البداية والنهاية/الجزء التاسع/جميل بن عبد الله
ابن معمر بن صباح بن ظبيان بن الحسن بن ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبيد بن كثير بن عذرة بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سرهد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
أبو عمرو الشاعر صاحب بثينة، كان قد خطبها فمنعت منه، فتغزل فيها واشتهر بها، وكان أحد عشاق العرب، كانت إقامته بوادي القرى، وكان عفيفا حييا دينا شاعرا إسلاميا، من أفصح الشعراء في زمانه، وكان كثير عزة راويته، وهو يروي عن هدبة بن خثرم عن الحطيئة عن زهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، قال كثير عزة: كان جميل أشعر العرب حيث يقول:
وأخبرتماني أن تيماء منزل * لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنَّا قد انقضت * فما للنوى ترمي بليلى المراميا
ومنها قوله:
وما زلت بي يا بثن حتى لو أنني * من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا
وما زادني الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تماديا
وما أحدث النأي المفرق بيننا * سلوَّا ولا طول اجتماع تقاليا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني * أظل إذا لم ألق وجهك صاديا
لقد خفت أن ألقى المنية بغتة * وفي النفس حاجات إليك كما هيا
وله أيضا:
إني لأحفظ غيبكم ويسرني * لو تعلمين بصالح أن تذكري
إلى أن قال:
ما أنت والوعد الذي تعدينني * إلا كبرق سحابة لم تمطر
وقوله وروى لعمرو بن أبي ربيعة فيما رواه ابن عساكر:
ما زلت أبغي الحي أتبع فلهم * حتى دفعت إلى ربيبة هودج
فدنوت مختفيا ألمُّ ببيتها * حتى ولجت إلى خفي المولج
قالت: وعيش أخي ونعمة والدي * لأنبهن الحي إن لم تخرج
فتناولت رأسي لتعرف مسه * بمخضب الأطراف غير مشنج
فخرجت خيفة أهلها فتبسمت * فعلمت أن يمينها لم تحرج
فلثمت فاها آخذا بقرونها * فرشفت ريقا باردا متثلج
قال كثير عزة: لقيني جميل بثينة فقال: من أين أقبلت؟
فقلت: من عند هذه الحبيبة، فقال: وإلى أين؟ فقلت: وإلى هذه الحبيبة - يعني عزة - فقال: أقسمت عليك لما رجعت إلى بثينة فواعدتها لي فإن لي من أول الصيف ما رأيتها، وكان آخر عهدي بها بوادي القرى، وهي تغسل هي وأمها ثوبا فتحادثنا إلى الغروب، قال كثير: فرجعت حتى أنخت بهم.
فقال أبو بثينة: ما ردك يا ابن أخي؟
فقلت: أبيات قلتها فرجعت لأعرضها عليك.
فقال: وما هي؟
فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الحجاب:
فقلت لها: يا عز أرسل صاحبي * إليك رسولا والرسول موكل
بأن تجعلي بيني وبينك موعدا * وأن تأمريني مال الذي فيه أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني * بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل
فلما كان الليل أقبلت بثينة إلى المكان الذي واعدته إليه، وجاء جميل وكنت معهم فما رأيت ليلة أعجب منها ولا أحسن منادمات، وانفضَّ ذلك المجلس وما أدري أيهما أفهم لما في ضمير صاحبه منه.
وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي أنه دخل على جميل وهو يموت فقال له: ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن قط ولم يسرق ولم يقتل النفس وهو يشهد أن لا إله إلا الله؟
قال: أظنه قد نجا وأرجو له الجنة، فمن هذا؟
قال: أنا، فقلت: الله ما أظنك سلمت وأنت تشبب بالنساء منذ عشرين سنة، ببثينة.
فقال: لا نالتني شفاعة محمد ﷺ، وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها بريبة، قال: فما برحنا حتى مات.
قلت: كانت وفاته بمصر لأنه كان قد قدم على عبد العزيز بن مروان فأكرمه وسأله عن حبه بثينة فقال: شديدا، واستنشده من أشعاره ومدائحه فأنشده فوعده أن يجمع بينه وبينها، فعاجلته المنية في سنة ثنتين وثمانين رحمه الله آمين.
وقد ذكر الأصمعي عن رجل أن جميلا قال له: هل أنت مبلغ عني رسالة إلى حي بثينة ولك ما عندي؟ قال: نعم ! قال: إذا أنا متُّ فاركب ناقتي وألبس حلتي هذه وأمره أن يقول أبياتا منها قوله:
قومي بثينة فاندبي بعويل * وابكي خليلا دون كل خليل
فلما انتهى إلى حيهم أنشد الأبيات فخرجت بثينة كأنها بدر سرى في جنة وهي تتثنى في مرطها فقالت له: ويحك إن كنت صادقا فقد قتلتني، وإن كنت كاذبا فقد فضحتني. فقلت: بلى والله صادق وهذه حلته وناقته، فلما تحققت ذلك أنشدت أبياتا ترثيه بها وتتأسف عليه فيها، وأنه لا يطيب لها العيش بعده، ولا خير لها في الحياة بعد فقده، ثم ماتت من ساعتها: قال الرجل: فما رأيت أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ.
وروى ابن عساكر عنه أنه قيل له بدمشق: لو تركت الشعر وحفظت القرآن؟
فقال: هذا أنس بن مالك يخبرني عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن من الشعر لحكمة».