البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة
في هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بجنكزخان المسمى بتموجين لعنه الله تعالى، ومن معه من التتار قبحهم الله أجمعين، واستفحل أمرهم واشتد إفسادهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها.
فملكوا في سنة واحدة، وهي هذه السنة سائر الممالك إلا العراق والجزيرة والشام ومصر، وقهروا جميع الطوائف التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم.
وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلدا إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار، وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع.
وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتلون بهم ويحاصرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قتلوهم.
وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطا حسنا مفصلا، وقدم على ذلك كلاما هائلا في تعظيم هذا الخطب العجيب.
قال فنقول: هذا فصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم والى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة لما قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل.
ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقى على من أتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح.
فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما رواء النهر، مثل سمرقند وبخارا وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا، وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق.
ثم يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير قلعته التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا.
ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم.
وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في سنة واحدة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدا بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض، وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلا وأعد لهم أخلاقا وسيرة في نحو سنة.
ولم يتفق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقب وصولهم، وهم مع ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت، ولا يحرمون شيئا، ويأكلون ما وجدوه من الحيوانات والميتات لعنهم الله تعالى.
قال: وإنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع لأن السلطان خوارزم شاه محمدا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك واستقر في الأمور، فلما انهزم منهم في العام الماضي وضعف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدري أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلاد ولم يبق لها من يحميها { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولا } [الأنفال: 44] ، وإلى الله ترجع الأمور.
ثم شرع في تفصيل ما ذكره مجملا، فذكر أولا ما قدمنا ذكره في العام الماضي من بعث جنكزخان أولئك التجار بمال له ليأتونه بثمنه كسوة ولباسا، وأخذ خوارزم شاه تلك الأموال فحنق عليه جنكزخان وأرسل يهدده فسار إليه خوارزم شاه بنفسه وجنوده فوجد التتار مشغولين بقتال كشلى خان، فنهب أثقالهم ونساءهم وأطفالهم فرجعوا وقد انتصروا على عدوهم، وازدادوا حنقا وغيظا، فتواقعواهم وإياه وابن جنكزخان ثلاثة أيام فقتل من الفريقين خلق كثير.
ثم تحاجزوا ورجع خوارزم شاه إلى أطراف بلاده فحصنها ثم كر راجعا إلى مقره ومملكته بمدينة خوارزم شاه، فأقبل جنكزخان فحصر بخارا كما ذكرنا فافتتحها صلحا وغدر بأهلها حتى افتتح قلعتها قهرا وقتل الجميع، وأخذ الأموال وسبى النساء والأطفال وخرب الدور والمحال، وقد كان بها عشرون ألف مقاتل، فلم يغن عنهم شيئا، ثم سار إلى سمرقند فحاصرها في أول المحرم من هذه السنة وبها خمسون ألف مقاتل من الجند، فنكلوا وبرز إليهم سبعون ألفا من العامة فقتل الجميع في ساعة واحدة، وألقى إليه الخمسون ألف السلم فسلبهم سلاحهم وما يمتنعون به، وقتلهم في ذلك اليوم، واستباح البلد فقتل الجميع، وأخذ الأموال وسبى الذرية وحرقه وتركه بلاقع فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأقام لعنه الله هنالك وأرسل السرايا إلى البلدان فأرسل سرية إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، وكانوا عشرين ألفا قال: اطلبوه فأدركوه ولو تعلق بالسماء، فساروا وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه، فلم يجدوا سفنا فعملوا لهم أحواضا يحملون عليها الأسلحة ويرسل أحدهم فرسه ويأخذ بذنبها فتجره الفرس بالماء، وهو يجر الحوض الذي فيه سلاحه، حتى صاروا كلهم في الجانب الآخر، فلم يشعر بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه، فهرب منهم إلى نيسابور، ثم منها إلى غيرها، وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار كلما أتى بلدا ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم.
حتى ركب في بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه فكانت فيها وفاته.
