قلما استوى بفضلهما جمي ** عًا على عرش الملوك بغير زور
قال: وهو منكر عند اللُّغَويين. قال ابن الأعرابي: إن العرب لا تعلم استوى بمعني استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم.
قال: وإنما يقال باستولى فلان على كذا إذا كان بعيدًا عنه غير متمكن ثم تمكن منه، والله سبحانه وتعالى لم يزل مستوليًا على الأشياء.
والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي. ولو صحا لم يكن حجة فيهما لما بينا من الاستيلاء من لم يكن مستوليًا نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة!.
قلت: فقد تأول قوله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } 17، وأنكر تأويل { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } 18.
وهو في لفظ الإتيان قد ذكر القولين. فقال: قوله: { أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ } 19، كان جماعة من السلف يمسكون عن مثل هذا. وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال: المراد به قدرته وأمره. قال: وقد بينه في قوله: { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } 20.
قلت: هذا الذي ذكره القاضي وغيره أن حنبلا نقله عن أحمد في كتاب: المحنة؛ أنه قال ذلك في المناظرة لهم يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله: «تجيء البقرة وآل عمران»، قالوا: والمجيء لا يكون إلا لمخلوق. فعارضهم أحمد بقوله: { وَجَاء رَبُّكَ } 21، { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } 22، وقال: المراد بقوله: «تجيء البقرة وآل عمران»: ثوابهما، كما في قوله: { وَجَاء رَبُّكَ }: أمره وقدرته.
وقد اختلف أصحاب أحمد فيما نقله حنبل. فإنه لا ريب أنه خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا، وتأويل النزول، والاستواء، ونحو ذلك من الأفعال.
ولهم ثلاثة أقوال:
قيل: إن هذا غلط من حنبل، انفرد به دون الذين ذكروا عنه المناظرة، مثل صالح، وعبد الله، والمروذي، وغيرهم. فإنهم لم يذكروا هذا. وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة، كالخلاَّل 23 وصاحبه. قال أبو إسحاق ابن شَاقلا: هذا غلط من حنبل لا شك فيه.
وكذلك نُقِل عن مالك رواية أنه تأول: «ينزل إلى السماء الدنيا»: أنه ينزل أمره. لكن هذا من رواية حبيب كاتبه وهو كذاب باتفاقهم. وقد رويت من وجه آخر لكن الإسناد مجهول.
والقول الثاني: قال طائفة من أصحاب أحمد: هذا قاله إلزاما للخصم على مذهبه لأنهم في يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله: «تأتي البقرة وآل عمران» أجابهم بأن معناه: يأتي ثواب البقرة وآل عمران، كقوله: { أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ } ، أي: أمره وقدرته، على تأويلهم، لا أنه يقول بذلك. فإن مذهبه ترك التأويل.
والقول الثالث: أنهم جعلوا هذا رواية عن أحمد، وقد يختلف كلام الأئمة في مسائل مثل هذه، لكن الصحيح المشهور عنه رد التأويل. وقد ذكر الروايتين ابن الزاغُوني وغيره، وذكر أن ترك التأويل هي الرواية المشهورة المعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا.
ورواية التأويل فسر ذلك بالعمد والقصد، لم يفسره بالأمر والقدرة كما فسروا { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } .
فعلى هذا في تأويل ذلك إذا قيل به وجهان.
وابن الزاغُوني، والقاضي أبو يعلى، ونحوهما وإن كانوا يقولون بإمرار المجيء والإتيان على ظاهره فقولهم في ذلك من جنس قول ابن كُلاب، والأشعري. فإنه أيضا يمنع تأويل النزول والإتيان والمجيء، ويجعله من الصفات الخبرية، ويقول: إن هذه الأفعال لا تستلزم الأجسام، بل يوصف بها غير الأجسام. وكلام ابن الزاغوني في هذا النوع وفي استواء الرب على العرش هو موافق لقول أبي الحسن نفسه.
هذا قولهم في الصفات الخبرية الواردة في هذه الأفعال.
وأما علو الرب نفسه فوق العالم فعند ابن كُلاب أنه معلوم بالعقل، كقول أكثر المثبتة، كما ذكر ذلك الخطابي، وابن عبد البر، وغيرهما. وهو قول ابن الزاغُوني، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى، وكان القاضي أولا يقول بقول الأشعري: أنه من الصفات الخبرية. وهذا قول القاضي أبي بكر، والبيهقي، ونحوهما.
وأما أبو المعالي الجويني وأتباعه، فهؤلاء خالفوا الأشعري وقدماء أصحابه في الصفات الخبرية، فلم يثبتوها. لكن منهم من نفاها فتأول الاستواء بالاستيلاء، وهذا أول قولي أبي المعالي؛ ومنهم من توقف في إثباتها ونفيها، كالرازي، والآمدي، وآخر قولي أبي المعالي المنع من تأويل الصفات الخبرية، وذكر أن هذا إجماع السلف، وأن التأويل لو كان مسوغًا أو محتوما، لكان اهتمامهم به أعظم من اهتمامهم بغيره.
فاستدل بإجماعهم على أنه لا يجوز التأويل، وجعل الوقف التام على قوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ } 24، ذكر ذلك في: النظَّامية في الأركان الإسلامية.
وهذه طريقة عامة المنتسبين إلى السنة يرون التأويل مخالفًا لطريقة السلف. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وذكر لفظ التأويل وما فيه من الإجمال، والكلام على قوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ } ، وأن كلا القولين حق.
فمن قال: لا يعلم تأويله إلا الله، فأراد به ما يؤول إليه الكلام من الحقائق التي لا يعلمها إلا الله. ومن قال: إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل، فالمراد به تفسير القرآن الذي بينه الرسول والصحابة.
وإنما الخلاف في لفظ التأويل على المعنى المرجوح، وأنه حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح دون الراجح لدليل يقترن به. فهذا اصطلاح متأخر، وهو التأويل الذي أنكره السلف والأئمة تأويلات أهل البدع.
وكذلك يقول أحمد في رده على الجهمية: الذين تأولوا القرآن على غير تأويله. وقد تكلم أحمد على متشابه القرآن وفسره كله.
