البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة


في ثالث المحرم يوم الأربعاء كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين ألفا وقيل مائة ألف، وغنموا شيئا كثيرا ولله الحمد.

ثم قتل جماعة من الأمراء الذي أسروا، وكان فيمن أسر ملك الفرنسيس وأخوه، وأرسلت غفارة ملك الأفرنسيس إلى دمشق، فلبسها نائبها في يوم الموكب، وكانت من سقرلاط تحتها فروسنجاب، فأنشد في ذلك جماعة من الشعراء فرحا بما وقع.

ودخل الفقراء كنيسة مريم فأقاموا بها فرحا لما نصر الله تعالى على النصارى، وكادوا أن يخربوها وكانت النصارى ببعلبك فرحوا حين أخذت النصارى دمياط، فلما كانت هذه الكسرة عليهم سخموا وجوه الصور، فأرسل نائب البلد فجناهم وأمر اليهود فصفعوهم.

ثم لم يخرج شهر المحرم حتى قتل الأمراء ابن أستاذهم توران شاه، ودفنوه إلى جانب النيل من الناحية الأخرى رحمه الله تعالى ورحم أسلافه بمنه وكرمه.

المعز عز الدين أيبك التركماني يملك مصر بعد بني أيوب

لما قتل الأمراء البحرية وغيرهم من الصالحية ابن أستاذهم المعظم غياث الدين توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب، وكان ملكه بعد أبيه بشهرين كما تقدم بيانه، ولما انفصل مره بالقتل نادوا فيما بينهم لا باس لا بأس.

واستدعوا من بينهم الأمير عز الدين أيبك التركماني، فملكوه عليهم وبايعوه ولقبوه بالملك المعز، وركبوا إلى القاهرة.

ثم بعد خمسة أيام أقاموا لهم صبيا من بين أيوب ابن عشر سنين وهو الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف ابن المسعود إقسيس بن الكامل، وجعلوا المعز أتابكه فكانت السكة والخطبة بينهما، وكاتبوا أمراء الشام بذلك، فما تم لهم الأمر بالشام، بل خرج عن أيديهم ولم تستقر لهم المملكة إلا على الديار المصرية.

وكل ذلك عن أمر الخاتون شجرة الدر أم خليل حظية الصالح أيوب، فتزوجت بالمعز، وكانت الخطبة والسكة لها، يدعى لها على المنابر أيام الجمع بمصر وأعمالها، وكذا تضرب السكة باسمها أم خليل، والعلامة على المناشير والتواقيع بخطها واسمها، مدة ثلاثة أشهر قبل المعز.

ثم آل أمرها إلى ما سنذكره من الهوان والقتل.

الناصر بن العزيز بن الظاهر صاحب حلب يملك دمشق

لما وقع بالديار المصرية من قتل الأمراء للمعظم توران شاه بن الصالح أيوب ركب الجلبيون معهم ابن أستاذهم الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر يوسف فاتح بيت المقدس، ومن كان عندهم من ملوك بني أيوب منهم الصالح إسماعيل ابن العادل، وكان أحق الموجودين بالملك، من حيث السن والتعدد والحرمة والرياسة.

ومنهم الناصر داود بن المعظم بن العادل، والأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه، الذي كان صاحب حمص وغيرهم، فجاؤوا إلى دمشق فحاصروها فملكوها سريعا.

ونهبت دار ابن يغمور وحبس في القلعة وتسلموا ما حولها كبعلبك وبصرى والصلت وصرخد، وامتنعت عليهم الكرك والشوبك بالملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل، كان قد تغلب عليهما في هذه الفتنة حين قتل المعظم توران شاه، فطلبه المصريون ليملكوه عليهم فخاف مما حل بابني عمه، فلم يذهب إليهم ولما استقرت يد الحلبيين على دمشق وما حولها جلس الناصر في القلعة وطيب قلوب الناس.

ثم ركبوا إلى غزة ليتسلموا الديار المصرية، فبرز إليهم الجيش المصري فاقتتلوا معهم أشد القتال، فكسر المصريون أولا بحيث إنه خطب للناصر في ذلك بها.