وقيل: إنه لا يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدرى أين ذهب ولا إلى أي مفر هرب، وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته عشرة آلاف ألف دينار، وألف حمل من الأطلس وغيره وعشرون ألف فرس وبغل، ومن الغلمان والجواري والخيام شيئا كثيرا، وكان له عشرة آلاف مملوك كل واحد مثل ملك فتمزق ذلك كله.
وقد كان خوارزم شاه فقيها حنفيا فاضلا، له مشاركات في فنون من العلم، يفهم جيدا، وملك بلادا متسعة وممالك متعددة إحدى وعشرين سنة وشهورا.
ولم يكن بعد ملوك بني سلجوق أكثر حرمة منه، ولا أعظم ملكا منه، لأنه إنما كانت همته في الملك لا في اللذات والشهوات، ولذلك قهر الملوك بتلك الأراضي وأحل بالخطا بأسا شديدا، حتى لم يبق ببلاد خراسان وما رواء النهر وعراق العجم وغيرها من الممالك سلطان سواه، وجميع البلاد تحت أيدي نوابه.
ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنع القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسر مدة، ونهبوا ما فيها وقتلوا أهاليها كلهم وسبوا وأحرقوا، ثم ترحلوا عنها نحو الري فوجدوا في الطريق أم خوارزم شاه، ومعها أموال عظيمة جدا، فأخذوها وفيها كل غريب ونفيس مما لم يشاهد مثله من الجواهر وغيرها.
ثم قصدوا الري فدخلوها على حين غفلة من أهلها فقتلوهم وسبوا وأسروا.
ثم ساروا إلى همذان فملكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا.
ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحوا من أربعين ألفا.
ثم تيمموا بلاد أذربيجان فصالحهم ملكها أزبك بن البهلوان على مال حمله إليهم لشغله بما هو فيه من السكر وارتكاب السيئات والانهماك على الشهوات، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين حتى انهزمت الكرج فأقبلوا إليهم بحدهم وحديدهم، فكسرتهم التتار وقعة ثانية أقبح هزيمة وأشنعها.
وههنا قال ابن الأثير: ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه:
طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى حدود بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، قد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها.
يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى أمر عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، وقد عدم سلطان المسلمين خوارزم شاه.
قال: وانقضت هذه السنة وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعة ومقاتلة يطول عليهم بها المطال عدلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحهم أهلها بمال.
ثم ساروا إلى مراغة فحصروها ونصبوا عليها المجانيق وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأة - ولو يفلح قوم ولو أمرهم امرأة - ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقا لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئا كثيرا، وسبوا وأسروا على عادتهم لعنهم الله لعنة تدخلهم نار جهنم، وقد كان الناس يخافون منهم خوفا عظيما جدا حتى إنه دخل رجل منهم إلى درب من هذه البلد وبه مائة رجل لم يستطع واحد منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحدا بعد واحد حتى قتل الجميع ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده.
ودخلت امرأة منهم في زي رجل دارا فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها لعنها الله.
ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعا، وقال أهل تلك النواحي: هذا أمر عصيب، وكتب الخليفة إلى أهل الموصل والملك الأشرف صاحب الجزيرة يقول:
إني قد جهزت عسكرا فكونوا معه لقتال هؤلاء التتار، فأرسل الأشرف يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم لها على أخذ الديار المصرية قاطبة.
وكان أخوه المعظم قد قدم على والي حران يستنجده لأضيهما الكامل ليتحاجزوا الفرنج بدمياط وهو على أهبة المسير إلى الديار المصرية، فكتب الخليفة إلى مظفر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي: عشرة آلاف مقاتل، فلم يقدم عليه منهم ثمانمائة فارس، ثم تفرقوا قبل أن يجتمعوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحهم أهلها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتل شحنتهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرا وقتلوا أهلها عن آخرهم.
ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز، ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وحرقوها وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهن ويشقون بطونهم عن الأجنة.
ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضا كسرة فظيعة.
ثم فتحوا بلدانا كثيرة يقتلون أهلها، ويسبون نساءها ويأسرون من الرجال ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونهم بين أيديهم ترسا يتقون بهم الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالا عظيما فكسروهم وقصدوا أكبر مدائن القبجاق، وهي: مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر من البرطاسي والقندر والسنجاب شيء كثير جدا.
ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس، وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتقوا معهم فكسرتهم التتار كسرة فظيعة جدا.
ثم ساروا نحو بلقار في حدود العشرين وستمائة ففرغوا من ذلك كله، ورجعوا نحو ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.
هذا ما فعلته هذه السرية المغرّبة، وكان جنكزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلها، وكذلك صالحوا مدنا كثيرة أخرى.
حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها، وكانت حصينة فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكزخان فقدم بنفسه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصة وعامة.
ثم قصدوا مدينة مرو مع جنكزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم، فاقتتلوا معه قتالا عظيما حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعة، ثم غدروا به وبأهل البلد، فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان.
ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو.
ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهد علي بن موسى الرضي سلام الله عليه وعلى آبائه، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابا.
ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم، ثم عادوا إلى ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.
وأرسل جنكزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحو البلد قهرا، فقتلوا من فيها قتلا ذريعا، ونهبوها وسبوا أهلها وأرسلوا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها.
ثم عادوا إلى جنكزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقا من أسارى المسلمين.
ثم كتب إلى جنكزخان يطلب منه أن يبرز بنفسه لقتاله، فقصده جنكزخان فتواجها وقد تفرق على جلال الدين بعض جيشه ولم يبق بد من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يعهد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضعفت أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة، كل هذا أو أكثره وقع في هذه السنة.
وفيها: أيضا ترك الأشرف، موسى بن العادل لأخيه شهاب الدين غازي ملك خلاط وميافارقين وبلاد أرمينية واعتاض عن ذلك، بالرها وسروج، وذلك لاشتغاله عن حفظ تلك النواحي بمساعدة أخيه الكامل ونصرته على الفرنج لعنهم الله تعالى.
وفي المحرم منها: هبت رياح ببغداد، وجاءت بروق، وسمعت رعود شديدة، وسقطت صاعقة بالجانب الغربي على المنارة المجاورة لعون ومعين فثلمتها، ثم أصلحت، وغارت الصاعقة في الأرض.
وفي هذه السنة نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي من جامع دمشق بعد ممانعة من بعض الناس لهم، ولكن ساعدهم بعض الأمراء في نصبه لهم، وهو الأمير ركن الدين المعظمي، وصلى فيه الشيخ موفق الدين بن قدامة.
قلت: ثم رفع في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة وعوضوا عنه بالمحراب الغربي عند باب الزيارة، كما عوض الحنفية عن محرابهم الذي كان في الجانب الغربي من الجامع بالمحراب المجدد لهم شرقي باب الزيارة، حين جدد الحائط الذي هو فيه في الأيام التنكزية، على يدي ناظر الجامع تقي الدين بن مراجل أثابه الله تعالى كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيها: قتل صاحب سنجار أخاه، فملكها مستقلا بها الملك الأشرف بن العادل.
وفيها: نافق الأمير عماد الدين بن المشطوب على الملك الأشرف، وكان قد آواه وحفظه من أذى أخيه الكامل حين أراد أن يبايع للفائز، ثم إنه سعى في الأرض فسادا في بلاد الجزيرة فسجنه الأشرف حتى مات كمدا وذلا وعذابا.
وفيها: أوقع الكامل بالفرنج الذين على دمياط بأسا شديدا، فقتل منهم عشرة آلاف، وأخذ منهم خيولهم وأموالهم ولله الحمد.
وفيها: عزل المعظم المعتمد مفاخر الدين إبراهيم عن ولاية دمشق وولاها للعزيز خليل، ولما خرج الحاج إلى مكة شرفها الله تعالى كان أميرهم المعتمد فحصل به خير كثير، وذلك أنه كف عبيد مكة عن نهب الحجاج بعد قتلهم أمير حاج العراقيين أقباش الناصري، وكان من أكبر الأمراء عند الخليفة الناصر وأخصهم عنده، وذلك لأنه قدم معه بخلع للأمير حسين بن أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم العلوي الحسني الزيدي بولايته لأمرة مكة بعد أبيه.
وكانت وفاته في جمادى الأولى من هذه السنة، فنازع في ذلك راجح وهو أكبر أولاد قتادة.