ومنه تفسير متفق عليه عند السلف، ومنه تفسير مختلف فيه.
وقد ذكر الجَد أبو عبد الله في تفسيره من جنس ما ذكره البغوي، لا من جنس ما ذكره ابن الجوزي، فقال:
أما الإتيان المنسوب إلى الله، فلا يختلف قول أئمة السلف، كمكحول والزهري والأوزاعي، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وأتباعهم، أنه يمر كما جاء. وكذلك ما شاكل ذلك مما جاء في القرآن، أو وردت به السنة، كأحاديث النزول، ونحوها. وهي طريقة السلامة ومنهج أهل السنة والجماعة يؤمنون بظاهرها ويكلون علمها إلى الله ويعتقدون أن الله منزه عن سمات الحدث. على ذلك مضت الأئمة خلفًا بعد سلف، كما قال تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } 25.
وقال ابن السائب في قوله: { أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } 26. هذا من المكتوم الذي لا يفسر، وذكر ما يشبه كلام الخَطَّابي في هذا.
فإن قيل: كيف يقع الإيمان بما لا يحيط من يدعي الإيمان به علما بحقيقته؟، فالجواب: كما يصح الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والنار والجنة. ومعلوم أنا لا نحيط علما بكل شيء من ذلك على جهة التفصيل، وإنما كُلِّفنا الإيمان بذلك في الجملة. ألا تري أنا لا نعرف عدة من الأنبياء وكثيرًا من الملائكة، ولا نحيط بصفاتهم، ثم لا يقدح ذلك في إيماننا بهم؟ وقد قال النبي ﷺ في صفة الجنة: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
قلت: لا ريب أنه يجب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول وتصديقه فيما أخبر به، وإن كان الشخص لم يفقه بالعربية ما قال ولا فهم من الكلام شيئًا، فضلا عن العرب. فلا يشترط في الإيمان المجمل العلم بمعني كل ما أخبر به؛ هذا لا ريب فيه.
فكل من اشتبه عليه آية من القرآن. ولم يعرف معناها، وجب عليه الإيمان بها، وأن يكل علمها إلى الله في قول: الله أعلم. وهذا متفق عليه بين السلف والخلف. فما زال كثير من الصحابة يمر بآية ولفظ لا يفهمه فيؤمن به وإن لم يفهم معناه.
لكن، هل يكون في القرآن ما لا يفهمه أحد من الناس. بل ولا الرسول، عند من يجعل التأويل هو معنى الآية ويقول: إنه لا يعلمه إلا الله؟ فيلزم أن يكون في القرآن كلام لا يفهمه لا الرسول، ولا أحد من الأمة، بل ولا جبريل. هذا هو الذي يلزم على قول من يجعل معاني هذه الآيات لا يفهمه أحد من الناس.
وليس هذا بمنزلة ما ذكر في الملائكة، والنبيين، والجنة. فإنا قد فهمنا الكلام الذي خوطبنا به، وأنه يدل على أن هناك نعيمًا لا نعلمه. وهذا خطاب مفهوم، وفيه إخبارنا أن من المخلوقات ما لا نعلمه وهذا حق كقوله: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } 27، وقوله لما سألوه عن الروح: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا } 28. فهذا فيه إخبارنا بأن لله مخلوقات لا نعلمها، أو نعلم جنسهم ولا نعلم قدرهم، أو نعلم بعض صفاتهم دون بعض.
وكل هذا حق، لكن ليس فيه أن الخطاب المنزل الذي أمرنا بتدبره لا يفقه ولا يفهم معناه لا الرسول ولا المؤمنون. فهذا هو المنكر الذي أنكره العلماء. فإن الله قال: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } 29، وقال: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } 30، وقال: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } 31، وقال: { حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } 32.
وفرق بين ما لم يخبر به أو أخبرنا ببعض صفاته دون بعض فما لم يخبر به لا يضرنا ألا نعلمه وبين ما أخبرنا به. وهو الكلام العربي الذي جعل هدي وشفاء للناس. وقال الحسن: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت وما عني بها. فكيف يكون في مثل هذا الكلام ما لا يفهمه أحد قط؟
وفرق بين أن يقال: الرب هو الذي يأتي إتيانًا يليق بجلاله، أو يقال: ما ندري، هل هو الذي يأتي أو أمره. فكثير من لا يجزم بأحدهما، بل يقول: اسكت، فالسكوت أسلم.
ولا ريب أنه من لم يعلم فالسكوت له أسلم، كما قال النبي ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». لكن هو يقول: إن الرسول وجميع الأمة كانوا كذلك لا يدرون هل المراد به هذا أو هذا، ولا الرسول كان يعرف ذلك. فقائل: هذا مبطل متكلم بما لا علم له به. وكان يسعه أن يسكت عن هذا لا يجزم بأن الرسول والأئمة كلهم جهال يجب عليهم السكوت كما يجب عليه.
ثم إن هذا خلاف الواقع، فأحاديث النبي ﷺ وكلام السلف في معني هذه الآية ونظائرها كثير مشهور. لكن قال على رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون. أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ». وقال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
وإذا قال: بل كان من السلف من يجزم بأن المراد هو إتيانه نفسه، فهذا جزم بأنهم عرفوا معناها وبطلان القول الآخر، لم يكونوا ساكتين حيارى. ولا ريب أن مقدوره ومأموره مما يأتي أيضا، ولكن هو يأتي كما أخبر عن نفسه إتيانًا يليق بجلاله.
فإذا قيل: لا نعلم كيفية الاستواء، كان هذا صحيحًا. وإذا كان الخطاب والكلام مما لا يفهم أحد معناه لا الرسول، ولا جبريل، ولا المؤمنون لم يكن مما يتدبر ويعقل. بل مثل هذا عبث، والله منزه عن العبث.
ثم هذا يلزمهم في الأحاديث، مثل قوله: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء». أفكان الرسول يقول هذا الحديث ونحوه وهو لا يفقه ما يقول ولا يفهم له معني؟ سبحان الله! هذا بهتان عظيم، وقدح في الرسول، وتسليط للملحدين. إذا قيل: إن نفس الكلام الذي جاء به قد كان لا يفهم معناه قالوا: فغيره من العلوم العقلية أولي ألا يفهم معناه.
