مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/سئل عن رجلين اختلفا فقال أحدهما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب أعلم وأفقه من علي بن أبي طالب
سئل عن رجلين اختلفا فقال أحدهما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب أعلم وأفقه من علي بن أبي طالب
[عدل]وَسُئلَ رَحمَهُ الله عن رجلين اختلفا. فقال أحدهما: أبو بكر الصديق، وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما أعلم، وأفقه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الآخر: بل علي بن أبي طالب أعلم، وأفقه من أبي بكر وعمر، فأي القولين أصوب؟ وهل هذان الحديثان: وهما قوله ﷺ: «أقْضَاكُم علي»، وقوله: «أنا مدينة العلم، وعلي بابها» صحيحان؟ وإذا كانا صحيحين، فهل فيهما دليل أن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين ؟ وإذا ادعى مدع: أن إجماع المسلمين على أن عليا رضي الله عنه أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين يكون محقًا أو مخطئًا؟
فأَجَاب:
الحمد لله، لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين: أن عليّا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر، بل ولا من أبي بكر وحده. ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس، وأكذبهم بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي: منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني، المروذي أحد أئمة السنة من أصحاب الشافعي ذكر في كتابه: تقويم الأدلة على الإمام إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي. وما علمت أحدًا من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك.
وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي ﷺ يفتي، ويأمر، وينهى، ويقضي، ويخطب؟ كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام، ولما هاجرا جميعًا، ويوم حنين، وغير ذلك من المشاهد والنبي ﷺ ساكت يقره على ذلك، ويرضى بما يقول، ولم تكن هذه المرتبة لغيره.
وكان النبي ﷺ في مشاورته لأهل العلم، والفقه، والرأي من أصحابه، يقدم في الشورى أبا بكر، وعمر. فهما اللذان يتقدمان في الكلام، والعلم بحضرة الرسول عليه السلام على سائر أصحابه، مثل قصة مشاورته في أسرى بدر، فأول من تكلم في ذلك أبو بكر، وعمر، وكذلك غير ذلك.
وقد روى في الحديث أنه قال لهما: «إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما» ولهذا كان قولهما حجة في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهذا بخلاف قول عثمان، وعلي.
وفي السنن عنه أنه قال: « اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر». ولم يجعل هذا لغيرهما، بل ثبت عنه أنه قال: «عليكم بسُنَّتِي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومُحْدَثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين. وهذا يتناول الأئمة الأربعة. وخص أبا بكر وعمر بالاقتداء بهما. ومرتبة المقتدي به في أفعاله، وفيما سنه للمسلمين، فوق سنة المتبع فيما سنه فقط. وفي صحيح مسلم أن أصحاب النبي ﷺ كانوا معه في سفر فقال: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا».
وقد ثبت عن ابن عباس: أنه كان يفتي من كتاب الله، فإن لم يجد فبما سنه رسول الله ﷺ، فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر؛ ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي. وابن عباس حبر الأمة، وأعلم الصحابة، وأفقههم في زمانه، وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر، مقدمًا لقولهما على قول غيرهما من الصحابة. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «اللهم فقههُ في الدين وعَلمه التأويل».
وأيضا فأبو بكر وعمر، كان اختصاصهما بالنبي ﷺ فوق اختصاص غيرهما. وأبو بكر كان أكثر اختصاصًا. فإنه كان يَسْمُرُ عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين، ومصالح المسلمين. كما روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عَلْقَمَة عن عمر قال: كان رسول الله ﷺ يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه.
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر: أن أصحاب الصُّفَّة كانوا ناسًا فقراء؛ وأن النبي ﷺ قال: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، أو بسادس»، وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله ﷺ بعشرة؛ وأن أبا بكر تَعَشَّى عند النبي ﷺ، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع، فلبث حتى نَعَسَ رسول الله ﷺ، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله. قالت امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجىء. عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم. وذكر الحديث. وفي رواية: «كان يتحدث إلى النبي ﷺ إلى الليل».
وفي سفر الهجرة لم يصحبه غير أبي بكر، ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره وقال: « إِنَّ أَمَنَّ الناس علينا في صُحْبَتِه وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا». وهذا من أصح الأحاديث المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة.
وفي الصحيحين عن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي ﷺ، إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي ﷺ: «أما صاحبكم فقد غامر» فسلم، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأتيتك. فقال: «يغفر الله لك ثلاثًا» ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده، فأتى النبي ﷺ فجعل وجه النبي ﷺ يَتَمَعَّر وغَضِب حتى أشفق أبو بكر، وقال: أنا كنت أظلم يا رسول الله، مرتين، فقال النبي ﷺ: «إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت وقال: أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي، فهل أنتم تاركو لي صاحبي». فما أوذي بعدها. قال البخاري: غامر: سبق بالخير.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون، ويثنون، ويصلون عليه قبل أن يرفع؛ وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمَنْكِبي من ورائي، فالتفت فإذا هو على، وترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحدًا أحب إلى أن ألقي الله عز وجل بعمله منك، وايم الله، إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك. وذلك أني كنت كثيرًا ما أسمع النبي ﷺ يقول: «جئت أنا وأبوبكر وعمر، ودخلت أنا وأبوبكر وعمر، وخرجت أنا وأبوبكر وعمر»، فإن كنت أرجو، أو أظن أن يجعلك الله معهما.
وفي الصحيحين وغيرهما: أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان لما أصيب المسلمون: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ فقال النبي ﷺ: «لاتجيبوه». فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه». فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه». فقال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت عدو الله! إن الذين عددت لأحياء، وقد بقى لك ما يسوؤك. . . الحديث. فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي ﷺ، وأبي بكر وعمر دون غيرهم؛ لعلمه بأنهم رؤوس المسلمين: النبي ووزيراه.
ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي ﷺ في حياته فقال: منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته. وكثرة الاختصاص، والصحبة، مع كمال المودة، والائتلاف، والمحبة، والمشاركة في العلم والدين، تقتضى أنهما أحق بذلك من غيرهما. وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم.
أما الصِّدِّيق، فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول مخالف نصًا. هذا يدل على غاية البراعة، وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النص؛ لكون تلك النصوص لم تبلغهم.
والذي وجد من موافقة عمر للنصوص أكثر من موافقة علىّ، وهذا يعرفه من عَرَف مسائل العلم، وأقوال العلماء فيها. وذلك مثل: نفقة المتوفى عنها زوجها: فإن قول عمر هو الذي وافق النص، دون القول الآخر، وكذلك مسألة الحرام قول عمر، وغيره فيها، هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر». وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر» فقالوا: ما أوَّلْتَه يا رسول الله؟ قال: «العلم» 1 وفي الترمذي وغيره أنه قال: «لو لم أُبْعَثْ فيكم لبُعِثَ عمر».
وأيضا فإن الصِّدِّيقَ استخلفه النبي ﷺ على الصلاة التي هي عمود الإسلام، وعلى إقامة المناسك التي ليس في مسائل العبادات أشكل منها، وأقام المناسك قبل أن يحج النبي ﷺ. فنادى ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُرْيَان، فأردفه بعلي بن أبي طالب لينبذ العهد إلى المشركين، فلما لحقه قال: أمير، أو مأمور؟ قال: بل مأمور. فأمر أبا بكر على عليِّ بن أبي طالب، وكان علي ممن أمره النبي ﷺ أن يسمع ويطيع في الحج وأحكام المسافرين، وغير ذلك لأبي بكر، وكان هذا بعد غزوة تبوك التي استخلف عليًا فيها على المدينة، ولم يكن بقي بالمدينة من الرجال إلا منافق، أو معذور، أو مذنب، فلحقه على فقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضى أن تكون مِنِّي بمنزلة هارون من موسى؟».
