درء تعارض العقل والنقل/18
الحجة الرابعة عند الآمدي
قال الآمدي الحجة الرابعة انه لو قامت الحوادث بذاته لكان متغيرا والتغير على الله محال ولهذا قال الخليل عليه السلام { لا أحب الأفلين } الأنعام: 76 أي المتغيرين
قال ولقائل أن يقول إن أردتم بالتغير حلول الحوادث بذاته فقد اتحد اللازم والملزوم وصار حاصل المقدمة الشرطية لو قامت الحوادث بذاته لقامت الحوادث بذاته وهو غير مفيد 0 ويكون القول بأن التغير على الله بهذا الاعتبار محال دعوى محل النزاع فلا يقبل وإن أردتم بالتغير معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله تعالى فهو غير مسلم ن ولا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه
تعليق ابن تيمية
قلت لفظ التغير في كلام الناس المعروف هو يتضمن استحالة الشيء كالإنسان إذا مرض يقال غيره المرض ويقال في الشمس إذا اصفرت تغيرت والأطعمة إذا استحالت يقال لها تغيرت قال تعالى { فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين } محمد: 15 فتغير الطعم استحالت من الحلاوة إلى الحموضة ونحو ذلك
ومنه قول الفقهاء إذا وقعت النجاسة في الماء الكثير لم ينجس إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه وقولهم إذا نجس الماء بالتغير زال بزوال التغير ولا يقولون إن الماء إذا جرى مع بقاء صفائه أنه تغير ولا يقال عند الإطلاق للفاكهة والطعام إذا حول من مكان إلى مكان انه تغير ولا يقال للإنسان إذا مشى أو قام أو قعد قد تغير اللهم إلا مع قرينة ولا يقولون للشمس والكواكب إذا كانت ذاهبة من المشرق إلى المغرب إنها متغيرة بل يقولون إذا إصفر لون الشمس إنها تغيرت ويقال وقت العصر ما لم يتغير لون الشمس ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا وإن سمى بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا 0 لونه لون لباس المسلمين وتقول العرب تغايرت الأشياء إذا اختلفت والغيار البدال
قال الشاعر
فلا تحسبني لكم كافرا... ولا تحسبني أريد الغيارا
ويقولون نزل القوم يغيرون أي يصلحون الرحال
ومنه قول النبي ﷺ لما أتي بابي قحافة ورأسه ولحيته كالثغامة فقال غيروا الشيب وجنبوه السواد أي غيروا لونه إلى لون آخر أحمر أو أصفر وتقول العرب غيرت الشيء فتغير غيرا
ومنه قول النبي ﷺ عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره أي قرب تغيره من الجدب إلى الخصب
وغار الرجل على أهله يغار إذا حصل له غضب أحال صفته من حال إلى حال
وقال النبي ﷺ [ من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقبله وذلك أضعف الإيمان ]
وقال [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ]
وتغيير المنكر تبديل صفته حتى يزول المنكر بحسب الإمكان وغن لم يكن إلا بتغير الإنسان في نفسه غضبا لله
ولهذا لم يطلق على الصفة الملازمة للموصوف أنها مغايرة له لأنه لا يمكن أن يستحيل عنها ولا يزايل
والغير والتغير من مادة واحدة فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير ولا تكون صفاته مغايرة له
والناس إذا قيل لهم التغير على الله ممتنع فهموا من ذلك الاستحالة والفساد مثل انقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص أو تفرق الذات ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه
وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته فيخلق ويستوي ويفعل ما يشاء بنفسه ويتكلم إذا شاء ونحو هذا لا يسمونه تغيرا
ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة كما قال الإمام أحمد: يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم حتى يتوهم الجاهل أنهم يعظمون الله وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله
ومن أعجب الأشياء احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل وهم مع افترائهم فيها على التفسير واللغة إنما هي حجة عليهم لا لهم كما قال بعضهم في قوله { لا أحب الأفلين } الأنعام: 76
أي المتغيرين وربما قال غيره المتحركين أو المنتقلين وقال بعض المتفلسفة المتأخرين الممكنين وأراد بالممكن ما يتناول القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه
وزعم بعضهم كالرازي في تفسيره أن هذا قول المحققين وهؤلاء من أعظم الناس تحريفا للفظ الأفول ولفظ الإمكان فإنهم وسائر العقلاء يسلمون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا ما كان معدوما فأما القديم الأزلي الذي لم يزل فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
ولكن يتناقضون تناقضا بينا فقالوا الفلك ممكن يقبل الوجود والعدم وهو مع ذلك قديم أزلي
ثم استعمال لفظ الأفول في الممكن الذي يقبل الوجود والعدم من أعظم الكذب على اللغة والتفسير فإن المخلوقات الموجودة كالشمس والقمر والكواكب والأدميين وغيرهم لا يسمون في حال حضورهم آفلين
وهؤلاء اجترأوا على ذلك لما جعلت الجهمية أهل الكلام المحدث المتحرك آفلا فجعلوا كل متحرك آفلا وزعموا أن إبراهيم عليه السلام احتج بالحركة على امتناع كون المتحرك رب العالمين فلما قال هؤلاء هذا قال أولئك نحن نجعل كل ما سوى الرب آفلا فجعلوا السموات والأرض وكل ما سواه آفلا وفسروا بذلك القرآن
وهذا لا يعرف في لغة العرب أن الأفول بمعنى التحرك والانتقال ولا بمعنى التغير الذي هو استحالة من صفة إلى صفة دع ما هومن باب التصرف الذي لا تستحيل فيه الصفات
