انتقل إلى المحتوى

درء تعارض العقل والنقل/10

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


رأي أحمد بن حنبل في مسألة أفعال الله

قال أحمد في ( رده على الجهمية ): باب ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى: - ( فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم وإنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين فقلنا: هل يجوز لمكون أوغير الله أن يقول: { يا موسى * إني أنا ربك } ( طه: 12 ) أويقول: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ( طه: 14 )؟ فمن قال ذلك زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي: أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون: { يا موسى إني أنا الله رب العالمين } ( القصص: 30 ) وقد قال جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء: 164 ) وقال تعالى: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ( الأعراف: 143 ) وقال تعالى: { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ( الأعراف: 144 ) هذا منصوص القرآن

فأما ما قالوا: ( إن الله لا يتكلم ) فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خثيمة عن عدي بن حاتم الطائي قال: [ قال رسول الله ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ]

وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان وأدوات فقد قال تعالى: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } ( الأنبياء: 79 ) أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } فصلت: 21 ) أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء وكذلك الله يتكلم كيف شاء من غير أن نقول: بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان فلما خنقته الحجج قال: إ: ن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره فقلنا: وغيره مخلوق؟ قالوا: نعم قلنا: مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة وحديث الزهري قال: [ لما سمع موسى كلام الله قال: يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله ! وهل أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا: فشبهه قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله ]

فقد ذكر أحمد في هذا الكلام: أن الله تعالى يتكلم كيف شاء وذكر فيما استشهد به من الأثر ( أن الله كلم موسى عليه السلام بقوة عشرة آلاف لسان ) وأن له قوة الألسن كلها وهو أقوى من ذلك وأنه إنما كلم موسى على قدر ما يطيق ولو كلمه بأكثر من ذلك لمات وهذا بيان منه لكون تكلم الله متعلقا بمشيئته وقدرته كما ذكر عبد العزيز وهو خلاف قول من يجعله كالحياة القديمة اللازمة للذات التي لا تتعلق بمشيئة ولا قدرة وبين أيضا في كلامه أنه سبحانه تكلم وسيتكلم ردا على الجهمية وأستدل على أنه تكلم بالحديث الذي في الصحيحين عن عدي عن النبي أنه قال: [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ] وجعل قوله: [ سيكلمه ربه ] دليلا على أنه سيتكلم فبين أن التكلم عنده مستلزم للتكليم متضمن للتكلم ليس هو مجرد خلق إدراك في المستدل

وقال الإمام أحمد: ( وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة: { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } ( المائدة: 116 ) أليس الله هو القائل؟ قالوا: يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون شيئا فعبر لموسى قلنا: فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم } ( الأعراف: 6 - 7 ) أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله فقلنا: قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا: وكذلك بنوا آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم: قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة ! بل نقول: إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول: إن كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول: إنه كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة )

فقد بين أحمد في هذا الكلام الإنكار على النفاة الذي شبهوه بالجمادات التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان مثل الأصنام المعبودة من دون الله والإنكار على من زعم أنه كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام فشبهه بالآدمي الذي كان لا يتكلم حتى خلق الله له كلاما فأنكر تشبيهه الجماد الذي لا يتكلم وبالإنسان الذي كان قادر على الكلام حتى خلق الله له الكلام فكان قادرا على الكلام في وقت دون وقت وبين أن من وصف الله ذلك فقد جمع بين الكفر - حيث سلب ربه صفة الكلام وهي من أعظم صفات الكمال وجحد ما أخبرت به النصوص - وبين التشبيه

ثم قال أحمد: ( بل نقول: إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق ) فبين أن الكلام يتعلق بمشيئته وأنه لم يزل متكلما إذا شاء فرد قول من لا يجعل الكلام متعلقا بالمشيئة كقول الكلابية ومن وافقهم ومن يقول: ( كان ولا يتكلم حتى حدث له الكلام ) كقول الكرامية ونحوهم وقال: ( لا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما لا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول: إنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسة قدرة ولا نقول: إنه قد كان له ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة ) فنزهه سبحانه عن سلب صفات الكمال في وقت من الأوقات وإنا لا نقول: تجددت له صفات الكمال بل لم يزل موصوفا بصفات الكمال ومن صفات الكمال: إنه لم يزل متكلما إذا شاء لا أن يكون الكلام خارجا عن قدرته ومشيئته ولهذا لم يقل: لم يزل عالما إذا شاء ولا قال: يعلم كيف شاء وقد قال في موضع آخر فيما رواه عنه حنبل: ( لم يزل الله عالما متكلما غفورا )

وكلام أحمد وغيره من الأئمة في هذا الأصل كثير ليس هذا موضع بسطه مثل ما ذكره البخاري في آخر صحيحه في كتاب التوحيد والرد على الجهمية قال: باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب تعالى بصفاته وفعله وأمره - وفي نسخه ( وكلامه ) - هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان يفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مكون مخلوق )

وقال بعد ذلك: باب قول الله تعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } إلى قوله { ماذا قال ربكم قالوا الحق } ( سبأ: 23 ) ولم يقولوا ماذا خلق ربكم قال عز وجل: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ( البقرة: 255 ) وقال مسروق عن أبن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا: { ماذا قال ربكم قالوا الحق } ( سبأ: 23 ) ويذكر عن جابر بن عبد الله بن أنيس سمعت النبي يقول: [ يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان ] وذكر حديث أبي هريرة يبلغ به النبي قال: [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير ] وذكر حديث أبي سعيد الخدري قال: [ قال النبي يقول الله: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك ! فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ] والحديث فيه طول استوفاه في موضع آخر

وقال بعد ذلك: باب ما جاء في قول الله تعالى: { كل يوم هو في شأن } ( الرحمن: 29 ) وقال: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } ( الأنبياء: 2 ) وقوله تعالى: { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ( الطلاق: 1 ) وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى: 11 ) وذكر قول النبي : [ إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة ] وقول ابن عباس: كتابكم أحدث الأخبار بالرحمن عهدا محضا لم يشب

ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول ولهذا تأتلف ولا تختلف وتتوافق ولا تتناقض والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول فتشعبت بهم الطرق وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب وقد قال تعالى: { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } ( البقرة: 176 )

ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصيرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ذال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجموعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين )

ومن أعظم أصول التفريق بينهم في هذه المسألة - مسألة أفعال الله تعالى وكلام الله ونحوه ذلك مما يقوم بنفسه ويتعلق بمشيئته وقدرته - فإن هذا الأصل لما أنكره من أنكره من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ونحوهم وظنوا أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع إلا إثبات حدوث الجسم ولا يمكن إثبات حدوثه إلا بإثبات حدوث ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة ألجأهم ذلك إلى أن ينفوا عن الله صفاته وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته أو ينفوا بعض ذلك وظنوا أن الإسلام لا يقوم إلا بهذا النفي وأن الدهرية من الفلاسفة وغيرهم لا يبطل قولهم إلا بهذا الطريق وأخطأوا في هذا وهذا

أما الفلاسفة الدهرية فإن هذه الطريقة زادتهم إغراء وأوجبت لهم حجة عجز هؤلاء عن دفعها إلا بالمكابرة التي لا تزيد الخصم إلا قوة وإغراء فقالو لهم: كيف يحدث الحادث بلا سبب حادث؟ وكيف تكون الذات حالها وفعلها وجميع ماينسب إليها واحدا من الأزل إلى الأبد؟ والعالم يصدر عنها في وقت دون وقت من غير فعل يقوم به ولا سبب حدث؟

فكان ما جعلوه أصل للدين وشرطا في معرفة الله تعالى منافيا للدين ومانعا من كمال معرفة الله وكان ما أحتجوا به من الحجج العقلية هي في الحقيقة على نقيض مطلوبهم أدل فالحوادث لا تحدث إلا بشرط جعلوه مانعا من الحدوث وأما أمور الإسلام: فإن هذا الأصل اضطرهم إلى نفي صفات الله تعالى لئلا تنتقض الحجة ومن لم ينف الصفات نفى الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته فلزمهم من عدم الإيمان ببعض ما جاء به الرسول ومن جحد بعض ما يستحقه الله تعالى من أسمائه وصفاته ما أوجب له من من التناقض والإرتياب ما تبين لأولى الألباب فلم يعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه ولا الجهاد لعدو الله ورسوله حقه وقد قال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا } ( الآية ( الحجرات: 15 )

هذا مع دعواهم أنهم أعظم علما وإيمانا وتحقيقا لأصول الدين وجهادا لأعدائه بالحجج من الصحابة وإن هم في ذلك إلا كبعض الملوك الذين لم يجاهدوا العدو بل أخذوا منهم بعض البلاد ولا عدلوا في المسلمين العدل الذي شرعه الله للعباد إذا ادعى أنه أمكن وأعدل من عمر بن الخطاب وأصحابه رضوان الله عليهم

أقوال مختلفة في كلام الله تعالى

ثم إنهم بسبب ذلك تفرقوا في أصول دينهم كتفرقهم في كلام الله من القرآن وغيره فإنهم تفرقوا فيه شيعا: شيعة قالت: هومخلوق وحقيقة قولهم: لم يتكلم الله هبه كما كان قدماؤهم يقولون: لكن المعتزلة صاروا يطلقون اللفظ بأن الله متكلم حقيقة وكان مرادهم مراد من قال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم كما ذكره أحمد: إنهم تارة ينفون الكلام وتارة يقولون: يتكلم بكلام مخلوق وهو معنى الأول

وهذا في الحقيقة تكذيب للرسل الذي إنما أخبروا الأمم بكلام الله الذي أنزله إليهم وجاءت الفلاسفة القائلون بقدم العالم فقالوا أيضا: متكلم وكلامه ما يفيض من العقل الفعال على نفوس الأنبياء وهذا قول من وافقهم من القرامطة الباطنية ونحوهم ممن يتظاهر بالإسلام ويبطن مذهب الصابئة والمجوس ونحو ذلك وهو قول طوائف من ملاحدة الصوفية كأصحاب وحدة الوجود ونحوهم الذين أخذوا دين الصابئة والفراعنة والدهرية فأخرجوه في قالب المكاشفات والولاية والتحقيق

والذين قالوا ليس هو مخلوقا ظن فريق منهم أنه لا يقابل المخلوق إلا القديم اللازم للذات الذي يثبتونه بدون مشيئة الرب وقدرته كثبوت الذات فقالوا ذلك

