مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/فصل افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق
فصل افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق
قال شيخ الإسْلام رَحِمَه الله:
افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق: طرفان ووسط.
فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافرًا منافقًا، وأنه سعى في قتل سبط رسول الله، تَشَفِّيًا من رسول الله ﷺ، وانتقامًا منه، وأخذًا بثأر جده عتبة، وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي ﷺ بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها، وقالوا: تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية، وأنشدوا عنه:
لما بدت تلك الحمول وأشرفت ** تلك الرؤوس على ربي جيرون
نعق الغراب، فقلت نح أولا تنح ** فلقد قضيت من النبي ديوني
وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزَّبَعْرى الذي أنشده يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا الكثير من أشياخهم ** وعدلناه ببدر فاعتدل
وأشياء من هذا النمط.
وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل بكثير.
والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلًا صالحًا وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي ﷺ، وحمله على يديه وبرَّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبيًا، ويقولون عن الشيخ عدي، أو حسن المقتول كذبًا عليه : إن سبعين وليًا صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد.
وهذا قول غالية العدوية والأكراد ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عديًا كان من بني أمية، وكان رجلًا صالحًا عابدًا فاضلًا، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلال، من الأحاديث الموضوعة والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة، وأشياء أخر.
وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين؛ ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة.
والقول الثالث: أنه كان ملكًا من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرا، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبًا ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة.
ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين.
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا.
وقال مهنا: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل. قلت: وما فعل؟ قال: قتل من أصحاب رسول الله ﷺ وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ قال: لا يذكر عنه حديث. وهكذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره.
وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد: فيما بلغني لا يُسَبّ ولا يُحَبّ.
وبلغني أيضا أن جدنا أبا عبد الله بن تيمية سئل عن يزيد. فقال: لا تنقص ولا تزيد. وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها.
أما ترك سبه ولعنته، فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريمًا، وإما تنزيهًا. فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة حمار الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة، قال النبي ﷺ: «لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله» وقال: «لَعْنُ المؤمِن كقتله». متفق عليه.
هذا مع أنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه لعن الخمر وشاربها، فقد ثبت أن النبي لعن عمومًا شارب الخمر، ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين.
وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني، والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضِي لمعارض راجح: إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة، وإما غير ذلك كما قررناه في غير هذا الموضع، فهذه ثلاثة مآخذ.
ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة. وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وليس واحدًا منهم، وقد قال النبي ﷺ: «المرء مع من أحب» ومن آمن بالله واليوم الآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد، ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين.
ولترك المحبة مأخذان:
أحدهما: أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقى واحدًا من الملوك المسلطين، ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ، ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه اعتقد تأويلًا.
والثاني: أنه صدر عنه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته، وأمر الحسين وأمر أهل الحرة.
وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج ابن الجوزي، والكياالهراسي 1 وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن. وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقه، كما لعن أهل صفين بعضهم بعضًا في القنوت، فلعن على وأصحابه في قنوت الصلاة رجالًا معينين من أهل الشام؛ وكذلك أهل الشام لعنوا، مع أن المقتتلين من أهل التأويل السائغ العادلين، والباغين لا يفسق واحد منهم، وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يعلن سائر الفساق، كما لعن رسول الله ﷺ أنواعًا من أهل المعاصي، وأشخاصًا من العصاة، وإن لم يلعن جميعهم، فهذه ثلاثة مآخذ للعنته.
وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان:
أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة، وكان متأولًا فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطئ، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولًا، وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد.
والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر؛ أن رسول اللهﷺ قال: «أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له» وأول جيش غزاها كان أميره يزيد.
والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد؛ فإن اللعنة لمن يعمل المعاصي مما يسوغ فيها الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له، وأن يلعن ويشتم أيضا باعتبار وجهين.
فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها فإنهم لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب، ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب. والمسألة مشهورة، وتقريرها في غير هذا الموضع.
وأما جواز الدعاء للرجل وعليه، فبسط هذه المسألة في الجنائز، فإن موتى المسلمين يُصلى عليهم؛ برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجبت مقدم المغل بولاي؛ لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة، وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات، فسألني فيما سألني: ما تقولون في يزيد؟ فقلت: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلًا صالحًا فنحبه، ونحن لا نسب أحدًا من المسلمين بعينه، فقال: أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالمًا؟ أما قتل الحسين؟
فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون كالحجاج بن يوسف وأمثاله نقول كما قال الله في القرآن: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ} 2 ولا نحب أن نلعن أحدًا بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن.
وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضى بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صَرْفًا ولا عَدْلًا.
قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت: محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله ﷺ بغَدِير يدعى: خمّا، بين مكة والمدينة فقال: «أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله»، فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: «وعِتْرَتِي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي». قلت لمقدم: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: «اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد». قال مقدم: فمن يبغض أهل البيت؟ قلت: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلا.
ثم قلت للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتريٌ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قلت بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيًا، ولو تنقص أحد عليا بدمشق، لقام المسلمون عليه، لكن كان قديمًا لما كان بنو أمية ولاة البلاد بعض بني أمية ينصب العداوة لعليّ ويسبه، وأما اليوم فما بقى من أولئك أحد.
هامش
- ↑ [هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب بعماد الدين، الفقيه الشافعي، كان من أهل طبرستان، تولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد، كانت ولادته سنة 450ه، وتوفي سنة 504 ه ببغداد]
- ↑ [هود: 18]