مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/فصل في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين
فصل في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين
في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين
الخلفاء الراشدون الأربعة ابتلوا بمعاداة بعض المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة، ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم. فأَبو بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف؛ ولهذا قيل للإمام أحمد: من الرافضي؟ قال: الذي يسب أبا بكر وعمر. وبهذا سميت الرافضة، فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر، لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي، وقيل: إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر.
وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلوَّ في عليّ بِدَعوَى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له؛ ولهذا لما كان مبدؤه من النفاق قال بعض السلف: حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحب بني هاشم إيمان، وبغضهم نفاق.
وقال عبد الله بن مسعود: حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة، أي من شريعة النبي ﷺ التي أمر بها؛ فإنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر»؛ ولهذا كان معرفة فضلهما على من بعدهما واجبًا لا يجوز التوقف فيه، بخلاف عثمان وعلى، ففي جواز التوقف فيهما قولان.
وكذلك هل يسوغ الاجتهاد في تفضيل عليّ على عثمان؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليًا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة؛ لمخالفته لإجماع الصحابة؛ ولهذا قيل: من قدَّم عليًا على عثمان، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. يروي ذلك عن غير واحد؛ منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل، والدارقطني.
والثانية: لا يُبَدَّع من قدم عليًا ؛ لتقارب حال عثمان وعليّ؛ إذ السنة هي الشريعة وهي ما شرعه الله ورسوله من الدين، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فلا يجوز اعتقاد ضد ذلك، لكن يجوز ترك المستحب من غير أن يجوز اعتقاد ترك استحبابه؛ ومعرفة استحبابه فرض على الكفاية، لئلا يضيع شيء من الدين. فلما قامت الأدلة الشرعية على وجوب اتباع أبي بكر وعمر وتقديمهما، لم يجز ترك ذلك.
وأما عثمان، فأبغضه أو سبه أو كفره أيضا مع الرافضة طائفة من الشيعة الزيدية والخوارج.
وأما علي، فأبغضه وسبه أو كفره الخوارج، وكثير من بني أمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبوه. فالخوارج تكفر عثمان وعليًًًًا وسائر أهل الجماعة.
وأما شيعة علي، الذين شايعوه بعد التحكيم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم، فكان بينهما من التقابل، وتَلاعُن بعضهم، وتكافر بعضهم ما كان، ولم تكن الشيعة التي كانت مع على يظهر منها تَنَقُّص لأبي بكر وعمر، ولا فيها من يقدم عليًا على أبي بكر وعمر، ولا كان سَبُّ عثمان شائعًا فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر.
وكذلك تفضيل عليّ عليه لم يكن مشهورًا فيها، بخلاف سبّ على فإنه كان شائعًا في أتباع معاوية؛ ولهذا كان علي وأصحابه أولى بالحق وأقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه. كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: «تَمْرُقُ مارقة على حين فُرْقَةٍ من المسلمين، فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق». وروى في الصحيح أيضا: «أدنى الطائفتين إلى الحق».
وكان سب على ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها: الطائفة الباغية، كما رواه البخاري في صحيحه، عن خالد الحَذَّاء، عن عِكْرِمة، قال: قال لي ابن عباس ولابنه على: انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه. فانطلقنا، فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحْتَبَي به، ثم أنشأ يحدثنا، حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لَبِنَةً لَبِنة، وَعمَّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي ﷺ فجعل يَنْفُضُ التراب عنه ويقول: «ويْحَ عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
ورواه مسلم عن أبي سعيد أيضا قال: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة أن رسول الله ﷺ قال لعمار حين جعل يحفر الخندق جعل يمسح رأسه ويقول: «بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ تقتله فئة باغية» . ورواه مسلم أيضا عن أم سلمة عن النبي ﷺ أنه قال: «تقتل عمارًا الفئة الباغية».
وهذا أيضا يدل على صحة إمامة على، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار وإن كان متأولا وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ، وإن كان متأولًًًًا أو باغ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليًا وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين.
