البداية والنهاية/الجزء التاسع/فصل خطبة الحجاج لأهل العراق
قد ذكرنا كيفية دخول الحجاج الكوفة في سنة خمس وسبعين وخطبته إياهم بغتة، وتهديده ووعيده إياهم، وأنهم خافوه مخافةً شديدةً، وأنه قتل عمير بن ضابئ، وكذلك قتل كُميل بن زياد صبرا، ثم كان من أمره في قتال ابن الأشعث ما قدمنا، ثم تسلط على من كان معه من الرؤساء والأمراء والعباد والقراء، حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بن جبير.
قال القاضي المعافى زكريا: ثنا أحمد بن محمد بن سعد الكلبي، ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا محمد - يعني ابن عبد الله بن عباس -، عن عطاء - يعني ابن مصعب -، عن عاصم، قال: خطب الحجاج أهل العراق بعد دير الجماجم، فقال: يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم، والعصب والمسامع، والأطراف، ثم أفضى إلى الأسماخ والأمخاخ، والأشباح والأرواح، ثم ارتع فعشش، ثم باض وفرخ، ثم دب ودرج، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافا، اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤتمنا تشاورونه وتستأمرونه، فكيف تنفعكم تجربة، أو ينفعكم بيان؟
ألستم أصحابي بالأهواز حيث منيتم المكر، واجتمعتم على الغدر، واتفقتم على الكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا والله أرميكم بطرفي، وأنتم تتسللون لواذا، وتنهزمون سراعا.
ويوم الزاوية وما يوم الزاوية، مما كان من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم، ونكوس قلوبكم إذ وليتم كالإبل الشاردة عن أوطانها النوازع، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حين عضكم السلاح، ونخعتكم الرماح.
ويوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم، بها كانت المعارك والملاحم:
بضرب يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
يا أهل العراق، يا أهل الكفران بعد الفجران، والغدران بعد الخذلان، والنزوة بعد النزوات، إن بعثناكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون نعمة، ولا تشكرون معروفا، ما استخفكم ناكث، ولا استغواكم غاو، ولا استنقذكم عاصٍ، ولا استنصركم ظالم، ولا استعضدكم خالع، إلا لبيتم دعوته، وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافا وثقالا، وفرسانا ورجالا.
يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر، إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟
يا أهل العراق، ألم تنفعكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته، ويذقكم حر سيفه، وأليم بأسه ومثلاته؟
ثم التفت إلى أهل الشام فقال: يا أهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنه القذر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذباب.
يا أهل الشام ! أنتم الجنة والبرد، وأنتم الملاءة والجلد، أنتم الأولياء والأنصار، والشعار والدثار، بكم يذب عن البيضة والحوذة، وبكم ترمي كتائب الأعداء، ويهزم من عاند وتولى.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا عبيد الله بن محمد التميمي: سمعت شيخا من قريش يكنى أبا بكر التيمي، قال: كان الحجاج يقول في خطبته - وكان لسنا -: إن الله خلق آدم وذريته من الأرض فأمشاهم على ظهرها، فأكلوا ثمارها، وشربوا أنهارها، وهتكوها بالمساحي والمرور، ثم أدال الله الأرض منهم فردهم إليها، فأكلت لحومهم كما أكلوا ثمارها، وشربت دمائهم كما شربوا أنهارها، وقطعتهم في جوفها وفرقت أوصالهم كما هتكوها بالمساحي والمرور.
ومما رواه غير واحد، عن الحجاج، أنه قال في خطبته في المواعظ: الرجل وكلكم ذاك الرجل، رجل خطم نفسه وزمها فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وكفها بزمامها عن معاصي الله، رحم الله امرءا رد نفسه، امرءا اتهم نفسه، امرءا اتخذ نفسه عدوة، امرءا حاسب نفسه قبل أن يكون الحساب إلى غيره، امرءا نظر إلى ميزانه، امرءا نظر إلى حسابه، امرءا وزن عمله، امرءا فكر فيما يقرأ غدا في صحيفته ويراه في ميزانه، وكان عند قلبه زاجرا، وعند همه آمرا، امرءا أخذ بعنان عمله كما يأخذ بعنان جمله، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كف، امرءا عقل عن الله أمره، امرءا فاق واستفاق، وأبغض المعاصي والنفاق، وكان إلى ما عند الله بالأشواق. فما زال يقول: امرءا امرءا، حتى بكى مالك بن دينار.
وقال المدائني: عن عوانه بن الحكم، قال: قال الشعبي: سمعت الحجاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، يقول: أما بعد، فإن الله تعالى كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء. فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل.
