البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة ستين وستمائة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



ثم دخلت سنة ستين وستمائة


في أوائل هذه السنة في ثالث المحرم قتل الخليفة المستنصر بالله الذي بويع له في رجب في السنة الماضية، بمصر وكان قتله بأرض العراق بعدما هزم من كان معه من الجنود فإنا لله وإنا إليه راجعون.

واستقل الملك الظاهر بجميع الشام ومصر، وصفت له الأمور، ولم يبق له منازع سوى التركي، فإنه ذهب إلى المنيرة فاستحوذ عليها وعصى عليه هنالك.

وفي اليوم الثالث من المحرم من هذه السنة خلع السلطان الملك الظاهر ببلاد مصر على جميع الأمراء والحاشية، وعلى الوزير وعلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وعزل عنها برهان الدين السنجاري، وفي أواخر المحرم أعرس الأمير بدر الدين بيليك الخازندار على بنت الأمير لؤلؤ صاحب الموصل، واحتفل الظاهر بهذا العرس احتفالا بالغا.

قال ابن خلكان: وفي هذه السنة: اصطاد بعض أمراء الظاهر بحدود حماة حمار وحش، فطبخوه فلم ينضج ولا أثر فيه كثرة الوقود، ثم افتقدوا جلده فإذا هو مرسوم على أذنه بهرام جور، قال: وقد أحضروه إلى فقرأته كذلك، وهو يقتضي أن لهذا الحمار قريبا من ثمانمائة سنة، فإن بهرام جور كان قبل المبعث بمدة متطاولة، وحمر الوحش تعيش دهرا طويلا.

قلت: يحتمل أن يكون هذا بهرام شاه الملك الأمجد، إذ يبعد بقاء مثل هذا بلا اصطياد هذه المدة الطويلة، ويكون الكاتب قد أخطأ فأراد كتابة بهرام شاه فكتب بهرام جور فحصل اللبس من هذا، والله أعلم.

ذكر بيعة الحاكم بأمر الله العباسي

في السابع والعشرين من ربيع الآخر دخل الخليفة أبو العباس الحاكم بأمر الله أحمد بن الأمير أبي علي القبي من الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد من بلاد الشرق وصحبته جماعة من رؤوس تلك البلاد؛ وقد شهد الوقعة صحبة المستنصر، وهرب هو في جماعة من المعركة فسلم، فلما كان يوم دخوله تلقاه السلطان الظاهر، وأظهر السرور له والاحتفال به، وأنزله في البرج الكبير من قلعة الجبل وأجريت عليه الأرزاق الدارة والإحسان.

وفي ربيع الآخر عزل الملك الظاهر الأمير جمال الدين آقوش النجيبي عن استداريته واستبدل به غيره، وبعد ذلك أرسله نائبا على الشام كما سيأتي.

وفي يوم الثلاثاء تاسع رجب حضر السلطان الظاهر إلى دار العدل في محاكمة في بئر إلى بيت القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز، فقام الناس إلا القاضي فإنه أشار عليه أن لا يقوم.

وتداعيا وكان الحق مع السلطان وله بينه عادلة، فانتزعت البئر من يد الغريم وكان الغريم أحد الأمراء.

وفي شوال استناب الظاهر على حلب الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي، وحينئذ انحاز عسكر سيس على القلعة من أرض حلب فركب إليهم الشهابي فكسرهم، وأسر منهم جماعة فبعثهم إلى مصر فقتلوا.

وفيها: استناب السلطان على دمشق الأمير جمال الدين أقوش النجيبي، وكان من أكابر الأمراء، وعزل عنها علاء الدين طيبرس الوزيري وحمل إلى القاهرة.

وفي ذي القعدة خرج مرسوم السلطان إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز أن يستنيب من كل مذهب من المذاهب الثلاثة نائبا، فاستناب من الحنفية صدر الدين سليمان الحنفي، ومن الحنابلة شمس الدين محمد بن الشيخ العماد، ومن المالكية شرف الدين عمر السبكي المالكي.