وكذلك أنكر يحيى بن مَعِين على الشافعي استدلاله بسيرة على في قتال البغاة المتأولين، قال: أيجعل طلحة والزبير بغاة؟ رد عليه الإمام أحمد فقال: ويحك، وأي شيء يسعه أن يضع في هذا المقام: يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة.
والقول الثاني: أن كلا منهما مصيب، وهذا بناء على قول من يقول: كل مجتهد مصيب، وهو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية.
وفيها قول ثالث: إن المصيب واحد لا بعينه. ذكر الأقوال الثلاثة ابن حامد، والقاضي، وغيرهما . وهذا القول يشبه قول المتوقفين في خلافة على من أهل البصرة، وأهل الحديث، وأهل الكلام؛ كالكرامية الذين يقولون: كلاهما كان إمامًا، ويجوزون عقد الخلافة لاثنين.
لكن المنصوص عن أحمد تَبْدِيعُ من توقف في خلافة علي، وقال: هو أضل من حمار أهله، وأمر بهُجْرانه، ونهى عن مناكحته، ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك. فتصويب أحدهما لا بعينه تجويز لأن يكون غير على أولى منه بالحق، وهذا لا يقوله إلا مبتدع ضال، فيه نوع من النصب وإن كان متأولًًًًا، لكن قد يسكت بعضهم عن تخطئة أحد كما يمسكون عن ذمه والطعن عليه إمساكًًًًا عما شجر بينهم، وهذا يشبه قول من يصوب الطائفتين.
ولم يسترب أئمة السنة، وعلماء الحديث: أن عليا أولى بالحق وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي لما جاء من حديث عمار جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل .
يبقى أن يقال: فالله تعالى قد أمر بقتال الطائفة الباغية فيكون قتالها كان واجبا مع علي، والذين قعدوا عن القتال هم جملة أعيان الصحابة، كسعد، وزيد، وابن عمر، وأسامة، ومحمد بن مسلمة، وأبي بَكْرَة، وهم يروون النصوص عن النبي ﷺ في القعود عن القتال في الفتنة، وقوله ﷺ: «القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الموضع» وقوله: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غَنَم يتبع بها شَعَفَ الجِبال، ومواقع القَطْر، يَفِرُّ بدينه من الفتن» وأمره لصاحب السيف عند الفتنة «أن يتخذ سيفًًًًا من خشب» وبحديث أبي بَكْرَة للأحنف بن قيس، لما أراد أن يذهب ليقاتل مع علي، وهو قوله ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» الحديث، والاحتجاج على ذلك بقوله: «لا تَرْجِعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رِقَاب بعض». وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة، حتى قال: لا يختلف أصحابنا أن قعود على عن القتال كان أفضل له لو قعد، وهذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له: ألم أنهك يا أبت؟ وقوله: لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان برًا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير.
وهذا يعارض وجوب طاعته، وبهذا احتجوا على الإمام أحمد في ترك التربيع بخلافته، فإنه لما أظهر ذلك قال له بعضهم: إذا قلت: كان إمامًا واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير حيث لم يطيعاه بل قاتلاه، فقال لهم أحمد: إني لست من حربهم في شيء، يعني: أن ما تنازع فيه على وإخوانه لا أدخل بينهم فيه؛ لما بينهم من الاجتهاد والتأويل الذي هم أعلم به مني، وليس ذلك من مسائل العلم التي تعنيني حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم، وأنا مأمور بالاستغفار لهم، وأن يكون قلبي لهم سليمًا، ومأمور بمحبتهم وموالاتهم، ولهم من السوابق والفضائل ما لا يهدر، ولكن اعتقاد خلافته وإمامته ثابت بالنص وما ثبت بالنص، وجب اتباعه وإن كان بعض الأكابر تركه، كما أن إمامة عثمان وخلافته ثابتة إلى حين انقراض أيامه؛ وإن كان في تخلف بعضهم عن طاعته أو نصرته، وفي مخالفة بعضهم له من التأويل ما فيه، إذ كان أهون ما جرى في خلافة علي.
