البداية والنهاية/الجزء التاسع/ثم دخلت سنة ست وسبعين
كان في أولها في مستهل صفر منها ليلة الأربعاء اجتماع صالح بن مسرح أمير الصفرية، وشبيب بن يزيد أحد شجعان الخوارج، فقام فيهم صالح بن مسرح فأمرهم بتقوى الله وحثهم على الجهاد، وأن لا يقاتلوا أحدا حتى يدعوه إلى الدخول معهم، ثم مالوا إلى دواب محمد بن مروان نائب الجزيرة فأخذوها فنفروا بها، وأقاموا بأرض دارا ثلاثة عشر ليلة، وتحصن منهم أهل دارا ونصيبين وسنجار، فبعث إليهم محمد بن مروان نائب الجزيرة خمسمائة فارس عليهم عدي بن عدي بن عُميرة، ثم زاده خمسمائة أخرى فسار في ألف من حران إليهم، وكأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، لما يعلموا من جلد الخوارج وقوتهم وشدة بأسهم، فلما التقوا مع الخوارج هزمتهم الخوارج هزيمة شنيعة بالغة، واحتووا على ما في معسكرهم، ورجع فلّهم إلى محمد بن مروان، فغضب وبعث إليهم ألفا وخمسمائة مع الحارث بن جعونة وألفا وخمسمائة مع خالد بن الحر، وقال لهما: أيكما سبق إليهم فهو الأمير على الناس، فساروا إليهم في ثلاثة آلاف مقاتل والخوارج في نحو من مائة نفس وعشرة أنفس، فلما انتهوا إلى آمد توجه صالح في شطر الناس إلى خالد بن الحر، ووجه شبيبا في الباقي إلى الحارث ابن جعونة، فاقتتل الناس قتالا شديدا إلى الليل، فلما كان المساء انكشف كل من الفريقين عن الآخر، وقد قتل من الخوارج نحو السبعين وقتل من أصحاب ابن مروان نحو الثلاثين، وهربت الخوارج في الليل فخرجوا من الجزيرة وأخذوا في أرض الموصل ومضوا حتى قطعوا الدسكرة، فبعث إليهم الحجاج ثلاثة آلاف مع الحارث بن عميرة، فسار نحوهم حتى لحقهم بأرض الموصل وليس مع صالح سوى تسعين رجلا، فالتقى معهم وقد جعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس، فهو في كردوس، وشبيب عن يمينه في كردوس، وسويد بن سليمان عن يساره في كردوس، وحمل عليهم الحارث بن عميرة، وعلى ميمنته أبو الرواع الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، فصبرت الخوارج على قلتهم صبرا شديدا، ثم انكشف سويد بن سليمان، ثم قتل صالح بن مسرِّح أميرهم، وصرع شبيب عن فرسه فالتف عليه بقية الخوارج حتى احتملوه فدخلوا به حصنا هنالك، وقد بقي معهم سبعون رجلا، فأحاط بهم الحارث بن عميرة وأمر أصحابه أن يحرقوا الباب ففعلوا، ورجع الناس إلى معسكرهم ينتظرون حريق الباب فيأخذون الخوارج قهرا، فلما رجع الناس واطمأنوا خرجت عليهم الخوارج على الصعب والذلول من الباب فبيتوا جيش الحارث بن عميرة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب الناس سراعا إلى المدائن، واجتاز شبيب وأصحابه ما في معسكرهم، وكان جيش الحارث بن عميرة أول جيش هزمه شبيب، وكان مقتل صالح بن مسرح في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفيها دخل شبيب الكوفة ومعه زوجته غزالة، وذلك أن شبيبا جرت له فصول يطول تفصيلها بعد مقتل صالح بن مسرح، واجتمعت عليه الخوارج وبايعوه، وبعث إليه الحجاج جيشا آخر فقاتلوه فهزموه ثم هزمهم بعد ذلك، ثم سار فجاز المدائن فلم ينل منهم شيئا فسار فأخذ دوابا للحجاج من كلوذا، وفي عزمه أن يبيت أهل المدائن فهرب من فيها من الجند إلى الكوفة، فلما وصل فلُّهم إلى الحجاج جهز جيشا أربعة آلاف مقاتل إلى شبيب، فمروا على المدائن ثم ساروا في طلب شبيب فجعل يسير بين أيديهم قليلا قليلا، وهو يريهم أنه خائف منهم، ثم يكر في