ثم كانت الدائرة على الشاميين فانهزموا وأسروا من أعيانهم خلقا كثيرا، وعدم من الجيش الصالح إسماعيل رحمه الله تعالى، وقد أنشد هنا الشيخ أبو شامة لبعضهم:

ضيع إسماعيل أموالنا ** وخرب المغنى بلا معنى

وراح من جلق هذا جزاء ** من أفقر الناس وما استغنى

شيء من ترجمة الصالح إسماعيل واقف تربة الصالح

وقد كان الصالح رحمه الله ملكا عاقلا حازما تتقلب به الأحوال أطوارا كثيرة، وقد كان الأشرف أوصى له بدمشق من بعده، فملكها شهورا ثم انتزعها منه أخوه الكامل.

ثم ملكها من يد الصالح أيوب خديعة ومكرا، فاستمر فيها أزيد من أربع سنين.

ثم استعادها منه الصالح أيوب عام الخوارزمية سنة ثلاث وأربعين، واستقرت بيده بلداه بعلبك وبصرى.

ثم أخذتا منه كما ذكرنا، ولم يبق به بلد يأوي إليه، فلجأ إلى المملكة الحلبية في جوار الناصر يوسف صاحبها، فلما كان في هذه السنة ما ذكرنا عدم بالديار المصرية في المعركة فلا يدري ما فعل به والله تعالى أعلم.

وهو واقف التربة والمدرسة ودار الحديث والأفراء بدمشق رحمه الله بكرمه.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

الملك المعظم توران شاه بن الصالح أيوب

ابن الكامل ابن العادل، كان أولا صاحب حصن كيفا في حياة أبيه، وكان أبوه يستدعيه في أيامه فلا يجيبه، فلما توفي أبوه كما ذكرنا استدعاه الأمراء فأجابهم وجاء إليهم فملكوه عليهم.

ثم قتلوه كما ذكرنا، وذلك يوم الاثنين السابع والعشرين من المحرم، وقد قيل إنه كان متخلفا لا يصلح للملك، وقد رئي أبوه في المنام بعد قتل ابنه وهو يقول:

قتلوه شر قتلة ** صار للعالم مثله

لم يراعوا فيه إلا ** لا ولا من كان قبله

ستراهم عن قريب ** لأقل الناس أكله

فكان كما ذكرنا من اقتتال المصريين والشاميين.

وممن عدم فيما بين الصفين من أعيان الأمراء والمسلمين فمنهم الشمس لؤلؤ مدبر ممالك الحلبيين، وكان من خيار عباد الله الصالحين الآمرين بالمعروف وعن المنكر ناهين.

وفيها كانت وفاة:

الخاتون أرغوانية

الحافظية سميت الحافظية لخدمتها وتربيتها الحافظ، صاحب قلعة جعبر، وكانت امرأة عاقلة مدبرة عمرت دهرا ولها أموال جزيلة عظيمة، وهي التي كانت تصلح الأطعمة للمغيث عمر بن الصالح أيوب، فصادرها الصالح إسماعيل فأخذ منها أربعمائة صندوق من المال، وقد وقفت دارها بدمشق على خدامها، واشترت بستان النجيب ياقوت الذي كان خادم الشيخ تاج الدين الكندي، وجعلت فيه تربة ومسجدا، ووقفت فيه عليه أوقافا كثيرة جيدة رحمها الله.

واقف الأمينية التي ببعلبك أمين الدولة أبو الحسن غزال المتطبب

وزير الصالح إسماعيل أبي الجيش الذي كان مشؤوما على نفسه، وعلى سلطانه، وسببا في زوال النعمة عنه وعن مخدومه، وهذا هو وزير السوء، وقد اتهمه السبط بأنه كان مستهترا بالدين وانه لم يكن له في الحقيقة دين فأرح الله تعالى منه عامة المسلمين.

وكان قتله في هذه السنة لما عدم الصالح إسماعيل بديار مصر، عمد من عمد من الأمراء إليه وإلى ابن يغمور فشنقوهما وصلبوهما على القلعة بمصر متناوحين.

وقد وجد لأمين الدولة غزال هذا من الأموال والتحف والجواهر والأثاث ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار، وعشرة آلاف مجلد بخط منسوب وغير ذلك من الخطوط النفيسة الفائقة.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697