وهذا الموضع هو الذي تنازع فيه اجتهاد السلف والخلف، فمن قوم يقولون بوجوب القتال مع علي، كما فعله من قاتل معه، وكما يقول كثير من أهل الكلام والرأي الذين صنفوا في قتال أهل البغي، حيث أوجبوا القتال معه؛ لوجوب طاعته، ووجوب قتال البغاة، ومبدأ ترتيب ذلك من فقهاء الكوفة واتبعهم آخرون.
ومن قوم يقولون: بل المشروع ترك القتال في الفتنة كما جاءت به النصوص الكثيرة المشهورة، كما فعله من فعله من القاعدين عن القتال لإخبار النبي ﷺ أن ترك القتال في الفتنة خير، وأن الفرار من الفتن باتخاذ غَنَم في رؤوس الجبال خير من القتال فيها وكنهيه لمن نهاه عن القتال فيها، وأمره باتخاذ سيف من خشب، ولكون على لم يذم القاعدين عن القتال معه، بل ربما غبطهم في آخر الأمر.
ولأجل هذه النصوص لا يختلف أصحابنا أن ترك على القتال كان أفضل؛ لأن النصوص صرحت بأن القاعد فيها خير من القائم، والبعد عنها خير من الوقوع فيها، قالوا: ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته، ومن المعلوم أنهم إذا لم يبدؤوه بقتال فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما وقع من خروجهم عن طاعته، لكن بالقتال زاد البلاء، وسفكت الدماء، وتنافرت القلوب، وخرجت عليه الخوارج، وحكم الحكمان، حتى سمى منازعه بأمير المؤمنين، فظهر من المفاسد ما لم يكن قبل القتال ولم يحصل به مصلحة راجحة.
وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله، فإن فضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها، والقرآن إنما فيه قتال الطائفة الباغية بعد الاقتتال ؛ فإنه قال تعالى: }وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الآية 1. فلم يأمر بالقتال ابتداء مع واحدة من الطائفتين، لكن أمر بالإصلاح وبقتال الباغية.
و إن قيل: الباغية يعم الابتداء والبغي بعد الاقتتال.
قيل: فليس في الآية أمر لأحدهما بأن تقاتل الأخرى، وإنما هو أمر لسائر المؤمنين بقتال الباغية، والكلام هنا إنما هو في أن فعل القتال من عليّ لم يكن مأمورا به، بل كان تركه أفضل، وأما إذا قاتل لكون القتال جائزا، وإن كان تركه أفضل، أو لكونه مجتهدا فيه، وليس بجائز في الباطن، فهنا الكلام في وجوب القتال معه للطائفة الباغية أو الإمساك عن القتال في الفتنة، وهوموضع تعارض الأدلة، واجتهاد العلماء والمجاهدين من المؤمنين، بعد الجزم بأنه وشيعته أولى الطائفتين بالحق، فيمكن وجهان:
أحدهما: أن الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان؛ إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانا هي التألف بالمال، والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي ﷺ غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة، ولم تكن حاصلة كان الترك في نفس الأمر أصلح.
ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته، علم أنه قتال فتنة، فلا تجب طاعة الإمام فيه؛ إذ طاعته إنما تجب فيما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص، فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة الذي تركه خير من فعله لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولى الأمر، ولا سيما وقد أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الله والرسول.
ويشهد لذلك أن الرسول أخبر بظلم الأمراء بعده وبغيهم، ونهى عن قتالهم؛ لأن ذلك غير مقدور إذ مفسدته أعظم من مصلحته، كما نهى المسلمون في أول الإسلام عن القتال، كما ذكره بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} 2، وكما كان النبي ﷺ وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين والعفو والصفح عنهم حتى يأتي الله بأمره.
الوجه الثاني: أنها صارت باغية في أثناء الحال بما ظهر منها من نصب إمام وتسميته أمير المؤمنين، ومن لعن إمام الحق، ونحو ذلك. فإن هذا بغي، بخلاف الاقتتال قبل ذلك، فإنه كان قتال فتنة، وهو سبحانه قد ذكر اقتتال الطائفتين من المؤمنين ثم قال: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} 3، فلما أمر بالقتال إذا بغت إحدى الطائفتين المقتتلتين، دل على أن الطائفتين المقتتلتين قد تكون إحداهما باغية في حال دون حال.
