البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة
فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، وبين بني بوكر أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئا كثيرا لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء.
وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب، ولما قتل كان في صحبته فخر الدين الرازي، وكان يجلس للوعظ بحضرة الملك ويعظه، وكان السلطان يبكي حين يقول في آخر مجلسه يا سلطان سلطانك لا يبقى، ولا يبقى الرازي أيضا وإن مردنا جميعا إلى الله.
وحين قتل السلطان اتهم الرازي بعض الخاصكية بقتله، فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا، فسيره إلى حيث يأمن وتملك غزنة بعده أحد مماليكه تاج الدر، وجرت بعد ذلك خطوب يطول ذكرها، قد استقصاها ابن الأثير وابن الساعي.
وفيها: أغارت الكرج على بلاد المسلمين فوصلوا إلى أخلاط فقتلوا وسبوا وقاتلهم المقاتلة والعامة.
وفيها: سار صاحب إربل مظفر الدين كوكري وصحبته صاحب مراغة لقتال ملك أذربيجان، وهو أبو بكر بن البهلول، وذلك لنكوله عن قتال الكرج وإقباله على السكر ليلا ونهارا فلم يقدروا عليه، ثم إنه تزوج في هذه السنة بنت ملك الكرج، فانكف شرهم عنه.
قال ابن الأثير: وكان كما يقال: أغمد سيفه وسل أيره.
وفيها: استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي ناصر العلوي الحسني وخلع عليه بالوزارة وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات.
وفيها: أغار صاحب بلاد الأرمن وهو ابن لاون على بلاد حلب فقتل وسبى ونهب.
فخرج إليه الملك الظاهر غازي بن الناصر فهرب ابن لاون بين يديه، فهدم الظاهر قلعة كان قد بناها ودكها إلى الأرض.
وفي شعبان منها هدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الأموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر، وزير العادل، وكمل تبليطه في سنة أربع وستمائة.
وفيها توفي من الأعيان:
شرف الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي جمال الإسلام الشهرزوري
بمدينة حمص، وقد كان أخرج إليها من دمشق، وكان قبل ذلك مدرسا بالأمينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة، وكان لديه علم جيد بالمذهب والخلاف.
التقي عيسى بن يوسف ابن أحمد العراقي الضرير
مدرس الأمينية أيضا، كان يسكن المنارة الغربية، وكان عنده شاب يخدمه ويقود به فعدم للشيخ دارهم فاتهم هذا الشاب بها فلم يثبت له عنده شيئا، واتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به، ولم يكن يظن الناس أن عنده من المال شيء، فضاع المال واتهم عرضه.
فأصبح يوم الجمعة السابع من ذي القعدة مشنوقا ببيته بالمئذنة الغربية، فامتنع الناس من الصلاة عليه لكونه قتل نفسه، فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه، فائتم به بعض الناس قال أبو شامة: وإنما حمله على ما فعله ذهاب ماله والوقوع في عرضه.
قال وقد جرى لي أخت هذه القضية فعصمني الله سبحانه بفضله، قال وقد درس بعده في الأمينية الجمال المصري وكيل بيت المال.
أبو الغنائم المركيسهلار البغدادي
كان يخدم مع عز الدين نجاح السراي، وحصل أموالا جزيلة، كان كلما تهيأ له مال اشترى به ملكا وكتبه باسم صاحب له يعتمد عليه، فلما حضرته الوفاة أوصى ذلك الرجل أن يتولى أولاده وينفق عليهم من ميراثه مما تركه لهم.
فمرض الموصي إليه بعد قليل فاستدعى الشهود ليشهدهم على نفسه أن ما في يده لورثة أبي الغنائم، فتمادى ورثته بإحضار الشهود وطولوا عليه وأخذته سكتة فمات فاستولى ورثته على تلك الأموال والأملاك، ولم يقضوا أولاد أبي الغنائم منها شيئا مما ترك لهم.
أبو الحسن علي بن سعاد الفارسي
تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب البخاري فامتنع فألزم به فباشره قليلا، ثم دخل يوما إلى مسجد فلبس على رأسه مئزر صوف، وأمر الوكلاء والجلاوذة أن ينصرفوا عنه، وأشهد على نفسه بعزلها عن نيابة القضاء، واستمر على الإعادة والتدريس رحمه الله. وفي يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول توفيت:
الخاتون أم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل
فدفنت بالقبة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون.
الأمير مجير الدين طاشتكين المستنجدي
أمير الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخا خيرا حسن السيرة كثير العبادة، غاليا في التشيع، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد علي لوصيته بذلك، هكذا ترجمه ابن الساعي في تاريخه.
وذكر أبو شامة في الذيل: أنه طاشتكين بن عبد الله المقتفوي أمير الحاج، حج بالناس ستا وعشرين سنة، كان يكون في الحجاز كأنه ملك، وقد رماه الوزير ابن يونس بأنه يكاتب صلاح الدين فحبسه الخليفة، ثم تبين له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى إمرة الحج.
وكانت الحلة الشيعية إقطاعه، وكان شجاعا جوادا سمحا قليل الكلام، يمضي عليه الأسبوع لا يتكلم فيه بكلمة، وكان فيه حلم واحتمال، استغاث به رجل على بعض نوابه فلم يرد عليه، فقال له الرجل المستغيث: أحمار أنت؟ فقال: لا. وفيه يقول ابن التعاويذي:
وأمير على البلاد مولى ** لا يجيب الشاكي بغير السكوت
وكلما زاد رفعة حطنا اللـ ** ـه بتفيله إلى البهموت
وقد سرق فراشه حياجبه له فأرادوا أن يستقروه عليها، وكان قد رآه الأمير طاشتكين حين أخذها فقال: لا تعاقبوا أحدا، قد أخذها من لا يردها، ورآه حين أخذها من لا ينم عليه، وقد كان بلغ من العمر تسعين سنة، واتفق أنه استأجر أرضا مدة ثلاثمائة سنة للوقف، فقال فيه بعض المضحكين: هذا لا يوقن بالموت، عمره تسعون سنة وأستأجر أرضا ثلاثمائة سنة، فاستضحك القوم والله سبحانه وتعالى أعلم.
البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر | |
---|---|
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697 |