والكلام إنما هو في صفات الرب، فإذا قيل: إن ما أنزل عليه من صفات الرب لم يكن هو ولا غيره يفهمه، وهو كلام أمي عربي ينزل عليه، قيل: فالمعاني المعقولة في الأمور الإلهية أولي ألا يكون يفهمها. وحينئذ، فهذا الباب لم يكن موجودًا في رسالته، ولا يؤخذ من جهته لا من جهة السمع، ولا من جهة العقل. قالت الملاحدة: فيؤخذ من طريق غيره.
فإذا قال لهم هؤلاء: هذا غير ممكن لأحد، منعوا ذلك وقالوا: إنما في القرآن أن ذلك الخطاب لا يعلم معناه إلا الله. لكن من أين لكم أن الأمور الإلهية لا تعلم بالأدلة العقلية التي يقصر عنها البيان بمجرد الخطاب والخبر؟
والملاحدة يقولون: إن الرسل خاطبت بالتخييل، وأهل الكلام يقولون: بالتأويل، وهؤلاء الظاهرية يقولون: بالتجهيل. وقد بسط الكلام على خطأ الطوائف الثلاث، وبين أن الرسول قد أتي بغاية العلم والبيان الذي لا يمكن أحدًا من البشر أن يأتي بأكمل مما جاء به ﷺ تسليما. فأكمل ما جاء به القرآن، والناس متفاوتون في فهم القرآن تفاوتًا عظيما.
وقول ابن السائب: إن هذا من المكتوم الذي لا يفسر، يقتضي أن له تفسيرًا يعلمه العلماء ويكتمونه.
وهذا على وجهين؛ إما أن يريد أن يكتم شيء مما بينه الرسول ﷺ عن جميع الناس فهذا من الكتمان المجرد الذي ذم الله عليه. وهذه حال أهل الكتاب. وعاب الذين يكتمون ما بينه للناس من البينات والهدي من بعد ما بينه للناس في الكتاب. وقال: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ } 33.
وهذه حال أهل الكتاب في كتمان ما في كتابهم من الألفاظ يتأولها بعضهم. ويجعلها بعضهم متشابها. وهي دلائل على نبوة محمد ﷺ، وغير ذلك. فإن ألفاظ التوراة والإنجيل وسائر كتب الأنبياء وهي بضع وعشرون كتابا عند أهل الكتاب لا يمكنهم جحد ألفاظها، لكن يحرفونها بالتأويل الباطل، ويكتمون معانيها الصحيحة عن عامتهم، كما قال تعالى: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } 34.
فمن جعل أهل القرآن كذلك، وأمرهم أن يكونوا فيه أميين لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة، فقد أمرهم بنظير ما ذم الله عليه أهل الكتاب.
وصَبيغ بن عَسْل التميمي إنما ضربه عمر؛ لأنه قصد باتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وهؤلاء الذين عابهم الله في كتابه لأنهم جمعوا شيئين؛ سوء القصد، والجهل. فهم لا يفهمون معناه ويريدون أن يضربوا كتاب الله بعضه ببعض ليوقعوا بذلك الشبهة والشك. وفي الصحيح عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم».
فهذا فعل من يعارض النصوص بعضها ببعض ليوقع الفتنة وهي الشك والريب في القلوب، كما روي أنه خرج على القوم وهم يتجادلون في القدر، هؤلاء يقولون: ألم يقل الله كذا؟ وهؤلاء يقولون: ألم يقل الله كذا؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، ثم قال: «أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه».
فكل من اتبع المتشابه على هذا الوجه فهو مذموم. وهو حال من يريد أن يشكك الناس فيما علموه لكونه وإياهم لم يفهموا ما توهموا أنه يعارضه. هذا أصل الفتنة أن يترك المعلوم لغير معلوم. كالسفسطة التي تورث شبها يقدح بها فيما علم وتيقن. فهذه حال من يفسد قلوب الناس وعقولهم بإفساد ما فيها من العلم والعمل أصل الهدي، فإذا شككهم فيما علموه بقوا حيارى.
والرسول ﷺ قد أتي بالآيات البينات الدالة على صدقه، والقرآن فيه الآيات المحكمات اللاتي هي أم الكتاب قد علم معناها وعلم أنها حق، وبذلك يهتدي الخلق وينتفعون.
فمن اتبع المتشابه ابتغي الفتنة وابتغي تأويله والأول قصدهم فيه فاسد، والثاني ليسوا من أهله، بل يتكلمون في تأويله بما يفسد معناه إذ كانوا ليسوا من الراسخين في العلم.
وإنما الراسخ في العلم الذي رسخ في العلم بمعني المحكم، وصار ثابتا فيه لا يشك ولا يرتاب فيه بما يعارضه من المتشابه، بل هو مؤمن به، قد يعلمون تأويل المتشابه.
وأما من لم يرسخ في ذلك بل إذا عارضه المتشابه شك فيه فهذا يجوز أن يراد بالمتشابه ما يناقض المحكم، فلا يعلم معني المتشابه، إذ لم يرسخ في العلم بالمحكم. وهو يبتغي الفتنة في هذا وهذا. فهذا يعاقب عقوبة تردعه، كما فعل عمر بصَبِيغ.
وأما من قصده الهدي والحق، فليس من هؤلاء. وقد كان عمر يسأل ويسأل عن معاني الآيات الدقيقة، وقد سأل أصحابه عن قوله: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } 35، فذكروا ظاهر لفظها. ولما فسرها ابن عباس بأنها إعلام النبي ﷺ بقرب وفاته قال: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
وهذا باطن الآية الموافق لظاهرها. فإنه لما أمر بالاستغفار عند ظهور الدين، والاستغفار يؤمر به عند ختام الأعمال، وبظهور الدين حصل مقصود الرسالة، علموا أنه إعلام بقرب الأجل مع أمور أُخر. وفوق كل ذي علم عليم.
والاستدلال على الشيء بملزوماته. والشيء قد يكون له لازم، وللازمه لازم، وهلم جرا. فمن الناس من يكون أفطن بمعرفة اللوازم من غيره، يستدل بالملزوم على اللازم. ومن الناس من لا يتصور اللازم، ولو تصوره لم يعرف الملزوم، بل يقول: يجوز أن يلزم، ويجوز ألا يلزم؛ ويحتمل، ويحتمل. وتردد الاحتمال هو من عدم العلم، وإلا فالواقع هو أحد أمرين. فحيث كان احتمال بلا ترجيح كان لعدم العلم بالواقع وخفاء دليله، وغيره قد يعلم ذلك ويعلم دليله.
ومن ظن أن ما لا يعلمه هو لا يعلمه غيره، كان من جهله. فلا ينفي عن الناس إلا ما علم انتفاؤه عنهم، وفوق كل ذي علم عليم أعلم منه، حتي ينتهي الأمر إلى الله تعالى. وهذا قد بسط في مواضع.
ثم إنهم يقولون: المأثور عن السلف هو السكوت عن الخوض في تأويل ذلك، والمصير إلى الإيمان بظاهره، والوقوف عن تفسيره؛ لأنا قد نهينا أن نقول في كتاب الله برأينا، ولم ينبهنا الله ورسوله على حقيقة معني ذلك.
فيقال: أما كون الرجل يسكت عما لا يعلم، فهذا مما يؤمر به كل أحد. لكن هذا الكلام يقتضي أنهم لم يعلموا معني الآية وتفسيرها وتأويلها. وإذا كان لم يتبين لهم، فمضمونه عدم علمهم بذلك، وهو كلامُ شاكٍ لا يعلم ما أريد بالآية.
ثم إذا ذكر لهم بعض التأويلات، كتأويل من يفسره بإتيان أمره وقدرته، أبطلوا ذلك بأن هذا يسقط فائدة التخصيص. وهذا نفي للتأويل وإبطال له.
فإذا قالوا مع ذلك: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ } 36، أثبتوا تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون جنس التأويل.
ونقول: ما الحامل على هذا التأويل البعيد؟ وقد أمكن بدونه أن نثبت إتيانا ومجيئًا لا يعقل كما يليق به، كما أثبتنا ذاتًا لها حقيقة لا تعقل، وصفات من سمع وبصر وغير ذلك لا تعقل. ولأنه إذا جاز تأويل هذا، وأن نُقَدِّر مضمرًا محذوفًا من قدرة أو عذاب ونحو ذلك، فما منعكم من تأويل قوله: «ترون ربكم» كذلك؟
وهذا كلام في إبطال التأويل وحمل للفظ على ما دل عليه ظاهره على ما يليق بجلال الله.
فإذا قيل مع هذا: إن له تأويلا لا يعلمه إلا الله وأريد بالتأويل هذا الجنس، كان تناقضًا. كيف ينفي جنس التأويل ويثبت له تأويل لا يعلمه إلا الله.
فعُلِم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لا يناقض حمله على ما دل عليه اللفظ، بل هو أمر آخر يحقق هذا ويوافقه، لا يناقضه ويخالفه كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
وإذا كان كذلك، أمكن أن من العلماء من يعلم من معني الآية ما يوافق القرآن لم يعلمه غيره، ويكون ذلك من تفسيرها. وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، كمن يعلم أن المراد بالآية مجيء الله قطعًا لا شك في ذلك لكثرة ما دل عنده على ذلك. ويعلم مع ذلك أنه العلي الأعلى يأتي إتيانًا تكون المخلوقات محيطة به وهو تحتها. فإن هذا مناقض لكونه العلي الأعلى.
والجد الأعلى أبو عبد الله رحمه الله قد جري في تفسيره على ما ذكر من الطريقة. وهذه عادته وعادات غيره. وذكر كلام ابن الزاغُوني، فقال: قال الشيخ على بن عبيد الله الزاغُوني:
وقد اختلف كلام إمامنا أحمد في هذا المجيء هل يحمل على ظاهره، وهل يدخل التأويل؟ على روايتين:
إحداهما: أنه يحمل على ظاهره من مجيء ذاته. فعلى هذا يقول: لا يدخل التأويل، إلا أنه لا يجب أن يحمل مجيئه بذاته إلا على ما يليق به. وقد ثبت أنه لا يحمل إثبات مجيء هو زوال وانتقال يوجب فراغ مكان وشغل آخر من جهة أن هذا يعرف بالجنس في حق المحدث الذي يقصر عن استيعاب المواضع والمواطن؛ لأنها أكبر منه وأعظم، يفتقر مجيئه إليها إلى الانتقال عما قرب إلى ما بعد.
وذلك ممتنع في حق الباري تعالى لأنه لا شيء أعظم منه، ولا يحتاج في مجيئه إلى انتقال وزوال؛ لأن داعي ذلك وموجبه لا يوجد في حقه. فأثبتنا المجيء صفة له ومنعنا ما يتوهم في حقه ما يلزم في حق المخلوقين؛ لاختلافهما في الحاجة إلى ذلك. ومثله قوله: { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } 37.
ومثله الحديث المشهور الذي رواه عامة الصحابة، أن النبي ﷺ قال: «ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقي ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له». فنحن نثبت وصفه بالنزول إلى سماء الدنيا بالحديث ولا نتأول ما ذكروه ولا نلحقه بنزول الآدميين الذي هو زوال وانتقال من علو إلى أسفل. بل نسلم للنقل كما ورد، وندفع التشبيه لعدم موجبه، ونمنع من التأويل لارتفاع نسبته.
قال: وهذه الرواية هي المشهورة والمعمول عليها عند عامة المشائخ من أصحابنا.
قلت: أما كون إتيانه ومجيئه ونزوله ليس مثل إتيان المخلوق ومجيئه ونزوله، فهذا أمر ضروري متفق عليه بين علماء السنة ومن له عقل. فإن الصفات والأفعال تتبع الذات المتصفة الفاعلة. فإذا كانت ذاته مباينة لسائر الذوات، ليست مثلها، لزم ضرورة أن تكون صفاته مباينة لسائر الصفات ليست مثلها. ونسبة صفاته إلى ذاته، كنسبة صفة كل موصوف إلى ذاته. ولا ريب أنه العلي الأعلى العظيم، فهو أعلى من كل شيء، وأعظم من كل شيء. فلا يكون نزوله وإتيانه بحيث تكون المخلوقات تحيط به أو تكون أعظم منه وأكبر. هذا ممتنع.