فما ورد من النصوص بترك القتال في الفتنة، يكون قبل البغي، وما ورد من الوصف بالبغي يكون بعد ذلك، وحينئذ يكون القتال مع عليٍّ واجبا لما حصل البغي، وعلى هذا يتأول ما روى ابن عمر: إذا حمل على القتال في ذلك. وحينئذ فبعد التحكيم والتشيع وظهور البغي لم يقاتلهم على، ولم تطعه الشيعة في القتال، ومن حينئذ ذمت الشيعة بتركهم النصر مع وجوبه، وفي ذلك الوقت سموا شيعة، وحينئذ صاروا مذمومين بمعصية الإمام الواجب الطاعة، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ولما تركوا ما يجب من نصره صاروا أهل باطل وظلم إذ ذاك يكون تارة لترك الحق وتارة لتعدي الحق.
فصار حينئذ شيعة عثمان الذين مع معاوية أرجح منهم؛ ولهذا انتصروا عليهم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من خالفهم» وبذلك استدل معاوية، وقام مالك بن يُخَامِر ويقال: أخامر السكسكي الألهاني الحمصي، يقال: له صحبة، وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة سبعين، وقيل سنة اثنتين وسبعين فروى عن معاذ بن جبل أنهم بالشام. وعليّ هو من الخلفاء الراشدين، ومعاوية أول الملوك، فالمسألة هي من هذا الجنس، وهو: قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين، فإن كثيرًا من الناس يبادر إلى الأمر بذلك، لاعتقاده أن في ذلك إقامة العدل، ويغفل عن كون ذلك غير ممكن بل تربو مفسدته على مصلحته.
ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وقد يكون هذا من أسرار القرآن في كونه لم يأمر بالقتال ابتداء، وإنما أمر بقتال الطائفة الباغية بعد اقتتال الطائفتين، وأمر بالإصلاح بينهما، فإنه إذا اقتتلت طائفتان من أهل الأهواء كقَيْس ويمن إذ الآية نزلت في نحو ذلك فإنه يجب الإصلاح بينهما، وإلا وجب على السلطان والمسلمين أن يقاتلوا الباغية؛ لأنهم قادرون على ذلك، فيجب عليهم أداء هذا الواجب، وهذا يبين رجحان القول ابتداء، ففي الحال الأول لم تكن القدرة تامة على القتال ولا البغي حاصلا ظاهرًا، وفي الحال الثاني حصل البغي وقوى العجز وهو أولى الطائفتين بالحق وأقربهما إليه مطلقًا، والأخرى موصوفة بالبغي كما جاء ذلك في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد، كما تقدم.
وقد كان معاوية والمغيرة وغيرهما يحتجون لرجحان الطائفة الشامية، بما هو في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة»، فقام مالك بن يخامر فقال: سمعت معاذ بن جبل يقول: وهم بالشام، فقال معاوية: وهذا مالك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذًا يقول: وهم بالشام، وهذا الذي في الصحيحين من حديث معاوية فيهما أيضا نحوه من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ قال: «لا تزال من أمتي أمة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وهذا يحتجون به في رجحان أهل الشام بوجهين:
أحدهما: أنهم الذين ظهروا وانتصروا وصار الأمر إليهم بعد الاقتتال والفتنة، وقد قال النبي ﷺ: «لا يضرهم من خالفهم» وهذا يقتضي أن الطائفة القائمة بالحق من هذه الأمة هى الظاهرة المنصورة، فلما انتصر هؤلاء كانوا أهل الحق.
والثاني: أن النصوص عينت أنهم بالشام، كقول معاذ، وكما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين» قال الإمام أحمد: وأهل الغرب هم أهل الشام. وذلك أن النبي ﷺ كان مقيما بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه، وما يشرق عنها فهو شرقه، وكان يسمى أهل نجد وما يشرق عنها أهل المشرق، كما قال ابن عمر: قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا، فقال النبي ﷺ: «إن من البيان لسحرًا».