بين بذلك أن استخلاف عليّ على المدينة لا يقتضي نقص المرتبة؛ فإن موسى قد استخلف هارون، وكان النبي ﷺ دائما يستخلف رجالًا، لكن كان يكون بها رجال. وعام تبوك خرج النبي ﷺ بجميع المسلمين ولم يأذن لأحد في التخلف عن الغزاة؛ لأن العدو كان شديدًا، والسفر بعيدًا، وفيها أنزل الله سورة براءة.
وكتاب أبي بكر في الصدقات أجمع الكتب وأوجزها؛ ولهذا عمل به عامة الفقهاء. وكتاب غيره فيه ما هو متقدم منسوخ، فدل ذلك على أنه أعلم بالسنة الناسخة. وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله ﷺ .
وأيضا، فالصحابة في زمن أبي بكر لم يكونوا يتنازعون في مسألة إلا فصلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع، فلا يعرف بينهم في زمانه مسألة واحدة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه، كتنازعهم في وفاته ﷺ، ومدفنه، وفي ميراثه، وفي تجهيز جيش أسامة، وقتال مانعي الزكاة، وغير ذلك من المسائل الكبار، بل كان خليفة رسول الله ﷺ فيهم: يعلمهم، ويُقَوِّمهم، ويبين لهم ما تزول معه الشبهة، فلم يكونوا معه يختلفون.
وبعده لم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله؛ فصاروا يتنازعون في بعض المسائل. كما تنازعوا في الجدَّ والإخوة، وفي الحرام، وفي الطلاق الثلاث، وفي غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر، وكانوا يخالفون عمر، وعثمان، وعليًا في كثير من أقوالهم، ولم يعرف أنهم خالفوا أبا بكر في شيء مما كان يفتى فيه ويقضى. وهذا يدل على غاية العلم.
وقام مقام رسول الله ﷺ، وأقام الإسلام؛ فلم يخل بشيء منه، بل أدخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم، وكثرة الخاذلين، فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد، حتى قام الدين كما كان. وكانوا يسمون أبا بكر خليفة رسول الله ﷺ. ثم بعد هذا سموا عمر وغيره أمير المؤمنين. قال السهيلي وغيره من العلماء: ظهر قوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} 2 في أبي بكر: في اللفظ، كما ظهر في المعنى فكانوا يقولون: محمد رسول الله وأبو بكر خليفة رسول الله، ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته، فلم يقولوا لمن بعده: خليفة رسول الله.
وأيضا فعلي بن أبي طالب تعلَّم من أبي بكر بعض السنة؛ بخلاف أبي بكر، فإنه لم يتعلم من علي بن أبي طالب، كما في الحديث المشهور الذي في السنن حديث صلاة التوبة عن علي قال: كنت إذا سمعت من النبي ﷺ حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ ويُحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويستغفر الله، إلا غفر الله له».
ومما يبين لك هذا أن أئمة علماء الكوفة: الذين صحبوا عمر وعليا كعلقمة، والأسود، وشُريْح القاضي، وغيرهم، كانوا يرجحون قول عمر على قول علي. وأما تابعو أهل المدينة ومكة والبصرة، فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يُذْكر، وإنما الكوفة ظهر فيها فقه على وعلمه بحسب مقامه فيها مدة خلافته.
وكل شيعة عليّ الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر، لا في فقه، ولا علم، ولا غيرهما؛ بل كل شيعته، الذين قاتلوا معه عدوه، كانوا مع سائر المسلمين، يقدمون أبا بكر وعمر، إلا من كان عليّ ينكر عليه ويذمه، مع قلتهم في عهد عليّ وخمولهم، كانوا ثلاث طوائف:
طائفة غلت فيه، كالتي ادعت فيه الإلهية، وهؤلاء حرقهم عليّ بالنار.
وطائفة كانت تَسُبُّ أبا بكر، وكان رأسهم عبد الله بن سبأ، فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله، فهرب منه.