ثم طائفة رأت أن الحروف والأصوات يمتنع أن تكون كذلك فقالت: كلامه هو مجرد معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر وأنه إن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا فلزمهم أن تكون معاني القرآن هي معاني التوراة والإنجيل وأن يكون الأمر هو النهي وهو الخبر وأن تكون هذه صفات له لا أنواعا له ونحو ذلك مما يعلم فساده بصريح العقل

وطائفة قالت بل هو حروف وأصوات أزلية لا تتعلق بمشئيته وقدرته كما قال الذين من قبلهم

واتفق الفريقان على أن تكليم الله لملائكته وتكليمه موسى وتكليمه لعباده يوم القيامة ومناداته لمن ناداه ونحو ذلك: إنما هو خلق إدراك في المستمع أدرك به ما لم يزل موجودا كما أن تجليه - عند من ينكر مباينته لعباده وأن يكشف لهم حجابا منفصلا عنهم - ليس هو إلا خلق إدراك في أعينهم من غير أن يكون هناك حجاب منفصل عنهم يكشفه لهم

وطائفة ثالثة لما رأت شناعة كل من القولين قالت: بل يتكلم بعد أن لم يكن يتكلم بصوت وحروف وكلامه حادث قائم بذاته متعلق بمشيئته وقدرته وأنكروا أن يقال: لم يزل متكلما إذا شاء إذ ذلك يقتضي تسلسل الحوادث وتعاقبها وهذا هو الدليل الذي استدلوا به على حدوث أجسام العالم

فليتدبر المؤمن العالم كيف فرق هذا الكلام المحدث المبتدع بين الأمة وألقى بينها العداوة والبغضاء مع أن كل طائفة تحتاج أن تضاهي من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض إذ مع كل طائفة من الحق ما تنكره الأخرى فالذين قالوا بخلق القرآن إنما ألقاهم في ذلك أنهم رأوا أنه لا يمكن أن يكون الكلام لازما للذات لزوم العلم بل الكلام يتعلق بمشيئتة المتكلم وقدرته فقالوا: يكون من صفات الفعل والمتكلم: من فعل الكلام ثم لم يثبتوا فعلا إلا منفصلا عنه لنفيهم أن يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته وصار من قابلهم يريد أن يثبت كلاما لازما للمتكلم لا يتعلق بمشيئته وقدرته: إما معنى وإما حروفا ويثبت أن المتكلم لا يقدر على التكلم ولا يمكنه أن يقول غير ما قال ويسلب المتكلم قدرته على القول والكلام وتكلمه باختياره ومشيئته فإذا قال له الأول: ( المتكلم من فعل الكلام ) قال هو: ( المتكلم من قام به الكلام ) ولكن ذاك يقول: لا يقوم الكلام بفاعله وهذا يقول: لا يختار المتكلم أن يتكلم

فأخذ هذا بعض صفة الكلام وهذا بعضها والمتكلم المعروف: من قام به الكلام ومن يتكلم بمشيئته وقدرته ولهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها

وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل قول فلا يعرفونه ولا يعرفون قائله فالشهرستاني صنف المل والنحل وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وأبو الحسين البصري ومحمد بن الهيثم ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين تجد أحدهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة ويختار واحدا منها والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام أحمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم مع أن عامة المنتسبين إلى السنة من جميع الطوائف يقولون: إنهممتبعون للأئمة كمالك والشافعي وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد وغيرهم لا سيما الإمام أحمد فإنه بسبب المحنة المشهورة من الجهمية له ولغيره أظهر من السنة ورد من البدعة ما صار به إماما لمن بعده وقوله هو قول سائر الأئمة فعامة المنتسبين إلى السنة يدعون متابعته والاقتداء به سواء كانوا موافقين له في الفروع أو لا فإن أقوال الأئمة في أوصول الدين متفقة ولهذا كلما اشتهر الرجل بالانتساب إلى السنة كانت موافقته لأحمد أشد ولما كان الأشعري ونحوه أقرب إلى السنة من طوائف من أهل الكلام كان انتسابه إلى أحمد أكثر من غيره كما هو معروف في كتبه

وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشأفعي وأحمد وغيرهم من يقول أقوالا ويكفر من خالفها وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها كما أنهم كثيرا ما ينكرون أقوالا ويكفرون من يقولها وتكون منصوصة عن النبي لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس حتى صار الحق الذي جاء به الرسول - وهو المطابق للمعقول - لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات: { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ( الحشر: 10 )

عدم ذكر مصنفي أصول الدين

وكان هذا من تلك البدع الكلامية كبدع الذين جعلوا أصل الدين مبنيا على كلامهم في الأجسام والأعراض ولهذا كثر ذم السلف والأئمة لهؤلاء وإذا رأيت الرجل قد صنف كتابا في أصول الدين ورد فيه من أقوال أهل الباطل ما شاء الله ونصر فيه من أقوال أهل الحق ما شاء الله ومن عادته أنه يستوعب الأقوال في المسأل فيبطلها إلا واحدا ورأيته في مسألة كلام الرب تعالى وأفعاله أو نحو ذلك ترك من الأقوال ما هو معروف عن السلف والأئمة - تبين أن هذا القول لم يعرفه ليقبله أو يرده إما لأنه لم يخطر بباله أو لم يعرف قائلا له أو لأنه خطر له فدفعه بشبهة من الشبهات وكثيرا ما يكون الحق مقسوما بين المتنازعين في هذا الباب فيكون في قول هذا حق وباطل وفي قول هذا حق وباطل والحق بعضه مع هذا وبعضه مع هذا وهو مع ثالث غيرها والعصمة إنما هي ثابتة لمجموع الأمة ليست ثابتة لطائفة بعينها

فإذا رأيت من صنف في الكلام - كصاحب الإرشاد والمعتمد ومن أتبعهما ممن لم يذكروا في ذلك إلا أربعة أقوال وما يتعلق بها - علم أنه لم يبلغهم القول الخامس ولا السادس فضلا عن السابع فالذين يسلكون طريقة ابن كلاب كصاحب الإرشاد ونحوه يذكرون قول المعتزلة وقول الكرامية ويبطلونهما ثم لا يذكرون مع ذلك إلا ما يقولون فيه ( وذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أن كلام الله تعالى قديم أزلي ثم زعموا أنه حروف وأصوات وقطعوا بأن المسموع صوت القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع صوت الله تعالى الله عن قولهم ! وهذا قياس جهالاتهم ثم قالوا: إذا كتب كلام الله بجسم من الأجسام رقوما ورسوما وأسطرا وكلما فهي بأعينها كلام الله القديم فقد كان إذ كان جسما حادثا ثم أنقلب قديما ثم قضوا بأن المرئي من الأسطر هو الكلام القديم الذي هو حرف وأصوات وأصلهم أن الأصوات على تقطيعها وتواليها كانت ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وقواعد مذهبهم مبينة على دفع الضرورات )

فلم يذكر أبوالمعالي إلا هذا القول من قول المعتزلة والكلابية والكرامية

ومعلوم أن هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول ولا نعرف هذا القول عن معروف بالعلم من المسلمين ولا رأينا هذا في شيء من كتب المسلمين ولا سمعناه من أحمد منهم فما سمعنا من أحد ولا رأينا في كتاب احد أن المداد الحادث انقلب قديما ولا أن المداد الذي يكتب به القرآن قديم بل رأينا عامة المصنفين من أصحاب أحمد وغيرهم ينكرون هذا القول وينسبون ناقله عن بعضهم إلى الكذب

وأبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم بل يذكر كلاما مجملا يتناول النقيضين ولايميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر فيحكيه الحاكي مفصلا ولا يجمله إجمال القائل ثم إذا فصله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضا وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها القائل نفسه وما كل من قال قولا التزمه لوازمه بل عامة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم فالحاكي يجعل ما يظنه من لوازم قوله هو أيضا من قوله لا سيما إذا لم ينف القائل ما يظنه الحاكي لازما فإنه يجعله قولا بطريق الأولى

ولا ريب أن من الناس من يقول: هذا القرآن كلام الله وما بين اللوحين كلام الله ويقول: إن كلام الله محفوظ في القلوب متلو بالألسن مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف وهذا الإطلاق حق متفق عليه بين المسملين ثم من هؤلاء من إذا سئل عن المداد وصوت العبد: أقديم هو؟ أنكر ذلك وربما سكت عن ذلك وكره الكلام فيه بنفي أو إثبات خشية أن يجره ذلك إلى بدعة مع أنه لو سمع من يقول: ( إن المداد قديم ) ألزمه العقوبة به والعذاب الأليم

وأما صوت العبد فقد تكلم فيه طائفة من المنتسبين إلى الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما فمنهم من قال: إن الصوت المسموع قديم ومنهم من يقول: يسمع شيئين الصوت القديم والمحدث وهذا خطأ في العقل الصريح وهو بدعة وقول قبيح

والإمام أحمد وجماهير أصحابه منكرون لما هو أخف من ذلك فإن أحمد وأئمة أصحابه قد أنكروا على من قال: اللفظ بالقرآن غير مخلوق فكيف بمن قال: اللفظ به قديم فكيف بمن قال: الصوت غير مخلوق؟ فكيف بمن قال: الصوت قديم؟ وقد بدعوا هؤلاء وأمروا بهجرهم وقد صنف المروذي في ذلك مصنفا كبيرا ذكره الخلال في كتاب السنة كما جهموا وبدعوا من قال: اللفظ به مخلوق أيضا كما بين في موضعه

إذا المقصود هنا أن من أكابر الفضلاء من لا يعرف أقوال الأئمة في أكابر المسائل لا أقوال أهل الحق ولا أهل الباطل بل لم يعرف إلا بعض الأقوال المبتدعة في الإسلام ومن المعلوم أن السلف والأئمة كان لهم ليس هو قول المعتزلة ولا الكلابية ولا الكرامية ولا هو قول المسلمين بالحشوية فأين ذلك القول؟ أكان أفضل الأمة وأعلمها وخير قرونها لا يعلمون في هذا حقا ولا باطلا؟

ومعلوم أن كل قول من هذه الأقوال فاسد من وجوه وقد يكون بعضها أفسد من بعض فقول المعتزلة الذي قالوا: ( إن كلام الله مخلوق ) وإن كان فاسدا من وجوه فقول الكلابية فاسد من وجوه وقول الكرامية فاسد من وجوه

والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا هذه الأقوال كلها: أنكروا قول الكلابية والكرامية بالنصوص الثابتة عنهم وإنكارهم لقول المعتزلة متواتر مستفيض عنهم وأنكروا على من جعل ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة فكيف بالقول المنسوب إلى هؤلاء الحشوية؟ ولهذا لما كان أبو حامد مستمدا من كلام أبي المعالي وأمثاله وأراد الرد على الفلاسفة في التهافت ذكر أنه يقابلهم بكلام المعتزلة تارة وبكلام الكرامية تارة وبكلام الواقفة تارة كما يكلمهم بكلام الأشعرية وصار في البحث معهم إلى مواقف غايته فيها بيان تناقضهم وإذا ألزموه فر إلى الوقف

ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر أو تفصيل ومن المعلوم أن كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام لا بد أن يناقضه حق معلوم من دين الإسلام موافق لصريح العقل فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بمحالات العقل وإنما يخبرون بمجازات العقول وما يعلم بصريح العقل أنتفاؤه لا يجوز أن يخبر به الرسل بل تخبر بما لا يعلمه العقل وبما يعجز العقل عن معرفته

ومن المعلوم أن السلف والأئمة له قول خارج عن قول المعتزلة والكرامية والأشعرية والواقفة ومن علم ذلك القول فلا بد أن يحكيه ويناظرهم به كما يناظرهم بقول المعتزلة وغيرهم لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول إلا بمبلغ علمه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها

ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإنكان ذلك في المسائل العملية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابة الرسول بحسب إمكانه: هو أحق بان يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه تحقيقا لقوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ( البقرة: 286 )

عدم ذكر الشهرستاني لقول السلف في نهاية الإقدام

والشهرستاني - لما كان أعلم بالمقالات من إخوانه - ذكر في مسألة الكلام قولا سادسا وظن أنه قول السلف فقال في نهاية الإقدام - بعد أن ذكر قول الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية والكرامية وأن المعتزلة لما قالت: ( أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منظمومة وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة على التحقيق لها مفتتح ومختتم وأنه معجزه للرسول دالة على صدقه وأن الأشعرية تفرق بين اللفظ والمعنى وتثبت معنى هو مدلول اللفظ ) - ثم قال: ( قال السلف والحنابلة: قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله وأن ما نقرؤه ونكتبه ونسمعه عين كلام الله فيجب أن تكون تلك الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله ولما تقرر الاتفاق على أن كلام غير مخلوق فيجب أن تكون تلك الكلمات أزلية غير مخلوقة

ولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين: أحدهما القدم والثاني الحدوث والقولان مقصوران على الكلمات المتوبة والآيات المقروءة بالألسن فصار الآن قول ثالث وهو حدوث الحروف والكلمات وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات وقد حتم قدحا ليس منها وهو خلاف القولين فكانت السلف على إثبات القدم والأزلية لهذه الكلمات دون التعرض لمعنى وراءها فأبدع الأشعري قولا وقضى بحدوث الحروف وهو خرق الإجماع وحكم بأن ما نقرأه كلام الله مجازا لا حقيقة وهو عين الابتداع فهلا قال: ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته؟ كما ورد السمع بإثبات كثير من الصفات من الوجه واليدين إلى غير ذلك من الصفات الخبرية )

قال: قال السلف: ولا يظن بنا أن نثبت القدم للحروف والأصوات التي قامت بألسنتنا وصارت صفات لنا فأنا على قطع نعلم افتتاحها واختتامها وتعلقها بأكسابنا وأفعالنا وقد بذل السلف أرواحهم وصبروا على أنواع البلايا والمحن من معتزلة الزمان دون أن يقولوا: القرآن مخلوق: ولم يكن ذلك على حروف وأصوات هي أفعالنا وأكسابنا بل هم عرفوا يقينا أن لله تعالى قولا وكلاما وأمرا وأن أمره غير خلقه بل هو أزلي قديم بقدمه

كما ورد القرآن بذلك في قوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } ( الأعراف: 54 ) وقوله تعالى: { لله الأمر من قبل ومن بعد } ( الروم: 4 ) وقوله تعالى: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل: 40 ) فالكائنات كلها إنما تتكون بقوله وأمره وقوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس: 82 ) وقوله تعالى: { وإذ قال ربك } ( البقرة: 30 ) { وإذ قلنا للملائكة } ( البقرة: 34 ) { قال الله } ( المائدة: 115 ) فالقول قد ور في السمع مضافا إلى الله أخص من إضافة الخلق فإن المخلوق لا ينسب إلى الله تعالى إلا من جهة واحدة وهي الخلق والإبداع والأمر ينسب إليه لا على تلك النسبة وإلا فيرتفع الفرق بين الخلق والأمر والخلقيات والأمريات

قالوا: ومن جهة العقل: العاقل يجد فرقا ضروريا بين ( قال ) و( فعل ) وبين ( أمر ) و( خلق ) ولو كان القول فعلا كسائر الأفعال بطل الفرق الضروري فثبت أن القول غير الفعل وهو قبل الفعل وقبليته قبلية أزلية إذ لو كان له أول لكان فعلا سبقه قول آخر ويتسلسل )

قال: ( وحققوا زيادة تحقيق فقالوا: قد ورد في التنزيل أظهر مما ذكرناه من الأمر وهو التعرض لإثبات كلمات الله حيث قال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } ( الأنعام: 115 ) وقال: { ولولا كلمة سبقت من ربك } ( يونس: 19 ) وقال تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } ( الكهف: 109 ) وقال تعالى { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } ( لقمان: 17 ) وقال تعالى: { ولكن حق القول مني } ( السجدة: 13 ) وقال: { ولكن حقت كلمة العذاب } ( الزمر: 71 ) فتارة يجيء الكلام بلفظ الأمر وتثبت له الوحدة الخالقية التي لا كثرة فيها: { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } ( القمر: 50 ) وتارة يجيء بلفظ الكلمات وتثبت لها الكثرة البالغة التي لا وحدة فيها ولا نهاية لها { ما نفدت كلمات الله } فله تعالى إذا أمر وكلمات كثيرة وذلك لا يتصور إلا بحروف

فعن هذا قلنا: أمره قديم وكلماته أزلية والكلمات مظاهر الأمر والروحانيات مظاهر الكلمات والأجسام مظاهر الروحانيات والإبداع والخلق إنما يبتدي من الأرواح والأجسام وأما الكلمات والحروف والأمر فأزلية قديمة وكما أن أمره لا يشبه أمرنا فكلماته وحروف كلماته لا تشبه كلامنا وهي حروف قدسية علوية وكما أن الحروف بسائط الكلمات والكلمات أسباب الروحانيات والروحانيات مدبرات الجسمانيات وكل الكون قائم بكلمات الله محفوظ بأمر الله )

قال: ( ولا يغفلن عاقل عن مذهب السلف وظهور القول في حدوث الحروف فإن له شأنا وهم يسلمون الفرق بين القراءة والمقروء والكتابة والممكتوب ويحكمون بأن القراءة التي هي صفتنا وفعلنا غير المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير أن المقروء بالقراءة قصص وأخبار وأحكام وأمر وليس المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير بأن المقروء بالقراءة قص وأخبار وأحكام وأمر وليس المقروء من قصة آدم وإبليس هو بعينه المقروء من قصة موسى وفرعون وليست أحكام الشرائع الماضية هي بعينها أحكام الشرائع الخاتمة فلا بد إذا من كلمات تصدر عن كلمة وترد على كلمة ولا بد من حروف تتركب منها الكلمات وتلك الحروف لا تشبه حروفنا وتلك الكمات لا تشبه كلامنا )

قلت: فهذا القول الذي ذكره الشهرستاني وحكاه عن السلف والحنابلة ليس هو من الأقوال التي ذكرها صاحب الإرشاد وأتباعه فإن أولئك لم يحكوا إلا قول من يجعل القديم عين صوت العبد والمداد وهذا القول لا يعرف به قائل له قول أو مصنف في الإسلام وأما القول الذي ذكره الشهرستاني: فقال به طائفة كبيرة وهو أحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم من الطوائف وهو المذكور عن أبي الحسن بن سالم وأصحابه السالمية وقد قاله طائفة غير هؤلاء كما ذكر ذلك الأشعري في كتاب المقالات لما ذكر كلام ابن كلاب فقال: ( قال ابن كلاب: إن الله لم يزل متكلما وإن كلامه صفة له قائمة به وإنه قدمي بكلامه وإن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به وإن الكلام ليس بحروف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض وإنه معنى واحد قائم بالله )

قال: ( وقال بعض من أنكر خلق القرآن: إن القرآن يسمع ويكتب وإنه متغاير غير مخلوق وكذلك العلم غير القدرة والقدرة غير العلم وإن الله لا يجوز أن يكون غير صفاته وصفاته متغايرة وهو غير متغاير )

قال: ( وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث وأن الله لم يزل متكلما وأنه مع ذلك حروف وأصوات وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله متكلما بها )

قلت: فبعض هذا القول الذي ذكره الشهرستاني عن السلف منقول بعينه عن السلف مثل إنكارهم على من زعم أن الله خلق الحروف وعلى من زعم أن الله لا يتكلم بصوت ومثل تفريقهم بين صوت القارىء وبين الصوت الذي يسمع من الله ونحو ذلك فهذا كله موجود عن السلف والأئمة وبعض ما ذكره من هذا القول ليس هو معروفا عن السلف والأئمة مثل إثبات القدم والأزلية لعين اللفظ المؤلف المعين ولكن القول الذي أطبقوا عليه: هو أن كلام الله غير مخلوق ولكن الناس تنازعوا في مرادهم بذلك والنزاع في ذلك موجود في عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم كما هو مبسوط في غير هذا الموضع

والنزاع في ذلك مبني على هذا الأصل هو كون قوله - مع أنه غير مخلوق ومع أنه قائم به ومع أنه لم يزل متكلما -: هل يتعلق بقدرته ومشيئته أم لا؟ فهذا القول السابع لم يذكره الشهرستاني ونحوه إذ الأقوال المعروفة للناس في مسألة الكلام سبعة أقوال

موقف الرازي في مسألة القرآن وأفعال الله

والمقصود هنا: أن أبا عبد الله الرازي في أكثر كتبه لم يبن مسألة القرآن على الطريقة المعروفة ل الأشعري وهو أنه يمتنع أن يحدث في نفسه كلام لكونه ليس محلا للحوادث وذلك لأنه قد ضعف هذا الأصل فلم يمكنه أن يبني عليه بل أثبت ذلك بإجماع مركب فقرر بأن الكلام له معنى غير العلم والإرادة خلافا للمعتزلة ونحوهم وإذا كان كذلك فكل من قال بذلك قال: إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله تعالى فلو لم يقل بذلك لكان خلاف الإجماع فهذا هو العمدة التي اعتمد عليها في نهاية العقول وهو ضعيف فإن الإقوال في المسألة متعددة قول غير المعتزلة والكلابية