وإبراهيم إنما قال { لا أحب الأفلين } الأنعام: 76 ردا لمن كان يتخذ كوكبا يعبده من دون الله كما يفعله أهل دعوة الكواكب كما كان قومه يفعلون ذلك لا ردا على من قال إن الكوكب هو رب العالمين فإن هذا لم يقله أحد لكن قومه كانوا مشركين ولو كان إبراهيم مقصودة نفي كون الكوكب رب العالمين واحتج على ذلك بالأفول لكانت حجة عليهم لأنه لما رأى الكوكب والقمر والشمس بازغة كانت متحركة من حين بزوغها إلى حين غروبها وهو في تلك الحال لا ينفي عنها المحبة كما نفاها حين غابت
فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام وإنما نافاه التغيب والاحتجاب فإن كان مقصودة نفي كونه رب العالمين كان ذلك حجة عليهم لا لهم وكانوا قد حكوا عن إبراهيم انه لم يجعل التغير والحركة والانتقال مانعة من كون الموصوف بذلك رب العالمين فما ذكروه لو صح كان حجة عليهم لا لهم
وبكل حال فإبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من حب المتصف بذلك كما جعل الأفول مانعا فعلم أن ذلك ليس من صفات النقص التي تنافي كون المتصف بها معبودا عند إبراهيم
قال الآمدي وأما المعتزلة فمنهم من قال المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعا لحصول محلها فيه والباري ليس بمتحيز فلا تقوم بذاته الصفة ومنهم من قال الجوهر إنما صح قيام الصفات به لكونه متحيزا ولهذا فإن الأعراض لما لم تكن متحيزة لم يصح قيام المعاني بها والباري ليس بمتحيز فلا يكون محلا للصفات
قال وهذه الشبهة تدل على انتفاء الصفة عن الله تعالى مطلقا قديمة كانت أو حادثة وهي ضعيفة جدا أما الشبهة الأولى فلقائل أن يقول لا نسلم انه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا ما ذكروه بل معنى قيام الصفة بالموصوف تقوم الصفة بالموصوف في الوجود وعلى هذا فلا يلزم أن يكون المعلول قائما بالعلة لكونه متقوما بها في الوجود إذ ليس المعلول صفة ولا العلة موصوفة به
وأما الشبهة الثانية فلقائل أن يقول لا نسلم أن قيام الصفات بالجوهر لكونه متحيزا بل أمكن أن يكون ذلك لمعنى مشترك بينه وبين الباري تعالى وغن كان ذلك لكونه متحيزا فلا يلزم من انتفاء الدليل في حق الله تعالى انتفاء المدلول كما تقدم تحقيقة وقد أمكن أن يكون ذلك لمعنى اختص به الباري تعالى ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين في صورتين
قلت أما الحجة الأولى فيقال قيام الصفة بالموصوف معروف يتصور بالبديهة وهو أوضح مما حدوه به حيث قالوا إن ذلك هو حصول الصفة في الحيز تبعا لحصول محلها فيه فإن الناس يفهمون قيام اللون والطعم والريح بالموصوف بذلك وغن لم يخطر بقلوبهم هذا الحصول
فإن ادعى مدع أن كل موصوف متحيز وأن قيام الصفة بدون المتحيز ممتنع
فيقال من الناس من ينازعك في هذا ومنهم من يوافقك عليه والموافقون لك منهم من يقول كل قائم بنفسه متحيز ولا اعلم قائما بنفسه إلا المتحيز ومنهم من يقول بل أعلم قائما بنفسه غير المتحيز فقولك لا يصح إلا إذا ثبت لك أن كل موصوف متحيز وثبت لك وجود موجود ليس بمتحيز حتى يستلزم ثبوت موجود ليس بموصوف
وجمهور الخلق ينكرون هذه الدعوى بل يقولون إثبات موجود لا يوصف بشيء من الصفات بل هو ذات مجردة كإثبات وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص وهذا كله ممتنع لمن تصوره بضرورة العقل ويقولون هذا غنما يعقل تصوره في الأذهان لا في الأعيان والذهن يقدر فيه الممتنعات كالجمع بين الضدين والنقيضين
والجواب المركب أن يقال ما تعني بقولك متحيزا اتعني به ما كان له حيز موجود يحيط به أم تعني به ما يقدر المقدر له حيزا عدميا أو ما كان منحازا عن غيره؟
فإن عنيت الأول كان باطلا متناقضا فإن الأجسام إن كانت متناهية لم تكن في حيز وجودي فإنها إذا كانت متناهية لو كانت في حيز وجودي لزم أن يكون الجسم في جسم آخر إلى ما لا يتناهي في حيز وجودي لأن ذلك الحيز هو أيضا داخل فيما لا يتناهي
فهذا جواب برهاني والجواب الإلزامي أن قولك كل موصوف يحيط به حيز وجودي يستلزم وجود أجسام لا تتناهى وهذا باطل عندك فإن العالم متحيز موصوف وليس في حيز وجودي
وإن قلت أعني به أمرا عدميا قيل لك لاشيء وما جعل في لاشيء لم يجعل في شيء
فكأنك إن قلت المتحيز ليس في غيره وحينئذ فلا نسلم لك امتناع كون الرب متحيزا بهذا الاعتبار
وكذلك إن فسرته بالمنحاز المباين لغيره كان نفي اللازم ممتنعا
فإن قلت قد قام الدليل على حدوث ما كان كذلك لأن ما كان كذلك لم يخل من الحوادث والأعراض أو كان مختصا بقدر أو صفة أو تميز منه شيء عن شيء وهذا تركيب عاد الكلام إلى هذه المواد الثلاثة وقد علم أنها مادة الكلام الباطل
وقد بين فساد ذلك بوجوه وحينئذ بوجوه وحينئذ فلا يمكنك نفي شيء من موارد النزاع إلا بنفي ذلك فيعود الكلام إلى نفي ذلك
وأما الحجة الثانية فقول القائل إن الجوهر إنما صح قيام الصفة به لكونه متحيزا
فيقال أولا لا نسلم أن قيام الصفة بمحلها يحتاج إلى علة أعم من المحل بل صفة لازمة لمحلها وهي محتاجة إلى ذلك المحل المعين لمعنى يخص ذلك المعين لا يعلل كونها فيه بأعم منه لأن العلة إذا كانت أعم من المعلول كانت منتقضة
وإن قيل نحن نعلل جنس قيام الصفات لا يحتاج إلى غير محل يقوم به وإن لم يخطر بالقلب كونه متحيزا
وإن قيل إن التحيز لازم للمحل الذي تقوم به الصفات
قيل وقيام الموصوف بنفسه لازم أيضا وغير ذلك
ثم الكلام في التحيز على ما تقدم وبالجملة فهذا كلام في جنس الصفات لا في خصوص الحوادث ولا ريب أن نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة كلامهم الموضعين واحد وفساد اصولهم مبين في غير هذا الموضع
طريقة الامدي في إثبات امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى
قال الآمدي والمعتمد في المسألة حجتان تقريرية وإلزامية أما التقريرية فهو أن يقال لو جاز قيام الصفات الحادثة بذات الرب تعالى فغما أن يوجب نقصا في ذاته أو في صفة من صفاته أو لا يوجب شيئا من ذلك فإن كان الأول فهو محال باتفاق العقلاء وأهل الملل وإن كان الثاني فإما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان الرب تعالى ناقصا قبل اتصافه بها وهو محال أيضا بالاتفاق ولا جائز أن يقال بالثاني لوجهين اتفاق الأمة وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف الرب بغير صفات الكمال ونعوت الجلال والثاني أن وجود كل شيء أشرف من عدمها فإذا كان اتصاف الرب بها لا يوجب تقصا في ذاته ولا في صفة من صفاته على ما وقع به الفرض فاتصافه إذا بما هو في نفسه كمال لا عدم كمال ولو كان كذلك لكان ناقصا اتصافه بها وهو محال كما سبق
الرد عليه من وجوه
قلت: فهذا عمدته وهو من أفضل هؤلاء المتأخرين وهي من أضعف الحجج كما قد بسط في غير هذا الموضع
الوجه الأول
وبيان ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن عمدته في ذلك على مقدمة زعم أنها إجماعية فلا تكون المسألة عقلية ولا ثابتة بنص بل بالإجماع المدعي ومثل هذا الإجماع عنده من الأدلة الظنية فكيف يصلح أن يثبت بها مثل هذا الأصل؟
وإذا كانت هذه المسألة مبنية على مقدمة إجماعية لم يكن العلم بها قبل العلم بالسمع لأن الإجماع دليل سمعي وهم بنوا عليها كون القرآن غير مخلوق
قالوا: لأنه لو خلقه في ذاته لكان محلا للحوادث وحينئذ فقبل العلم بهذا الإجماع يمكن تقدير قيام كلام حادث بذاته وإرادات حادثة بذاته وغير ذلك فلا يكون شيء من هذه المسائل من المسائل العقلية وإذا لم تكن من العقلية لم تكن من العقليات التي يتوقف صحة السمع عليها بطريق الأولى وحينئذ فلا يجوز معارضة نصوص الكتاب والسنة بها ويقال قد عارض الظواهر النقلية قواطع عقلية فليس هنا عقلي لا قاطع ولا غير قاطع بل غاية ما هنا دعوى المدعي للإجماع
وهؤلاء إذا احتج عليهم المحتج في إثبات الاستواء والنزول والمجيء والإتيان وغير ذلك بنصوص الكتاب والسنة أدعوا أن هذه المسائل لا يحتج فيها بالسمع وأن الأدلة السمعية قد عارضها العقل
فإذا اعترفوا بأنه لم يعارضها إلا ما ادعوه من الدليل المبنى على مقدمة زعموا أنها معلومة بالإجماع كان عليهم أن يسمعوا من الأدلة السمعية ما هو أقوى من هذا ويذكروا من الإجماعات ما هو أبين من هذا الإجماع لا سيما والأدلة السمعية المثبتة للصفات الخبرية ولقيام الحوادث به أضعاف ما يدل على كون الإجماع حجة من السمع وهي أقوى دلالة
فإذا كانت الأدلة السمعية المثبتة لهذه الصفات أقوى مما يدل على كون الإجماع حجة امتنع أن تعارض هذه النصوص بنصوص الإجماع فضلا عن نفس الإجماع فضلا عما هو مبني على مقدمة مبنية على الإجماع لو كان البناء حقا فكيف إذا كان باطلا؟
الوجه الثاني
أن يقال: هذا الإجماع لم ينقل بهذا اللفظ عن السلف والأئمة لكن لعلمنا بعظمة الله في قلوبهم نعلم أنهم كانوا ينزهونه عن النقائص والعيوب
وهذا كلام مجمل فكل من رأى شيئا عيبا أو نقصا نزه الله عنه بلا ريب وإن كان من هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إنه موصوف بكل النقائص والعيوب كما هو موصوف عنده بكل المدائح إذ لا موجود إلا هو فله جميع النعوت محمودها ومذمومها
وهذا القائل يدعي أن هذا غاية الكمال المطلق كما قال ابن عربي وغيره لعلي لذاته هو الذي يكون له الكمال المطلق الذي يتضمن جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عقلا وشرعا وعرفا أو مذمومة عقلا وشرعا وعرفا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة
وجمهور العقلاء الذين يتصورون هذا القول يقولون هذا معلوم الفساد بالحس والعقل كما هو كفر باتفاق أهل الملل
ومن المعلوم أن كل متنازعين في هذا الباب فإن أحدهما يزعم أنه وصف الحق تعالى بصفة نقص لكن منازعه لا يسلم له ذلك
فإذا قال أنت وافقتني على تنزيهه عن النقص والعيب
قال له: هذا الذي نازعتك فيه ليس هو عندي نقصا ولا عيبا فأي شيء تنفعك موافقتي لك على لفظ أنازعك في معناه
وإن قال بل اتفقنا على كل ما هو نقص في نفس الأمر فالله منزه عنه وهذا نقص في نفس الأمر فيجب تنزيه الله عنه
قال له: أنا وافقتك على أن كل ما هو نقص في نفس الأمر منزه عنه ولم أوافك على أن كل ما أثبت أنت أنه نقص بدليل تدعي صحته فإنه منزه عنه
وحاصله أن الإجماع لم يقع بلفظ يعلم به دخول مورد النزاع فيه ولكن يعلم أن كل ما عتقده الرجل نقصا فإنه ينزه الله عنه وما تنازعا في ثبوته يقول المثبت أنا لم أوافقك على انتقاء هذا ولكن أنت تقول هذا نقص فعليك أن تنفيه كما نفيت ذلك النقص الآخر وانا أقول ليس هذا بنقص وذلك الأمر الآخر الذي نفيته نفيته
لمعنى منتف فيما أثبته وأنا ما نفيت ذاك إلا لمعنى يختص به فإن كان ذلك المأخذ صحيحا لم تجب التسوية وإن كان باطلا لزم خطئ في نفي ذاك وحينئذ فإن كانا مستويين لزم خطئ في الفرق بينهما وليس خطء في إثبات ما أثبته بأولى من خطيء في نفي ذاك وحينئذ فإن كمانا مستويين لزم خطئ في لافرق بينهما وليس خطئ في إثبات ما أثبته بأولى من خطئ في نفي ما نفيته فإنما يفيدك هذا تناقضي إن صح التسوية لا يفيدك صحة مذهبك وإن ثبت الفرق بطل قولك
فتبين ان هذا الإجماع هو من الإجماعات المركبة التي ترجع إلى حجة جدلية ولو كانت صحيحة لم تفد إلا تناقض الخصم
الوجه الثالث
أن يقال: ما ذكرته من الحجة معارض بتجويزك على الله إحداث الحوادث بعد أن لم تكن وهو كونه فاعلا فالفاعلية: إما أن تكون صفة كمال وإما أن لا تكون صفة كمال فإن كانت كمالا كان قد فاته الكمال قبل الفعل وإن لم تكن كمالا لزم اتصافه بغير صفات الكمال وهذا محال لهذين الوجهين