وطائفة كانت تُفَضِّلُه على أبي بكر وعمر، قال: لا يبلغني عن أحد منكم أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وقد روى عن علي من نحو ثمانين وجها وأكثر أنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من رواية رجال هَمْدَان خاصة التي يقول فيها علي:
ولو كنت بوابًا على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلي بسلام
من رواية سفيان الثوري عن مُنْذِر الثوري وكلاهما من همدان. رواه البخاري عن محمد بن كثير. قال: حدثنا سفيان الثوري حدثنا جامع بن شَدَّاد، حدثنا أبو يعلى منذر الثوري، عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله ﷺ ؟ فقال: يا بني، أو ما تعرف ؟ فقلت: لا. فقال: أبو بكر. قلت: ثم من ؟ قال: ثم عمر.
وهذا يقوله لابنه، الذي لا يتقيه، ولخاصته، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما. والمتواضع لا يجوز له أن يتقدم بعقوبة كل من قال الحق، ولا يجوز أن يسميه مفتريًا. ورأس الفضائل العلم، وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم، فإنه أعلم منه، قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}3، والدلائل على ذلك كثيرة، وكلام العلماء في ذلك كثير.
وأما قوله: «أقضاكم عليّ»، لم يروه أحد من أهل الكتب الستة، ولا أهل المسانيد المشهورة، لا أحمد، ولا غيره بإسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب، ولكن قال عمر بن الخطاب: أبيٌّ أقرؤنا، وعليٌّ أقضانا، وهذا قاله بعد موت أبي بكر.
والذي في الترمذي وغيره أن النبي ﷺ قال: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت» وليس فيه ذكر عليّ، والحديث الذي فيه ذكر علي مع ضعفه فيه أن معاذ بن جبل أعلم بالحلال والحرام، وزيد بن ثابت أعلم بالفرائض. فلو قدر صحة هذا الحديث، لكان الأعلم بالحلال والحرام أوسع علمًا من الأعلم بالقضاء؛ لأن الذي يختص بالقضاء إنما هو فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون الباطن بخلافه كما قال النبي ﷺ: «إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فقد أخبر سيد القضاة أن قضاءه لا يحل الحرام، بل يحرم على المسلم أن يأخذ بقضائه ما قضى له به من حق الغير. وعلم الحلال والحرام يتناول الظاهر والباطن: فكان الأعلم به أعلم بالدين.
وأيضا، فالقضاء نوعان:
أحدهما: الحكم عند تَجَاحُد الخَصْمَين، مثل: أن يدعي أحدهما أمرًا يكذبه الآخر فيه فيحكم فيه بالبينة ونحوها.
والثاني: ما لا يتجاحدان فيه يتصادقان ولكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسم فريضة، أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر، أو فيما يستحقه كل من الشريكين، ونحو ذلك.
فهذا الباب هو من أبواب الحلال والحرام، فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ذلك، ولم يحتاجا إلى من يحكم بينهما، وإنما يحتاجان إلى حاكم عند التجاحد، وذاك إنما يكون في الأغلب مع الفجور، وقد يكون مع النسيان؛ فأما الحلال والحرام فيحتاج إليه كل أحد من بَرٍّ وفاجر، وما يختص بالقضاء لا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار.
ولهذا لما أمر أبو بكر عمر أن يقضي بين الناس، مكث حَوْلًا لم يتحاكم اثنان في شيء، ولو عدَّ مجموع ما قضى النبي ﷺ من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات، فأين هذا من كلامه في الحلال والحرام الذي هو قوَام دين الإسلام يحتاج إليه الخاص والعام.
وقوله: «أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» أقرب إلى الصحة باتفاق علماء الحديث من قوله: «أقضاكم علي» لو كان مما يحتج به، وإذا كان ذلك أصح إسنادًا، وأظْهر دلالة، علم أن المحتج بذلك على أن عليا أعلم من معاذ بن جبل جاهل فكيف من أبي بكر وعمر اللذين هما أعلم من معاذ بن جبل؟ مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد يضعفه بعضهم، ويحسنه بعضهم. وأما الحديث الذي فيه ذكر على فإنه ضعيف.