وكان من الممكن أن يقال له: إن ثبت أنه لا يقوم بالله ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن أن يجعل كلام الله قديما بالطريقة المعروفة فإنه يمتنع أن يحدثه قائما في نفسه أو في محل آخر فإذا أمتنع حدوثها في نفسه تعين قدمه وإن لم يثبت ذلك بل أمكن أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن هنا قول الكرامية وقول أهل الحديث الذين يقولون: إنه قول السلف والأئمة فلم يتعين قول الكلابية فذكر في نهاية العقول ما جرت عادته وعادة غيره بذكره وهو أن معنى الكلام: إما أن يكون هو الإرادة والعلم وإما أن يكون الطلب مغايرا للإرادة والحكم الذهني مغايرا للعلم والأول باطل لأن الإنسان في الشاهد قد يخبر بما يعلمه ولا يعتقده وقد يأمر بأمر لا يريده كالسيد إذا كان قصده امتحان العبد

قال: ( وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب )

قال: ( فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقية قائمة بذاته مغايره لذاته وعلمه وأن الألفاظ الواردة في الكتب الإلهية دالة عليها وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها لأن الأمة علىقولين في هذه المسألة: منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى ومنهم من أثبت ذلك وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبتنا كونه تعالى موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل )

وأورد على نفسه أسئلة: فمنها قول القائل: ( لم قلتم إن تلك المعاني قديمة قولكم: كل من أثبت تلك المعاني أثبتها قديمة؟ قلنا: القول في إثباتها مسألة والقول في قدمها مسألة أخرى فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت الأخرى لزم من أثبات كونه تعالى عالما بعلم قديم إثبات كونه تعالى متكلما بكلام قديم وإن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا لإجماع )

وذكر في جواب ذلك ( قوله: لو لزم من إثبات هذه الصفة إثبات قدمها - لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - قلنا: الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول فإن المعتزلة يساعدوننا على الفرق بين الموضعين فلا نطول قوله: إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع قلنا: قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع )

قلت: المقصود أن يعرف أنه عدل عن الطريقة المشهورة وهو أنه لو أحدثه في نفسه لكان محلا للحوادث - مع أنه عمدة ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما - لضعف هذا الأصل عنده ولو أعتقد صحته لكان ذلك كافيا مغنيا له عن هذه الطريقة التي أحدثها

وليس المقصود هنا الكلام في مسألة القرآن فإن هذا مبسوط في مواضعه وإنما الغرض التنبيه على اعتراف الفضلاء بأن هذا الأصل ضعيف وأما ضعف ما اعتمده في مسألة القرآن: فمبين في موضع آخر فإن إثبات المقدمة الأولى فيها كلام ليس هذا موضعه إذ كانت العمدة فيه على أمر الممتحن وخبر الكاذب والمنازع يقول: هذا إظهار للأمر والخبر وإلا فهو في نفس الأمر لم يدل الخبر هنا على معنى في النفس ولهذا يقول الله تعالى عن الكاذبين إنهم: { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } ( الفتح: 11 ) فهم ينازعون في أن الكاذب قام بنفسه حكم أو دل لفظه على معنى في نفسه بل أظهر الدلالة على معنى في نفسه كذبا

وأما المقدمة الثانية فضعيفة وذلك أنه يقال: هب أن هذا ثبت لكن لم لا يجوز أن يتكلم بحروف ومعان قائمة في ذاته حادثة؟ وهذا القول قول طوائف من المسلمين فليس هو خلاف الإجماع فإن أبطل هذا بقوله: ( ليس هو محلا للحوادث ) قيل: فهذا - إن صح - فهو دليل كاف كما سلكه من سلكه من الناس وإن لم يصح بطلت الدلالة فتبين أنه لا بد في إثبات قدمه من هذه المقدمة

وأما قوله: ( كل من أثبت اتصاف الله بهذه المعاني فإنه يقول بقدمها ) فليس الأمر كذلك بل كثير من أهل الحديث وأهل الكلام يثبتونها ولا يقولون بقدمها

وأما الفرق الذي ذكره في المحصول فهو أن الأمة إذا اختلفت في مسألتين على قولين: فإن كان مأخذهما واحدا - كتنازعهم في الرد وذوي الأرحام - لم يكن لمن بعدهم إحداث موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة وإن كان المأخذ مختلفا - كتنازعهم في الشفعة وميراث ذوي الأرحام - جاز موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة فظن أن قدم الكلام مع إثبات هذه المعاني من هذا الباب وليس الأمر كذلك فإن مأخذ إثبات هذه المعاني ليس هو مأخذ القدم فإن القدم مبني على مسألة الصفات وعلى أنه: هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته؟ وأما إثبات هذه المعاني فمسألة أخرى

والناس لهم في مسمى ( الكلام ) أربعة أقوال: أحدهما: أنه اللفظ الدال على المعنى والثاني أنه المعنى المدلول عليه باللفظ والثالث: أنه مقول بالاشتراك على كل منهما والرابع: أنه اسم لمجموعهما وإن كان مع القرينة يراد به أحدهما وهذا قول الأئمة وجمهور الناس وحينئذ فمن أثبت هذه المعاني وقال: إن اسم ( الكلام ) يتناولهما بالعموم أو الأشتراك يمكنه إثبات قيام اللفظ والمعنى جميعا بالذات

ثم من جوز تعلق ذلك بمشيئته وقدرته يمكنه أن لا يقول بالقدم أو لا يقول بالقدم في الكلام المعين وإن قال بالقدم في نوع الكلام ومن لم يجوز ذلك فمنهم طائفة يقولون بقدم الحروف وطائف تقول بقدم المعاني دون الحروف وما به يستدل أولئك على حدوث الحروف كالتعاقب والمحل يعارضونهم بمثله في المعاني فإنه بالنسبة إلينا متعاقبة ولها محل لا يليق بالله تعالى فإن جاز أن تجعل فينا متعددة مع اتحادها في حق الله تعالى وأن محلها منه ليس كمحلها منا: أمكن أن يقال في الحروف كذلك: إنها وإن تعددت فينا فهي متحدة هناك وليس المحل كالمحل وإذا قيل: ( هي مرتبة فينا ) قيل: فكذلك المعاني مرتبة فينا فترتيب أحدهما كترتيب الآخر وإذا قيل: ( دعوى أتحادهما مخالف لصريح العقل ) قيل: وكذلك دعوى اتحاد المعاني فكلام هؤلاء من جنس كلام هؤلاء

والمقصود هنا: الكلام على هذا الأصل وهي مسألة الصفات الاختيارية كالأفعال ونحوها مما يقوم به ويتعلق بمشيئته وقدرته

وأما قول القائل: ( الجمهور على خلاف ذلك وإنما الخلاف فيه مع الكرامية ) فهذا قول من ظن أن طوائف المسلمين منحصرة في المعتزلة والكلابية والكرامية بل أكثر طوائف المسلمين يجوزون ذلك: من أهل الكلام وأهل الحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم وأما أئمة أهل الحديث والسنة فكالمجمعين على ذلك فكلام من يعرف كلامه في ذلك صريح فيه والباقون معظمون لمن قال ذلك شاهدون له بأنه إمام في السنة والحديث لا ينسبونه إلى بدعة

وأما متأخرو أهل الحديث فلهم فيها قولان ولأصحاب أحمد قولان ولأصحاب الشافعي قولان ولأصحاب مالك قولان ولأصحاب أبي حنيفة قولان وللصوفية قولان وجمهور أهل التفسير على الإثبات

وأما أهل الكلام فقد ذكر الأشعري هذا في كتاب المقالات عن غير واحد من أئمة الكلام غير الكرامية ولم يذكر للكرامية شيئا انفردوا به إلا قولهم في الإيمان بل ذكر عن هشام بن الحكم وغيره من الشيعة أنهم يصفونه بالحركة والسكون ونحو ذلك وأن عامة القدماء من الشيعة كانوا يقولون بالتجسيم أعظم من قول الكرامية وأن المتأخرين منهم هم الذين قالوا في التوحيد بقول المعتزلة بل ذكر عنهم تجدد الصفات من العلم والسمع والبصر والناس قد حكوا عن هشام والجهم أنهما يقولان بحدوث العلم وهذا رأس المعطلة وهذا رأس الشيعة لكن جهم كان يقول بحدوث العلم في غير ذاته وهشام يقول بحدوثها في ذاته وحكى الأشعري تجدد العلم له عن جمهور الإمامية وحكى عنهم إثبات الحركة به وأن كلهم يقولون بذلك إلا شرذمة منهم وذكر عن هشام بن الحكم وهشام بن الجواليقي وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وغيرهم أنهم يقولون إرادته حركة وهل يقال: إنها غيره أم لا؟ على قولين لهم وذكر عن طائفة أنهم يقولون: يعلم الأشياء قبل كونها إلا أعمال العباد فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها وهذا قول غلاة القدرية كمعبد الجهني وأمثاله وهو أحد قولي عمروبن عبيد وذكر عن زهير الأثري أنه كان يقول: إن الله ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر: 22 ) ويزعم أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق )

قال: ( وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيرا في أكثر قوله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله: حدث غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في محبته وإرادته أيضا )

قال زهير: كلام الله حدث وليس بمحدث وفعل وليس بمفعول وامتنع أن يزعم أنه خلق ويقول: ليس بخلق ولا مخلوق وإنه قائم بالله ومحال أن يتكلم بالله بكلام قائم بغيره كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه: إن ذلك أجمع قائم بالله

قال الأشعري: ( وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول: إن الله لم يزل متكلما بمعنى أنه يزل قادرا على الكلام ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق ) قال: ( وهذا قول داود الأصبهاني ) قال: ( وكل القائلين بأن القرآن غير مخلوق كنحو عبد الله بن كلاب ومن قال إنه محدث كنحو زهير ومن قال: إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني - يقولون: إن القرآن ليس بجسم ولا عرض )

وأما الحجة التي احتج بها الرازي للنفاة فهي أيضا ضعيفة من وجوه

أحدها: أن المقدمة التي اعتمد عليها فيه قوله: ( إن الخالي عن الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص )

فيقال: معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل كما لا يمكن وجودها في الأزل فإن ما كان وجوده مشروطا بحادث سابق له امتنع إمكان وجوده قبل وجود شرطه وعلى هذا: فالخلو عن هذه في الأزل لا يكون خلوا عما يمكن الاتصاف به والخالي عما لا يمكن اتصافه به ليس بناقص

