البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وستمائة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وستمائة


فيها فتحت قلعة الروم.

وسلطان البلاد من دنقله إلى مصر إلى أقصى بلاد الشام بكماله وسواحله بلاد حلب، وغير ذلك الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور قلاوون، ووزيره شمس الدين بن السعلوس، وقضاته بالشام ومصرهم المذكورون في التي قبلها، ونائب مصر بدر الدين بيدرا ونائب الشام علم الدين سنجر الشجاعي، وسلطان التتر بيدار بن أرغون بن أبغا، وفي رابع صفر وقع حريق في بعض الخزائن بقلعة الجبل، أتلف شيئا كثيرا من الذخائر والنفائس والكتب.

وفي التاسع والعشرين من ربيع الأول خطب الخليفة الحاكم، وحث في خطبته على الجهاد والنفير، وصلى بهم الجمعة وجهر بالبسملة.

وفي ليلة السبت ثالث عشر صفر جيء بهذا الجرز الأحمر الذي بباب البرادة من عكا، فوضع في مكانه.

وفي ربيع الأول كمل بناء الطارمة وما عندها من الدور والقبة الزرقاء، وجاءت في غاية الحسن والكمال والارتفاع.

وفي يوم الاثنين ثاني جمادى الأولى ذكر الدرس بالظاهرية الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي، عوضا عن علاء الدين بن بنت الأعز، وفي هذا اليوم درس بالدولعية كمال الدين بن الزكي.

وفي يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة درس بالنجيبية الشيخ ضياء الدين عبد العزيز الطوسي، بمقتضى نزول الفارقي له عنها. والله أعلم بالصواب.

فتح قلعة الروم

وفي ربيع الأول منها توجه السلطان الأشرف بالعساكر نحو الشام فقدم دمشق ومعه وزيره ابن السلعوس فاستعرض الجيوش، وأنفق فيهم أموالا جزيلة، ثم سار بهم نحو بلاد حلب، ثم سار إلى قلعة الروم، فافتتحها بالسيف قهرا في يوم السبت حادي عشر رجب، وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق، وزينت البلد سبعة أيام وبارك الله لجيش المسلمين في سعيهم، وكان يوم السبت إلبا على أهل يوم الأحد، وكان الفتح بعد حصار عظيم جدا، مدة ثلاثين يوما.

وكانت المنجنيقات تزيد على ثلاثين منجنيقا، واسشتهد من الأمراء شرف الدين بن الخطير، وقد قتل من أهل البلد خلق كثير، وغنم المسلمون منها شيئا كثيرا، ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك الشجاعي بقلعة الروم يعمرون ما وهى من قلعتها بسبب رمي المنجنيقات عليها وقت الحصار، وكان دخوله إلى دمشق بكرة يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان، فاحتفل الناس لدخوله ودعوا له وأحبوه، وكان يوما مشهودا، بسط له كما يبسط له إذا قدم من الديار المصرية، وإنما كان ذلك بإشارة ابن السلعوس، فهو أول من بسط له، وقد كسر أبوه التتر على حمص ولم يبسط له، وكذلك الملك الظاهر كسر التتر والروم على البلستين.

وفي غير موطن ولم يبسط له، وهذه بدعة شنعاء قد أحدثها هذا الوزير للملوك، وفيها إسراف وضياع مال وأشر وبطر ورياء وتكليف للناس، وأخذ أموال ووضعها في غير مواضعها، والله سبحانه سائله عنها، وقد ذهب وتركها يتوارثها الملوك والناس عنه، وقد حصل للناس بسبب ذلك ظلم عظيم، فليتق العبد ربه ولا يحدث في الإسلام بسبب هواه ومراد نفسه ما يكون سبب مقت الله له، وإعراضه عنه، فإن الدنيا لا تدوم لأحد، ولا يدوم أحد فيها، والله سبحانه أعلم.

وكان ملك قلعة الروم مع السلطان أسيرا، وكذلك رؤوس أصحابه، فدخل بهم دمشق وهم يحملون رؤوس أصحابهم على رؤوس الرماح، وجهز السلطان طائفة من الجيش نحو جبل كسروان والجزر بسبب ممالأتهم للفرنج قديما على المسلمين، وكان مقدم العساكر بندار وفي صحبته سنقر الأشقر.

