البداية والنهاية/الجزء التاسع/محمد بن سيرين
أبو بكر بن أبي عمرو الأنصاري، مولى أنس بن مالك النضري، كان أبوه من سبي عين التمر، أسره في جملة السبي خالد بن الوليد فاشتراه أنس ثم كاتبه.
وقد ولد له من الأخيار جماعة: محمد هذا، و أنس بن سيرين، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وكريمة، وكلهم تابعيون ثقات أجلاء، رحمهم الله تعالى.
قال البخاري: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.
وقال هشام بن حسان: هو أصدق من أدركت من البشر.
وقد تقدم هذا كله فيما ذكره المؤلف.
كان ابن سيرين إذا ذكر عنده رجل بسوء ذكره بأحسن ما يعلم.
وقال خلف بن هشام: كان محمد بن سيرين قد أعطى هديا وسمتا وخشوعا، وكان الناس إذا رأوه ذكروا الله.
ولما مات أنس بن مالك أوصى أن يغسله محمد بن سيرين - وكان محمد محبوسا - فقالوا له في ذلك، فقال: أنا محبوس، فقالوا: قد استأذنا الأمير في إخراجك، قال: إن الأمير لم يحبسني، إنما حبسني من له الحق، فأذن له صاحب الحق فغسله.
وقال يونس: ما عرض لمحمد بن سيرين أمران إلا أخذ بأوثقهما في دينه.
وقال: إني لأعلم الذنب الذي حملت بسببه، إني قلت يوما لرجل: يا مفلس، فذكر هذا لأبي سليمان الداراني فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا. ومثلنا قد كثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتى، ولا بأي ذنب نؤخذ.
وكان إذا دعي إلى وليمة يدخل منزله فيقول: ايتوني بشربة سويق فيشربها ويقول: إني أكره أن أحمل جوعي إلى موائدهم وطعامهم.
وكان يدخل السوق نصف النهار فيكبر الله ويسبحه ويذكره ويقول: إنها ساعة غفلة الناس.
وقال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه.
وقال: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم منه وتكتم خيره.
وقال: العزلة عبادة، وكان إذا ذكر الموت مات منه كل عضو على حدته.
وفي رواية: كان يتغير لونه وينكر حاله، حتى كأنه ليس بالذي كان.
وكان إذا سئل عن الرؤيا قال للسائل: اتق الله في اليقظة، ولا يغرك ما رأيت في المنام.
وقال له رجل: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون، فقال: فتش على امرأتك فإنها أمك، ففتش فإذا هي أمه.
وذلك أن الرجل أخذ من بلاده صغيرا سبيا ثم مكث في بلاد الإسلام إلى أن كبر، ثم سبيت أمه فاشتراها جاهلا أنها أمه، فلما رأى هذه الرؤيا وذكرها لابن سيرين فأمره أن يفتش على ذلك، ففتش فوجد الأمر على ما ذكره.
وقال له آخر: رأيت كأني دست - أو قال: وطئت - تمرة فخرجت منها فأرة، فقال له: تتزوج امرأة - أو قال: تطأ امرأة - صالحة تلد بنتا فاسقة، فكان كما قال.
وقال له آخر: رأيت كأن على سطح بيتي حبات شعير فجاء ديك فلقطها، فقال له: إن سرق لك شيء في هذه الأيام فأتني، فوضعوا بساطا على سطحهم، فسرق فجاء إليه فأخبره، فقال: اذهب إلى مؤذن محلتك فخذه منه، فجاء إلى المؤذن فأخذ البساط منه.
وقال له رجل: رأيت الحمام تلقط الياسمين، فقال: مات علماء البصرة.
وأتاه رجل فقال: رأيت رجلا عريانا واقفا على مزبلة وبيده طنبور يضرب به، فقال له ابن سيرين: لا تصلح هذه الرؤيا في زماننا هذا إلا للحسن البصري، فقال الحسن: هو والله الذي رأيت !
فقال: نعم، لأن المزبلة الدنيا وقد جعلها تحت رجليه، وعريه تجرده عنها، والطنبور يضرب به هي المواعظ التي يقرع بها آذان الناس.
وقال له آخر: رأيت كأني أستاك والدم يسيل !
فقال له: أنت رجل تقع في أعراض الناس وتأكل لحومهم وتخرج في بابه وتأتيه.
وقال له آخر: رأيت كأني أرى اللؤلؤ في الحمأة !
فقال له: أنت رجل تضع القرآن والعلم عند غير أهله ومن لا ينتفع به.
وجاءته امرأة فقالت: رأيت كان سنورا أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال لها ابن سيرين: سرق لزوجك ثلاثمائة درهم وستة عشر درهما.
فقالت: صدقت من أين أخذته؟
فقال: من هجاء حروفه وهي حساب الجمل، فالسين ستون، والنون خمسون، والواو ستة، والراء مائتان، وذلك ثلاثمائة وستة عشر.
وذكرت السنور أسود فقال: هو عبد في جواركم، فالزموا عبدا أسود كان في جوارهم، وضرب فأقر بالمال المذكور.
وقال له رجل: رأيت لحيتي قد طالت وأنا أنظر إليها.
فقال له: أمؤذن أنت؟
قال: نعم !
قال له: اتق الله، ولا تنظر إلى دور الجيران.
وقال له أخر: رأيت كان لحيتي قد طالت حتى جززتها ونسجتها كساء وبعته في السوق.
فقال له: اتق الله فإنك شاهد زور.
وقال له آخر: رأيت كأني آكل أصابعي، فقال له: تأكل من عمل يدك.
وقال لرجل: انظر هل ترى في المسجد أحدا؟ فذهب فنظر ثم رجع إليه فقال: ليس في المسجد أحد، فقال: أليس أمرتك أن تنظر هل ترى أحد قد يكون في المسجد من الأمراء؟.
وقال عن رجل ذكر له: ذلك الأسود؟ ثم قال: استغفر الله ! ما أراني إلا قد اغتبت الرجل - وكان الرجل أسود -.
وقال: اشترك سبعة في قتل امرأة فقتلهم عمر، فقال: لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتلها لأبدت خضرائهم.