البداية والنهاية/الجزء التاسع/ثم دخلت سنة ثمانين من الهجرة النبوية
ففيها كان السيل الحجاف بمكة لأنه حجف على كل شيء فذهب به، وحمل الحجاج من بطن مكة الجمال بما عليها، والرجال والنساء لا يستطيع أحد أن ينقذهم منه، وبلغ الماء إلى الحجون، وغرق خلق كثير، وقيل إنه ارتفع حتى كاد أن يغطي البيت والله أعلم.
وحكى ابن جرير، عن الواقدي، أنه قال: كان بالبصرة في هذه السنة الطاعون، والمشهور أنه كان في سنة تسع وستين كما تقدم. وفيها قطع المهلب بن أبي صفرة نهر بلخ، وأقام بكش سنتين صابرا مصابرا للأعداء من الأتراك وجرت له معهم هناك فصول يطول ذكرها، وفد عليه في غضون هذه المدة كتاب ابن الأشعث بخلعه الحجاج، فبعثه المهلب برمته إلى الحجاج حتى قرأه ثم كان ما سيأتي بيانه وتفصيله فيما بعد من حروب ابن الأشعث، وفي هذه السنة جهز الحجاج الجيوش من البصرة والكوفة وغيرهما لقتال رتبيل ملك الترك ليقضوا منه ما كان من قتل جيش عبيد الله بن أبي بكرة في السنة الماضية، فجهز أربعين ألفا من كل من المصرين عشرين ألفا، وأمر على الجميع عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث مع أنه كان الحجاج يبغضه جدا، حتى قال ما رأيته قط إلا هممت بقتله.
ودخل ابن الأشعث يوما على الحجاج وعنده عامر الشعبي فقال انظر إلى مشيته والله لقد هممت أن أضرب عنقه، فأسرها الشعبي إلى ابن الأشعث فقال ابن الأشعث: وأنا والله لأجهدت أن أزيله عن سلطانه إن طال بي وبه البقاء. والمقصود أن الحجاج أخذ في استعراض هذه الجنود وبذل فيهم العطاء ثم اختلف رأيه فيمن يؤمر عليهم، ثم وقع اختياره على عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدمه عليهم، فأتى عمه إسماعيل بن الأشعث فقال للحجاج: إني أخاف أن تؤمره فلا ترى لك طاعة إذا جاوز جسر الصراه، فقال: ليس هو هنالك هو لي حبيب، ومتى أرهب أن يخالف أمري أو يخرج عن طاعتي، فأمضاه عليهم، فسار ابن الأشعث بالجيوش نحو أرض رتبيل، فلما بلغ رتبيل مجيء ابن الأشعث بالجنود إليه كتب إليه رتبيل يعتذر مما أصاب المسلمين في بلاده في السنة الماضية وأنه كان لذلك كارها، وأن المسلمين هم الذين ألجأوه إلى قتالهم، وسأل من ابن الأشعث أن يصالحه وأن يبذل للمسلمين الخراج، فلم يجبه ابن الأشعث إلى ذلك وصمم على دخول بلاده، وجمع رتبيل جنوده وتهيأ له ولحربه، وجعل ابن الأشعث كلما دخل بلدا أو مدينة أو أخذ قلعة من بلاد رتبيل استعمل عليها نائبا من جهته يحفظها له، وجعل المشايخ على كل أرض ومكان مخوف، فاستحوذ على بلاد ومدن كثيرة من بلاد رتبيل، وغنم أموالا كثيرة جزيلة، وسبى خلقا كثيرة، ثم حبس الناس عن التوغل في بلاد رتبيل حتى يصلحوا ما بأيديهم من البلاد ويتقووا بما فيها من المغلات والحواصل، ثم يتقدمون في العام المقبل إلى أعدائهم فلا يزالون يجوزون الأراضي والأقاليم حتى يحاصروا رتبيل وجنوده في مدينتهم مدينة العظماء على الكنوز والأموال والذراري حتى يغنموها ثم يقتلون مقاتلتهم، وعزموا على ذلك، وكان هذا هو الرأي، وكتب ابن الأشعث إلى الحجاج يخبره بما وقع من الفتح وما صنع الله لهم، وبهذا الرأي الذي رآه لهم، وقال بعضهم كان الحجاج قد وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان مسلحة لأهلها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى ذلك، فعصي هميان ومن معه على الحجاج، فوجه الحجاج إليه ابن الأشعث فهزمه وأقام ابن الأشعث بمن معه ومات عبيد الله بن أبي بكرة فكتب الحجاج إلى ابن الأشعث بإمرة سجستان مكان ابن أبي بكرة وجهز إلى ابن الأشعث جيشا أنفق عليه ألفي ألف سوى أعطياتهم، وكان يدعى هذا الجيش جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل فكان من أمره معه ما تقدم.
قال الواقدي وأبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان وقال غيرهما: بل حج بهم سليمان بن عبد الملك، وكان على الصائفة في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، وعلى المدينة أبان بن عثمان، وعلى المشرق بكماله الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس بن مالك.
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان