البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة سبع وستين وستمائة
في صفر منها جدد السلطان الظاهر البيعة لولده من بعده الملك السعيد محمد بركه خان، وأحضر الأمراء كلهم والقضاة والأعيان وأركبه ومشى بين يديه، وكتب له ابن لقمان تقليدا هائلا بالملك من بعد أبيه، وأن يحكم عنه أيضا في حال حياته، ثم ركب السلطان في عساكره في جمادى الآخرة قاصدا الشام، فلم دخل دمشق جاءته رسل من أبغا ملك التتار معهم مكاتبات ومشافهات، فمن جملة المشافهات: أنت مملوك بعت بسيواس فكيف يصلح لك أن تخالف ملوك الأرض؟ واعلم أنك لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت مني فاعمل لنفسك على مصالحة السلطان أبغا.
فلم يلتفت إلى ذلك ولا عده شيئا بل أجاب عنه أتم جواب، وقال لرسله: أعلموه أني من روائه بالمطالبة ولا أزال حتى أنتزع منه جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة، وسائر أقطار الأرض.
وفي جمادى الآخرة رسم السلطان الملك الظاهر بإراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطىء بالبلاد كلها، فنهبت الخواطىء وسلبن جميع ما كان معهن حتى يتزوجن، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وأسقط المكوس التي كانت مرتبة على ذلك، وعوض من كان محالا على ذلك بغيرها ولله الحمد والمنة.
ثم عاد السلطان بعساكره إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق عند خربة اللصوص تعرضت له امرأة فذكرت له أن ولدها دخل مدينة صور، وأن صاحبها الفرنجي غدر به وقتله وأخذ ماله، فركب السلطان وشن الغارة على صور فأخذ منها شيئا كثيرا، وقتل خلقا فأرسل إليه ملكها ما سبب هذا؟ فذكر له غدره ومكره بالتجار ثم قال السلطان لمقدم الجيوش:
أوهم الناس أني مريض وأني بالمحفة وأحضر الأطباء استوصف لي منهم ما يصلح لمريض به كذا وكذا، وإذا وصفوا لك فأحضر الأشربة إلى المحفة وأنتم سائرون.
ثم ركب السلطان على البريد وساق مسرعا فكشف أحوال ولده وكيف الأمر بالديار المصرية بعده ثم عاد مسرعا إلى الجيش فجلس في المحفة وأظهروا عافيته وتباشروا بذلك، وهذه جرأة عظيمة، وإقدام هائل.
وفيها حج السلطان الملك الظاهر وفي صحبته الأمير بدر الدين الخزندار، وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي، وفخر الدين بن لقمان، وتاج الدين بن الأثير ونحو من ثلاثمائة مملوك، وأجناد من الخلقة المنصورة، فسار على طريق الكرك ونظر في أحوالها ثم منها إلى المدينة النبوية، فأحسن إلى أهلها ونظر في أحوالها، ثم منها إلى مكة فتصدق على المجاورين ثم وقف بعرفة وطاف طواف الإفاضة وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد وطيبها بيده.
ثم وقف بباب الكعبة فتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم، ثم رجع فرمى الجمرات ثم تعجل النفر فعاد على المدينة النبوية فزار القبر الشريف مرة ثانية على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام أجمعين إلى يوم الدين.
ثم سار إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة، وأرسل البشير إلى دمشق بقدومه سالما، فخرج الأمير جمال الدين آقوش النجيبي نائبها ليتلقى البشير في ثاني المحرم، فإذا هو السلطان نفسه يسير في الميدان الأخضر، وقد سبق الجميع، فتعجب الناس من سرعة سيره وصبره وجلده، ثم ساق من فوره حتى دخل حلب في سادس المحرم ليتفقد أحوالها، ثم عاد إلى حماة ثم رجع إلى دمشق ثم سار إلى مصر، فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر من السنة المقبلة رحمه الله.
وفي أواخر ذي الحجة هبت ريح شديدة أغرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع هناك مطر شديد جدا، أصاب الشام من ذلك صاعقة أهلكت الثمار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها: أوقع الله تعالى الخلف بين التتار من أصحاب أبغا وأصحاب ابن منكوتمر ابن عمه وتفرقوا واشتغلوا ببعضهم بعضا، ولله الحمد.
وفيها: خرج أهل حران منها وقدموا الشام، وكان فيهم شيخنا العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية صحبة أبيه وعمره ست سنين، وأخوه زين الدين عبد الرحمن وشرف الدين عبد الله، وهما أصغر منه.
من الأعيان:
الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله
الحلبي الصالحي، كان من أكابر الأمراء وأحظاهم عند الملوك، ثم عند الملك الظاهر، كان يستنيبه إذا غاب، فلما كانت هذه السنة أخذه معه وكانت وفاته بقلعة دمشق، ودفن بتربته بالقرب من اليغمورية، وخلف أموالا جزيلة، وأوصى إلى السلطان في أولاده، وحضر السلطان عزاءه بجامع دمشق.
شرف الدين أبو الظاهر محمد بن الحافظ
أبي الخطاب عمر بن دحية المصري، ولد سنة عشر وستمائة وسمع أباه وجماعة، وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية مدة، وحدث وكان فاضلا.
القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن وثاب بن رافع البجيلي الحنفي
درس وأفتى عن ابن عطاء بدمشق، ومات بعد خروجه من الحمام على مساطب الحمام فجأة ودفن بقاسيون.
الطبيب الماهر شرف الدين أبو الحسن
علي بن يوسف بن حيدرة الرحبي شيخ الأطباء بدمشق، ومدرس الدخوارية عن وصية واقفها بذلك وله التقدمة في هذه الصناعة على أقرانه من أهل زمانه، ومن شعره قوله:
يساق بنو الدنيا إلى الحتف عنوةً ** ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي
كأنهم الأنعام في جهل بعضها ** بمأثم من سفك الدماء على بعض
الشيخ نصير الدين المبارك بن يحيى بن أبي الحسن أبي البركات بن الصباغ الشافعي
العلامة في الفقه والحديث، درس وأفتى وصنف وانتفع به، وعمر ثمانين سنة، وكانت وفاته في حادي عشرة جمادى الأولى من هذه السنة، رحمه الله تعالى.
الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الكوفي المقري النحوي الملقب بسيبويه
وكان فاضلا بارعا في صناعة النحو، توفي بمارستان القاهرة في هذه السنة عن سبع وستين سنة رحمه الله. ومن شعره:
عذبت قلبي بهجر منك متصل ** يا من هواه ضمير غير منفصل
فما زادني غير تأكيد صدك لي ** فما عدولك من عطف إلى بدل
وفيها ولد شيخنا العلامة كمال الدين محمد بن علي الأنصاري بن الزملكاني شيخ الشافعية.
البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر | |
---|---|
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697 |