وإذا قلت إن الفعل نسبة وإضافة
قيل لك: وإضافة هذا الحادث إليه نسبة وإضافة ولا فرق بينهما إلا كون أحدهما متصلا والآخر منفصلا
ومعلوم أن الإجماع على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص متناول لتنزيهه عن كل نقص من صفاته الفعلية وغير الفعلية وأنت وجميع الطوائف تقسمون الصفات إلى صفات ذاتية وصفات فعلية ومتفقون على تنزيهه عن النقص في هذا وفي هذا
وأيضا فهذا منقوص بسائر ما جوزوه من تجدد الإضافات والسلوب فإن الرب منزه عن الاتصاف بالنقائص في الثبوت والسلب والإضافة فما كان جوابهم في المتجددات كان جوابا لمنازعيهم في المحدثات
وهم يجيبون في المتجددات بأنه لا يمكن ثبوتها في الأزل
فيقال لهم: وكذلك الحوادث المتعاقبة لا يمكن ثبوتها في الأزل وهو وأمثاله يجيبون الدهرية بمثل ذلك في مسألة حدوث العالم
فإن من حججهم شبة برقلس قالوا إن الجود صفة كمال وعدمه صفة نقص فلو كان العالم قديما لكان الرب تعالى في الأزل جوادا ولو كان حادثا لما كان الرب تعالى في الأزل جوادا لعدم العالم عنه وهو محال
ثم قال في الجواب وأما الشبهة الرابعة فحاصل لفظ الجود فيها يرجع إلى صفة فعلية وهو كون الرب تعالى موجدا وفاعلا لا لغرض يعود إليه من حلب نفع أو دفع ضر وعلى هذا فلا نسلم أن الصفات الأفعال من كمالاته تعالى وليس ذلك من الضروريات فلا بد له من دليل كيف وأنه لو كان من الكمالات لقد كان كمال واجب متوقفا على وجود معلوله عنه ومحال أن يستفيد الأشرف كماله من معلوله كما قرروه في كونه موجودا بالإرادة وإن سلمنا أنه كمال لكن إنما يكون عدمه في الأزل نقصا ان لو كان وجود العالم في الأزل ممكنا وهو غير مسلم وهو على نحو قولهم في نفي النقص عنه بعدم إيجاده للكائنات الفاسدات كالصور الجوهرية العنصرية والأنفس الإنسانية لتعذر وجودها أزلا من غير توسط ولا يلزم من كون العالم غير ممكن الوجود إزلا أن لا يكون ممكن الحدوث لما حققناه
فهذا الجواب الذي أجاب به في هذا الموضع إذا أجابته به الكرامية كان جوابهم له أحسن من جوابه لأولئك وأدنى أحواله أن يكون مثله فإنه قال صفة الإحداث والفعل مطلقا ليست بصفة كمال مع كونه اتصف بها بعد أن لم يكن
فيقال له لا فرق بينهما إلا من جهة أن أحدهما بنفسه والآخر مباين عنه ومن المعلوم أن ما يتصرف بنفسه أكمل ممن لا يتصرف بنفسه
الوجه الرابع
أن يقال قول القائل إما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال
قلنا ليست في نفسها صفة كمال قوله فيلزم اتصاف الرب بما ليس من صفات الكمال وذلك ممتنع
قلنا متى يكون الممتنع إذا كان ذلك مع غيره صفة كمال أو إذا لم يكن مع غيره صفة كمال وذلك أن الشيء وحده قد لا يكون صفة كمال لكن هو مع غيره صفة كمال وما كان كهذا لم يجز اتصاف الرب به وحده لكن يجوز اتصافه به مع غيره ولا يلزم من كونه ليس صفة كمال منع قيامه بالرب مطلقا
وهذا كالإرادة للفعل الخالية عن القدرة على المراد ليست صفة كمال فإن من أرادة شيئا وهو عاجز عنه كان ناقصا ولكن إذا كان قادرا على ما أراد كانت الإرادة مع القدرة صفة كمال
فلو قال قائل: مجرد الإرادة هل هو كمال أو لا؟
فإن قيل هو كمال انتقض بإرادة العاجز المتمني المتحسر
وإن قيل ليس بكمال لزم اتصافه بما ليس بكمال
قيل له الإرادة مع القدرة كمال
وكذلك قوله كن إما أن يكون صفة كمال أولا فإن كان صفة كمال فينبغي أن يكون كمالا للعبد ومعلوم أن العبد لو قال للمعدوم كن كان هاذيا لا كاملا وإن لم يكن كمالا فلا يوصف به الرب
فيقال له كن من القادر على التكوين الذي إذا قال للشيء كن فيكون كمال ومن غيره نقص وكذلك الغضب إما أن يكون صفة كمال أولا فغن كان كمالا فيحمد كل غضبان وإن كان نقصا فكيف اتصف الرب به؟
فيقال الغضب على من يستحق الغضب عليه من القادر على عقوبته صفة كمال وأما غضب العاجز أو غضب الظالم فلا يقال إنه كمال ونظائر هذا كثيرة
وإذا كان كذلك فكونه قادرا على الأفعال المتعاقبة وفعله لها شيئا بعد شيء صفة كمال وكل منها بشرط غيره كمال وأما الواحد منها مع عدم غيره فليس بكمال فإنه من المعلوم أنا إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا تقدر أن تتصرف بنفسها وذاتا تتصرف دائما شيئا بعد شيء كانت هذه الذات أكمل من تلك وكان الكمال قدم هذا النوع
وكذلك إذا قدرنا شيئا يتكلم إذا شاء بما شاء وهو لم يزل كذلك وآخر لا يمكنه الكلام وإلا بعض الأحيان أو حدث له الكلام بعد أن لم يكن كان الأول أكمل
ونكتة الجواب: أن الواحد منها إذا لم يكن وحده كمالا لا يلزم ان لا يكون مع سائر النوع كمالا
لكن هذا الجواب إنما يناسب قول من يقول: لم يزل متصفا بهذا النوع
والكرامية لا تقول بذلك بل تقول حدث له النوع بعد أن لم يكن لكن الكرامية تقول قولنا في هذا النوع كقول غيرنا في الحوادث المنفصلة وهو أن دوام هذا لما كان ممتنعا لامتناع الحوادث في الأزل لم يلزم أن لا يكون متصفا بصفات الكمال لأن عدم الممتنع ليس بنقص
الوجه الخامس
وتحقيق هذا: أن يقال: قول القائل: إذا كان هذا كمالا كان الرب ناقصا قبل اتصافه
يقال له: متى يكون ناقصا إذا وجوده قبل ذلك ممكنا أو لم يكن ممكنا والأول ممتنع فإن عدم الممتنعات لا يكون نقصا والحوادث عندهم يستحيل وجودها في الأزل فلا يكون عدمها نقصا
الوجه السادس
ان يقال: متى يكون عدم الشيء نقصا إذا عدم في الحال التي يصلح ثبوته فيها او إذا عدم في حال لا يصلح ثبوته فيها الأول مسلم والثاني ممنوع