وأما لفظ الزوال و الانتقال فهذا اللفظ مجمل، ولهذا كان أهل الحديث والسنة فيه على أقوال.
فعثمان بن سعيد الدارمي وغيره، أنكروا على الجهمية قولهم: إنه لا يتحرك، وذكروا أثرًا أنه لا يزول، وفسروا الزوال بالحركة. فبين عثمان بن سعيد أن ذلك الأثر إن كان صحيحًا لم يكن حجة لهم؛ لأنه في تفسير قوله: { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } 38، ذكروا عن ثابت: دائم باق لا يزول عما يستحقه، كما قال ابن إسحاق: لا يزول عن مكانته.
قلت: والكَلْبي بنفسه الذي روي هذا الحديث هو يقول: { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } : استقر، ويقول: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } : صعد إلى السماء.
وأما الانتقال فابن حامد وطائفة يقولون: ينزل بحركة وانتقال. وآخرون من أهل السنة كالتميمي من أصحاب أحمد أنكروا هذا وقالوا: بل ينزل بلا حركة وانتقال. وطائفة ثالثة، كابن بطة وغيره يقفون في هذا.
وقد ذكر الأقوال الثلاثة القاضي أبو يعلى في كتاب اختلاف الروايتين والوجهين ونفي اللفظ بمجمله.
والأحسن في هذا الباب، مراعاة ألفاظ النصوص، فيثبت ما أثبت الله ورسوله باللفظ الذي أثبته، وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه. وهو أن يثبت النزول، والإتيان، والمجيء، وينفي المثل، والسمي، والكفؤ، والند.
وبهذا يحتج البخاري وغيره على نفي المثل. يقال: ينزل نزولا ليس كمثله شيء، نزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين نزولا يختص به، كما أنه في ذلك وفي سائر ما وصف به نفسه ليس كمثله شيء في ذلك. وهو منزه أن يكون نزوله كنزول المخلوقين، وحركتهم، وانتقالهم، وزوالهم مطلقًا لا نزول الآدميين ولا غيرهم.
فالمخلوق إذا نزل من علو إلى سفل، زال وصفه بالعلو وتبدل إلى وصفه بالسفول، وصار غيره أعلى منه.
والرب تعالى لا يكون شيء أعلى منه قط، بل هو العلي الأعلى ولا يزال هو العلي الأعلى مع أنه يقرب إلى عباده ويدنو منهم، وينزل إلى حيث شاء، ويأتي كما شاء. وهو في ذلك العلي الأعلى، الكبير المتعالى، على في دنوه، قريب في علوه.
فهذا وإن لم يتصف به غيره فلعجز المخلوق أن يجمع بين هذا وهذا. كما يعجز أن يكون هو الأول والآخر، والظاهر والباطن.
ولهذا قيل لأبي سعيد الخَرَّاز: بم عرفت الله؟ قال: بالجمع بين النقيضين. وأراد أنه يجتمع له ما يتناقض في حق الخلق، كما أجتمع له أنه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها من الأعيان والأفعال مع ما فيها من الخبث وأنه عدل، حكيم، رحيم. وأنه يمكن من مكنه من عباده من المعاصي مع قدرته على منعهم، وهو في ذلك حكيم عادل. فإنه أعلم الأعلمين، وأحكم الحاكمين، وخير الفاتحين، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.
فألا يحيطوا علما بما هو أعظم في ذلك أولي وأحري. وقد سألوا عن الروح فقيل لهم: { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا } 39. وفي الصحيحين، أن الخضر قال لموسى لما نقر عصفور في البحر: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر».
فالذي ينفي عنه وينزه عنه، إما أن يكون مناقضًا لما علم من صفاته الكاملة، فهذا ينفي عنه جنسه، كما قال: { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } 40، وقال: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } 41، فجنس السنة، والنوم، والموت، ممتنع عليه، لا يجوز أن يقال في شيء من هذا: «إنه يجوز عليه كما يليق بشأنه»؛ لأن هذا الجنس يوجب نقصًا في كماله.
وكذلك لا يجوز أن يقال: هو يكون في السفل، لا في العلو، وهو سفول يليق بجلاله، فإنه سبحانه العلي الأعلى لا يكون قط إلا عاليًا، والسفول نقص هو منزه عنه.
وقوله: «وأنت الباطن فليس دونك شيء»، لا يقتضي السفول إلا عند جاهل لا يعلم حقيقة العلو والسفول، فيظن أن السموات - وما فيها - قد تكون تحت الأرض إما بالليل وإما بالنهار وهذا غلط كمن يظن أن ما في السماء من المشرق يكون تحت ما فيها مما في المغرب. فهذا أيضا غلط. بل السماء لا تكون قط إلا عالية على الأرض وإن كان الفلك مستديرًا محيطًا بالأرض فهو العإلى على الأرض علوًا حقيقيا من كل جهة. وهذا مبسوط في مواضع.
والنوع الثاني: أنه منزه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته، فالألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة في الإثبات تثبت. والتي جاءت بالنفي تنفي. والألفاظ المجملة كلفظ الحركة و النزول و الانتقال يجب أن يقال فيها: إنه منزه عن مماثلة المخلوقين من كل وجه، لا يماثل المخلوق لا في نزول، ولا في حركة، ولا انتقال ولا زوال، ولا غير ذلك.
وأما إثبات هذا الجنس، كلفظ النزول، أو نفي مطلقًا كلفظ النوم و الموت، فقد يسلك كلاهما طائفة تنتسب إلى السنة.
والمثبتة يقولون: نثبت حركة، أو حركة وانتقالا، أو حركة وزوالًا، تليق به، كالنزول والإتيان اللائق به.
والنفاة يقولون: بل هذا الجنس يجب نفيه.
ثم منهم من ينفي جنس ذلك في حقه بكل اعتبار، ولا يجَوِّز عليه أن يقوم به شيء من الأحوال المتجددة. وهذه طريقة الكُلاَّبية ومن اتبعهم ممن ينتسب إلى السنة والحديث.
ومنهم من لا ينفي في ذلك ما دل عليه النص، ولا ينفي هذا الجنس مطلقًا بما ذكروه من أنه لا تقوم به الحوادث لما قد علم بالآيات والسنة والعقل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه يحب عبده المؤمن إذا اتبع رسوله، إلى غير ذلك من المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة. بل ينفي ما ناقض صفات كماله، وينفي مماثلة مخلوق له. فهذان هما اللذان يجب نفيهما. والله أعلم.
وكذلك إذا قال القائل: الله يجب تنزيهه عن سمات الحدث، أو علامات الحدث، أو كل ما أوجب نقصًا وحدوثا فالرب منزه عنه، فهذا كلام حق معلوم متفق عليه.
لكن الشأن فيما تقول النافية: إنه من سمات الحدث، وآخرون ينازعونهم لا سيما والكتاب والسنة تناقض قولهم - قالت الجهمية: إن قيام الصفات به، أو قيام الصفات الاختيارية، هو من سمات الحدث. وهذا باطل عند السلف وأئمة السنة، بل وجمهور العقلاء. بل ما ذكروه يقتضي حدوث كل شيء. فإنه ما من موجود إلا وله صفات تقوم به، وتقوم به أحوال تحصل بالمشيئة والقدرة. فإن كان هذا مستلزما للحدوث، لزم حدوث كل شيء، وألا يكون في العالم شيء قديم. وهذا قد بسط في مواضع أيضا.
وسمات الحدث التي تستلزم الحدوث مثل افتقار إلى الغير. فكل ما افتقر إلى غيره، فإنه محدث، كائن بعد أن لم يكن. والرب منزه عن الحاجة إلى ما سواه بكل وجه. ومن ظن أنه محتاج إلى العرش، أو حملة العرش، فهو جاهل ضال، بل هو الغني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه. وهو الصمد الغني عن كل شيء، وكل ما سواه يصمد إليه محتاجا إليه: { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } 42.
ومن سمات الحدث النقائص، كالجهل، والعمى، والصمم، والبكم، فإن كل ما كان كذلك، لم يكن إلا محدثًا؛ لأن القديم الأزلي منزه عن ذلك؛ لأن القديم الأزلي متصف بنقيض هذه الصفات، وصفات الكمال لازمة له. واللازم يمتنع زواله إلا بزوال الملزوم. والذات قديمة أزلية، واجبة بنفسها، غنية عما سواها، يستحيل عليها العدم والفناء بوجه من الوجوه. فيستحيل عدم لوازمها، فيستحيل اتصافها بنقيض تلك اللوازم. فلا يوصف بنقيضها إلا المحدث، فهي من سمات الحدث المستلزمة لحدوث ما اتصف بها.
وهذا يدخل في قول القائل: كل ما استلزم حدوثًا أو نقصًا فالرب منزه عنه. والنقص المناقض لصفات كماله مستلزم لحدوث المتصف به، والحدوث مستلزم للنقص اللازم للمخلوق. فإن كل مخلوق فهو يفتقر إلى غيره، كائن بعد أن لم يكن لا يعلم إلا ما علم، ولا يقدر إلا ما أقدر، وهو محاط به مقدور عليه.
فهذه النقائص اللازمة لكل مخلوق هي ملزومة للحدوث، حيث كان حدوث كانت. والحدوث أيضا ملزوم لها، فحيث كان محدث كانت هذه النقائص.
فقولنا: ما استلزم نقصًا أو حدوثًا فالرب منزه عنه حق. والحدوث والنقص اللازم للمخلوق متلازمان. والرب منزه عن كل منهما من جهتين: من جهة امتناعه في نفسه. ومن جهة أنه مستلزم للآخر وهو ممتنع في نفسه فكل منهما دليل ومدلول عليه باعتبارين: على أن الرب منزه عنه، وعن مدلوله الذي هو لازمه.
والحاجة إلى الغير والفقر إليه مما يستلزم الحدوث والنقص اللازم للمخلوق. وقولى: اللازم، ليعم جميع المخلوقين، وإلا فمن النقائص ما يتصف بها بعض المخلوقين دون بعض. فتلك ليست لازمة لكل مخلوق.
والرب منزه عنها أيضا لكن إذا نزه عن النقص اللازم لكل مخلوق فعن ما يختص به بعض المخلوقين أولى وأحرى. فإنه إذا كان مخلوق ينزه عن نقص، فالخالق أولى بتنزيهه عنه. وهذه طريقة الأولى كما دل عليها القرآن في غير موضع.
وقد ذكرنا في جواب المسائل التدمرية الملقب ب تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع ؛ أنه لا يجوز الاكتفاء فيما ينزه الرب عنه على عدم ورود السمع والخبر به فيقال: كل ماورد به الخبر أثبتناه، وما لم يرد به لم نثبته بل ننفيه. وتكون عمدتنا في النفي على عدم الخبر. بل هذا غلط لوجهين:
أحدهما: أن عدم الخبر هو عدم دليل معين، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم إذا لم يخبر هو بالشيء أن يكون منتفيًا في نفس الأمر. ولله أسماء سمى بها نفسه واستأثر بها في علم الغيب عنده. فكما لا يجوز الإثبات إلا بدليل لا يجوز النفي إلا بدليل. ولكن إذا لم يرد به الخبر ولم يعلم ثبوته يسكت عنه فلا يتكلم في الله بلا علم.
الثاني: أن أشياء لم يرد الخبر بتنزيهه عنها، ولا بأنه منزه عنها، لكن دل الخبر على اتصافه بنقائضها فعلم انتفاؤها. فالأصل أنه منزه عن كل ما يناقض صفات كماله وهذا مما دل عليه السمع والعقل.
وما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه، وإلا سكتنا عنه. فلا نثبت إلا بعلم ولا ننفي إلا بعلم.
ونفي الشيء من الصفات وغيرها كنفي دليله طريقة طائفة من أهل النظر والخبر. وهي غلط إلا إذا كان الدليل لازمًا له. فإذا عدم اللازم، عدم الملزوم.
وأما جنس الدليل، فيجب فيه الطرد، لا العكس. فيلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه، ولا ينعكس.
فالأقسام ثلاثة: ما علم ثبوته أُثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه. هذا هو الواجب. والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته.
ومن لم يثبت ما أثبته إلا بالألفاظ الشرعية التي أثبتها، وإذا تكلم بغيرها استفسر واستفصل، فإن وافق المعنى الذي أثبته الشرع أثبته باللفظ الشرعى، فقد اعتصم بالشرع لفظًا ومعنى. وهذه سبيل من اعتصم بالعروة الوثقى.
لكن ينبغي أن تعرف الأدلة الشرعية إسنادًا ومتنًا. فالقرآن معلوم ثبوت ألفاظه، فينبغي أن يعرف وجوه دلالته. والسنة ينبغي معرفة ما ثبت منها وما علم أنه كذب.
فإن طائفة ممن انتسب إلى السنة، وعظَّم السنة والشرع، وظنوا أنهم اعتصموا في هذا الباب بالكتاب والسنة جمعوا أحاديث وردت في الصفات، منها ما هو كذب معلوم أنه كذب، ومنها ما هو إلى الكذب أقرب، ومنها ما هو إلى الصحة أقرب، ومنها متردد. وجعلوا تلك الأحاديث عقائد، وصنفوا مصنفات. ومنهم من يكفر من يخالف ما دلت عليه تلك الأحاديث.
وبإزاء هؤلاء المكذبين بجنس الحديث ومن يقول عن أخبار الصحيحين وغيرها: هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم.
وأبلغ من هؤلاء من يقول: دلالة القرآن لفظية سمعية، والدلالة السمعية اللفظية لا تفيد اليقين. ويجعلون العمدة على ما يدعونه من العقليات، وهي باطلة فاسدة، منها ما يعلم بطلانه وكذبه.
وهؤلاء أيضا قد يكفرون من خالف ذلك، كما فعل أولئك. وكلا الطريقين باطل ولو لم يكفر مخالفه. فإذا كفر مخالفه صار من أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، كما فعلت الخوارج وغيرهم.
وقد بسط في غير هذا الموضع؛ أن الأدلة التي توجب العلم لا تناقض قط. ولا يناقض الدليل العقلى الذي يفيد العلم للدليل السمعى الذي يفيد العلم قط، كما قد بينا ذلك في كتاب درء تعارض العقل والنقل.
وهذه الأحاديث قد ذكر بعضها القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل، مثل ما ذكر في حديث المعراج حديثًا طويلًا عن أبي عبيدة أن محمدا رأى ربه.
وطائفة ممن يقول بأنه رأى ربه بعينه، يكَفِّرون من خالفهم لما ظنوا أنه قد جاء في ذلك أحاديث صحيحة، كما فعل أبو الحسن على بن شكر، فإنه سريع إلى تكفير من يخالفه فيما يدعيه من السنة، وقد يكون مخطئًا فيه، إما لاحتجاجه بأحاديث ضعيفة، أو بأحاديث صحيحة لكن لا تدل على مقصوده. وما أصاب فيه من السنة لا يجوز تكفير كل من خالف فيه. فليس كل مخطئ كافرًا لا سيما في المسائل الدقيقة التي كثر فيها نزاع الأمة، كما قد بسط هذا في مواضع.
وكذلك أبو علي الأهوازي له مصنف في الصفات قد جمع فيه الغث والسمين.
وكذلك ما يجمعه عبد الرحمن بن مَنْدَه 43 مع أنه من أكثر الناس حديثا، لكن يروى شيئًا كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، ولا يميز بين الصحيح والضعيف. وربما جمع بابًا وكل أحاديثه ضعيفة، كأحاديث أكل الطين وغيرها. وهو يروى عن أبي علي الأهوازي.
وقد وقع ما رواه من الغرائب الموضوعة إلى حسن بن عدى فبنى على ذلك عقائد باطلة، وادعى أن الله يرى في الدنيا عيانًا. ثم الذين يقولون بهذا من أتباعه يكفرون من خالفهم. وهذا كما تقدم من فعل أهل البدع، كما فعلت الخوارج.
ومن ذلك: حديث عبد الله بن خليفة المشهور، الذي يروى عن عمر عن النبي ﷺ، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى في مختاره.
وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه، كما فعل ذلك أبو بكر الإسماعيلي، وابن الجوزي، وغيرهم. لكن أكثر أهل السنة قبلوه.
وفيه قال: إن عرشه أو كرسيه وسع السموات والأرض، وإنه يجلس عليه فما يفضل منه قدر أربعة أصابع أو فما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع وإنه لَىَئِط به أطيط الرَّحْل الجديد براكبه.
ولفظ الأطيط قد جاء في حديث جبير بن مطعم الذي رواه أبو داود في السنن. وابن عساكر عمل فيه جزءًا، وجعل عمدة الطعن في ابن إسحاق.. والحديث قد رواه علماء السنة كأحمد، وأبي داود وغيرهما، وليس فيه إلا ما له شاهد من رواية أخرى. ولفظ الأطيط قد جاء في غيره.
وحديث ابن خليفة رواه الإمام أحمد وغيره مختصرًا، وذكر أنه حدث به وكيع.
لكن كثير ممن رواه رووه بقوله: إنه ما يفضل منه إلا أربع أصابع، فجعل العرش يفضل منه أربع أصابع واعتقد القاضي، وابن الزَّاغُوني، ونحوهما، صحة هذا اللفظ، فأمروه وتكلموا على معناه بأن ذلك القدر لا يحصل عليه الاستواء. وذكر عن ابن العايذ أنه قال: هو موضع جلوس محمد ﷺ.
والحديث قد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره، ولفظه: وإنه ليجلس عليه، فما يفضل منه قدر أربع أصابع بالنفي.
فلو لم يكن في الحديث إلا اختلاف الروايتين هذه تنفي ما أثبتت هذه. ولا يمكن مع ذلك الجزم بأن رسول الله ﷺ أراد الإثبات، وأنه يفضل من العرش أربع أصابع لا يستوى عليها الرب. وهذا معنى غريب ليس له قط شاهد في شيء من الروايات. بل هو يقتضي أن يكون العرش أعظم من الرب وأكبر. وهذا باطل، مخالف للكتاب والسنة، وللعقل.
ويقتضي أيضا أنه إنما عرف عظمة الرب بتعظيم العرش المخلوق وقد جعل العرش أعظم منه. فما عظم الرب إلا بالمقايسة بمخلوق، وهو أعظم من الرب. وهذا معنى فاسد، مخالف لما علم من الكتاب والسنة والعقل.
فإن طريقة القرآن في ذلك؛ أن يبين عظمة الرب، فإنه أعظم من كل ما يعلم عظمته. فيذكر عظمة المخلوقات ويبين أن الرب أعظم منها.
كما في الحديث الآخر الذي في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما حديث الأطيط لما قال الأعرأبي: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله تعالى فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! أتدرى ماتقول؟ أتدرى ما الله؟ شأن الله أعظم من ذلك. إن عرشه على سمواته هكذا وقال بيده مثل القبة: وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه.
فبين عظمة العرش، وأنه فوق السموات مثل القبة. ثم بين تصاغره لعظمة الله، وأنه يئط به أطيط الرحل الجديد براكبه. فهذا فيه تعظيم العرش، وفيه أن الرب أعظم من ذلك. كما في الصحيحين عن النبي ﷺ قال: » أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني. وقال: لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن« ومثل هذا كثير.
وهذا وغيره يدل على أن الصواب في روايته النفي، وأنه ذكر عظمة العرش، وأنه مع هذه العظمة فالرب مستو عليه كله لا يفضل منه قدر أربعة أصابع. وهذه غاية ما يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان، كما يقدر في الميزان قدره فيقال: ما في السماء قدر كف سحابًا. فإن الناس يقدرون الممسوح بالباع والذراع، وأصغر ما عندهم الكف. فإذا أرادوا نفي القليل والكثير قدروا به، فقالوا: ما في السماء قدر كف سحابًا، كما يقولون في النفي العام: { إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } 44، و { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } 45، ونحو ذلك.
فبين الرسول أنه لا يفضل من العرش شيء، ولا هذا القدر اليسير الذي هو أيسر ما يقدر به، وهو أربع أصابع. وهذا معنى صحيح موافق للغة العرب، وموافق لما دل عليه الكتاب والسنة، وموافق لطريقة بيان الرسول، له شواهد. فهو الذي يجزم بأنه في الحديث.
ومن قال: ما يفضل إلا مقدار أربع أصابع، فما فهموا هذا المعنى، فظنوا أنه استثنى، فاستثنوا، فغلطوا. وإنما هو توكيد للنفي وتحقيق للنفي العام. وإلا فأي حكمة في كون العرش يبقى منه قدر أربع أصابع خالية، وتلك الأصابع أصابع من الناس، والمفهوم من هذا أصابع الإنسان. فما بال هذا القدر اليسير لم يستو الرب عليه؟
والعرش صغير في عظمة الله تعالى. وقد جاء حديث رواه ابن أبي حاتم في قوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } 46، لمعناه شواهد تدل على هذا. فينبغي أنا نعتبر الحديث، فنطابق بين الكتاب والسنة. فهذا هذا والله أعلم.
قال: حدثنا أبو زُرْعة، ثنا مِنْجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدرى، عن رسول الله ﷺ في قوله تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } 47، قال: «لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفًا واحدًا ما أحاطوا بالله أبدًا».
وهذا له شواهد، مثل ما في الصحاح في تفسير قوله تعالى: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } 48، قال ابن عباس: ما السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.
ومعلوم أن العرش لا يبلغ هذا، فإن له حملة وله حول، قال تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } 49.
وهذا قد بسط في موضع آخر في مسألة الإحاطة وغيرها. والله أعلم.
هامش
- ↑ [البقرة: 29]
- ↑ [البقرة: 210]
- ↑ [يونس: 3]
- ↑ [النمل: 26]
- ↑ [الشعراء: 47، 48]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [البقرة: 29]
- ↑ [يونس: 3]
- ↑ [طه: 5]
- ↑ [هو: العرق]
- ↑ [البقرة: 210]
- ↑ [هو أبو عبد الله مكحول بن أبي مسلم بن شاذل، الهذلي، فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث، ورحل في طلب الحديث إلى العراق فالمدينة وطاف كثيرًا واستقر في دمشق، وتوفي بها عام 211ه]
- ↑ [الأعراف: 137]
- ↑ [الأنعام: 141]
- ↑ [الشَّرْجَعُ: السرير]
- ↑ [هود: 7]
- ↑ [البقرة: 29]
- ↑ [يونس: 3]
- ↑ [البقرة: 210]
- ↑ [النحل: 33]
- ↑ [الفجر: 22]
- ↑ [الأنعام: 158]
- ↑ [هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، مفسر عالم بالحديث واللغة، من كبار الحنابلة، من أهل بغداد، قال الذهبي: جامع علم أحمد ومرتبه، من كتبه: تفسير الغريب، و طبقات أصحاب ابن حنبل وغيرهما]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [البقرة: 210]
- ↑ [المدثر: 31]
- ↑ [الإسراء: 85]
- ↑ [الزخرف: 3]
- ↑ [محمد: 24]
- ↑ [المؤمنون: 68]
- ↑ [محمد: 16]
- ↑ [البقرة: 140]
- ↑ [البقرة: 78]
- ↑ [النصر: 1]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [الفجر: 22]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الإسراء: 85]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الفرقان: 58]
- ↑ [الرحمن: 29]
- ↑ [هو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني، حافظ مؤرخ، جليل القدر، واسع الرواية، وصنف كتبًا كثيرة، ولد عام 383 وتوفي 470ه بأصبهان. قال الذهبي: له محاسن، وقالوا: إنه حاطب ليل يروى الغث والثمين]
- ↑ [النساء: 40]
- ↑ [فاطر: 13]
- ↑ [الأنعام: 103]
- ↑ [الأنعام: 103]
- ↑ [الزمر: 67]
- ↑ [غافر: 7]