البداية والنهاية/الجزء التاسع/ذكر وقعة جرت بين الترك والمسلمين
وذلك أن خاقان الملك الأعظم ملك الترك بعث جيشا إلى الصغد لقتال المسلمين، عليهم رجل منهم يقال له: كورصول، فأقبل حتى نزل على قصر الباهلي فحصره وفيه خلق من المسلمين، فصالحهم نائب سمرقند - وهو عثمان بن عبد الله بن مطرف - على أربعين ألفا، ودفع إليهم سبعة عشر دهقانا رهائن عندهم، ثم ندب عثمان الناس، فانتدب رجل يقال له: المسيب بن بشر الرياحي في أربعة آلاف، فساروا نحو الترك، فلما كان في بعض الطريق خطبهم فحثهم على القتال وأخبرهم أنه ذاهب إلى الأعداء لطلب الشهادة، فرجع عنه أكثر من ألف، ثم لم يزل في كل منزل يخطبهم ويرجع عنه بعضهم، حتى بقي في سبعمائة مقاتل، فسار بهم حتى غالق جيش الأتراك، وهم محاصروا ذلك القصر، وقد عزم المسلمون الذين هم فيه على قتل نسائهم وذبح أولادهم أمامهم، ثم ينزلون فيقاتلون، حتى يقتلوا عن آخرهم، فبعث إليهم المسيب يثبتهم يومهم ذلك، فثبتوا ومكث المسيب حتى إذا كان وقت السحر فكبر وكبر أصحابه، وقد جعلوا شعارهم يا محمد، ثم حملوا على الترك حملة صادقة، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وعقروا دواب كثيرة، ونهض إليهم الترك فقاتلوهم قتالا شديدا، حتى فرَّ أكثر المسلمين، وضربت دابة المسيب في عجزها فترجل وترجل معه الشجعان، فقاتلوا و هم كذلك قتالا عظيما، والتف الجماعة بالمسيب، وصبروا حتى فتح الله عليهم، وفرَّ المشركون بين أيديهم هاربين لا يلوون على شيء، وقد كان الأتراك في غاية الكثرة، فنادى منادي المسيب: أن لا تتبعوا أحدا، وعليكم بالقصر وأهله، فاحتملوهم، وحازوا ما في معسكر أولئك الأتراك من الأموال والأشياء النفيسة، وانصرفوا راجعين سالمين بمن معهم من المسلمين الذين كانوا محصورين، وجاءت الترك من الغد فلم يجدوا به داعيا ولا مجيبا، فقالوا في أنفسهم: هؤلاء الذين لقونا بالأمس لم يكونوا إنسا، إنما كانوا جنَّا.