وهم يقولون كل حادث فإنما حدث في الوقت الذي كانت الحكمة مقتضية له وحينئذ فوجوده ذلك الوقت صفة كمال وقبل ذلك صفة نقص مثال ذلك تكليم الله لموسى صفة كمال لما أتى وقبل أن يتمكن من سماع كلام الله فصفة نقص
الوجه السابع
أن يقال الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة أو متعاقبة أيما أكمل عدمها بالكلية او جودها على الوجه الممكن؟
ومعلوم أن وجودها على الوجه الممكن أكمل من عدمها وهكذا يقولون في الحوادث
الوجه الثامن
أن يقال: قول القائل اتفاق الملل قبل الكرامية على امتنع اتصاف الرب بغير صفات الكمال كلام مجمل
فإن أريد بذلك أن الناس ما زالوا يقولون إن الله موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائض فالكرامية تقول بذلك وإن أردت أن الناس قبل الكرامية كانوا يقولون إن الله لا يقوم به شيء من مقدوراته ومراداته فهذا غلط
فإن جمهور الخلائق على جواز ذلك قبل الإسلام وبعد الإسلام فالتوراة مملوءة من وصف الله بمثل ذلك وكذلك الإنجيل وسائر نبوات الأنبياء مثل الزبور ونبوة أشعيا وأرميا وأساطين الفلاسفة كانوا يقولون بذلك والسلف من الصحابة والتابعين وأهل الحديث متواتر عنهم ذلك
ثم هذا الرجل لما أوردت عليه الدهرية هذا في صفة الخالقية قال صفة الخالقية لا صفة نقص ولا صفة كمال
الوجه التاسع
قوله إن وجود الشيء أشرف من عدمه
يقال له: وجوده أشرف مطلقا أم في الوقت الذي يمكن وجوده فيه ويصلح وجوده فيه؟
أما الأول فممنوع فإن وجود الجهل المركب ليس أشرف من عدمه ولا وجود تكذيب الرسول أشرف من عدمه ولا وجود الممتنع أشرف من عدمه
وإن أريد وجود الممكن الصالح
قيل فلا نسلم أن ما حدث كان يمكن حدوثه ويصلح حدوثه قبل وقت حدوثه وحينئذ فلا يلزم من كونه وقت وجوده كمالا أن يكون قبل وجوده نقصا
ومدار الدليل على مقدمتين مغلطتين إحداهما أن ما وجد من الكمال كان عدمه قبل ذلك نقصا وهذا فيه تفصيل كما تبين والثاني أن ما لا يكون وحده كمالا يجب نفيه عن الرب مطلقا وهذا فيه تفصيل كما سبق فإنه يقال إن كان الحادث كمالا فعدمه قبل ذلك نقص وإن لم يكن كمالا لم يتصف الرب بما ليس بكمال وكلا المقدمتين فيها من التموية والإجمال ما قد بين ويحتمل من البسط أكثر من هذا
رد الآمدي على الكرامية من ثمانية أوجه
قال الآمدي الحجة الثانية من جهة المناقضة للخصم والإلزام وذلك من ثمانية أوجه
الأول
أن من مذهب الكرامية انهم لا يجوزون إطلاق اسم متجدد على الله تعالى فيما لا يزال
كما بيناه من قبل فلو قامت بذاته صفات حادثة لا تصف بها وتعدي إليه حكمها كالعلم فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالما
وكذا في سائر الصفات القائمة بمحالها وساء كان المحل قديما أو حادثا وسواء كانت الصفة قديمة أو حادثة إذ لا فرق بين القديم والحادث من حيث أنه محل قامت به صفته إلا فيما يرجع إلى أمر خارج فلا أثر له وإذا ثبت ذلك فيلزم أن يقال إنه قائل بقول ومريد بإرادة ويلزم من ذلك تجدد اسم لم يكن له قبل قيام الصفة الحادثة به وهو مناقض لمذهبهم
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول: هذا أمر اصطلاحي لفظي ليس بحثا عقليا فإن كونهم لا يسمونه إلا بما هو لازم لذاته دون ما يعرض لها أمر اصطلحوا عليه ولا يرد عليهم العلم والقدرة ونحوهما فإنه من لوازم ذاته ولعلهم يدعون في ذلك توقيفا كما يدعي غيرهم في كثير مما لا يطلقه من الأسماء
وأيضا فيقال: هذا إما أن يكون لازما لهم وإما أن لا يكون لازما فإن لم يكن لازما بطل النقض به وإن كان لازما أمكن التزامه وليس فيه إلا تجدد أسماء له مما تجدد من أفعاله
والمنازع يقول بمثل ذلك في جميع الأفعال فإنه تجدد استحقاقه لأسمائها عند تجدد الأفعال كالخالق والرازق ونحو ذلك
وحينئذ فيمكن إذا كان هذا صوابا أن يجمع بين الصوابين فيقال بتجدد الحادث وتجدد الاسم أيضا
وأيضا فيقال: الكرامية قالوا هذا لكونه عندهم متصفا في الأزل بصفات الكمال وكون أسمائه كلها الأسماء الحسنى التي تتضمن مدحا له وثناء عليه وكون ذلك الحادث لا يمكن أن يمكن ازليا فلا يكون مما يوجب أسما
وحينئذ فيقال: إما أن يمكن دوام نوع ذلك الحادث وإما ان لا يمكن فإن أمكن كانوا قد أخطأوا في نفي دوامه وإن لم يمكن فإما أن يكون تجدد اسم له ممكنا اولا يكون فإن كان ممكنا أخطاوا في نفي ذلك الاسم وإن لم يكن ممكنا كانوا مصيبين فبتقدير خطئهم على بعض التقديرات لا يلزم صواب قول منازعيهم
الثاني
قال الآمدي أن الكرامية موافقون على أن القول والإرادة لا يقومان إلا بحي كالسمع والبصر وقد وافقوا على ان الحي إذا خلا عن السمع والبصر لا يخلو عن ضده وعند ذلك فإما أن يقولوا بأن الله يخلو عن القول الحادث والإرادة الحادثة وعن ضده فلا يجدون إلى الفرق بينه وبين السمع والبصر سبيلا وغن قالوا بأنه لا يخلو الرب عن القول والإرادة وعن ضده فلا يخلو ذلك الضد إما أن يكون قديما أو حادثا فإن كان الأول فيلزم من ذلك عدم الموجود القديم ضرورة حدوث ضده وهو محال بالاتفاق وبالدليل على ما سيأتي وإن كان الثاني فالكلام في ذلك الضد كالكلام في الأول ويلزم من ذلك تعاقب الحوادث على الرب تعالى علىوجه لا يتصور خلوه عن واحد منها والحوادث المتعاقبة لا بد وأن تكون متناهية علىما سبق في إثبات واجب الوجود وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ضرورة
تعليق ابن تيمية