وقرا سنقر المنصوري الذي كان نائب حلب فعزله عنها السلطان وولى مكانه سيف الدين بلبان البطاحي المنصوري، وجماعة آخرون من الأمراء الكبار، فلما أحاطوا بالجبل ولم يبق إلا دمار أهليه حملوا في الليل إلى بندار حملا كثيرا ففتر في قضيتهم.

ثم انصرف بالجيوش عنهم وعادوا إلى السلطان، فتلقاهم السلطان وترجل السلطان إلى الأمير بندار وهو نائبه على مصر، ثم ابن السلعوس نبه السلطان على فعل بندار فلامه وعنفه، فمرض من ذلك مرضا شديدا أشفى به على الموت حتى قيل إنه مات، ثم عوفي فعمل ختمة عظيمة بجامع دمشق حضرها القضاة والأعيان، وأشغل الجامع نظير ليلة النصف من شعبان، وكان ذلك ليلة العشر الأول من رمضان.

وأطلق السلطان أهل الحبوس وترك بقية الضمان عن أرباب الجهات السلطانية، وتصدق عنه بشيء كثير، ونزل هو عن ضمانات كثيرة كان قد حاف فيها على أربابها، وقد امتدح الشهاب محمود الملك الأشرف خليل على فتحه قلعة الروم بقصيدة هائلة فاضلة أولها:

