مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق


فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق[عدل]

قوله تعالى في أول ما أنزل: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 1، وقوله: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } 2.

ذكر في الموضعين بالإضافة التي توجب التعريف، وأنه معروف عند المخاطبين، إذ الرب تعالى معروف عند العبد بدون الاستدلال بكونه خلق. وأن المخلوق مع أنه دليل وأنه يدل على الخالق، لكن هو معروف في الفطرة قبل هذا الاستدلال؛ ومعرفته فطرية، مغروزة في الفطرة، ضرورية، بديهية، أولية.

وقوله: { اقْرَأْ } وإن كان خطابًا للنبي أولا، فهو خطاب لكل أحد، سواء كان قوله: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } هو خطاب للإنسان مطلقًا، والنبي أول من سمع هذا الخطاب، أو من النوع، أو هو خطاب للنبي خصوصًا، كما قد قيل في نظائر ذلك.

مثل قوله: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } 3، قيل: خطاب له، وقيل: خطاب للجنس، وأمثال ذلك. فإنه وإن قيل: إنه خطاب له، فقد تقرر أن ما خوطب به من أمر ونهي فالأمة مخاطبة به ما لم يقم دليل التخصيص.

وبهذا يبين أن قوله تعالى: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } 4، يتناول غيره، حتى قال كثير من المفسرين: الخطاب لرسول الله ، والمراد به غيره. أي: هم الذين أريد منهم أن يسألوا لِمَا عندهم من الشك، وهو لم يرد منه السؤال إذ لم يكن عنده شك.

ولا شك أن هذا لا يمنع أن يكون هو مخاطبًا ومرادًا بالخطاب، بل هذا صريح اللفظ، فلا يجوز أن يقال: إن الخطاب لم يتناوله. ولأن ليس في الخطاب أنه أمر بالسؤال مطلقًا، بل أمر به إن كان عنده شك، وهذا لا يوجب أن يكون عنده شك. ولا أنه أمر به مطلقًا، بل أمر به إن كان هذا موجودًا، والحكم المعلق بشرط عدم عند عدمه.

وكذلك كثير من المفسيرين يقول في قوله: { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } 5، وفي قوله: { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَّ } 6، ونحو ذلك: إن الخطاب لرسول والمراد به غيره. أي: غيره قد يكون ممتريا ومطيعًا لأولئك فنهي، وهو لا يكون ممتريًا ولا مطيعًا لهم.

ولكن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فهو أيضا مخاطب بهذا، وهو منهي عن هذا. فالله سبحانه قد نهاه عما حرمه من الشرك، والقول عليه بلا علم، والظلم، والفواحش. وينهي الله له عن ذلك وطاعته لله في هذا استحق عظيم الثواب، ولولا النهي والطاعة لما استحق ذلك.

ولا يجب أن يكون المأمور المنهي ممن يشك في طاعته ويجوز عليه أن يعصى الرب، أو يعصيه مطلقًا ولا يطيعه، بل الله أمر الملائكة مع علمه أنهم يطيعونه، ويأمر الأنبياء مع علمه أنهم يطيعونه، وكذلك المؤمنون كل ما أطاعوه فيه قد أمرهم به مع علمه أنهم يطيعونه.

ولا يقال: لا يحتاج إلى الأمر، بل بالأمر صار مطيعًا مستحقًا لعظيم الثواب.

ولكن النهي يقتضي قدرته على المنهي عنه، وأنه لو شاء لفعله، ليثاب على ذلك إذا تركه. وقد يقتضي قيام السبب الداعي إلى فعله فينهي عنه، فإنه بالنهي وإعانة الله له على الامتثال يمتنع مما نهي عنه إذا قام السبب الداعي له إليه.

وكذلك قد قيل في قوله: { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } 7: إنه أمر للرسول، والمراد به هو والمؤمنون. وقيل: هو أمر لكل مكلف.