كل وقت على المقدمة فيكسرها وينهب ما فيها، ولا يواجه أحدا إلا هزمه، والحجاج يلح في طلبه ويجهز إليه السرايا والبعوث والمدد وشبيب لا يبالي بأحد وإن ما معه مائة وستون فارسا، وهذا من أعجب العجب، ثم سار من طريق أخرى حتى واجه الكوفة وهو يريد أن يحاصرها، فخرج الجيش بكماله إلى السبخة لقتاله، وبلغه ذلك فلم يبال بهم بل انزعج الناس له وخافوا منه وفرقوا منه، وهم الجيش أن يدخل الكوفة خوفا منه، ويتحصنوا بها منه حتى قيل لهم إن سويد بن عبد الرحمن في أثارهم وقد اقترب منهم، وشبيب نازل بالمدائن بالدير ليس عنده حبر منهم ولا خوف، وقد أمر بطعام وشواء أن يصنع له فقيل له: قد جاءك الجند فأدرك نفسك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك ولا يكترث بهم ويقول للدهقان الذي يصنع له الطعام: أجده وأنضجه وعجل به، فلما استوى أكله ثم توضأ وضوءا تاما ثم صلى بأصحابه صلاة تامة بتطويل وطمأنينة، ثم لبس درعه وتقلد سيفين وأخذ عمود حديد ثم قال: أسرجوا لي البغلة، فركبها فقال له أخوه مصاد: اركب فرسا، فقال: لا ! حارس كل أمر أجله فركبها ثم فتح باب الدير الذي هو فيه وهو يقول: أنا أبو المدله لا حكم إلا لله، وتقدم إلى أمير الجيش الذي يليه بالعمود الحديد فقتله، وهو سعيد بن المجالد، وحمل على الجيش الآخر الكثيف فصرع أميره وهرب الناس من بين يديه ولجأوا إلى الكوفة، ومضى شبيب إلى الكوفة من أسفل الفرات، وقتل جماعة هناك، وخرج الحجاج من الكوفة هاربا إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، ثم اقترب شبيب من الكوفة يريد دخولها، فأعلم الدهاقين عروة بن المغيرة بذلك فكتب إلى الحجاج يعلمه بذلك فأسرع الحجاج الخروج من البصرة وقصد الكوفة فأسرع السير، وبادره شبيب إلى الكوفة فسبقه الحجاج إليها فدخلها العصر، ووصل شبيب إلى المربد عند الغروب، فلما كان آخر الليل دخل شبيب الكوفة وقصد قصر الإمارة فضرب بابه بعموده الحديد فأثرت ضربته في الباب، فكانت تعرف بعد ذلك، يقال هذه ضربة شبيب، وسلك في طرق المدينة وتقصد محال القتال، وقتل رجالا من رؤوساء أهل الكوفة وأشرافهم، منهم أبو سليم والدليث بن أبي سليم، وعدي بن عمرو، وأزهر بن عبد الله العامري، في طائفة كثيرة من أهل الكوفة، وكان مع شبيب امرأته غزالة، وكانت معروفة بالشجاعة، فدخلت مسجد الكوفة وجلست علي منبره وجعلت تذم بني مروان.
ونادى الحجاج في الناس: يا خيل الله اركبي، فخرج شبيب من الكوفة إلى مجال الطعن والضرب، فجهز الحجاج في أثره ستة آلاف مقاتل، فساروا وراءه وهو بين أيديهم ينعس ويهز رأسه، وفي أوقات كثيرة يكر عليهم فيقتل منهم جماعة، حتى قتل من جيش الحجاج خلقا كثيرا، وقتل جماعة من الأمراء منهم رائدة بن قدامة، قتله شبيب، وهو ابن عم المختار، فوجه الحجاج مكانه لحربه عبد الرحمن بن الأشعث، فلم يقابل شبيبا ورجع، فوجه مكانه عثمان بن قطن الحارثي، فالتقوا في أواخر السنة فقتل عثمان بن قطن وانهزمت جموعه بعد أن قتل من أصحابه ستمائة نفس، فمن أعيانهم عقيل بن شداد السلولي، وخالد بن نهيك الكندي، والأسود بن ربيعة، واستفحل أمر شبيب وتزلزل له عبد الملك بن مروان والحجاج وسائر الأمراء وخاف عبد الملك منه خوفا شديدا، فبعث له جيشا من أهل الشام فقدموا في السنة الآتية، وإن ما مع شبيب شرذمة قليلة، وقد ملأ قلوب الناس رعبا، وجرت خطوب كثيرة له معهم، ولم يزل ذلك دأبه ودأبهم حتى استهلت هذه السنة.