لك الراية الصفراء يقدمها النصر ** فمن كيقباد إن رآها وكيخسرو

إذا خفقت في الأفق هدت بنورها ** هوى الشرك واستعلى الهدى وانجلى الثغر

وإن نشرت مثل الأصائيل في الوغى ** جلى النقع من لألاء طلعتها البدر

وإن يممت زرق العدى سار تحتها ** كتائب خضر دوحها البيض والسمر

كان مثار النقع ليل وخفقها ** بروق وأنت البدر والفلك الحتر

وفتح أتى في إثر فتحٍ كأنما ** سماء بدت تترى كواكبها الزهر

فكم فطمت طوعا وكرها معاقلا ** مضى الدهر عنها وهي عانسة بكر

بذلت لها عزما فلولا مهابة ** كساها الحيا جاءتك تسعى ولا مهر

قصدت حمىً من قلعة الروم ولم يتح ** لغيرك إذ غرتهم المغل فاغتروا

ووالوهم سرا ليخفوا أذاهم ** وفي آخر الأمر استوى السر والجهر

صرفت إليهم همة لو صرفتها ** إلى البحر لاستولى على مده الجزر

وما قلعة الروم التي حزت فتحها ** وإن عظمت إلا إلى غيرها جسر

طليعة ما يأتي من الفتح بعدها ** كما لاح قبل الشمس في الأفق الفجر

فصبحتها بالجيش كالروض بهجةٍ ** صوارمه أنهاره والقنا الزهر

وأبعدت بل كالبحر والبيض موجه ** وجرد المزاكي السفن والخود الذر

وأغربت بل كالليل عوج سيوفه ** أهلته ولا نبل أنجمه الزهر

ولحظات لا بل كالنهار شموسه ** محياك والآصال راياتك الصفر

ليوث من الأتراك آجامها القنا ** لها كل يوم في ذرى ظفر ظفر

فلا الريح يجري بينهم لاشتباكها ** عليهم ولا ينهل من فوقهم قطر

عيون إذا الحرب العوان عرضت ** لخطابها بالنفس لم يغلها مهر

ترى الموت معقودا يهدب نبالهم ** إذا ما رماها القوس والنظر الشزر

ففي كل سرحٍ غصن بان مهفهف ** وفي كل قوس مدة ساعد بدر

إذا صدموا شم الجبال تزلزلت ** وأصبح سهلا تحت خيلهم الوعر

ولو ردت ماء الفرات خيولهم ** لقيل هنا قد كان فيما مضى نهر

أداروا بها سورا فأضحت كخاتم ** لدى خنصر أو تحت منطقه خصر

وأرخوا إليها من أكف بحارهم ** سحاب ردى لم يخل من قطره قطر

كأن المجانيق التي قمن حولها ** رواعد سخط وبلها النار والصخر

أقامت صلاة الحرب ليلا صخورها ** فأكثرها شفع وأكبرها وتر

ودارت بها تلك النقوب فأسرفت ** وليس عليها في الذي فعلت حجر

فأضحت بها كالصب يخفي غرامه ** حذار أعاديه وفي قلبه جمر

وشبت بها النيران حتى تمزقت ** وباحت بما أخفته وأنهتك الستر

فلاذوا بذيل العفو منك فلم تجب ** رجاءهم لو لم يشب قصدهم مكر

وما كره المغل اشتغالك عنهم ** بها عند ما فروا ولكنهم سروا

فأحرزتها بالسيف قهرا وهكذا ** فتوحك فيما قد مضى كله قسر

وأضحت بحمد الله ثغرا ممنعا ** تبيد الليالي والعدى وهو مفتر

فيا أشرف الأملاك فزت بغزوة ** تحصل منها الفتح والذكر والأجر

ليهنيك عند المصطفى أن دينه ** توالي له في يمن دولتك النصر

وبشراك أرضيت المسيح وأحمدا ** وإن غضب اليعفور من ذاك والكفر

فسر حيث ما تختار فالأرض كلها ** تطيعك والأمصار أجمعها مصر

ودم وابق للدنيا ليحيى بك الهدى ** ويزهى على ماضي العصور بك العصر

حذفت منها أشياء كثيرة.

وفيها: تولى خطابة دمشق الشيخ عز الدين أحمد الفاروثي الواسطي، بعد وفاة زين الدين بن المرحل، وخطب واستسقى بالناس فلم يسقوا، ثم خطب مرة ثانية بعد ذلك بأيام عند مسجد القدم، فلم يسقوا، ثم ابتهل الناس من غير دعاية واستسقاية فسقوا.

ثم عزل الفاروثي بعد أيام بالخطيب موفق الدين أبي المعالي محمد بن محمد بن محمد بن عبد المنعم بن حسن المهراني الحموي، كان خطيب حماة، ثم نقل إلى دمشق في هذه السنة، فقام وخطب وتألم الفاروثي لذلك ودخل على السلطان واعتقد أن الوزير عزله من غير علمه، فإذا هو قد شعر لذلك واعتذر بأنه إنما عزله لضعفه، فذكر له أن يصلي ليلة النصف مائة ركعة بمائة قل هو الله أحد، فلم يقبلوا واستمروا بالحموي.

وهذه دناءة وقلة عقل وعدم إخلاص من الفاروثي، وأصاب السلطان في عزله.

وفي هذا اليوم قبض السلطان على الأمير سنقر الأشقر وغيره فهرب هو والأمير حسام الدين لاجين السلحداري، فنادت عليه المنادية بدمشق من أحضره فله ألف دينار، ومن أخفاه شنق، وركب السلطان ومماليكه في طلبه، وصلى الخطيب بالناس في الميدان الأخضر، وعلى الناس كآبة بسبب تفرق الكلمة، واضطراب الجيش، واختبط الناس، فلما كان سادس شوال أمسكت العرب سنقر الأشقر فردوه على السلطان فأرسله مقيدا إلى مصر.

وفي هذا اليوم ولى السلطان نيابة دمشق لعز الدين أيبك الحموي، عوضا عن الشجاعي، وقدم الشجاعي من الروم ثاني يوم عزله فتلقاه الفاروثي فقال: قد عزلنا من الخطابة، فقال: ونحن من النيابة، فقال الفاروثي: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 129] فلما بلغ ابن السلعوس تغضب عليه، وكان قد عين له القيمرية فترك ذلك، وسافر السلطان عاشر شوال إلى مصر فدخلها في أبهة الملك.