وقال لا يتأمر عليها غيري، فوقعت فتنة أفضى الحال إلى قتل أقباش غلطا.
وقد كان قتادة من أكابر الأشراف الحسنيين الزيديين، وكان عادلا منصفا منعما، نقمة على عبيد مكة والمفسدين بها.
ثم عكس هذا السير فظلم وجدد المكوس، ونهب الحاج غير مرة فسلط الله عليه ولده حسنا فقتله وقتل عمه وأخاه أيضا، فلهذا لم يمهل الله حسنا أيضا، بل سلبه الملك وشرده في البلاد، وقيل: بل قتل كما ذكرنا، وكان قتادة شيخا طويلا مهيبا لا يخاف من أحد من الخلفاء والملوك، ويرى أنه أحق بالأمر من كل أحد.
وكان الخليفة يود لو حضر عنده فيكرمه، وكان يأبى من ذلك ويمتنع عنه أشد الامتناع، ولم يفد إلى أحد قط ولا ذل الخليفة ولا ملك، وكتب إليه الخليفة مرة يستدعيه فكتب إليه:
ولي كف ضرغامٍ أذل ببطشها ** وأشرى بها بين الورى وأبيعُ
تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ** وفي بطنها للمجد بين ربيـعُ
أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي ** خلاصا لها؟ إني إذا لرقيـعُ
ما أنا إلا المسك في كل بقعـة ** يضوع وأما عندكم فيضيعُ
وقد بلغ من السنين سبعين سنة.
وقد ذكر ابن الأثير وفاته في سنة ثماني عشرة فالله أعلم.
وفيها توفي من الأعيان:
الملك الفائز غياث الدين إبراهيم بن العادل
كان قد انتظم له الأمر في الملك بعد أبيه على الديار المصرية على يدي الأمير عماد الدين بن المشطوب، لولا أن الكامل تدارك ذلك سريعا ثم، أرسله أخوه في هذه السنة إلى أخيهما الأشرف موسى يستحثه في سرعة المسير إليهم بسبب الفرنج، فمات بين سنجاب والموصل، وقد ذكر أنه سم فرد إلى سنجاب فدفن بها رحمه الله تعالى.
شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين محمود بن حمويه الجويني
من بيت رياسة وإمرة عند بني أيوب، وقد كان صدر الدين هذا فقيها فاضلا، درس بتربة الشافعي بمصر وبمشهد الحسين وولى مشيخة سعيد السعداء والنظر فيها، وكانت له حرمة وافرة عند الملوك أرسله الكامل إلى الخليفة يستنصره على الفرنج، فمات بالموصل بالإسهال، ودفن بها عند قضيب البان عن ثلاث وسبعين سنة.
صاحب حماه الملك المنصور
محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وكان فاضلا له تاريخ في عشر مجلدات سماه المضمار، وكان شجاعا فارسا، فقام بالملك بعده ولده الناصر قليج أرسلان، ثم عزله عنها الكامل وحبسه حتى مات رحمه الله تعالى وولى أخاه المظفر بن المنصور.
صاحب آمد الملك الصالح ناصر الدين
محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، وكان شجاعا محبا للعلماء، وكان مصاحبا للأشرف موسى بن العادل يجيء إلى خدمته مرارا، وملك بعده ولده المسعود، وكان بخيلا فاسقا، فأخذه معه الكامل وحبسه بمصر، ثم أطلقه فأخذ أمواله وسار إلى التتار، فأخذته منه.
الشيخ عبد الله الوينني
الملقب: أسد الشام رحمه الله ورضى عنه من قرية بعلبك يقال لها: يونين، وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة، وكان من الصالحين الكبار المشهورين بالعبادة والرياضة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، له همة عالية في الزهد والورع، بحيث إنه كان لا يقتني شيئا ولا يملك مالا ولا ثيابا، بل يلبس عارية ولا يتجاوز قميصا في الصيف وفروة فوقه في الشتاء، وعلى رأسه قبعا من جلود المعز، شعره إلى ظاهر.