وقال المدائني: عن أبي عبد الله الثقفي، عن عمه، قال: سمعت الحسن البصري يقول: وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج، سمعته يقول على هذه الأعواد: إن امرءا ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحريٌّ أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة.
وقال شريك القاضي، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال الحجاج يوما: من كان له بلاء أعطيناه على قدره، فقام رجل فقال: أعطني فإني قتلت الحسين، فقال: وكيف قتلته؟ قال: دسرته بالرمح دسرا، وهبرته بالسيف هبرا، وما أشركت معي في قتله أحدا. فقال: اذهب فوالله لا تجتمع أنت وهو في موضع واحد، ولم يعطه شيئا.
وقال الهيثم بن عدي: جاء رجل إلى الحجاج فقال: إن أخي خرج مع ابن الأشعث فضرب على اسمي في الديوان، ومنعت العطاء، وقد هدمت داري، فقال الحجاج: أما سمعت قول الشاعر:
حنانَيْكَ من تجنىَّ عليك وقد * تعدَّى الصِحاحَ مبارك الجَرَبِ
ولرب مأخوذٍ بذنب قريبه * ونجا المقارف صاحب الذنب؟
فقال الرجل: أيها الأمير ! إني سمعت الله يقول غير هذا، وقول الله أصدق من هذا.
قال: وما قال؟
قال: { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبا شَيْخا كَبِيرا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذا لَظَالِمُونَ } [يوسف: 78-79] قال: يا غلام أعد اسمه في الديوان، وابن داره، وأعطه عطاءه، ومر مناديا ينادي: صدق الله وكذب الشاعر.
وقال الهيثم بن عدي: عن ابن عباس: كتب عبد الملك إلى الحجاج أن أبعث إلي برأس أسلم بن عبد البكري، لما بلغني عنه، فأحضره الحجاج، فقال: أيها الأمير أنت الشاهد وأمير المؤمنين الغائب، وقال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6] وما بلغه باطل، وإني أعول أربعة وعشرين امرأة ما لهن كاسب غيري وهنَّ بالباب، فأمر الحجاج بإحضارهن، فلما حضرن جعلت هذه تقول: أنا خالته، وهذه أنا عمته، وهذه أنا أخته، وهذه أنا زوجته، وهذه أنا بنته، وتقدمت إليه جارية فوق الثمان ودون العشرة، فقال لها الحجاج: من أنت؟ فقالت: أنا ابنته، ثم قالت: أصلح الله الأمير، وجثت على ركبتيها وقالت:
أحجاجُ لم تشهد مقام بناته * وعماته يندبنه الليل أجمعا
أحجاج كم تقتل به إن قتلته * ثمانا وعشرا واثنتين واربعا
أحجاج من هذا يقوم مقامه * علينا فمهلا إن تزدنا تضعضعا
أحجاج إما أن تجود بنعمة * علينا وإما أن تقتلنا معا
قال: فبكى الحجاج، وقال: والله لا أعنت عليكن ولا زدتكن تضعضعا، ثم كتب إلى عبد الملك بما قال الرجل، وبما قالت ابنته هذه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بإطلاقه، وحسن صلته، وبالإحسان إلى هذه الجارية، وتفقدها في كل وقت.
وقيل: إن الحجاج خطب يوما فقال: أيها الناس الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله. فقام إليه رجل فقال له: ويحك يا حجاج، ما أصفق وجهك، وأقل حياءك، تفعل ما تفعل وتقول مثل هذا الكلام؟ خبث وضل سعيك، فقال للحرس: خذوه، فلما فرغ من خطبته قال له: ما الذي جرأك عليَّ؟ فقال: ويحك يا حجاج، أنت تجترئ على الله ولا أجترئ أنا عليك، ومن أنت حتى لا أجترئ عليك وأنت تجترئ على الله رب العالمين، فقال: خلوا سبيله، فأطلق.
وقال المدائني: أتي الحجاج بأسيرين من أصحاب ابن الأشعث فأمر بقتلهما، فقال أحدهما: إن لي عندك يدا، قال: وما هي؟ قال: ذكر ابن الأشعث يوما أمك فرددت عليه، فقال: ومن يشهد لك؟ قال: صاحبي هذا ! فسأله فقال: نعم ! فقال: ما منعك أن تفعل كما فعل؟ قال: بغضك، قال: أطلقوا هذا لصدقة، وهذا لفعله. فأطلقوهما.
وذكر محمد بن زياد، عن ابن الأعرابي فيما بلغه: أنه كان رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بن مالك، وكان فاتكا بأرض اليمامة، فأرسل الحجاج إلى نائبها يؤنبه ويلومه على عدم أخذه، فما زال نائبها في طلبه حتى أسره وبعث به إلى الحجاج، فقال له الحجاج: ما حملك على ما كنت تصنعه؟ فقال: جراءة الجنان، وجفاء السلطان، وكلب الزمان، ولو اختبرني الأمير لوجدني من صالح الأعوان، وشهم الفرسان، ولوجدني من أصلح رعيته، وذلك أني ما لقيت فارسا قط إلا كنت عليه في نفسي مقتدرا، فقال له الحجاج: إنا قاذفوك في حائر فيه أسد عاقر فإن قتلك كفانا مؤنتك، وإن قتلته خلينا سبيلك. ثم أودعه السجن مقيدا مغلولةً يده اليمنى إلى عنقه، وكتب الحجاج إلى نائبه بكسكر أن يبعث بأسد عظيم ضار، وقد قال جحدر هذا في محبسه هذا أشعارا يتحزن فيها على امرأته سليمى أم عمرو، يقول في بعضها:
أليس الليل يجمع أم عمرو * وإيانا فذاك بنا تداني
بلى وترى الهلال كما نراه * ويعلوها النهار إذا علاني
إذا جاوزتما نخلات نجد * وأودية اليمامة فانعياني
وقولا جحدرٌ أمسى رهينا * يحاذر وقع مصقولٍ يماني
فلما قدم الأسد على الحجاج أمر به فجوع ثلاثة أيام، ثم أبرز إلى حائر - وهو البستان - وأمر بجحدر فأخرج في قيوده ويده اليمنى مغلولة بحالها، وأعطى سيفا في يده اليسرى، وخلى بينه وبين الأسد، وجلس الحجاج وأصحابه في منظرة، وأقبل جحدر نحو الأسد وهو يقول:
ليثٌ وليثٌ في مجال ضنك * كلاهما ذو أنفٍ ومحك
وشدة في نفسه وفتك * إن يكشف الله قناع الشك
فهو أحق منزل بترك *
فلما نظر إليه الأسد زأر زأرة شديدة، وتمطى وأقبل نحوه، فلما صار منه على قدر رمح وثب الأسد على جحدر وثبة شديدة، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربة خالط ذباب السيف لهواته، فخر الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، من شدة الضربة، وسقط جحدر من شدة وثبة الأسد، وشدة موضع القيود عليه، فكبرَّ الحجاج وكبر أصحابه، وأشار جحدر يقول:
يا جمل إنك لو رأيت كريهتي * في يوم هولٍ مسدفٍ وعجاج
وتقدمي لليث أرسفُ موثقا * كيما أساوره على الأخراج
شئنٌ براثنه كأن نيوبه * زرق المعاول أو شباة زجاج
يسمو بناظرتين تحسب فيهما * لهبا أحدَّهما شعاع سراج
وكأنما خيطت عليه عباءة * برقاء أو خرقا من الديباج
لعلمت أني ذو حفاظٍ ماجدٍ * من نسل أقوام ذوي أبراج
فعند ذلك خيره الحجاج إن شاء أقام عنده، وإن شاء انطلق إلى بلاده، فاختار المقام عند الحجاج، فأحسن جائزته وأعطاه أموالا.
وأنكر يوما أن يكون الحسين من ذرية رسول الله ﷺ لأنه ابن بنته، فقال له يحيى بن يعمر: كذبت ! فقال الحجاج: لتأتيني على ما قلت ببينة من كتاب الله أو لأضربن عنقك، فقال: قال الله: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } [الأنعام: 84] إلى قوله: { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى } [الأنعام: 85] فعيسى من ذرية إبراهيم، وهو إنما ينسب إلى أمه مريم، والحسين ابن بنت رسول الله ﷺ. فقال الحجاج: صدقت، ونفاه إلى خراسان.
وقد كان الحجاج مع فصاحته وبلاغته يلحن في حروف من القرآن أنكرها يحيى بن يعمر، منها: أنه كان يبدل إن المكسورة بأن المفتوحة وعكسه، وكان يقرأ «قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم { { إلى قوله { أحب إليكم } فيقرأها برفع أحب.
وقال الأصمعي وغيره: كتب عبد الملك إلى الحجاج يسأله عن أمس واليوم وغد، فقال للرسول: أكان خويلد بن يزيد بن معاوية عنده؟ قال: نعم ! فكتب الحجاج إلى عبد الملك: أما أمس فأجل، وأما اليوم فعمل، وأما غدا فأمل.
وقال ابن دريد: عن أبي حاتم السجستاني، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى. قال: لما قتل الحجاج ابن الأشعث وصفت له العراق، وسَّع على الناس في العطاء، فكتب إليه عبد الملك: أما بعد فقد بلغ أمير المؤمنين أنك تنفق في اليوم مالا ينفقه أمير المؤمنين في الأسبوع، وتنفق في الأسبوع مالا ينفقه أمير المؤمنين في الشهر، ثم قال منشدا:
عليك بتقوى الله في الأمر كله * وكن يا عبيد الله تخشى وتضرع
ووفر خراج المسلمين وفيأهم * وكن لهم حصنا تجير وتمنع
فكتب إليه الحجاج:
لعمري لقد جاء الرسول بكتبكم * قراطيس تملا ثم تطوى فتطبع
كتاب أتاني فيه لين وغلظة * وذكرتُ والذكرى لذي اللب تنفع
وكانت أمور تعتريني كثيرة * فأرضخ أو اعتل حينا فأمنع
إذا كنت سوطا من عذاب عليهم * ولم يك عندي بالمنافع مطمع
أيرضى بذاك الناس أو يسخطونه * أم أحمد فيهم أم ألام فأقذع
وكان بلاد جئتها حين جئتها * بها كل نيران العداوة تلمع
فقاسيت منها ما علمت ولم أزل * أصارع حتى كدت بالموت أصرع
وكم أرجفوا من رجفة قد سمعتها * ولو كان غيري طار مما يروع
وكنت إذا هموا بإحدى نهاتهم * حسرت لهم رأسي ولا أتقنع
فلو لم يذد عني صناديد منهم * تقسم أعضائي ذئاب وأضبع
قال: فكتب إليه عبد الملك: أن اعمل برأيك.
وقال الثوري: عن محمد بن المستورد الجمحي، قال: أتي الحجاج بسارق فقال له: لقد كنت غنيا أن تكسب جناية فيؤتى بك إلى الحاكم فيبطل عليك عضوا من أعضائك، فقال الرجل: إذا قلّ ذات اليد سخت النفس بالمتألف. قال: صدقت، والله لو كان حسن اعتذار يبطل حدا لكنت له موضعا. يا غلام سيف صارم ورجل قاطع، فقطع يده.
وقال أبو بكر بن مجاهد: عن محمد بن الجهم، عن الفراء، قال: تغدى الحجاج يوما مع الوليد بن عبد الملك، فلما انقضى غداؤهما دعاه الوليد إلى شرب النبيذ، فقال: يا أمير المؤمنين الحلال ما أحللت، ولكني أنهى عنه أهل العراق وأهل عملي، وأكره أن أخالف قول العبد الصالح { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود: 88] .
وقال عمر بن شبة، عن أشياخه، قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج يعتب عليه في إسرافه في صرف الأموال، وسفك الدماء، ويقول: إنما المال مال الله ونحن خزَّانه، وسيان منع حق أو إعطاء باطل.
وكتب في أسفل الكتاب هذه الأبيات:
إذا أنت لم تترك أمورا كرهتها * وتطلب رضائي في الذي أنا طالبه
وتخشى الذي يخشاه مثلك هاربا * إلى الله منه ضيع الدر حالبه
فإن ترمني غفلةً قرشيةً * فيا ربما قد غص بالماء شاربه
وإن ترمني وثبةً أمويةً * فهذا وهذا كله أنا صاحبه
فلا تعدُ ما يأتيك مني فانْ تعدْ * تقم فاعلمن يوما عليك نوادبه
فلما قرأه الحجاج كتب: أما بعد فقد جاءني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه سرفي في الأموال، والدماء، فوالله ما بالغت في عقوبة أهل المعصية، ولا قضبت حق أهل الطاعة، فإن كان ذلك سرفا فليحدّ لي أمير المؤمنين حدا أنتهي إليه ولا أتجاوزه، وكتب في أسفل الكتاب:
إذا أنا لم أطلب رضاك وأتقي * أذاك فيومي لا توارت كواكبه
إذا قارف الحجاج فيك خطيئة * فقامت عليه في الصباح نوادبه
أسالم من سالمت من ذي هوادةٍ * ومن لا تسالمه فإني محاربة
إذا أنا لم أدن الشفيق لنصحه * وأقص الذي تسرى إليَّ عقاربه
فمن يتقي يومي ويرجو إذا عدى * على ما أرى والدهر جمٌ عجائبه
وعن الشافعي أنه قال: قال الوليد بن عبد الملك للغاز بن ربيعة أن يسأل الحجاج فيما بينه وبينه: هل يجد في نفسه مما أصاب من الدنيا شيئا؟ فسأله كما أمره، فقال: والله ما أحب أن لي لبنان أو سبير ذهبا أنفقه في سبيل الله مكان ما أبلاني الله في الطاعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.