وقد استفاضت السنن عن النبي ﷺ في الشر أن أصله من المشرق؛ كقوله: «الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا» ويشير إلى المشرق، وقوله ﷺ: «رأس الكفر نحو المشرق» ونحو ذلك. فأخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها، والفتنة ورأس الكفر بالمشرق، وكان أهل المدينة يسمون أهل الشام أهل المغرب، ويقولون عن الأوزاعي: إنه إمام أهل المغرب، ويقولون عن سفيان الثوري ونحوه: إنه مشرقي إمام أهل المشرق، وهذا لأن منتهى الشام عند الفرات هو على مُسَامَتَة مدينة الرسول ﷺ طول كل منهما، وبعد ذلك حَرَّان والرَّقَّة ونحوهما على مسامتة مكة؛ ولهذا كانت قبلتهم أعدل القبلة، بمعنى: أنهم يستقبلون الركن الشامي ويستدبرون القطب الشامي من غير انحراف إلى ذات اليمين؛ كأهل العراق، ولا إلى ذات الشمال؛ كأهل الشام.
قالوا: فإذا دلت هذه النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف، ولا خذلان الخاذل هي بالشام، كان هذا معارضًا لقوله: «تقتل عمارا الفئة الباغية»، ولقوله: «تقتلهم أولى الطائفتين بالحق»، وهذا من حجة من يجعل الجميع سواء والجميع مصيبين، أو يمسك عن الترجيح وهذا أقرب. وقد احتج به من هؤلاء على أولئك، لكن هذا القول مرغوب عنه وهو من أقوال النواصب، فهو مقابل بأقوال الشيعة والروافض، هؤلاء أهل الأهواء وإنما نتكلم هنا مع أهل العلم والعدل.
ولا ريب أن هذه النصوص لا بد من الجمع بينها والتأليف، فيقال: أما قوله ﷺ: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين» ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم، فهكذا وقع وهذا هو الأمر، فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين.
وأما قوله عليه السلام: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله» ومن هو ظاهر، فلا يقتضي ألا يكون فيهم من فيه بغي ومن غيره أولى بالحق منهم، بل فيهم هذا وهذا.
وأما قوله: «تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» فهذا دليل على أن عليًا ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى، وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحًا في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائما بأمر الله، وأن يكون ظاهرا بالقيام بأمر الله عن طاعة الله ورسوله، وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه.
وأما كون بعضهم باغيا في بعض الأوقات، مع كون بغيه خطأ مغفورًا، أو ذنبًا مغفورًا، فهذا أيضا لا يمنع ما شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي ﷺ أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم، ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال.
وكذلك عمر بن الخطاب كان يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق، حتى قدم الشام غير مرة، وامتنع من الذهاب إلى العراق، واستشار فأشار عليه أنه لا يذهب إليها، وكذلك حين وفاته لما طعن أدخل عليه أهل المدينة أولا وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة، ثم أدخل عليه أهل الشام، ثم أدخل عليه أهل العراق، وكانوا آخر من دخل عليه هكذا في الصحيح.
وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال: لَكَفْر من كفور الشام أحب إلى من فتح مدينة بالعراق.
والنصوص التي في كتاب الله وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام، وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق، أكثر من أن تذكر هنا، بل عن النبي ﷺ من النصوص الصحيحة في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ما ليس هذا موضعه، وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين على، وذاك كان أمرًا عارضًا؛ ولهذا لما ذهب عليٌّ ظهر منهم من الفتن، والنفاق، والردة، والبدع، ما يعلم به أن أولئك كانوا أرجح.
وكذلك أيضا لا ريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام، كما كان على وابن مسعود وعمار وحذيفة ونحوهم، أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة، لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر راجح.
والنبي ﷺ ميز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائمًا إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر، فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير الشام من أرض الإسلام، فإن الحجاز التي هي أصل الإيمان نقص في آخر الزمان منها: العلم والإيمان والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق.
وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان، ومن يقاتل عليه منصورا مؤيدا في كل وقت، فهذا هذا، والله أعلم.
وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن عليا كان أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عمارًا قتلته الفئة الباغية كما جاءت به النصوص فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله، ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة. فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف.
ولهذا لما اعتقدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع علي، جعلوا ذلك قاعدة فقهية فيما إذا خرجت طائفة على الإمام بتأويل سائغ وهي عنده، راسلهم الإمام، فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم، وإن ذكروا شبهة بَيَّنَها، فإن رجعوا وإلا وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين.
ثم إنهم أدخلوا في هذه القاعدة قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة وقتال علي للخوارج المارقين؛ وصاروا فيمن يتولى أمور المسلمين من الملوك والخلفاء وغيرهم يجعلون أهل العدل من اعتقدوه لذلك، ثم يجعلون المقاتلين له بغاة، لا يفرقون بين قتال الفتنة المنهي عنه والذي تركه خير من فعله، كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم وأتباعهم؛ كاقتتال الأمين والمأمون وغيرهما، وبين قتال الخوارج الحرورية والمرتدة، والمنافقين؛ كالمزدكية ونحوهم.
وهذا تجده في الأصل من رأي بعض فقهاء أهل الكوفة وأتباعهم، ثم الشافعي وأصحابه، ثم كثير من أصحاب أحمد الذين صنفوا: باب قتال أهل البغي، نسجوا على منوال أولئك، تجدهم هكذا، فإن الخَرْقِيّ نسج على منوال المُزَنِي، والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن، وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب.
والمصنفون في الأحكام: يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعا، وليس عن النبي ﷺ في قتال البغاة حديث، إلا حديث كَوْثَر بن حكيم عن نافع، وهو موضوع .
وأما كتب الحديث المصنفة مثل: صحيح البخاري، والسنن فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج، وهم أهل الأهواء، وكذلك كتب السنة المنصوصة عن الإمام أحمد ونحوه.
وكذلك فيما أظن كتب مالك وأصحابه، ليس فيها باب قتال البغاة، وإنما ذكروا أهل الردة وأهل الأهواء وهذا هو الأصل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة، فهذا الذي أمر به النبي ﷺ.
وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين، فليس في النصوص أمر بذلك، فارتكب الأولون ثلاثة محاذير:
الأول: قتال من خرج عن طاعة ملك معين، وإن كان قريبًا منه ومثله في السنة والشريعة لوجود الافتراق، والافتراق هو الفتنة.
والثاني: التسوية بين هؤلاء وبين المرتدين عن بعض شرائع الإسلام.
والثالث: التسوية بين هؤلاء، وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية؛ ولهذا تجد تلك الطائفة يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور، ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم، بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة، وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم، أو أئمة الكلام، أو أئمة المشيخة على نظرائهم، مدعين أن الحق معهم، أو أنهم أرجح، بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير، لا بالاجتهاد، وهذا كثير في علماء الأمة وعبادها وأمرائها وأجنادها، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها. فنسأل الله العدل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به.
ولهذا كان أعدل الطوائف: أهل السنة أصحاب الحديث.
وتجد هؤلاء إذا أمروا بقتال من مرق من الإسلام، أو ارتد عن بعض شرائعه، يأمرون أن يسار فيه بسيرة عليّ في قتال طلحة والزبير، لا يُسْبَي لهم ذرية ولا يُغْنَمُ لهم مال، ولا يُجْهَزُ لهم على جريح، ولا يقتل لهم أسير، ويتركون ما أمر به النبي ﷺ، وسار به عليّ في قتال الخوارج وما أمر الله به رسوله، وسار به الصديق في قتال مانعي الزكاة، فلا يجمعون بين ما فرق الله بينه من المرتدين والمارقين، وبين المسلمين المسيئين، ويفرقون بين ما جمع الله بينه من الملوك والأئمة المتقاتلين على الملك وإن كان بتأويل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش