مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب
فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب
[عدل]وأما قوله تعالى: { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ } 1، فهو حق كما قال. فإن المتذكر إما أن يتذكر ما يدعو إلى الرحمة والنعمة والثواب كما يتذكر الإنسان ما يدعوه إلى السؤال فينيب، وإما أن يتذكر ما يقتضى الخوف والخشية فلابد له من الإنابة حينئذ لينجو مما يخاف.
ولهذا قيل في فرعون: { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } فينيب، { أَوْ يَخْشَى }. وكذلك قال له موسى { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } 2، فجمع موسى بين الأمرين لتلازمهما.
وقال في حق الأعمى: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } 3. فذكر الانتفاع بالذكرى، كما قال: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } 4.
والنفع نوعان: حصول النعمة، واندفاع النقمة. ونفس اندفاع النقمة نفع وإن لم يحصل معه نفع آخر، ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع. فالنفع تدخل فيه الثلاثة، والثلاثة تحصل بالذكرى، كما قال تعالى { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ، وقال: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } .
وأما ذكر التزكي مع التذكر فهو كما ذكر في قصة فرعون الخشية مع التذكر. وذلك أن التزكي هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية، كما قال في هذه السورة: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } 5، وقال: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } 6، وقال: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } 7، وقال: { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } 8، وقال موسى لفرعون: { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } 9.
وعطف عليه: { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } ، لوجوه:
أحدها: أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول وإن كان صاحبه لا يتذكر علومًا عنه كما قال: { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ، ثم قال: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } . فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم. وكذلك التزكي عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها، فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه.
الوجه الثاني: أن قوله: { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } 10 يدخل فيه النفع، قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك.
الثالث: أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا، فتزكى. فذكر الحكم وذكر سببه. ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر.
فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمعه من الرسول، كما قال: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } 11. فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر.
وهو إذا تذكر فإنه ينتفع، وقد تتم المنفعة، فيتزكى.
وقوله: { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } 12، فيه أيضا نحو هذه الوجوه.
فإن الشاكر قد يشكر الله على نعمه وإن لم يخف، والتذكر قد يقتضى الخشية.
وأيضا، فإن التذكر يقتضي الخوف من العقاب وطلب الثواب فيعمل للمستقبل، والشكر على النعم الماضية.
وأيضا، فالتذكر تذكر علوم سابقة، ومنها تذكر نعم الله عليه، فهو سبب للشكر. تذكر السبب والمسبب.
وأيضا، فإن الشكر يقتضى المزيد من النعم، والتذكر قد يكون لهذا، وقد يكون خوفا من العذاب.
وقد يكون الأمر بالعكس، فالشاكر قد يشكر الشكر الواجب لئلا يكون كفورًا فيعاقب على ترك الشكر بسلب النعمة وعقوبات أخر، والمتذكر قد يتذكر ما أعده الله لمن أطاعه فيطيعه طلبًا لرحمته.
وأيضا، فالتذكر قد يكون لفعل الواجبات التي يدفع بها العقاب، والشكور يكون للمزيد من فضله، كما في الصحيحين أن النبي ﷺ قام حتى تورمت قدماه. فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ ».
وقال ﷺ لا يتمنين أحدُكُم الموت: إما محسن فيزداد إحسانا، وإما مسيئًا فلعله أن يُسْتَعْتَب». فالمؤمن دائمًا في نعمة من ربه تقتضى شكرًا، وفي ذنب يحتاج إلى استغفار.
وهو في سيد الاستغفار يقول: «أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
وقد علم تحقيق قوله: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } 13، فما أصابه من الحسنات هي نعم الله فتقتضى شكرًا، وما أصابه من المصائب فبذنوبه تقتضى تذكرًا لذنوبه يوجب توبة واستغفارًا.
وقد جعل الله { اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } 14، فيتوب ويستغفر من ذنوبه، { أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } 15، لربه على نعمه. وكل ما يفعله الله بالعبد من نعمة، وكل ما يخلفه الله، فهو نعمة الله عليه. فكلما نظر إلى ما فعله ربه شكر، وإذا نظر إلى نفسه استغفر.
والتذكر قد يكون تذكر ذنوبه وعقاب ربه. وقد يدخل فيه تذكر آلائه ونعمه، فإن ذلك يدعو إلى الشكر. قال تعالى: { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ } 16، في غير موضع، فقد أمر بذكر نعمه. فالمتذكر يتذكر نعم ربه، ويتذكر ذنوبه.
وأيضا، فهو ذكر الشكور؛ لأنه مقصود لنفسه، فإن الشكر ثابت في الدنيا والآخرة. وذكر التذكر؛ لأنه أصل للاستغفار، والشكر، وغير ذلك. فذكر المبدأ وذكر النهاية. وهذا المعنى يجمع ما قيل. والله سبحانه أعلم.
هامش
- ↑ [غافر: 13]
- ↑ [النازعات: 18، 19]
- ↑ [عبس: 3، 4]
- ↑ [الذاريات: 55]
- ↑ [الأعلى: 14، 15]
- ↑ [الشمس: 9، 10]
- ↑ [الجمعة: 2]
- ↑ [فصلت: 6، 7]
- ↑ [النازعات: 18، 19]
- ↑ [عبس: 4]
- ↑ [الأعلى: 10]
- ↑ [الفرقان: 62]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [الفرقان: 62]
- ↑ [الفرقان: 62]
- ↑ [آل عمران: 103]