وكان لا ينقطع عن غزاة من الغزوات، ويرمي عن قوس زنته ثمانون رطلا، وكان يجاور في بعض الأحيان بجبل لبنان، ويأتي في الشتاء إلى عيون العاسريا في سفح الجبل المطل على قرية دومة شرقي دمشق، لأجل سخونة الماء، فيقصده الناس للزيارة هناك ويجيء تارة إلى دمشق فينزل بسفح قاسيون عند القادسية.
وكانت له أحوال ومكاشفات صالحة، وكان يقال له: أسد الشام.
حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزي عن القاضي جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع: أنه شاهد مرة الشيخ عبد الله وهو يتوضأ من ثور عند الجسر الأبيض، إذ مر نصراني ومعه حمل بغل خمرا فعثرت الدابة عند الجسر فسقط الحمل، فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه ولا يعرفه، واستعان به على رفع الحمل فاستدعاني الشيخ فقال:
تعال يا فقيه، فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة وذهب النصراني فتعجبت من ذلك، وتبعت الحمل وأنا ذاهب إلى المدينة، فانتهى به إلى العقبة فأورده إلى الخمار بها فإذا خل فقال له الخمار: ويحك هذا خل.
فقال النصراني: أنا أعرف من أين أتيت، ثم ربط الدابة في خان ورجع إلى الصالحية فسأل عن الشيخ فعرفه فجاء إليه فأسلم على يديه.
وله أحوال وكرامات كثيرة جدا، وكان لا يقوم لأحد دخل عليه ويقول: إنما يقوم الناس لرب العالمين.
وكان الأمجد إذا دخل عليه جلس بين يديه فيقول له: يا أمجد فعلت كذا وكذا ويأمره، بما يأمره وينهاه عما ينهاه عنه، وهو يمتثل جميع ما يقوله له، وما ذاك إلا لصدقه في زهده وورعه وطريقه.
وكان يقبل الفتوح، وكان لا يدخر منه شيئا لغد، وإذا اشتد جوعه أخذ من ورق اللوز ففركه واستفه، ويشرب فوقه الماء البارد رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.
وذكروا: أنه كان يحج في بعض السنين في الهواء، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهاد وصالحي العباد.
ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء، وأول من يذكر عنه هذا حبيب العجمي، وكان من أصحاب الحسن البصري، ثم من بعده من الصالحين رحمهم الله أجمعين.
فلما كان يوم جمعة من عشر ذي الحجة من هذه السنة صلى الصبح عبد الله اليونيني وصلاة الجمعة بجامع بعلبك، وكان قد دخل الحمام يومئذ قبل الصلاة وهو صحيح، فلما انصرف من الصلاة قال للشيخ داود المؤذن، وكان يغسل الموتى: انظر كيف تكون غدا.
ثم صعد الشيخ إلى زاويته فبات يذكر الله تعالى تلك الليلة، ويتذكر أصحابه، ومن أحسن إليه ولو بأدنى شيء ويدعو لهم، فلما دخل وقت الصبح صلى بأصحابه ثم استند يذكر الله وفي يده سبحة، فمات وهو كذلك جالس، لم يسقط، ولم تسقط السبحة من يده، فلما انتهى الخبر إلى الملك الأمجد صاحب بعلبك فجاء إليه فعاينه كذلك، فقال:
لو بنينا عليه بنيانا هكذا يشاهد الناس منه آية.
فقيل له: ليس هذا من السنة، فنحي وكفن وصلي عليه ودفن تحت اللوزة التي كان يجلس تحتها يذكر الله تعالى، رحمه الله ونور ضريحه.
وكانت وفاته يوم السبت وقد جاوز ثمانين عاما أكرمه الله تعالى، وكان الشيخ محمد الفقيه اليونيني من جملة تلاميذه، وممن يلوذ به وهو جد هؤلاء المشايخ بمدينة بعلبك.
أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أبي بكر
المجلي الموصلي ويعرف بابن الجهني، شاب فاضل ولي كتابة الإنشاء لبدر الدين لؤلؤ زعيم الموصل ومن شعره:
نفسي فـداء الذي فكرت فيه وقـد ** غدوت أغرق في بحر من العجبِ
يبدو بليل على صبح على قمرٍ ** على قضيبٍ على وهم على كثبِ
البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر | |
---|---|
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697 |