فيقال: ولقائل أن يقول: نظير الحادث والإرادة الحادثة عندهم التسمع الحادث والتبصر الحادث فإنهم يقولون: إنه عند وجود المسموعات والمرئيات تجدد ما يسمونه التسمع والتبصر فهذا الحادث نظير ذلك الحادث وعندهم أنه يخلو من وجود مثل هذا وضده العام بخلاف نفس السمع والبصر فإن ذاك عندهم بمنزلة القائلية والمريدية وعندهم انه لا يخلو عن القائلية والمريدية وضدها العام كما لا يخلو عن نفس السمع والبصر وضده العام
فإن قيل: منهم من يفرق بين القول والإرادة وبين التسمع والتبصر
فيقال قد قيل إن هذا ليس هو المشهور عنهم وسواء كان هو المشهور أو لم يكن فإنه يقال: إن كانت صورة الإلزام كصورة الوفاق لزم خطأ من فرق بين الصورتين منهم وإن كان بينهما فرق مؤثر في الحكم لزم خطأ المسوى منهم وعلى التقديرين لا يلزم صواب المنازع لهما
وأيضا فإنه يقال: إما أن يكون تعاقب الحوادث ممكنا وإما ان يكون ممتنعا فإن كان ممكنا كانوا أخطأوا في قولهم: يخلو عن القول والإرادة وعن ضدها إذ يمكن تعاقب ذلك عليه دائما وإن كان ممتنعا كان هذا الامتناع هو الفرق بين ذلك وبين السمع والبصر فإنه يمكن اتصافه في الأزل بالسمع والبصر دون اتصافه بالحادث من القول والإرادة
لكن على هذا لا يلزم تناقضهم في أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فإنهم يقولون ليس هو قابلا في الأزل للاتصاف بالحوادث
لكن يقال لهم: هذا فرع إمكان اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممكن
فيقولون: وهذا الإلزام والمعارضة فرع امتناع اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممتنع؟
فعلم أن مثل هذا الإلزام لا ينقطع به لا هم ولا خصومهم المسلمون لهم امتناع تسلسل الحوادث
وأما من يقول إنه يمكن تسلسل الحوادث فإنه يبين خطأهم في هذا التفريق ويقول: إذا كان الحي لا يخلو عما يقبله وعن ضده والرب تعالى قابل للاتصاف بالقول والإرادة لزم ان لا يخلو عن ذلك وعن ضده لكن ضده صفة نقص كضد السمع والبصر فيلزم انه ما زال متصفا بالقول والإرادة والاتصاف بنوع ذلك ممكن
ولهم جواب ثالث عما ذكره من الإلزام وهو ان يقال نحن قلنا الحي القابل لهذا لا يخلو عنه وعن ضده العام الذي يدخل فيه عدم هذه الصفات لم نقل إنه لا يخلو عنه وعن ضد وجودي فإن هذا ليس قولنا فإن القابل للشيء ولضده الوجودي قد يخلو عنهما عندنا
ولكن الأشعرية يقولون: إن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده الوجودي وإذا كان كذلك فضد القول والإرادة عدم ذلك فلا يقال: القول في ضد ذلك كالقول فيه ويلزم تسلسل الحوادث لأن ضد ذلك عدم والعدم لا يفتقر إلى فاعل عندنا
ولا يضر عدم الشيء في الأزل ووجوده فيما لا يزال كالأفعال المحدثة
وهذا جواب محقق لهم لكنه لا يتم ألا بأن يكون عدم القول والإرادة في الأزل ليس صفة نقص
وقولهم في ذلك كقول المعتزلة وهم خير من المعتزلة من وجهين :
من جهة انهم يجعلون القول والإرادة قائمة بذاته وهذا بحث آخر لا يختص بهذه المسألة
ومن جهة أنهم يثبتون مشيئة أزلية وقابلية أزلية
وأيضا فما ادعاه من انه أثبت أن الحوادث لا بد وأن تكون متناهية ليس كما ذكر
وقد عرف الكلام فيما ذكر هو وغيره وضعف ذلك
الثالث
قال أبو الحسن الآمدي يعني في بيان تناقضهم أن من مذهبهم أن القول الحادث والإرادة الحادثة عرض كاللون والطعم والرائحة وأنه يجوز في الشاهد تعري الجواهر عن الأقوال والإرادات والطعوم والرائح والألوان مع جواز اتصافها بها وقد أحالوا قيام الألوان والطعوم والرائح بذات الله تعالى وجوزوا ذلك في القول والإرادة ولو قيل لهم لم قضيتم بجواز قيام الطعوم والألوان والروائح بذات الله تعالى من غير أن يلزم استحالة التعري عنها كما في القول الحادث والإرادة الحادثة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا
تعليق ابن تيمية
فيقال: ولقائل أن يقول: جوابهم في هذا كجواب الأشعرية والسالمية إذا قيل لهم: لم وصفتم الرب بالقول والإرادة ولم تصفوه بالطعم واللون والريح؟
فإذا قالوا: لأن القول والإرادة من الصفات المشروطة بالحياة وهي صفة كمال بخلاف الطعم واللون والريح أو غير هذا من الفرق قالت الكرامية نظير ذلك فالفرق بين هذا وهذا ليس من خصائص مسألة حلول الحوادث فإن نفي ذلك عند من ينفيه واجب سواء قال بحلول الحوادث أو لم يقل وإنما يفترقان في أن هذا يجوز حدوث ذلك بخلاف الآخر فحاصله أنهم لم ينفوا الطعم واللون والريح لكونه لو قبلها لم يخل منها فإن هذا الأصل عندهم فاسد بل نفوها لما فارقت به صفات الحي
وأيضا فيقال الفرق الذي فرقوا به بين اللون والريح وبين القول والإرادة إما أن يكون مؤثرا وإما أن لا يكون فإن كان مؤثرا بطل الإلزام وإن لم يكن مؤثرا لزم خطؤهم في إحدى الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة قول المنازع لهم فيما أثبتوه فإن أقام المنازع لهم دليلا عقليا أو سمعيا على نفي اللون والريح دون القول والإرادة كان ذلك فرقا مؤثرا وإن أقام دليلا على نفي حلول الجميع كان ذلك حجة كافية دون الإلزام
الوجه الرابع
قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن الرب متحيز وانه مقابل للعرش وأكبر منه وليس مقابلا لجوهر فرد من العرش وقد قالوا: بأن العرض الواحد لا يقوم بجوهرين ن والصفة الحادثة في ذات الله تعالى وهي القول أو الإرادة كما هو مذهبهم يوجب قيامها مع اتحادها بجزئين فصاعدا وهو مناقض لمذهبهم
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول قولهم: إن العرض لا يقوم بجوهرين مع قولهم بقيام القول والإرادة بالله تعالى أمر لا يختص بمسألة الحوادث فإن العلم والقدرة والمشيئة القديمة عندهم بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة كونه صفة واحدة قامت بجزأين بل هذا بحث يتعلق بمسألة الصفات مطاقا ولها موضع آخر
