مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/فصل في طرق المخاطبة
فصل في طرق المخاطبة
فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب، وأما إن كان المخاطب لا يقر بنبوة نبي من الأنبياء؛ لا موسى، ولا عيسى، ولا غيرهما، فللمخاطبة طرق:
منها: أن نسلك في الكلام بين أهل الملل وغيرهم من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم نظير الكلام بين المسلمين وأهل الكتاب.
فنقول: من المعلوم لكل عاقل له أدنى نظر وتأمل أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة، والأعمال الصالحة ممن ليس من أهل الملل، فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل، إلا عند المسلمين ما هو أكمل منه، وعند أهل الملل ما لا يوجد عند غيرهم، وذلك أن العلوم والأعمال نوعان:
نوع يحصل بالعقل؛ كعلم الحساب والطب، وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونحو ذلك، فهذه الأمور عند أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل، فإن علوم المتفلسفة من علوم المنطق والطبيعة والهيئة، وغير ذلك من متفلسفة الهند واليونان، وعلوم فارس والروم لما صارت إلى المسلمين هذبوها ونقحوها، لكمال عقولهم، وحسن ألسنتهم، وكان كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين، وهذا يعرفه كل عاقل وفاضل، وأما ما لا يعلم بمجرد العقل كالعلوم الإلهية، وعلوم الديانات، فهذه مختصة بأهل الملل، وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية، فالآيات الكتابية مستنبطة من الرسالة. فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم إلى دلالة العقول عليها، فهي عقلية شرعية، فليس لمخالف الرسول أن يقول: هذه لم تعلم إلا بخبرهم، فإثبات خبرهم بها دور، بل يقال: بعدالتهم وإرشادهم، وتبيينهم للمعقول، صارت معلومة بالعقل والأمثال المضروبة، والأقيسة العقلية.
وبهذه العلوم يعلم صحة ما جاء به الرسول ﷺ، وبطلان قول من خالفهم.
النوع الثاني: ما لا يعلم إلا بخبر الرسل، فهذا يعلم بوجوه:
منها: اتفاق الرسل على الإخبار به من غير تواطؤ ولا اتفاق بينهم، فإن المخبر إما أن يكون صادقًا خبره مطابقًا لمخبره، وإما ألا يكون، وإذا لم يكن خبره مطابقًا لمخبره، فإما أن يكون متعمدًا للكذب، وإما أن يكون مخطئًا، فإذا قدر عدم الخطأ والتعمد، كان خبره صدقًا لا محالة.
ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة، لا يمكن في العادة خطؤهم، وأخبر غيره قبل ذلك مع الجزم بأنهما لم يتواطآ، ولا يمكن أن يقال إنه يمكن الكذب في مثل ذلك، أفاد خبرهما العلم، وإن لم يعلم حالهما، فلو ناجى رجلا بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك الأمور الأسرار، ثم جاء آخر قد علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الأول، فأخبر عن تلك المناجاة والأسرار مثلما أخبر به الأول، جزمنا قطعًا بصدقهما.
ومعلوم أن موسى أخبر بما أخبر به قبل أن يبعث محمد ﷺ، وقبل أن يبعث المسيح .
ومعلوم أيضا لكل من كان عالمًا بحال محمد ﷺ، أنه نشأ بين قوم أميين، لا يقرؤون كتابًا ولا يعلمون علوم الأنبياء، وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والإنجيل، ونبوة الأنبياء.
وقد أخبر محمد ﷺ من توحيد الله وصفاته، وأسمائه وملائكته وعرشه وكرسيه، وأنبيائه ورسله، وأخبارهم وأخبار مكذبيهم، بنظير ما يوجد في كتب الأنبياء، من التوراة وغيرها.
فمن تدبر التوراة والقرآن، علم أنهما جميعًا يخرجان من مشكاة واحدة، كما ذكر ذلك النجاشي، وكما قال ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى.
ولهذا قرن الله تعالى بين التوراة والقرآن في مثل هذا في قوله: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} إلى قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 1، وقالت الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} الآية 2، وقال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً} 3، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} إلى قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} 4.
فهذه الطريقة، كل من علم ما جاء به موسى والنبيون قبله وبعده، وما جاء به محمد ﷺ، علم علمًا يقينًا أنهم كلهم مخبرون عن الله، صادقون في الإخبار، وأنه يمتنع والعياذ بالله خلاف الصدق من خطأ وكذب.
ومن الطرق: الطرق الواضحة القاطعة المعلومة إلى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع الأنبياء، وأحوال من كذبهم وكفر بهم، حال نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وحال إبراهيم وقومه، وحال موسى وفرعون، وحال محمد ﷺ وقومه.
وهذا الطريق قد بينها الله في غير موضع من كتابه كقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} 5، وقال: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى} إلى قوله
- {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} إلى قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} 6، وقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟} 7
وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} 8 .
فبين أنه تارك آثار القوم المعذبين للمشاهدة، ويستدل بذلك على عقوبة الله لهم، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} الآيتين 9. فذكر طريقين يعلم بهما ذلك:
أحدهما: ما يعاين ويعقل بالقلوب.
والثاني: ما يسمع، فإنه قد تواتر عند كل أحد حال الأنبياء، ومصدقهم ومكذبهم، وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه سبحانه عاقب مكذبهم وانتقم منهم، وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه، وأن من كذبهم كان على الباطل الذي يغضب الله على أهله، وأن طاعة الرسل طاعة لله، ومعصيتهم معصية لله.
ومن الطرق أيضا: أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة، وآياتهم القاهرة، وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد مدعي النبوة وهو كذاب، من غير تناقض، ولا تعارض، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
ومن الطرق: أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب، ولا ينكره إلا جاهل غاو.
وهذه الفتيا لا تسع البسط الكثير، فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به، ووجب الحكم بكفر من آمن ببعض، وكفر ببعض. والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
هامش
- ↑ [القصص: 48، 49]
- ↑ [الأحقاف: 30]
- ↑ [هود: 17]
- ↑ [الأنعام: 91، 92]
- ↑ [غافر: 5]
- ↑ [الحج: 42 46]
- ↑ [الصافات: 137، 138]
- ↑ [الحجر: 75]
- ↑ [الإسراء: 17، 18]