وأما حديث: «أنا مدينة العلم» فأضعف وأوهى؛ ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات، وإن كان الترمذي قد رواه؛ ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وبين أنه موضوع من سائر طرقه.
والكذب يعرف من نفس مَتْنِه، لا يحتاج إلى النظر في إسناده، فإن النبي ﷺ إذا كان «مدينة العلم» لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد، ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحدًا، بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، ورواية الواحد لا تفيد العلم إلا مع قرائن، وتلك القرائن إما أن تكون منتفية؛ وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس، أو أكثرهم فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة، بخلاف النقل المتواتر، الذي يحصل به العلم للخاص والعام.
وهذا الحديث إنما افتراه زنديق، أو جاهل، ظنه مدحًا، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين إذا لم يبلغه إلا واحد من الصحابة.
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله ﷺ من غير طريق على رضى الله عنه أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهم ظاهر، وكذلك أهل الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئا قليلًا، وإنما غالب علمه كان في أهل الكوفة، ومع هذا فقد كانوا تعلموا القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان، فضلا عن خلافة علي.
وكان أفقه أهل المدينة، وأعلمهم، تعلموا الدين في خلافة عمر، وقبل ذلك لم يتعلم أحد منهم من علي شيئا إلا من تعلم منه لما كان باليمن، كما تعلموا حينئذ من معاذ ابن جبل. وكان مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن وتعليمه لهم أكثر من مقام علي وتعليمه؛ ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ أكثر مما رووه عن على، وشُرَيْح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ.
ولما قدم علي الكوفة كان شريح قاضيا فيها قبل ذلك. وعليّ وجد على القضاء في خلافته شريحًا وعبيدة السلماني، وكلاهما تفقه على غيره.
فإذا كان علم الإسلام انتشر في مدائن الإسلام بالحجاز، والشام، واليمن، والعراق، وخراسان، ومصر، والمغرب قبل أن يقدم إلى الكوفه، ولما صار إلى الكوفة عامة ما بلغة من العلم بلغه غيره من الصحابة، ولم يختص على بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره بما هو أكثر منه.
فالتبليغ العام الحاصل بالولاية، حصل لأبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعلي.
وأما الخاص فابن عباس كان أكثر فتيًا منه، وأبو هريرة أكثر رواية منه، وعلي أعلم منهما، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان أعلم منهما أيضا فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ بعض العلم الخاص.
وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قيل له: هل عندكم من رسول الله ﷺ شيء؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتية الله عبدًا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها عقول الديات أي: أسنان الإبل التي تجب فيه الدية وفيها فكاك الأسير، وفيها: لا يقتل مسلم بكافر.
وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس؟ فنفى ذلك. إلى غير ذلك من الأحاديث عنه التي تدل على أن كل من ادعى أن النبي ﷺ خصه بعلم فقد كذب عليه.
وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غسل النبي ﷺ فأورثه علم الأولين والآخرين، من أقبح الكذب البارد، فإن شرب غسل الميت ليس بمشروع، ولا شرب علي شيئا، ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من حضر. ولم يرو هذا أحد من أهل العلم.
وكذلك ما يذكر: أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر، وعمر، وغيرهما، فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية، ونحوهم، الذين هم أكفر منهم، بل فيهم من الكفر ما ليس في اليهود، والنصارى، كالذين يعتقدون إلهيته، ونبوته، وأنه كان أعلم من النبي ﷺ، وأنه كان معلمًا للنبي ﷺ في الباطن، ونحو هذه المقالات، التي إنما يقولها الغلاة في الكفر والإلحاد. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
- ↑ [مُحدَّثون: أي ملهمون. والملْهَم: هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدْسًا وفِراسة، وهو نوع يختص به الله عز وجل من يشاء من عباده]
- ↑ [التوبة: 40]
- ↑ [الزمر: 9]