الوجه الثاني: أن يقال: هو لم يثبت امتناع ما ذكره من النقص بدليل عقلي ولا ينص كتاب ولا سنة بل إنما أثبته بما ادعاه من الإجماع وهذه طريقته وطريقة أبي المعالي قبله ومن وافقهم يقولون: إن امتناع النقص على الله تعالى إنما علم بالإجماع لا بالنص ولا بالعقل وإذا كان كذلك فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسائل النزاع؟

فإن قال: هؤلاء وافقونا على امتناع النقص عليه وإنما نازعونا في كون ذلك نقصا

قيل له: إما أن يكونوا وافقوا على إطلاق اللفظ وإما أن يكونوا وافقوا على معانية

فإن وافقوا على إطلاق القول بأنه سبحانه منزه عن النقص وقالوا: ليس هذا من النقص لم يكن مورد النزاع داخلا فيما عنوه بلفظ النقص ومعلوم إن الإجماع حينئذ لا يكون حاصلا على المعنى المتنازع فيه ولكن على لفظ لم يدخل فيه هذا المعنى عند بعض أهل الإجماع ومثل هذا لا يكون حجة في المعنى ولكن غايته - إذا قام الدليل على أن هذا يسمى في اللغة نقصا -: أن يكونوا لم يعبروا باللفظ اللغوي وهذا بتقدير أن لا يكون له مساغ في اللغة: إنما فيه خطأ لغوي فكيف إذا كانت هذه المقدمات غير مسلمة لهم في اللغة أيضا؟ ومثل هذا ليس بحجة على المعاني المتنازع فيه وإنما يكون حجة لفظية لو صحت مقدماته فلا يحصل بها المقصود

وإن كانوا وافقوا على نفي المعاني التي يعبر عنها بلفظ النقص: فمعلوم أن المعنى المتنازع فيه لم يوافقهم عليه فتبين أن مورد النزاع لا إجماع على نفيه قطعا فلا يجوز الإحتجاج على نفيه بالإجماع

الوجه الثالث: أن يقال: إن قول القائل: ( إن الأمة اجتمعت على تنزه الله تعالى عن النقص وقوله: أجتمعت على تنزيه الله تعالى عن العيب والآفة ونحو ذلك ) وهذا القدر ليس بمنقول اللفظ عن كل واحد من الأمة لكن نحن نعلم أن كل مسلم فهو ينزه الله تعالى عن النقص والعيب بل العقلاء كلهم متفقون على ذلك فإنه ما من احد ممن يعظم الصانع سبحانه وتعالى وصف الله بصفة وهو يعتقد أنها آفة وعيب ونقص في حقه وإن كان بعض الملحدين يصفه بما يعتقده هو نقصا وعيبا فهذا من جنس نفاة الصانع تعالى ولهذا كان نفاة الصفات إنما نفوها وهم يعتقدون أن إثباته يقتضي النقص كالحدوث والإمكان ومشابهة الأحياء مثبتوها إنما اثبتوها لاعتقادهم أن إثباتها يوجب الكمال وعدمها يستلزم النقص والعدم ومشابهة الجمادات وكذلك مثبتة القدر ونفاته بل بعض نفاة النبوة زعموا أنهم نفوها تعظميا لله أن يكون رسوله من البشر وأهل الشرك أشركوا تعظيما لله أن يعبد بلا وساطة تكون بينه وبين خلقه فإذا كان كذلك فمن المعلوم: أن الإنسان لو احتج بإجماع المسملين على نفي النقص والعيب عن الله تعالى على من يثبت الصفات مدعيا أن إثباتها نقص وعيب أو بالعكس لقال له المثبتة: نحن لم نوافقك على نفي هذا المعنى الذي سميته أنت نقصا وعيبا فلا تحتج علينا بالموافقة على لفظ لم نوافقك على معناه وأمكنهم حينئذ أن يقولون: نحن ننازعك في هذا المعنى وإن سميته أنت نقصا وعيبا فلا يكون حجة ثابتة إلا أن يقوم دليل على انتفاء ذلك غير الإجماع المشروط بموافقتهم

الوجه الرابع: أن يقال له: قولك: ( إجماع الأمة على أن صفاته كلها صفات كمال ) إن عنيت بذلك صفاته كلها اللازمة له لم يكن في هذا حجة لك وإن عنيت ما يحدث بقدرته ومشيئته لم يكن هذا إجماعا فإنك أنت وغيرك من أهل الكلام تقولون: إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفا فكونه خالقا ومبدعا وعادلا ومحسنا ونحو ذلك عندك أمور حادثة متجددة وليست صفة مدح ولا كمال وإن قلت ( المفعولات ليست قائمة به بخلاف ما يقوم به ) قيل لك: هب أن الأمر كذلك لكن ما يحدث بقدرته ومشيئته إما أن يقال: هو متصف به أولا يقال: هو متصف به فإن قيل ( ليس متصفا لا بهذا ولا بهذا وإن قيل ( هو متصف به ) كان متصفا بهذا وهذا

ومعلوم أن المشهور عند أهل الكلام من عامة الطوائف أنهم يقسمون الصفات إلى صفات فعلية وغير فعلية مع قول من يقول منهم: إن الأفعال لا تقوم به فيجعلونه موصوفا بالأفعال كما يقولون: إنه موصوف بأنه خالق ورازق وعندهم هذه أمور كائنة بعد أن لم تكن ولما قال لهم من يقول بتسلسل الحوادث من الفلاسفة وغيرهم: ( الفعل إن كان صفة كمال لزم اتصافه به في الأزل وإن كان صفة نقص امتنع اتصافه به في الأبد ) أجابوا عن ذلك بأن الفعل ليس صفة كمال ولا نقص

الوجه الخامس: احتجاجه بقوله: ( إن الأمة مجمعة على أن صفاته لا تكون إلا صفة كمال ) أضعف من احتجاجه بإجماعهم على تنزيه عن صفة النقص فإن كونه منزها عن صفات النقص مشهور في كلام الناس وأما كون صفاته لا تكون إلا صفات كمال فليس هذا اللفظ مشهورا معروفا عن الأئمة ومن اطلق ذلك منهم فإنما يطلقه على سبيل الإجمال لما استقر بالقلوب من ان الله موصوف بالكمال دون النقص وهذه الإطلاقات لا تدل على دق المسائل ولوقيل لمطلق هذا: ( كونه يفعل أفعالا بنفسه يقدر عليها ويشاؤها هو صفة نقص أو كمال )؟ لكان إلى أن يدخل ذلك في صفات الكمال أو يقف عن الجواب أقرب منه إلى أن يجعل ذلك من صفات النقص

الوجه السادس: أن هذا الإجماع حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاما وفعلا يقوم به والآخر لا يمكنه ذلك بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور له ولا مراد أو يكون بائنا عنه - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل موجودين وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقا أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني كما أنا إذا عرضنا على العقل موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقا أحدهما حي عليم قدير والآخر لا حياة له ولا علم ولا قدرة لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والعلم والقدرة صفة كمال به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به التي بها يفعل المفعولات المباينة صفة كمال

والعقلاء متفقون على أن الأعيان المتحركة أو التي تقبل الحركة أكمل من الأعيان التي لا تقبل الحركة كما أنهم متفقون على أن الأعيان الموصوفة بالعلم والقدرة والسمع والبصر أو التي تقبل الاتصاف بذلك أكمل من الأعيان التي لا تتصف بذلك ولا تقبل الاتصاف به

وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات وكان السلف يحتجون بها ويثبتون أن من عبد إلها لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فقد عبد ربا ناقصا معيبا مؤوفا ويثبتون أن هذه صفات كمال فالخالي عنه ناقص

ومن المعلوم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه يثبت للمخلوق فالخالق أحق له وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أحق بتنزيه عنه

ولما أورد من أورد من الملاحدة نفاة الصفات بأن عدم هذه الصفات إنما يكون نقصا إذا كان المحل قابلا لها وإنما يكون عدم البصر عمى وعدم الكلام خرسا وعدم السمع صمما: إذا كان المحل قابلا لذلك كالحيوان فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد فإنه لا يوصف بهذا ولا بهذا - أجيبوا عن هذا بأن ما لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا أعظم نقصا مما يقبلهما ويتصف بأحدهما وإن اتصف بالنقص فالجماد الذي لا يقبل الحياة والسمع والبصر الكلام أعظم نقصا من الحيوان الذي يقبل ذلك وإن كان أعمى أصم أبكم فمن نفى الصفات جعله كالأعمى الأصم الأبكم ومن قال: إنه لا يقبل لا هذا ولا هذا جعله كالجماد الذي هو دون الحيوان الأعمى الأصم الأبكم وهذا بعينه موجود في الأفعال فإن الحركة بالذات مستلزمة للحياة وملزومة لها بخلاف الحركة بالعرض كالحركة القسرية التابعة للقاسر والحركة الطبيعية التي تطلب بها العين العود إلى مركزها لخروجها عن المركز فإن تلك حركة بالعرض والعقلاء متفقون على ما كان من الأعيان قابلا للحركة فهو أشرف مما لا يقبلها وما كان قابلا للحركة بالذات فهو أعلى مما لا يقبلها بالعرض وما كان متحركا بنفسه كان أكمل من الموات الذي تحركه بغيره وقد بسط في غير هذا الموضع

فصل

ونحن نتكلم على هذه الحجة - حجة الكمال والنقصان - كلاما مطلقا لا يختص بنظم الرازي إذ يقول القائل: أنا أصوغها على غير الوجه الذي صاغها عليه الرازي فنقول :

أعلم أن الطوائف المسلمين لهم في هذا الأصل الذي تنبني عليه مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى أربعة أقوال تتفرع إلى ستة وذلك أنهم متنازعون: هل يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال؟ على قولين مشهورين ومتنازعون في أن الأمور المتجددة الحادثة: هل يمكن تسلسلها ودوامها في الماضي والمستقبل أو في المستقبل دون الماضي أو يجب تناهيها وانقطاعها في الماضي والمستقبل؟ على ثلاثة أقوال معروفة فصارت الأقوال أربعة :

طائفة تقول: يقوم به ما يتعلق بمشئيته وقدرته ثم هل يقال ما زال كذلك أو يقال: حدث هذا الجنس بعد أن لم يكن؟ على قولين

وطائفة تقول: لا يقوم به شيء من ذلك ثم هل يمكن دوام ذلك وتسلسله خارجا عنه؟ على قولين

وكل من الطائفتين تنازعوا: هل يمكن وجود هذه المعاني بدون محل تقوم به؟ على قولين

فالقائلون من أهل القبلة بجواز تسلسل الحوادث: منهم من قال: تقوم به ومنهم من قال: تحدث لا في محل ومنهم من قال: تحدث في محل غيره