وأيضا فيقال: إذا كان من مذهبهم أن الرب متحيز كما حكاه عنهم مع أن ابن الهيصم وغيره منهم ينكر أن يكون متحيزا فما ذكر من حجة المعتزلة عليهم غايتها إلزامهم إذا قامت به الصفات والحوادث أن يكون متحيزا فإذا كانوا ملتزمين لذلك كان هذا طرد قولهم ويبقى البحث ليس هو في هذه المسألة بل يبقى الكلام مع المعتزلة يعود إلى مسألة التحيز
والكلام إذا عاد إلى أصل واحد كان الكلام فيه أخف مع انهم يمكنهم أن يلزموا المعتزلة بقيام الحوادث به وإن لم يكن متحيزا إذا كان لكل من المسألتين مأخذ يخصه وبينهما اتفاق وافتراق
وأيضا فإن ذكر قولهم في العرش ههنا لا يظهر له وجه إلا أن يقال هم يقولون بالتحيز والمتحيز مركب من الجواهر المنفردة والعرض الواحد لا يقوم بجوهرين فلا تقوم به إرادة ولا قول
وهذا القول إن توجه كان سؤلا عليهم في أصل إثبات الصفات لله سواء كانت قديمة أو حادثة لا يختص هذا بمسألة حلول الحوادث
والكرامية لهم في إثبات الجوهر الفرد قولان فمن نفى ذلك لم يلزمه هذا الإلزام ومن أثبته كان جوابه عن هذا كجواب غيره من الصفاتية في الصفات القائمة بالملائكة والآدميين وغيرهم وكان لهم أيضا أجوبة أخرى كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
الوجه الخامس
قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن مستند المحدثات إنما هو القول الحادث أو الإرادة الحادثة ومستند القول والإرادة القدرة القديمة والمشيئة الأزلية ولا فرق بين الحادث والمحدث من جهة تجدده وهو إنما كان مفتقرا إلى المرجح من جهة تجدده وقد استويا في التجدد فلو قيل لهم لم لا أكتفي بالقدرة القديمة والمشيئة الأزلية في حدوث المحدثات من غير توسط القول والإرادة كما اكتفى بها في القول والإرادة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا
تعليق ابن تيمية
فيقال: ولقائل أن يقول: من الصفات ما يثبت بالسمع وقد يكون أثبتوا ذلك بالسمع كما أثبت الصفاتية من السلف والخلف كابن كلاب والأشعري والقاضي أبي بكر والقشيري والبيهقي تكوين آدم باليدين بالسمع مع أن غيره لم يحتج إلى ذلك كما أثبت أيضا الأشعري وغيره التكوين يكن سمعا مع أن العقل يكتفي بالقدرة
ونقل ذلك عن أهل السنة والحديث وقال عنهم إن الله لم يخلق شيئا إلا قال له: كن وذكر أنه: بقولهم يقول
والقرآن قد أخبر أنه إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون وأن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وكذلك إذا ظرف لما يستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالبا
فلما رأوا السمع دل على أن المحدث يتعلق بقول وإرادة يكون المحدث عقبه مع علمهم بأن قول الرب وإرادته لا يقوم إلا بذاته قالوا ذلك
وأيضا فجميع الطوائف فرقوا بين حادث وحادث وشرطوا في هذا ما لم يشرطوه في الآخر
فالفلاسفة يقولون: كل حادث مشروط بما قبله من الحوادث ولا يسوون بين الحوادث
والمعتزلة البصريون يقولون كل المحدثات لا تحدث إلا بإرادة ولا تقوم الصفات إلا بمحل
وقالوا إن الإرادة حدثت بلا إرادة وقامت في غير محل وكذلك الفناء عندهم
والأشعرية فرقوا بين خلق وغيره
وأيضا فلا يخلو: إما أن يكون بين هذين الحادثين فرق مؤثر وغما أن لا يكون فإن كان بينهما فرق مؤثر بطل الإلزام وإن لم يكن فرق مؤثر لزم خطؤهم في أحد القولين: إما في الاكتفاء في الحدوث بالقدرة القديمة وغما في إثبات شيء حادث للمحدثات المنفصلة
وحينئذ فقد يكونون إنما أخطأوا في الاكتفاء بمجرد القدرة والإرادة القديمة كما يقوله من يقول إن الحوادث لا بد لها من سبب حادث وحينئذ فيلزمهم القول بدوام الحوادث كما هو قول من قاله من السلف وأهل الحديث والكلام والفلسفة
وفي الجملة هذا الإلزام إذا صح يلزم الخطأ في أحد الموضعين لا يلزم صحة قول المنازع
الوجه السادس
قال الآمدي يخص القائلين بحدوث القول وذلك انهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة والحروف متضادة فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض نعلم استحالة الجمع بين الحروف ن وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون من قوله: كن وقد وافقوا على استحالة تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها به وعند ذلك فإما أن يقال باجتماع حروف القول في ذات الباري تعالى أولا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها: فإما أن يقال بتجزىء ذات الباري تعالى وقيام كل حرف بجزء منه وإما أن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين: الأول: أنه يلزم منه التركيب في ذات الله تعالى وقد أبطلناه في إبطال القول بالتجسيم الثاني: أنه ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس وإن كان الثاني فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد وهو محال وإن لم نقل باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب تعالى يستحيل عروه عنه بعد اتصافه به والحرف السابق الذي عدم عند وجود اللاحق قد كان صفة للرب وقد زال بعد وجوده له
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول: هذا غايته ان يستلزم خطأهم في قولهم: إن ما يقوم به من الحوادث لا يخلو منه
ولا ريب أن أكثر الناس يخالفونهم في هذا ولا يقولون بدوام الحادث المعين
فمن قال بإثبات الاستواء والنزول وغيرهما من الأفعال القائمة بذاته المتعلقة بمشيئته وقدرته لا يقول: إن ذلك يدوم
وكذلك أكثر القائلين بأن الله كلم موسى بنداء بصوت سمعه موسى والنداء بالصوت قائم بذات الله تعالى لا يقولون: إن ذلك النداء بعينه دائم أبدا ونظائره كثيرة