فقوله في هذه السورة: { اقْرَأْ }، كقوله في آخرها: { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } 8، وقوله: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } 9، هذا متناول لجميع الأمة. وقوله: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا } 10، فإنه كان خطابا للمؤمنين كلهم.

وكذلك قوله: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ } 11 لما أُمِرَ بتبليغ ما أنزل إليه من الإنذار. وهذا فرض على الكفاية. فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه وينذروا كما أنذر. قال تعالى: { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } 12 والجن لما سمعوا القرآن، { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } 13.

وإذا كان كذلك، فكل إنسان في قلبه معرفة بربه. فإذا قيل له: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } ، عرف ربه الذي هو مأمور أن يقرأ باسمه، كما يعرف أنه مخلوق، والمخلوق يستلزم الخالق ويدل عليه.

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن الإقرار والاعتراف بالخالق فطرى ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة. وهذا قول جمهور الناس، وعليه حُذَّاق النظار، أن المعرفة تارة تحصل بالضرورة، وتارة بالنظر. كما اعترف بذلك غير واحد من أئمة المتكلمين.

وهذه الآية أيضا تدل على أنه ليس النظر أول واجب، بل أول ما أوجب الله على نبيه : { ا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ }، لم يقل: انظر واستدل حتى تعرف الخالق.

وكذلك هو أول ما بلغ هذه السورة، فكان المبلغون مخاطبين بهذه الآية قبل كل شيء ولم يؤمروا فيها بالنظر والاستدلال.

وقد ذهب كثير من أهل الكلام إلى أن اعتراف النفس بالخالق وإثباتها له، لا يحصل إلا بالنظر.

ثم كثير منهم جعلوا ذلك نظرًا مخصوصًا، وهو النظر في الأعراض، وأنها لازمة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها.

قالوا: وما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث.

ثم منهم من اعتقد أن هذه المقدمة بينة بنفسها، بل ضرورية، ولم يميز بين الحادث المعين والمحدود وبين الجنس المتصل شيئًا بعد شيء؛ إما لظنه أن هذا ممتنع، أو لعدم خطوره بقلبه. لكن، وإن قيل هو ممتنع، فليس العلم بذلك بديهيًا.

وإنما العلم البديهي أن الحادث الذي له مبدأ محدود كالحادث والحوادث المقدرة من حين محدود فتلك ما لايسبقها فهو حادث. وما لا يخلو منها لم يسبقها فهو حادث. فإنه إذا لم يسبقها كان معها أو متأخرًا عنها. وعلى التقديرين فهو حادث.

وأما إذا قدر حوادث دائمة شيئًا بعد شيء، فهذا إما أن يقال: هو ممكن، وإما أن يقال: هو ممتنع. لكن العلم بامتناعه يحتاج إلى دليل، ولم تُعْلَم طائفة معروفة من العقلاء قالوا: إن العلم بامتناع هذا بديهي ضروري، ولا يفتقر إلى دليل.

بل كثير من الناس لا يتصور هذا تصورًا تامًا، بل متى تصور الحادث قدر في ذهنه مبدأ، ثم يتقدم في ذهنه شيء قبل ذلك، ثم شيء قبل ذلك، لكن إلى غايات محدودة بحسب تقدير ذهنه، كما يقدر الذهن عددًا بعد عدد، ولكن كل ما يقدره الذهن فهو منته.

ومن الناس من إذا قيل له: الأزل أو: كان هذا موجودًا في الأزل، تصور ذلك. وهذا غلط، بل الأزل ما ليس له أول، كما أن الأبد ليس له آخر، وكل ما يومئ إليه الذهن من غاية فالأزل وراءها. وهذا لبسطه موضع آخر.

والمقصود هنا أن هؤلاء الذين قالوا: معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا: لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام الجهمية القدرية ومن تبعهم. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه. إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة.

ثم هذا النظر هذا الدليل للناس فيه ثلاثة أقوال:

قيل: إنه واجب، وإن المعرفة موقوفة عليه، كما يقوله هؤلاء.