وفي ذي الحجة قدمت وفود كثيرة من التتار على الملك الظاهر مستأمنين فأكرمهم وأحسن إليهم، وأقطعهم إقطاعات حسنة، وكذلك فعل بأولاد صاحب الموصل ورتب لهم رواتب كافية.

وفيها أرسل هولاكو طائفة من جنده نحو عشرة آلاف فحاصروا الموصل ونصبوا عليها أربعة وعشرين منجنيقا وضاقت بها الأقوات

وفيها: أرسل الملك الصالح إسماعيل بن لؤلؤ إلى التركي يستنجده فقدم عليه فهزمت التتار، ثم ثبتوا والتقوا معه، وإنما كان معه سبعمائة مقاتل فهزموه وجرحوه وعاد إلى البيرة، وفارقه أكثر أصحابه فدخلوا الديار المصرية، ثم دخل هو إلى الملك الظاهر فأنعم عليه وأحسن إليه وأقطعه سبعين فارسا.

وأما التتار فإنهم عادوا إلى الموصل ولم يزالوا حتى استنزلوا صاحبها الملك الصالح إليهم ونادوا في البلد بالأمان حتى اطمأن الناس، ثم مالوا عليهم فقتلوهم تسعة أيام، وقتلوا الملك الصالح إسماعيل وولده علاء الدين، وخربوا أسوار البلد وتركوها بلاقع، ثم كروا راجعين قبحهم الله.

وفيها: وقع الخلف بين هولاكو وبين السلطان بركه خان ابن عمه، وأرسل إليه بركه يطلب منه نصيبا مما فتحه من البلاد، وأخذه من الأموال والأسرار، على ما جرت به عادة ملوكهم، فقتل رسله فاشتد غضب بركه، وكاتب الظاهر ليتفقا على هولاكو.

وفيها: وقع غلاء شديد بالشام فبيع القمح الغرارة بأربعمائة، والشعير بمائتين وخمسين، واللحم الرطل بستة أو سبعة، وحصل في النصف من شعبان خوف شديد من التتار، فتجهز كثير من الناس إلى مصر، وبيعت الغلات حتى حواصل القلعة والأمراء ورسم أولياء الأمور على من له قدرة أن يسافر من دمشق إلى بلاد مصر.

ووقعت رجفة عظيمة في الشام وفي بلاد الروم، ويقال: إنه حصل لبلاد التتر خوف شديد أيضا، فسبحان الفعال لما يريد وبيده الأمر.

وكان الآمر لأهل دمشق بالتحول منها إلى مصر نائبها الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري، فأرسل السلطان إليه في ذي القعدة فامسكه وعزله واستناب عليها بهاء الدين النجيبي، واستوزر بدمشق عز الدين بن وداعة.

وفيها: نزل ابن خلكان عن تدريس الركنية لأبي شامة وحضر عنده حين درس وأخذ في أول (مختصر المزني).

وفيها توفي من الأعيان:

الخليفة المستنصر بن الظاهر بأمر الله العباسي

الذي بايعه الظاهر بمصر كما ذكرنا، وكان قتله في ثالث المحرم من هذه السنة وكان شهما شجاعا بطلا فاتكا، وقد أنفق الظاهر عليه حتى أقام له جيشا بألف ألف دينار، وأزيد وسار في خدمته ومعه خلق من أكابر الأمراء وأولاد صاحب الموصل، وكان الملك الصالح إسماعيل من الوفد الذين قدموا على الظاهر فأرسله صحبة الخليفة.

فلما كانت الوقعة فقد المستنصر، ورجع الصالح إلى بلاده فجاءته التتار فحاصروه كما ذكرنا، وقتلوه وخربوا بلاده وقتلوا أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

العز الضرير النحوي اللغوي

واسمه الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا من أهل نصيبين، ونشأ بأربل فاشتغل بعلوم كثيرة من علوم الأوائل، وكان يشتغل عليه أهل الذمة، وغيرهم ونسب إلى الانحلال وقلة الدين، وترك الصلوات، وكان ذكيا وليس بذكي عالم اللسان جاهل القلب، ذكي القول خبيث الفعل.

وله شعر أورد منه الشيخ قطب الدين قطعة في ترجمته، وهو شبيه بأبي العلاء المعري قبحهما الله.

ابن عبد السلام عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن بن محمد المهذب

الشيخ عز الدين بن عبد السلام أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي شيخ المذهب، ومفيد أهله وله مصنفات حسان منها: (التفسير)، و(اختصار النهاية)، و(القواعد الكبرى والصغرى)، و(كتاب الصلاة والفتاوى الموصلية) وغير ذلك.

ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع كثيرا واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره وبرع في المذهب وجمع علوما كثيرة، وأفاد الطلبة ودرس بعدة مدارس بدمشق، وولي خطابتها ثم سافر إلى مصر ودرس بها وخطب وحكم، وانتهت إليه رئاسة الشافعية، وقصد بالفتاوى من الآفاق، وكان لطيفا ظريفا يستشهد بالأشعار، وكان سبب خروجه من الشام إنكاره على الصالح إسماعيل تسليمه صغد والثقيف إلى الفرنج.

ووافقه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فأخرجهما من بلده فسار أبو عمرو إلى الناصر داود صاحب الكرك فأكرمه، وسار ابن عبد السلام إلى الملك الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر فأكرمه وولاه قضاء مصر وخطابة الجامع العتيق، ثم انتزعهما منه وأقره على تدريس الصالحية.

فلما حضره الموت أوصى بها للقاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وتوفي في عاشر جمادى الأولى، وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد بسفح المقطم، وحضر جنازته السلطان الظاهر وخلقٌ كثير رحمه الله تعالى.

كمال الدين بن العديم الحنفي

عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل الحلبي الحنفي أبو القاسم بن العديم، الأمير الوزير الرئيس الكبير، ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة، سمع الحديث وحدث وتفقه وأفتى ودرس وصنف.

وكان إماما في فنون كثيرة، وقد ترسل إلى الخلفاء والملوك مرارا عديدة، وكان يكتب حسنا طريقة مشهورة، وصنف لحلب تاريخا مفيدا قريبا في أربعين مجلدا، وكان جيد المعرفة بالحديث، حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير الإحسان إليهم، وقد أقام بدمشق في الدولة الناصرية المتأخرة، توفي بمصر ودفن بسفح المقطم بعد ابن عبد السلام بعشرة أيام، وقد أورد له قطب الدين أشعارا حسنة.

يوسف بن يوسف بن سلامة ابن إبراهيم بن الحسن

بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن سليمان بن محمد القاقاني الزينبي بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، محيي الدين أبو المعز، ويقال: أبو المحاسن الهاشمي العباسي الحوصلي، المعروف: بابن زبلاق الشاعر، قتلته التتار لما أخذوا الموصل في هذه السنة عن سبع وخمسين سنة ومن شعره قوله:

بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنا ** سهادا يزود الكرى أن يألف الجفنا

وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلا ** فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى

وأبرزت وجها أخجل الصبح طالعا ** وملت بقد علم الهيف الغصن اللدنا

حكيت أخال البدر ليلة تمه ** سنا وسناءً إذ تشابهتما سنا

وقال أيضا: وقد دعي إلى موضع فبعث يعتذر بهذين البيتين

أنا في منزلي وقد وهب الـ ** ـله نديما وقينةً وعقار

فأبسطوا العذر في التأخر عنكم ** شغل الخلي أهل بأن يعارا

قال أبو شامة: وفيها في ثاني عشر جمادى الآخرة توفي:

البدر المراغي الخلافي

المعروف بالطويل، وكان قليل الدين تاركا للصلاة مغتبطا بما كان فيه من معرفة الجدل، والخلاف على اصطلاح المتأخرين، راضيا بما لا يفيد. وفيها توفي:

محمد بن داود بن ياقوت الصارمي

المحدث، كتب كثير الطبقات وغيرها، وكان دينا خيرا يعير كتبه ويداوم على الاشتغال بسماع الحديث، رحمه الله تعالى.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697