البداية والنهاية/الجزء التاسع/ذكر سبب وفاته رحمه الله
كان سببها السل، وقيل: سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب، وأعطى على ذلك ألف دينار، فحصل له بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم، فقال: لقد علمت يوم سقيت السّم، ثم استدعى مولاه الذي سقاه، فقال له: ويحك !! ما حملك على ما صنعت؟ فقال: ألف دينار أعطيتها. فقال: هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك، ثم قيل لعمر: تدارك نفسك، فقال: والله لو أنّ شفائي أن أمسّ شحمة أذني، أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت، فقيل له: هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا توصي لهم بشيء فإنهم فقراء؟ فقال: { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [الأعراف: 196] والله لا أعطيتهم حق أحد وهم بين رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فسقه.
وفي رواية: فلا أبالي في أي واد هلك.
وفي رواية: أفأدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت؟ ما كنت لأفعل.
ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام، ثم قال: انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.
قال: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك - مع كثرة ما ترك لهم من الأموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لأن عمر وكَّل ولده إلى الله عز وجل، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قيل لعمر بن عبد لعزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتا دفنت في القبر الرابع مع رسول ﷺ وأبي بكر وعمر، فقال: و الله لأن يعذبني الله بكل عذاب، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها، أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل.
قالوا: وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص، وكانت مدة مرضه عشرين يوما، ولما احتضر قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاثا، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته.
وفي رواية أنه قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحبا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83] ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوي إلى القبلة وقبض.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن الدراوردي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح شديدة فسقطت صحيفة بأحسن كتاب، فقرأوها فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، فأدخلوها بين أكفانه، ودفنوها معه.
وروى نحو هذا من وجه آخر ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل بسنده، عن عمير بن حبيب السلمي، قال: أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية، فأمر ملك الروم بضرب رقابنا، فقتل أصحابي وشفع في بطريق من بطارقة الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنة مثل الشمس، فعرضها علي على أن يقاسمني نعمته وأدخل معه في دينه فأبيت، وخلت بي ابنته، فعرضت نفسها علي فامتنعت، فقالت: ما يمنعك من ذلك؟ فقلت: يمنعني ديني، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشيء. فقالت: تريد الذهاب إلى بلادك؟ قلت: نعم، فقالت: سر على هذا النجم بالليل واكمن بالنهار، فإنه يلقيك إلى بلادك، قال: فسرت كذلك، قال: فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن إذا بخيلٍ مقبلةٍ، فخشيت أن تكون في طلبي، فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا ومعهم آخرون على دواب شهب، فقالوا: عمير؟ فقلت: عمير. فقلت لهم: أوليس قد قتلتم، قالوا: بلى، ولكن الله عز وجل نشر الشهداء وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز، قال: ثم قال لي بعضهم: ناولني يدك يا عمير، فأردفني فسرنا يسيرا ثم قذف بي قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة، من غير أن يكون لحقني شر.
وقال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إلي أن أغسله وأكفنه، فإذا حللت عقدة الكفن أن أنظر في وجهه فأدلي، ففعلت فإذا وجهه مثل القراطيس بياضا، وكان قد أخبرني أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء وكان يحل عن وجوههم فإذا هي مسودة.
وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السماء كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، ساقه من طريق إبراهيم بن بشار، عن عباد بن عمرو، عن محمد بن يزيد البصري، عن يوسف بن ماهك، فذكره وفيه غرابة شديدة، والله أعلم.
وقد رئيت له منامات صالحة، وتأسف عليه الخاصة والعامة، لا سيما العلماء والزهاد والعباد، ورثاه الشعراء، فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني لكثير عزة يرثي عمر:
عمت صنائعه فعم هلاكه * فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد * في كل دار رنة وزفير
يثني عليك لسان من لم توله * خيرا لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه عليه حياته * فكأنه من نشرها منشور
وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا * يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاضطلعت به * وسرت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس كاسفة ليست بطالعة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقال محارب بن دثار رحمه الله يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
لو أعظم الموت خلقا أن يواقعه * لعدله لم يصبك الموت يا عمر
كم من شريعة عدل قد نعشت لهم * كادت تموت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي * على العدول التي تغتالها الحفر
ثلاثة ما رأت عيني لهم شبها * تضم أعظمهم في المسجد الحفر
وأنت تتبعهم لم تأل مجتهدا * سقيا لها سنن بالحق تفتقر
لو كنت أملك والأقدار غالبة * تأتي روحا وتبيانا وتبتكر
صرفت عن عمر الخيرات مصرعه * بدير سمعان لكن يغلب القدر
قالوا: وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، يوم الخميس، وقيل: الجمعة لخمس مضين، وقيل: بقين من رجب، وقيل: لعشر بقين منه، سنة إحدى، وقيل: ثنتين ومائة، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل: صلى عليه يزيد بن عبد الملك، وقيل: ابنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان عمره يوم مات تسعا وثلاثين سنة وأشهرا، وقيل: أنه جاوز الأربعين بأشهر، وقيل: بسنة، وقيل: بأكثر، وقيل: أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وقيل: ستا وثلاثين، وقيل: سبعا وثلاثين، وقيل: ثمانيا وثلاثين سنة، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين ولم يبلغها.
وقال أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر: مات على رأس خمس وأربعين سنة.
قال ابن عساكر: وهذا وهم، والصحيح الأول تسعا وثلاثين سنة وأشهرا.
وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل: أربعة عشر يوما، وقيل: سنتان ونصف.
وكان رحمه الله أسمر دقيق الوجه حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر شجة، وكان قد شاب وخضب رحمه الله، والله سبحانه أعلم.