والمانعون لذلك من أهل القبلة: منهم من قال: تقوم له ولها ابتداء ومنهم من قال: بل تحدث قائمة في غيره ولها ابتداء ومنم من قال: بل تحدث لا في محل ولا ابتداء

وقد ذكرنا حجة المانعين من قيام المقدرورات والمرادات به وكلام من ناقضها ونحن نذكر حجة المانعين من التسلسل في الآثار وكلام بعض من عارضهم من أهل القبلة وهذا موجود في عامة الطوائف حتى في الطائفة الواحدة فإن أبا الثناء الأرموي قد ذكر في لباب الأربعين لأبي عبد الله الرازي من الاعتراضات على ذلك ما يناسب هذا الوضع وتابع في ذلك طوائف من النظار كأبي الحسن الآمدي وغيره بل نفس الرازي قد ذكر في مواضع من كتبه نقض ما ذكره في الأربعين ولم يجب عن ذلك كما قد حكينا كلامه في موضع آخر وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي في إفساد هذه الحجج التي ذكرها في تناهي الحوادث بأمور لم يذكر عنها جوابا

حجج الرازي على حدوث العالم ومعارضة الأموري له

وذلك أن أبا عبد الله الرازي ذكر في الأربعين في مسألة حدوث العالم من الحجج على حدوث الأجسام أو العالم ما لم يذكره في عامة كتبه

البرهان الأول

فذكر خمس حجج: الأولى: أنه لو كانت الأجسام قديمة لكانت إما متحركة أو ساكنة والأول يستلزم حوادث لا أول لها

امتناع حوادث لا أول لها من وجوه

واحتج على انتفاء ذلك بستة أوجه :

الأول والتعليق عليه

أن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير وماهية الأزل تنفيها فامتنعت أزلية الحركة

فعارضه أبو الثناء الأرموي بأنه: لقائل أن يقول: كون ماهية الحركة مركبة من جزء سابق وجزء لاحق لا ينافي دوامها في ضمن أفرادها المتعاقبة لا إلى أول وهو المعني بكونها أزلية

قلت: ونكتة هذا الاعتراض أن يقال: إن المستدل قال: ماهية الحركة تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير فهل المراد بالغير: أن تكون الحركة مسبوقة بما ليس بحركة أو أن يكون بعض أجزائها سابقا لبعض؟ أما الأول فباطل وهو الذي يشعر به قوله: ( ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ) فإن ذلك قد يفهم منه أم ماهيتها تقضي أن تكوم مسبوقة بغير الحركة ولو كان الأمر كذلك لا متنع كون المسبوق بغيره أزليا لكن لا يصلح أن يريد إلا الثاني وهو أن ماهيتها تقتضي تقديم بعض أجزاها على بعض وحينئذ فقد منعوه المقدمة الثانية وهي قولهم: ( إن ماهية الأزل تنفي ذلك ) وقالوا: لا نسلم أن ما كان كذلك لا يكون أزليا بل هذا رأس المسألة ولا سيما وهو - وجماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل - يسلمون أن ما كان كذلك فإنه يصلح أن يكون أبديا

ومعلوم أن ماهية الحركة تقتضي أن يكون بعضها متأخرا عن بعض ولا يمتنع مع ذلك وجود ما لا انقضاء له من الحركات قالوا: فكذلك لا يمتنع وجود ما لا ابتداء له منها كما لم يمنتع وجود ما لا أول لوجوده وهو القديم الواجب الوجود مع إمكان تقدير حركات وأزمنة لا ابتداء لها مقارنة لوجوده والكلام في انتهاء المحقق كالكلام في انتهاء المقدر

الثاني والتعليق عليه

قال الرازي: الوجه الثاني: ( لو كانت أدوار الفلك متعاقبة لا إلى أول كان قبل كل حركة عدم لا إلى أول وتكل العدمات مجتمعة في الأزل وليس معها شيء من الوجودات وإلا لكان السابق مقارنا للمسبوق فلمجموع الوجودات أول )

قال الأرموي: ( ولقائل أن يقول: إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع لأنه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها فيه لوجود الحركة التي هي عدمها ضرورة تعاقب تلك الحركات لا إلى أول وإن عنيت به أنه لا ترتيب في بدايات تلك العدمات كما في بدايات الوجودات فلا يلزم من اجتماع بعض الوجودات معها المحذور )

قلت: مضمون هذا: أن عدم كل حركة ينتهي بوجودها فليست الأعدام متساوية في النهايات فلا تكون مجتمعة في شيء من الأوقات لأنه في كل وقت يثبت بعضها دون بعض لوجود حادث يزول به عدمه ولكن لا بداية لكل عدم منها فإن ما حدث لم يزل معدوما قبل حدوثه بخلاف الحركات فإن لكل بداية وحينئذ فلا يمتنع أن يقارن الوجود بعضها دون بعض كما يقارن الوجود الباقي الأزلي عدم كل ما سواه فالمستدل يقول: عدم كل حادث ثابت في الأزل وليس الجنس حادثا حتى يكون مسبوقا بعدم الجنس وإنما الحادث أفراده كما في دوامه في الأبد فليس لعدم المجموع تحقق في الأزل والعدم السابق لأفراد الحركات بمنزلة العدم اللاحق لها ولا يقال: إن تلك الإعدام مجتمعة في الأبد

والفرق بين عدم المجموع وعدم كل فرد فرد: فرق ظاهر والمستدل يقول: عدم كل واحد أزلي فمجموع الأعدام أزلي وهذا بمنزلة أن يقول: كل واحد من الأفراد حادث فالمجموع حادث أو كل حادث فله بداية فالمجموع له بداية وبمنزلة أن يقول: كل حادث فله انقضاء فمجموع الحوادث له انقضاء أو كل واحد مسبوق بغيره فالمجموع مسبوق بغيره

فإذا قال المتكلم عن المستدل: قول المعترض: ( إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع لأنه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها فيه ) ليس بمستقيم فإنها مجتمعة في الأزل

قال المتكلم عن المعترض: ليس الأزل ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم كما أن الأبد ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم ولكن معنى كون الشيء أزليا: أنه ما زال موجودا أو ليس لوجوده ابتداء ومعنى كونه أبديا أنه لا يزال موجودا أو ليس لوجوده انتهاء

ومعنى كون عدم الشيء أزليا: أنه ما زال معدوما حتى وجد وإن كان عدمه مقارنا لوجود غيره

وقائل ذلك يقول: لا يتصور اجتماع هذه العدمات في وقت من الأوقات أصلا بل ما من حال إلا فيه عدم بعضها ووجود غيره فقول القائل: ( إن العدمات مجتمعة في الأزل ) فرع إمكان اجتماع هذه الأعدام واجتماع هذه الأعدام ممتنع وسيأتي تمام الكلام على ذلك بعد هذا

الثالث والتعليق عليه

قال الرازي: ( الثالث ): إنه إن لم يحصل شيء من الحركات في الأزل أو حصل ولم يكن مسبوقا بغيرها - فلكلها أول وإن كان مسبوقا بغيرها كان الأزل مسبوقا بالغير ) قال الأرموي: ( ولقائل أن يقول: ليس شيء من الحركات الجزئية أزليا بل كل واحدة منها حادثة وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها فلم يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول )

قلت: قول المستدل: ( إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيرها فلها أول ) يريد به: ليس مسبوقا بحركة أخرى فإن الحركة المعينة التي لم تسبقها حركة أخرى تكون لها إبتداء فلا تكون أزلية إذ الأزلي لا يكون إلا الجنس

أما الحركة المعينة إذا قدرت غير مسبوقة بحركة كانت حادثة كما أنها إذا كانت مسبوقة كانت حادثة ولم يرد بقوله: ( إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيره فلها أول ) أي لم يكن مسبوقا بغير الحركات فإن ما كان في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيره لا يكون له أول فلو أراد بالغير غير الحركات لكان الكلام متهافتا فإن ما كان أزليا لا يكون مسبوقا بغيره فالجنس عند المنازع أزلي وليس مسبوقا بغيره والواحد من الجنس ليس بأزلي وهو مسبوق بغيره وما قدر أزليا لم يكن مسبوقا بغيره سواء كان جنسا أو شخصا لكن إذا قدر أزليا - وليس مسبوقا بغيره - فكيف يكون له أول؟ ولكن إذا قدر مسبوقا بالغير كان له أول فالمسبوق بغير هو الذي له أول وأما ما ليس مسبوقا بغيره فكيف يكون له أول؟

ومع هذا فيقال له: تقدير كون الحركة المعينة في الأزل ومسبوقة بأخرى جمع بين النقيضين فهو ممتنع لذاته والممتنع لذاته يلزمه حكم ممتنع فلا يضر ما لزم على هذا التقدير وأما على التقدير الآخر - وهو حصول شيء منها في الأزل مع كونه مسبوقا - فقد أجابوا الأرموي: بأن وجود الحركة المعينة في الأزل محال أيضا وإذا كان ذلك ممتنعا جاز أن يلزمه حكم ممتنع وهو كون الأزلي مسبوقا بالغير وإنما الأزلي هو الجنس وليس مسبوقا بالغير

وقد اعترض بعضهم على هذا الاعتراض بأن قال: فحيئنذ ليس شيء من الحركات حاصلا في الأزل إذ لو حصل في الأزل لا متنع زواله وما هذا شأنه يمتنع كونا أزليا

وجواب هذا الاعتراض أن يقال: ليس شيء من الحركات المعينة في الأزل إذ ليس شيء منها لا أول له بل كل واحد منها له أول لكن جنسها: هل له أول؟ وهذا غير ذلك والمنازع يسلم أن ليس شيء من الحركات المعينة أزليا وإنما نزاعه في غير ذلك كما أنه يسلم أنه ليس شيء من الحركات المعينة أبديا مع أنه يقول: جنسها أبدي

الرابع والتعليق عليه

قال الرازي: الوجه الرابع: ( كلما تحرك زحل دورة تحركت الشمس ثلاثين فعدد دورات زحل أقل من عدد دورات الشمس والاقل من غير متناه والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه فعددهما متناه )

قال الأرموي: ( ولقائل أن يقول: تضعيف الواحد إلى غير النهاية أقل من تضعيف الاثنين كذلك مع كونهما غير متناهيين )

قلت: هذا الذي ذكره الأرموي معارضة ليس فيه منع شيء من مقدمات الدليل ولا حل له ثم قد يقول المستدل: الفرق بين مراتب الأعداد وأعداد الدورات من وجهين

أحدهما: أن مراتب الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج وإنما يقدرها الذهن تقديرا كما يقدر الأشكال المجردة يقدر شكلا مستديرا وشكلا أكبر منه وشكلا أكبر من الآخر وهلم جرا وتلك الأشكال التي يقدرها الذهن لا وجود لها في الخارج وكذلك الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج فالكم المتصل أو المنفصل إذا أخذ مجردا عن الموصوف به لم يكن إلا في الذهن وكذلك الجسم التعليمي - وهو أن يقدر طول وعرض وعمق مجرد عن الموصوف به - وإذا كان كذلك لم يلزم من إمكان تقدير ذلك في الذهن إمكان وجوده في الخارج فإن الذهن تقر فيه الممتنعات كاجتماع النقيضين والضدين فيقدر فيه كون الشيء موجودا معدوما وكون الشيء متحركا ساكنا ويقدر فيه أن كون الشيء لا موجودا ولا معدوما ولا واجبا ولا ممكنا ولا ممتنعا إلا غير ذلك من التقديرات الذهنية التي لا تسلتزم إمكان ذلك في الخارج ولهذا يمكن تقدير خط لا يتناهى وسطح لا يتناهى وتقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية وأبعاد لا نهاية لها ولا يلزم من إمكان تقدير ما لا نهاية له في الذهن إمكان ذلك في الخارج والمنازعون يسلمون امتناع أجسام لا يتناهى قدرها وأبعاد لا تتناهى وعلل ومعلولات لا تتناهى مع إمكان تقدير ذلك في الذهن

فإذا قيل لهم: كذلك تقدير أعداد لا تتناهى أو تقدير مراتب أعداد لا تتناهى بعضها أفضل من بعض إذا قدر في الذهن لم يدل ذلك على إمكان وجوده في الخارج - بطلت معارضتهم وكان من عارض تقدير الأعداد التي لا تتناهى بتقدير الأشكال التي لا تتناهى وتقدير التفاضل في هذا كالتفاضل في هذا: أولى ممن عارض تفاضل الدورات بتفاضل مراتب الأعداد فإنه إذا قيل: تضعيف الواحد إلى غير نهاية أقل من تضعيف الاثنين قيل: وإذا فرض خط عرضه بقدر الكف لا يتناهى طولا وخط عرضه بقدر الذراع لا يتناهى فالذي بقدر الكف أقل وإذا فرض أجسام مستديرة كل منها بقدر رأس الإنسان لا تتناهى وأخرى كل منها بقدر الفلك لا تتناهى كانت مقادير تلك أصغر مع أن الجميع لا يتناهى كان معلوما أن هذه المعارضة أعدل وأولى بالقبول من تلك المعارضة

الوجه الثاني: إن كان تضعيف الأعداد ومراتبها وسائر المقادير إلى غير نهاية كان هذا التضعيف إنما هو في الذهن فكل ما يتصوره الذهن من ذلك ويقدره فهو يتناهى والذهن لا يزال يضعف حتى يعجز وهكذا أذا نطق بأسماء الأعداد أو بألفاظ فلا يزال ينطق حتى يعجز وإن قدر أنه لا يعجز بل لا يزال الذهن يقدر اللسان ينطق فإن جميع ذلك داخل في الوجود الذهني واللفظي والجناني واللساني وكل ما يدخل من ذلك في الوجود فهو متناه وله مبدأ محدود فله أول ابتدء منه وهو من ذهن الإنسان ولفظه وكل ما يوجد منه متعاقبا فإنه منتهاه لكن هذا يدل على جواز ما لا نهاية له في المستقبل وأن الشيء قد يكون له بداية ولا يكون له نهاية فإن ما يخطر بالأذهان وينطق به اللسان له بداية ويمكن وجود ما لا يتناهى منه ومن هذا الباب أنفاس أهل الجنة وألفاظهم وحركاتهم فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ومن هذا الباب تسبيح الملائكة دائما

فهذا المذكور من تضعيف الأعداد ذهنا ولفظا يدل على وجود ما لا يتناهى في المستقبل إذا كان له بداية محدودة وأما التفاضل فيه - سواء أريد به تضعيف الذهن أو اللسان أو جميعهما - فمعلوم أنه إذا قيل: ضعف الواحد وضعف ضعفه وضعف ضعف ضعفه وهلم جرا وقيل: ضعف الاثنين وضعف ضعفهما وضعف ضعف الضعف وهلم جرا فإن أريد بكون تضعيف الواحد أقل من تضعيف الاثنين أن ما وجد من نطق اللسان بالتضعيف أو ما يخطر بالقلب من التضعيف أقل فهذا ممنوع إذا قدر التساوي في المبدأ والحركة وإن قدر التفاضل فأكثرهما أسبقهما مبدأ وأقواهما حركة وحينئذ فقد يكون تضعيف الواحد هو الأكثر

وإن أريد بذلك أن مسمى أحد اللفظين أكثر مما في كل مرتبة من مراتب التضعيف فإذا ضعف الواحد خمس مرات كان اثنين وثلاثين وإذا ضعف الاثنان خمس مرات كان أربعا وستين مرة فهذه الأربع والستون ليست معدودا موجودا في الخارج ولا في الذهن حتى يقال: وجد التفاضل فيما لا يتناهى وإنما نطق بلفظ أعداد متناهية والمعدودات ليست موجودة لا في الذهن ولا في الخارج فلو قدر وجود ألفاظ الأعداد من هذه المرتبة ومن هذه المرتبة في الذهن واللسان لم يلزم إذا قدر أنهما غير متناهيين أن يكونا متفاضلين مع استوائهما في المبدأ والحركة

وإن أراد أن مسمى هذا لو وجد لكان أكبر من مسمى هذا

فيقال: نعم ولكن لم قلت: إن وجود ذلك المسمى ممكن؟ وهذا كما لو قال القائل: ( ما لا يتناهى أقدره في ذهني وأتكلم بلفظه ) لم يكن في ذلك ما يقتضي أنه يمكن وجوده في الخارج كما يقدر ذهنا ولسانا ما لا يتناهى من الأجسام والأبعاد والأشكال فهذا هذا فهذا مما يجيب به المستدل عن المعارضة بمراتب الأعداد

وهذا الفرق - وإن كما قد أوردناه - فقد ذكره غير واحد من النظار المفرقين بين العدد والحركات من متكلمي المسلمين وغيرهم وذكر هؤلاء هذا الفرق المعروف عند من يوافق المستدل على هذا النقض هو أن تضعيف العدد ليس أمرا موجودا بل مقدرا بخلاف ما وجد من الحركات

وهكذا فرق من فرق بين الماضي والمستقبل بأن الماضي قد وجد بخلاف المستقبل والممتنع وجود ما لا يتناهى لا تقدير ما لا يتناهى

ومن يوافق المعترض يقول: الماضي أيضا قد عدم فليست أفراده موجودة معا والمحذور وجود ما لا يتناهى فيما كان مجتمعا بل مجتمعا منتظما بعضه ببعض بحيث يكون له ترتيب طبيعي أو وضعي

وهذا فرق ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة ولكن ابن رشد يقول: إن مذهب الفلاسفة الفرق بين المجتمع وغير المجتمع سواء كان المجتمع له ترتيب أو ليس له ترتيب وإنما النزاع بينهم في النفوس البشرية المفارقة: هل هي موجودات متميزة غير متناهية أم لا؟

ويقول هؤلاء: لا نسلم أن ما كان وعدم أو ما سيكون إذا قدر أن بعضه أقل من بعض يجب أن يكون متناهيا والمؤمنون بأن نعيم الجنة دائم لا ينقضي من المسلمين وأهل الكتاب يسلمون ذلك ولم ينازع فيه من أهل الكلام إلا الجهم ومن وافقه على فناء النعيم وأبو الهذيل القائل بفناء الحركات وهما قولان شاذان قد اتفق السلف والأئمة وجماهير المسلمين على تضليل القائلين بهما ومن أعظم ما أنكروه السلف والأئمة على الجهمية: قولهم بفناء الجنة

وقال الأشعري في كتاب المقالات: وأختلفوا أيضا في معلومات الله عز وجل ومقدوراته: هل لها كل أو لا كل لها؟ على مقالتين فقال أبو الهذيل: إن لمعلومات الله كلا وجميعا ولما يقدر الله عليه: كل وجميع وإن أهل الجنة تنقطع حركاتهم يسكنون سكونا دائما وقال أكثر أهل الإسلام: ليس لمعلومات الله ولا لما يقدر عليه كل ولا غاية واختلفوا أيضا: هل لأفعال الله سبحانه آخر أم لا آخر لها؟ على مقالتين فقال الجهم بن صفوان: إن لمعلومات الله ومقدوراته غاية ونهاية ولأفعاله آخر وإن الجنة والنار تفنيان ويفنى أهلهما حتى يكون الله آخر وإنهما لا تزالان باقيتين وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ليس لذلك آخر ولا لمعلومات الله ومقدوراته غاية ولا نهاية

وقد ذكر بعض الناس بين الماضي والمستقبل فرقا بمثال ذكره كما ذكره صاحب الإرشاد وغيره وهو أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل: لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده درهما وهذا كلام صحيح والماضي بمنزلة لا أعطيك درهما إلا أعطيتك قبله درهما وهذاكلام متناقض

لكن هذا المثال ليس بمطابق لأن قوله: ( لا أعطيك ) نفي للحاضر والمستقبل ليس نفيا للماضي فإذا قال ( لا أعطيك هذه الساعة أو بعدها شيئا إلا أعطيتك قبله شيئا ) اقتضى أن لا يحدث فعلا الآن حتى يحدث فعلا في الزمن الماضي وهذا ممتنع أو بمنزلة أن يقول: ( لا أفعل حتى أفعل ) وهذا جمع بين النقيضين وإنما مثاله أن يقول: ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله درهما فكلاهما ماض فإذا قال القائل: ( ما يحدث شيء إلا ويحدث بعده شيء ) كان مثاله أن يقول: ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول لا يحدث بعده شيء ) كان مثاله أن يقول: ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول ( لا يحدث في المستقبل شيء إلا حدث قبله شيء ) وكل ما له ابتداد وانتهاء كعمر العبد يمتنع أن يكون فيه عطاء لا انتهاء له أو عطاء لا ابتداء له وإنما الكلام فيما لم يزل ولا يزال

والناس لهم في إمكان وجود ما لا يتناهى أقوال :

أحدها: امتناع ذلك مطلقا في الماضي والمستقبل والحاضر في كل شيء وهذا قول الجهم وأبي الهذيل

والثاني: جواز ذلك حتى في الأبعاد التي لا تتناهى وهو قول طائفة من فلاسفة الهند وطائفة من نظار أهل الملة وغيرهم يقولون: إن الرب له قدر لا يتناهى ثم من هؤلاء من يقول: لا يتناهى من جميع الجهات ومنهم من يقول: يتناهى من جهة العرش فقط وأما من سائر الجهات فإنه لا يتناهى

وقد ذكر الأشعري في المقالات هذه الأقوال وغيرها عن طوائف وممن ذكر ذلك: الكرامية وطائفة من أتباع الأئمة ك القاضي أبي يعلى وغيره وهؤلاء منهم من يقول بتناهي الحوادث في الماضي مع قوله بوجود ما لا يتناهى من المقدار في الحاضر

وكذلك معمر وأتباعه من أصحاب المعاني يقولون بوجود معان لا تتناهى في آن واحد مع قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فصار بعض الناس يقول بجواز التناهي في الحوادث الماضية والأبعاد ومنهم من يقول بجواز ذلك في الأبعاد دون الحوادث فهذه ثلاثة أقوال

الرابع: قول من يقول: لا يجوز ذلك فيما دخل في الوجود لا في الماضي ولا في الحاضر ويجوز فيما لم يوجد بعد وهو المستقبلات وهذا قول كثير من النظار

الخامس: قول من يقول: يجوز ذلك في الماضي ولامستقبل ولا يجوز فيما يوجد في آن واحد لا في الأبعاد ولا الأنفس ولا المعاني وهو قول ابن رشد وحكاه عن الفلاسفة وزعم أن النفوس البشرية واحدة بعد المفارقة كما زعم أنها كانت كذلك قبل المفارقة

السادس: قول من يقول: ما كان مجتمعا مترتبا فإنه يجب تناهيه كالعلل والأجسام فتلك لها ترتيب طبيعي وهذه لها ترتيب وضعي وكلها موجودة في آن واحد وأما ما لم يكن له ترتيب - كالأنفس - أو كان له ترتيب ولكن يوجد متعاقبا - كالحركات - فلا يمتنع فيه وجود ما لا يتناهى وهذا قول ابن سينا وهو المحكي عندهم عن أرسطو وأتباعه لكن ابن رشد ذكر أن هذا القول لم يقله أحد من الفلاسفة إلا ابن سينا

وأما وجود علل ومعلولات لا تتناهى: فهذا مما لم يجوزه أحد من العقلاء

إذا عرف هذا تكلمنا على الاحتجاج بتفاضل الدورات التي لا تتناهى فإن الشمس تقطع الفلك في السنة مرة والقمر اثنتي عشرة مرة وهذا مشهود والمشتري في كل اثنتي عشرة سنة مرة وزحل في كل ثلاثين سنة مرة فتكون دورات القمر بقدر دورات زحل ثلاثمائة وستين مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فتكون دورات هذا أضعاف دورات هذا وكلاهما لا يتناهى عند القائلين بذلك والأقل من غير المتناهي متنهاه والزائد على المتناهي متناه وقد عرف أن المعارضة بالعدد باطلة

وقد يقال: هذا من جنس تطبيق الحوادث الماضية إلى اليوم بالحوادث الماضية إلى أمس فإن كلاهما لا يتناهى مع التفاضل وهو الوجه الخامس الذي سيأتي لكن بينهما فروق مؤثرة :

منها: أنه هناك هذه الحوادث هي تلك بعينها لكن زادت حوادث اليوم فغاية تلك: أن يكون ما لا إبتداء له من الحوادث لا يزال في زيادة شيئا بعد شيء وأما هنا: فهذه الدورات ليست تلك

ومنها: أنه هناك فرض انطباق اليوم على الأمس مع اشتراكهما في عدم البداية وهذا التطبيق ممتنع فإن حقيقته: أنا نقدر تماثلهما وتفاضلهما فإنه إذا طبق أحدهما على الآخر لزم التماثل مع التفاضل لأنهما استويا في عدم البداية وفي حد النهاية وهما متفاضلان وهذا تقدير ممتنع بخلاف الدورتين فإنهما هنا مشتركان في عدم البداية وفي حد النهاية فالتفاضل هنا حاصل مع الاشتراك في عدم النهاية عند هؤلاء فهذا لا يحتاج إلى فرض وتقدير حتى يقال: هو تقدير ممتنع بخلاف ذلك ولكن التقابل يوافق ذلك التقابل في أن كليهما قد عدمت فيه الحوادث الماضية ويوافقه في أن كليهما قد قدر فيه انتهاء الحوادث من أحد الجانبين فهما متفقان من هذين الوجهين مفترقان من ذينك الوجهين

وحينئذ فيقال: الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية لا يجعلون لها آخرا تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين بل يلزمهم قطعا أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلة فدورات زحل عنهم لم تزل ولا تزال وكذلك دورات الشمس والقمر مع أن دورات القمر دورات بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا أقل من هذا بقدر متناه وهذا أزيد من هذا بقدر متناه فإذا كان الأقول من غيره متناهيا لزم أن يكون كل من الدورات متناهيا

وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء وأنه محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأنه ينشق وينفطر فتبطل حركة الشمس والقمر وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية

وهذا الدليل إنما يدل على أن حركته يمتنع أن تكون غير متناهية ولا يلزم إذا وجب تناهي حركة جسم معين أن يجب تناهي جنس الحوادث إلا إذا كان الدليل الذي دل على تناهي حرك المعين يدل على تناهي الجنس وليس الأمر فإن هذا الدليل لا يتناول إلا الفلك وهو دليل على حدوثه وامتناع أن تكون حركته بلا بداية ولا نهاية فهو يدل على فساد مذهب أرسطو وابن سينا وأمثالهما ممن يقول بأن الفلك قديم أزلي فهذا حق متفق عليه بين أهل الملل وعامة العقلاء وهو قول جمهور الفلاسفة ولم يخالف في ذلك إلا شرمذة قليلة ولهذا كان الدليل على حدوثه قويا والاعتراض الذي اعترض به الأرموي ضعيفا بخلاف الوجوه الدالة على امتناع جنس دوام الحوادث فإن أدلتها ضعيفة واعتراضات غيره عليها قوية

وهذا مما يبين أن ما جاءت به الرسل هو الحق وأن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه وما يدخل في العقل وليس منه كالذين جعلوا من السمع: أن الرب لم يزل معطلا عن الكلام والفعل لا يتكلم بمشيئته ولا يفعل بمشيئته بل ولا يمكنه عندهم أنه لا يزال يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته

فجعل هؤلاء هذا قول الرسل وليس هو قولهم وجعل هؤلاء من المعقول: أنه يمتنع دوام كونه قادرا على الكلام والفعل بمشيئته

وعارضهم آخرون: فادعوا أن الواحد من مخلوقاته كالفلك أزلي معه وأنه لم يزل ولا تزال حوادثه غير متناهية فهذه الدورات لا تتناهى وهذه لا تتناهى مع أن هذه بقدر هذه مرات متناهية وكون الشيئين لا يتناهيان أزلا وأبدا مع كون أحدهما بقدر الآخر مرات مع كونه مفعولا معلوما مساويا لفاعله في الزمن - هو الذين أنفردوا به وأما الفاعلية فيما لا يتناهى ابتداء وانتهاء فهو الذي ذكر في هذا الوجه

وقد يقال: يلزم مثل هذا في كلمات الله وإرادته التي كل منها غير متناه أزلا وأبدا وإن كان أحدهما أكثر من الآخر وقد يذكر هنا أن مقدرار القمر أصغر من مقدار الشمس فحركته وإن زادت في الدورات فقد نقصت في المقدار لكن هذا لا ينفع إلا إذا عرف تساوي مقدار جميع حركات الكواكب التي كل منها غير متناه وإلا لزم التفاضل فيما لا يتناهى فإذا كان تساويها باطلا كان هذا السؤال باطلا

الخامس والتعليق عليه

قال الرازي: الوجه الخامس: ( نقدر أن الأدوار الماضية من اليوم لا إلى أول جملة ومن الأمس كذلك ثم نطبق الطرف المتناهي من إحدى الجملتين في الوهم على الطرف المتناهي من الأخرى ونقابل كل فرد إحداهما بنظيره من الأخرى فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره وإن قصرت كانت متناهية والأخرى زائدة بقدر متناه فهي متناهية أيضا )

قال الأرموي: ( ولقائل أن يقول: الجملة الناقصة لا تنقطع من طرف المبدأ وإنما يكون الشيء مع غيره كهو لا مع غيره إذا كان أفراد الزائد مثل أفراد الناقص كما في مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى ومن العشرة إلى ما لا يتناهى إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى )

قلت: المعترض لم يبين فساد الحجة بل عارضها معارضة وغيره قد يمنع كلتا المقدمتين أو إحداهما فالمعترض يقول: ( وإن قصرت كانت متناهية ) فنقول: إنما تكون متناهية لو كانت منقطعة من طرف المبدأ فأما مع عدم انقطاعها فلا نسلم تناهيها كما أن المستقبل وتضعيف العدد لما لم يكن منقطعا من جهة المنتهى لم يكن متناهيا وإن أمكن فيه مثل هذه المقابلة

وأما غيره فيجيب بثلاثة أجوبة :

أحدها: قوله: ( فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره ) فنقول: هذا إنما يلزم إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى ) والتطبيق في المعدوم ممتنع كما في تطبيق مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى ومن العشرة إلى ما لا يتناهى ومن المائة إلى ما لا يتناهى فإنا نعلم أن عدد تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المائة وعدد تضعيف المائة أقل من تضعيف الألف والجميع لا يتناهى وهذه الحجة من جنس حجة مقابلة دورات أحد الكوكبين بدورات الآخر لكن هناك الدورات وجدت وعدمت وهنا قدرت الأزمنة والحركات الماضية ناقصه وزائدة

ومما يجاب به عن هذه الحجة - وهي أشهر حججهم - أن يقال: لا نسلم إمكان التطبيق فإنه إذا كان كلاهما لا بداية له وأحدهما انتهى أمس والآخر انتهى اليوم: كان تطبيق الحوادث إلى اليوم على الحوادث إلى الأمس ممتنعا لذاته فإن الحوادث إلى اليوم أكثر فكيف تكون إحداهما مطابقة للأخرى؟ فلما كان التطبيق ممتنعا جاز أن يلزمه حكم ممتنع

أيضا فيقال: نحن نسلم أنها متناهية من الجانب المتناهي لكن لم قلت: إذا كانا متناهيين من أحد الجانبيين كانا متناهيين من الجانب الآخر؟ وهذا أول المسألة والتفاضل وقع من الجانب المتناهي لا من الجانب الذي ليس بمتناه فلم يقع فيما لا يتناهى تفاضل

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55