وقيل: بل يمكن حصول المعرفة بدونه، لكنه طريق آخر إلى المعرفة. وهذا يقوله كثير من هؤلاء ممن يقول بصحة هذه الطريقة لكن لا يوجبها؛ كالخطأبي والقاضى أبي يعلى، وأبي جعفر السمنانى قاضى الموصل شيخ أبي الوليد الباجي وكان يقول: إيجاب النظر بقية بقيت على الشيخ أبي الحسن الأشعري من الاعتزال. وهؤلاء الذين لا يوجبون هذا النظر.

ومنهم من لا يوجب النظر مطلقا كالسِّمْناني، وابن حزم وغيرهما.

ومنهم من يوجبه في الجملة، كالخطَّأبي، وأبي الفَرَج المقْدِسي.

والقاضى أبو يعلى يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، بل ويقول تارة بإيجاب النظر المعين، كما يقوله أبو المعالى وغيره.

ثم من الموجبين للنظر من يقول: هو أول الواجبات، ومنهم من يقول: بل المعرفة الواجبة به، وهو نزاع لفظى. كما أن بعضهم قال: أول الواجبات القصد إلى النظر، كعبارة أبي المعالى. ومن هؤلاء من قال: بل الشك المتقدم كما قاله أبو هاشم.

وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في موضع آخر، وبين أنها كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل أيضا.

وهذه الآية مما يستدل به على ذلك، فإن أول ما أوجب الله على رسوله وعلى المؤمنين هو ما أُمر به في قوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } .

والذين قالوا: المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، قالوا: لو حصلت بغيره لسقط التكليف بها، كما ذكر ذلك القاضى أبو بكر، وغيره.

فيقال لهم: وليس فيما قص الله علينا من أخبار الرسل أن منهم أحدًا أوجبها، بل هي حاصلة عند الأمم جميعهم. ولكن أكثر الرسل افتتحوا دعوتهم بالأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه كما أخبر الله عن نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وقومهم كانوا مقرين بالخالق لكن كانوا مشركين يعبدون غيره، كما كانت العرب الذين بعث فيهم محمد .

ومن الكفار من أظهر جحود الخالق، كفرعون حيث قال: { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } 14، وقال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } 15، وقال لموسى: { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } 16، وقال: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } 17.

ومع هذا، فموسى أمره الله أن يقول ما ذكره الله في القرآن، قال: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } 18. قال فرعون إنكارًا وجحدًا: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } 19، قال موسى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا } الآيات 20.

وقد ظن بعض الناس أن سؤال فرعون { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } ، هو سؤال عن ماهية الرب، كالذي يسأل عن حدود الأشياء فيقول: ما الإنسان؟ ما الملك؟ ما الجنى؟ ونحو ذلك. قالوا: ولما لم يكن للمسؤول عنه ماهية، عدل موسى عن الجواب إلى بيان ما يعرف به وهو قوله: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . وهذا قول قاله بعض المتأخرين وهو باطل.

فإن فرعون إنما استفهم استفهام إنكار وجَحْد، لم يسأل عن ماهية رب أقر بثبوته، بل كان منكرًا له جاحدًا؛ ولهذا قال في تمام الكلام: { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } 21، وقال: { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . فاستفهامه كان إنكارًا وجحدًا، يقول: ليس للعالمين رب يرسلك، فمن هو هذا؟ إنكارًا له.

فبين موسى أنه معروف عنده وعند الحاضرين، وأن آياته ظاهرة بينة لا يمكن معها جحده. وأنكم إنما تجحدون بألسنتكم ما تعرفونه بقلوبكم، كما قال موسى في موضع آخر لفرعون: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ } 22، وقال الله تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } 23.

ولم يقل فرعون: ومن رب العالمين؟ فإن "من" سؤال عن عينه يسأل بها من عرف جنس المسؤول عنه أنه من أهل العلم وقد شك في عينه، كما يقال لرسول عُرف إنه جاء من عند إنسان: من أرسلك؟

وأما "ما" فهي سؤال عن الوصف. يقول: أي شيء هو هذا؟ وما هو هذا الذي سميته رب العالمين؟ قال ذلك منكرًا له جاحدًا.

فلما سأل جحدا أجابه موسى بأنه أعرف من أن ينكر، وأظهر من أن يُشك فيه ويرتاب. فقال: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ } .

ولم يقل: موقنين بكذا وكذا، بل أطلق، فأى يقين كان لكم بشيء من الأشياء، فأول اليقين اليقين بهذا الرب، كما قالت الرسل لقومهم: { أَفِي اللهِ شَكٌّ } 24

وإن قلتم: لا يقين لنا بشيء من الأشياء، بل سلبنا كل علم، فهذه دعوى السفسطة العامة، ومدعيها كاذب ظاهر الكذب. فإن العلوم من لوازم كل إنسان، فكل إنسان عاقل لابد له من علم؛ ولهذا قيل في حد العقل: إنه علوم ضرورية، وهي التي لا يخلو منها عاقل.

فلما قال فرعون: { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } 25، وهذا من افتراء المكذبين على الرسول لما خرجوا عن عاداتهم التي هي محمودة عندهم نسبوهم إلى الجنون. ولما كانوا مظهرين للجحد بالخالق، أو للاسترابة والشك فيه. هذه حال عامتهم ودينهم، وهذا عندهم دين حسن، وإنما إلههم الذي يطيعونه فرعون، قال: { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ }

فبين له موسى أنكم الذين سلبتم العقل النافع، وأنتم أحق بهذا الوصف فقال: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }

فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق. فلما ذكر أولًا أن من أيقن بشيء فهو موقن به، واليقين بشيء هو من لوازم العقل، بين ثانيًا أن الإقرار به من لوازم العقل.

ولكن المحمود هو العلم النافع الذي يعمل به صاحبه، فإن لم يعمل به صاحبه قيل: إنه ليس له عقل. ويقال أيضا لمن لم يتبع ما أيقن به: إنه ليس له يقين. فإن اليقين أيضا يراد به العلم المستقر في القلب ويراد به العمل بهذا العلم. فلا يطلق: الموقن إلا على من استقر في قلبه العلم والعمل.

وقوم فرعون لم يكن عندهم اتباع لما عرفوه، فلم يكن لهم عقل ولا يقين. وكلام موسى يقتضي الأمرين: إن كان لك يقين فقد عرفته، وإن كان لك عقل فقد عرفته. وإن ادعيت أنه لا يقين لك ولا عقل لك، فكذلك قومك، فهذا إقرار منكم بسلبكم خاصية الإنسان.

ومن يكون هكذا، لا يصلح له ما أنتم عليه من دعوى الإلهية. مع أن هذا باطل منكم، فإنكم موقنون به، كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } 26.

ولكم عقل تعرفونه به، ولكن هواكم يصدكم عن اتباع موجب العقل، وهو إرادة العلو في الأرض والفساد. فأنتم لا عقل لكم بهذا الاعتبار، كما قال أصحاب النار: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } 27، وقال تعالى عن الكفار: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } 28.

قال تعالى عن فرعون وقومه: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } 29 والخفيف: هو السفيه الذي لا يعمل بعلمه، بل يتبع هواه. وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا أنه ليس في الرسل من قال أول ما دعا قومه: إنكم مأمورون بطلب معرفة الخالق، فانظروا واستدلوا حتى تعرفوه. فلم يكلفوا أولا بنفس المعرفة، ولا بالأدلة الموصلة إلى المعرفة، إذ كانت قلوبهم تعرفه وتقر به، وكل مولود يولد على الفطرة، لكن عرض للفطرة ما غيَّرها، والإنسان إذا ذكر ذكر ما في فطرته.

ولهذا قال الله في خطابه لموسى: { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } 30، ما في فطرته من العلم الذي به يعرف ربه، ويعرف إنعامه عليه، وإحسانه إليه، وافتقاره إليه، فذلك يدعوه إلى الإيمان، { أَوْ يَخْشَى } ما ينذره به من العذاب، فذلك أيضا يدعوه إلى الإيمان.

كما قال تعالى: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } 31، فالحكمة تعريف الحق، فيقبلها من قبل الحق بلا منازعة. ومن نازعه هواه وعظ بالترغيب والترهيب.

فالعلم بالحق يدعو صاحبه إلى اتباعه؛ فإن الحق محبوب في الفطرة، وهو أحب إليها. وأجل فيها، وألذ عندها من الباطل الذي لا حقيقة له؛ فإن الفطرة لا تحب ذاك.

فإن لم يدعه الحق والعلم به خوف عاقبة الجحود والعصيان، وما في ذلك من العذاب فالنفس تخاف العذاب بالضرورة. فكل حى يهرب مما يؤذيه بخلاف النافع.

فمن الناس من يتبع هواه، فيتبع الأدنى دون الأعلى. كما أن منهم من يكذب بما خوف به، أو يتغافل عنه، حتى يفعل ما يهواه. فإنه إذا صدق به واستحضره لم يبعث نفسه إلى هواها، بل لابد من نوع من الغفلة والجهل حتى يتبعه؛ ولهذا كان كل عاص لله جاهلا، كما قد بسط هذا في مواضع.

إذ المقصود هنا التنبيه على أن قوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } ، فيه تنبيه على أن الرب معروف عند المخاطبين، وأن الفطر مقرة به.

وعلى ذلك، دل قوله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } الآية 32، كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.

وكذلك قول الرسل: { أَفِي اللهِ شَكٌّ } 33، هو نفي، أي ليس في الله شك. وهو استفهام تقرير يتضمن تقرير الأمم على ما هم مقرون به من أنه ليس في الله شك، فهذا استفهام تقرير.

فإن حرف الاستفهام إذا دخل على حرف النفي كان تقريرًا، كقوله: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } 34، { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } 35، { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } 36، ومثله كثير. بخلاف استفهام فرعون، فإنه استفهام إنكار، لا تقرير؛ إذ ليس هناك إلا أداة الاستفهام فقط، ودل سياق الكلام على أنه إنكار.

فإن قيل: إذا كانت معرفته، والإقرار به ثابتًا في كل فطرة فكيف ينكر ذلك كثير من النظار نظار المسلمين وغيرهم وهم يَدَّعون أنهم الذين يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية؟.

فيقال أولا: أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمه من الجهمية والقدرية. وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم. ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية. فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك، إنما صدر أولا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين.

الثاني: أن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير شعور صاحبها بأنها قامت به. فوجود الشيء في الإنسان وغيره غير علم الإنسان به.

وهذا كصفات بدنه، فإن منها ما لا يراه كوجهه وقفاه. ومنها ما يراه إذا تعمد النظر إليه كبطنه وفخذه وعضديه. وقد يكون بهما آثار من خيلان وغير خيلان، وغير ذلك من الأحوال، وهو لم يره ولم يعرفه، لكن لو تعمد رؤيته لرآه. ومن الناس من لا يستطيع رؤية ذلك لعارض عرض لبصره من العشى أو العمى، أو غير ذلك.

كذلك صفات نفسه قد يعرف بعضها، وبعضها لا يعرفه. لكن لو تعمد تأمل حال نفسه لعرفه. ومنها ما لا يعرفه ولو تأمل لفساد بصيرته وما عرض لها.

والذي يبين ذلك: أن الأفعال الاختيارية لا تتصور إلا بإرادة تقوم بنفس الإنسان. وكل من فعل فعلا اختياريًا وهو يعرفه فلابد أن يريده، كالذي يأكل ويشرب ويلبس وهو يعرف أنه يفعل ذلك، فلابد أن يريده. فالفعل الاختياري يمتنع أن يكون بغير إرادة. وإذا تصور الفعل الذي يفعله وقد فعله لزم أن يكون مريدًا له وقد تصوره. وإذا كان مريدًا له وقد تصوره امتنع ألا يريد ما تصوره وفعله.