وفي يوم دخوله أقطع قرا سنقر مائة فارس بمصر عوضا عن نيابة حلب، وفي هذه السنة اشترى الأمير سيف الدين طغاي الأشقري قيسارية القطن المعروفة بإنشاء الملك المعظم بن العادل من بيت المال، بمرسوم من السلطان، وكان حظيا عنده، ونقل سوق الحريريين تلك المدة إليها، وكان السلطان قد أفرج عن علم الدين الدويداري بعد رجوعه من قلعة الروم واستحضره إلى دمشق وخلع عليه، واستصحبه معه إلى القاهرة، وأقطعه مائة فارس، وولاه مشد الدواوين مكرها.

وفي ذي القعدة استحضر السلطان سنقر الأشقر وطقصوا فعاقبهما فاعترفا بأنهما أرادا قتله، فسألهما عن لاجين فقالا: لم يكن معنا ولا علم له بهذا، فخنقهما وأطلقه بعد ما جعل الوتر في حلقه، وكان قد بقي له مدة لا بد أن يبلغها، وقد ملك بعد ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفي ذي الحجة عقد الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين عقده على بنت قاضي القضاة شهاب الدين الخويي بالبادرائية، وكان حافلا.

وفيها: دخل الأمير سنقر الأعسر على بنت الوزير شمس الدين بن السلعوس على صداق ألف دينار، وعجل لها خمسمائة.

وفيها: قفز جماعة من التتر نحوا من ثلاثمائة إلى الديار المصرية فأكرموا.

من الأعيان:

الخطيب زين الدين أبو حفص عمر بن مكي بن عبد الصمد الشافعي المعروف بابن المرحل

وهو والد الشيخ صدر الدين بن الوكيل، سمع الحديث وبرع في الفقه وفي علوم شتى، منها علم الهيئة، وله فيه مصنف، تولى خطابة الجامع الأموي بدمشق ودرس وأفتى، توفي ليلة السبت الثالث والعشرين من ربيع الأول، وصلّي عليه من الغد بباب الخطابة.

الشيخ عز الدين الفاروثي

ولي الخطابة قليلا، ثم عزل ثم مات، ودفن بباب الصغير عفا الله عنا وعنه.

الصاحب فتح الدين أبو عبد الله

محمد بن محيي الدين بن عبد الله بن عبد الظاهر، كاتب الأسرار في الدولة المنصورية بعد ابن لقمان، وكان ماهرا في هذه الصناعة، وحظي عند المنصور وكذا عند ابنه الأشرف، وقد طلب منه ابن السلعوس أن يقرأ عليه كل ما يكتبه، فقال: هذا لا يمكن فإن أسرار الملوك لا يطلع عليها غيرهم، وأبصروا لكم غيري يكون معكم بهذه المثابة، فلما بلغ ذلك الأشرف أعجبه منه، وازدادت عنده منزلته.

توفي يوم السبت نصف رمضان، وأخرجت في تركته قصيدة قد رثا بها تاج الدين بن الأثير، وكان قد شوش فاعتقد أنه يموت فعوفي فبقيت بعده، وتولى ابن الأثير بعده ورثاه تاج الدين كما رثاه، وتوفي ابن الأثير بعده شهر وأربعة أيام.

يونس بن علي بن رضوان بن برقش

الأمير عماد الدين، كان أحد الأمراء بطبلخانة في الدولة الناصرية، ثم حمل وبطل الجندية بالكلية في الدولة المظفرية وهلم جرا إلى هذه السنة، وكان الظاهر يكرمه، توفي في شوال ودفن عند والده بتربة الخزيميين رحمهم الله.

جلال الدين الخبازي عمر بن محمد بن عمر أبو محمد الخجندي أحد مشايخ الحنفية الكبار

أصله من بلاد ما وراء النهر من بلد يقال لها خجندة، واشتغل ودرس بخوارزم، وأعاد ببغداد، ثم قدم دمشق فدرس بالعزية والخاتونية البرانية، وكان فاضلا بارعا منصفا مصنفا في فنون كثيرة، توفي لخمس بقين من ذي الحجة منها، وله ثنتان وستون سنة، ودفن بالصوفية.

الملك المظفر قرا أرسلان الأفريقي

صاحب ماردين، توفي وله ثمانون سنة، وقام بعده ولده شمس الدين داود ولقب بالملك السعيد، والله سبحانه أعلم.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697