فالإنسان، إذا قام إلى صلاة يعلم أنها الظُّهر، فمن الممتنع أن يصلى الظهر وهو يعلم هذا لم ينسه ولا يريد صلاة الظهر.

وكذلك الصيام إذا تصور أن غدًا من رمضان وهو مريد لصوم رمضان امتنع ألا ينوي صومه.

وكذلك إذا أهل بالحج وهو يعلم أنه مهل به امتنع ألا يكون مريدًا للحج.

وكذلك الوضوء إذا علم أنه يتوضأ للصلاة وهو يتوضأ امتنع ألا يكون مريدًا للوضوء. ومثل هذا كثير؛ نجد خلقًا كثيرًا من العلماء دع العامية يستدعون النية بألفاظ يقولونها ويتكلفون ألفاظًا، ويشكون في وجودها مرة بعد مرة، ويخرجون إلى ضرب من الوسوسة التي يشبه أصحابها المجانين.

والنية: هي الإرادة، وهي القصد، وهي موجودة في نفوسهم لوجودها في نفس كل من يصلى في ذلك المسجد والجامع، ومن توضأ في تلك المطهرة. أولئك يعلمون هذا من نفوسهم ولم يحصل لهم وسواس، وهؤلاء ظنوا أن النية لم تكن في قلوبهم يطلبون حصولها من قلوبهم.

وهم يعلمون أن التلفظ بها ليس بواجب، وإنما الفرض وجود الإرادة في القلب وهي موجودة ومع هذا يعتقدون أنها ليست موجودة. وإذا قيل لأحدهم: النية حاصلة في قلبك لم يقبل لما قام به من الاعتقاد الفاسد المناقض لفطرته.

وكذلك حب الله ورسوله موجود في قلب كل مؤمن، لا يمكنه دفع ذلك من قلبه إذا كان مؤمنًا. وتظهر علامات حبه لله ولرسوله إذا أخذ أحد يسب الرسول ويطعن عليه، أو يسب الله ويذكره بما لا يليق به. فالمؤمن يغضب لذلك أعظم مما يغضب لو سب أبوه وأمه.

ومع هذا، فكثير من أهل الكلام والرأى أنكروا محبة الله، وقالوا: يمتنع أن يكون محبًا أو محبوبًا، وجعلوا هذا من أصول الدين، وقالوا: خلافًا للحلولية، كأنه لم يقل بأن الله يحب إلا الحلولية. ومعلوم: أن هذا دين الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وأهل الإيمان أجمعين. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، كما قد بسطناه في مواضع.

فهذه المحبة لله ورسوله موجودة في قلوب أكثر المنكرين لها، بل في قلب كل مؤمن وإن أنكرها لشبهة عرضت له.

وهكذا المعرفة موجودة في قلوب هؤلاء. فإن هؤلاء الذين أنكروا محبته هم الذين قالوا: معرفته لا تحصل إلا بالنظر، فأنكروا ما في فطرهم وقلوبهم من معرفته، ومحبته.

ثم قد يكون ذلك الإنكار سببًا إلى امتناع معرفة ذلك في نفوسهم وقد يزول عن قلب أحدهم ما كان فيه من المعرفة والمحبة فإن الفطرة قد تفسد فقد تزول، وقد تكون موجودة ولا ترى { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } 37.

وقد قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } 38.

وفي الصحيحين، عن النبي أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } 39.

والفطرة تستلزم معرفة الله، ومحبته، وتخصيصه بأنه أحب الأشياء إلى العبد وهو التوحيد. وهذا معنى قول: لا إله إلا الله، كما جاء مفسرًا: «كل مولود يولد على هذه الملة»، وروي: «على ملة الإسلام».

وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار؛ أن النبي قال: «يقول الله تعالى: إنى خلقت عبادى حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وَحَرْمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهم، وأَمَرَتْهُمْ أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا».

فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب، ومحبته، وتوحيده. فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول: «لا إله إلا الله».

فإن في هذه الكلمة الطيبة التي هي { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء } 40، فيها إثبات معرفته والإقرار به. وفيها إثبات محبته، فإن الإله هو المألوه الذي يستحق أن يكون مألوهًا؛ وهذا أعظم ما يكون من المحبة. وفيها أنه لا إله إلا هو. ففيها المعرفة، والمحبة، والتوحيد.

وكل مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها. ولكن أبواه يفسدان ذلك فيهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، ويشركانه.

كذلك يجهمانه فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده. ثم المعرفة يطلبها بالدليل، والمحبة ينكرها بالكلية. والتوحيد المتضمن للمحبة ينكره من لا يعرفه، وإنما ثبت توحيد الخلق، والمشركون كانوا يُقرون بهذا التوحيد وهذا الشرك.

فهما يُشرّكانه، ويُهودانه، ويُنصرانه، ويُمجسانه. وقد بسط الكلام على هذا الحديث وأقوال الناس فيه في غير هذا الموضع.

وأيضا، مما يبين أن الإنسان قد يخفي عليه كثير من أحوال نفسه، فلا يشعر بها. إن كثيرًا من الناس يكون في نفسه حب الرياسة كامن لا يشعر به، بل إنه مخلص في عبادته وقد خفيت عليه عيوبه، وكلام الناس في هذا كثير مشهور؛ ولهذا سميت هذه: الشهوة الخفية.

قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرياسة. فهي خفية تخفي على الناس، وكثيرًا ما تخفي على صاحبها.

بل كذلك حب المال والثروة، فإن الإنسان قد يحب ذلك ولا يدرى. بل نفسه ساكنة ما دام ذلك موجودًا، فإذا فقده ظهر من جزع نفسه وتلفها ما دل على المحبة المتقدمة. والحب مستلزم للشعور، فهذا شعور من النفس بأمور وجب لها. والإنسان قد يخفي ذلك عليه من نفسه. لا سيما والشيطان يغطى على الإنسان أمورًا.

وذنوبه أيضا تبقى رينًا على قلبه قال تعالى: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } 41. وفي الترمذي وغيره عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ عن النبي أنه قال: «إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء. فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه. فذلك الران الذي قال الله: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } » قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ومنه قوله تعالى: { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ } 42

وقال: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } 43. فالمتقون إذا أصابهم هذا الطيف الذي يطيف بقلوبهم يتذكرون ما علموه قبل ذلك، فيزول الطيف ويبصرون الحق الذي كان معلومًا، ولكن الطيف يمنعهم عن رؤيته.

قال تعالى: { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } 44. فإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في غيهم، { ثٍمَّ لا يٍقًصٌرٍونّ } ، لا تقصر الشياطين عن المدد والإمداد، ولا الإنس عن الغى. فلا يبصرون مع ذلك الغى ما هو معلوم لهم، مستقر في فطرهم، لكنهم ينسونه.

ولهذا كانت الرسل إنما تأتى بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته، وإمداده، ونفي المغير للفطرة. فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والكمال يحصل بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة.


هامش

  1. [العلق: 1]
  2. [العلق: 3]
  3. [النساء: 79]
  4. [يونس: 94]
  5. [البقرة: 147]
  6. [الأحزاب: 48]
  7. [البقرة: 211]
  8. [العلق: 19]
  9. [الضحى: 9 11]
  10. [المزمل: 1، 2]
  11. [المدثر: 1، 2]
  12. [التوبة: 122]
  13. [الأحقاف: 29]
  14. [القصص: 38]
  15. [النازعات: 24]
  16. [الشعراء: 29]
  17. [غافر: 36، 37]
  18. [الشعراء: 10 - 21]
  19. [الشعراء: 23]
  20. [الشعراء: 24 28]
  21. [الشعراء: 29]
  22. [الإسراء: 102]
  23. [النمل: 14]
  24. [إبراهيم: 10]
  25. [الشعراء: 27]
  26. [النمل: 14]
  27. [الملك: 10]
  28. [الفرقان: 44]
  29. [الزخرف: 54]
  30. [طه: 44]
  31. [النحل: 125]
  32. [الأعراف: 172]
  33. [إبراهيم: 10]
  34. [الشرح: 1]
  35. [البلد: 8]
  36. [التوبة: 70]
  37. [الحج: 46]
  38. [الروم: 30، 31]
  39. [الروم: 30]
  40. [إبراهيم: 24]
  41. [المطففين: 14، 15]
  42. [البقرة: 88]
  43. [الأعراف: 102]
  44. [الأعراف: 202]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس عشر
سورة الزمر | فصل في تفسير قوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه | فصل في السماع | فصل في تفسير قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع | فصل في تفسير قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله | سورة الشورى | فصل في بعض ما يتعلق بقوله تعالى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون | سورة الزخرف | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم | سورة الأحقاف | سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة | سورة ق | سئل رحمه الله عن تفسير قوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد | سورة المجادلة | فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات | سورة الطلاق | فصل في تفسير قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | فصل في تفسير قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | سورة التحريم | سئل رحمه الله عن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا | سورة الملك | تفسير قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير | سورة القلم | فصل في تفسير سورة ن | فصل في كلام جماعة من الفضلاء في تفسير قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه | سورة التكوير | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت | قول لشيخ الإسلام في تفسير قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين | سورة الأعلى | فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له | فصل في كون ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين | فصل في وصف الله نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم | فصل في الذين يصفون الله تعالى بالعلو والسفول | فصل في تفسير معنى الأعلى | فصل في الأمر بتسبيح الله يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى | فصل في قوله تعالى الذي خلق فسوى | فصل في إذا خلق الله المخلوق فسواه، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد | فصل في تفسير قوله سبحانه والذي قدر فهدى | فصل في تفسير قوله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى | فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى | فصل في تفسير قوله تعالى سيذكر من يخشى | فصل في الكلام على قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب | فصل في قوله تعالى في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى | فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب | فصل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره | فصل في قوله تعالى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى | فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور | فصل في قيام إبراهيم وموسى بأصل الدين | فصل في إثبات أهل السنة والجماعة لما أثبته المرسلون من تكليم الله | سورة الغاشية | فصل في تفسير قوله تعالى هل أتاك حديث الغاشية | سورة البلد | قول شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين | سورة الشمس | فصل في قوله والشمس وضحاها | فصل في إذا كان الضلال في القدر حصل تارة بالتكذيب بالقدر والخلق | سورة العلق | فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين | فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة | فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام | فصل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملا، وتارة مفصلا | فصل في تفسير قوله تعالى اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم | فصل في كون الرسول هدى ورحمة للعالمين | فصل في تفسير قوله تعالى الأكرم | فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق | فصل في نسيان الإنسان | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق خلق الإنسان من علق | فصل في إثبات صفات الكمال لله | فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق | فصل في أول آية نزلت من القرآن | فصل في أن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه | فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء | فصل في تبيين الرسول الأصول الموصلة إلى الحق | فصل في ما ينبغي أن يعرف | فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله | فصل في أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة | فصل في أن السور القصار في أواخر المصحف متناسبة | سورة البينة | فصل في تفسير قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة | فصل في قوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة | سورة التكاثر | فصل في تفسير سورة التكاثر | سورة الهمزة | فصل في تفسير قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة | سورة الكوثر | قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في تفسير سورة الكوثر | سورة الكافرون | فصل في تفسير سورة قل يا أيها الكافرون | فصل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد | فصل في النزاع في قوله قل يا أيها الكافرون | فصل في نظير القول في قل يا أيها الكافرون | فصل في قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون في مجيء الخطاب فيها بما | سورة تبت