وإذا كان كذلك فيقال إما أن يكون بقاء الحادث الذي هو الحروف والأصوات ممكنا أو ممتنعا
فإن كان ممكنا صح قول الكرامية وإن كان ممتنعا صح قول من ينازعهم في دوام الحادث ويقول: إنه لا يبقى مع اتفاق الجميع على قيام الحوادث به
وحينئذ فعلى التقديرين لا يلزم صحة قول المنازع النافي لقيام الحوادث به
وأيضا فيقال قول القائل إنه يستحيل الجمع بين الحروف هو من موارد النزاع
فذهب طوائف إلى إمكان اجتماعها من القائلين بقدم الحروف والقائلين بحدوثها
وهذا قول السالمية وغيرهم من القائلين باجتماعها مع قدمها وقول من قال باجتماعها مع حدوثها كالكرامية
وقد قال بالأول: طوائف من أهل الحديث والفقه والكلام من أصحاب مالك والشافعي واحمد وغيرهم
وإذا كان هذا من موارد النزاع فإذا قال مثل هذا القائل نحن نعلم استحالة اجتماع الحروف كما نعلم استحالة اجتماع الضدين كالسواد والبياض
قيل له فالذي تنصرهم أنت من الكلابية والأشعرية قالوا بأن المعاني التي هي معاني الحروف المنتظمة هي معنى واحد في نفسه والأمر والنهي والخبر صفات لموصوف واحد فالذي هو الأمر هو الخبر ن والذي هو الخبر هو النهي وقالوا إن ذلك بالسريانية كان إنجيلا
ولا ريب أن جمهور العقلاء من الأولين والأخرين القائلين بأن القرآن غير مخلوق والقائلين بأنه مخلوق ن يقولون: إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة من عدة أوجه :
منها كون الأمر هو عين الخبر
ومنها كون الخبر عن الخالق بمثل آية الكرسي هو الخبر عن المخلوق بمثل { تبت يدا أبي لهب وتب }
ومنها كون معاني التوراة إذا عربت تكون معاني القرآن إلى أمثال ذلك
ولهذا لم يقل هذا القول من طوائف المسلمين ولا غير المسلمين إلا ابن كلاب ومن اتبعه
وهذا القول يتضمن أن تكون المعاني المتنوعة معنى واحدا ولو قال: إن المعاني التي للحروف يمكن اجتماعها في زم واحد كان أقرب إلى المعقول من كونها معنى واحد
ولو قال قائل إن الحروف المجتمعة هي حرف واحد في الحقيقة وغنما الحروف المتفرقة صفات للحرف لا أقسام له كان هذا شبيها بقول من يقول إن تلك المعاني المتنوعة معنى واحد
وذلك انه من المعلوم بالاضطرار أن الحروف المنتظمة مطابقة لمعانيها المدلول عليها بها تحدث بحدوثها في نفس المتكم
وإذا قال القائل إن الحروف متضادة يمتنع اجتماع اثنين منها في محل واحد أمكن أن يقال إن المعاني متضادة يمتنع اجتماع اثنين في محل واحد
فإن غاية ما يقال إن محل المعاني واحد بخلاف محل الحروف فإنه متعدد لكن تعدد المحل واتحاده لا ينفي التضاد فإن المثلين متضادان وغن كانا متماثلين في الحقيقة والمحل فالباء والتاء تتضادان أعظم من تضاد الباء والحاء إذ الحرفان يتعدد محلها يمكن اجتماعها ن بخلاف ما يتحد محلهما والضدان إنما يمتنع اجتماعهما في محل واحد لا في محلين
فإذا قدر أن الحروف لا تكون إلا في محل واحد كانت بمنزلة معانيها التي لا تكون إلا في محل واحد وإذا قدر أن لها محلين أمكن اجتماعها كما تجتمع أصوات المتكلمين جميعا
لكن الواحد منا لا يقدر منا لا يقدر على ذلك لكون حركة بعض آلاته مستلزما لحركة الآخر وإلا فلو قدر أنا يمكننا تحريك الجميع كالذي ينفخ بيديه في هذه نفاخة وفي هذه نفاخة أمكن اجتماع الحروف واجتماع الأصوات في زمن واحد مع تعدد المحل وإنما الذي يظهر امتناعه اجتماع حرفين في محل واحد في زمن واحد
ولكن هذا قد يقال فيه إنه بمنزلة معاني الكلام فإن الواحد منا يجد من نفسه أنه لا يمكنه جمع معاني الكلام في زمن واحد في قلبه
وإذا كان كذلك فمن قال باجتماع المعاني لزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف فكيف من قال إن المعاني تكون معنى واحدا
والفضلاء من أصحاب اعري يعترفون بضعف لوازم هذا القول مع نصرهم لكثير من أقواله الضعيفة
استطرادات مقالة الآمدي في مسألة كلام الله تعالى
حتى الآمدي لما تكلم في مسألة الكلام قال فإن قيل وإذا ثبت أنه متصف بصفة الكلام وان كلامه قديم وأنه ليس بحرف ولا صوت فهو متحد لاكثره فيه في نفسه بل التكثر إنما هو في تعلقاته ومتعلقاته فإن قيل عاقل ما لا يماري نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ونهي وغيره من أقسام الكلام وإن ما انقسم إليه حقائق مختلفة وأمور متمايزة وانها من أخص أوصاف الكلام لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات والتعلقات والمتعلقات ولهذا فإنا لو قطعنا النظر عن العبارات والتعلقات والمتعلقات ورفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما وأيضا فإن ما أخبر به عن القص الماضية والأمور السالفة مختلفة متمايزة وكذلك المامورات والمنهيات مختلفة أيضا فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى هو نفس الخبر عما جرى لعيسى ولا الأمر بالصلاة هو نفس الأمر بالزكاة وغيرها ولا أن ما تعلق بزيد هو نفس ما تعلق بعمرو ولا ما سمى خبرا هو عين ما سمى أمرا إذ الأمر طلب والخبر لا طلب فيه بل هو حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجابا أو سلبا فثبت ان الكلام انواع مختلفة والكلام عام للكل فيكون كالجنس لها
قلنا قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ومعلوم واحد قائم بالنفس وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعا إلى اخص صفة الكلام بل إلى أمر خارج عنه وعلى هذا نقول إنه لو قطع النظر عن التعلقات والمتعلقات الخارجة فلا سبيل إلى توهم اختلاف في الكلام النفساني أصلا ولا يلزم منه رفع الكلام في نفسه وزوال حقيقته
قال وعلى هذا فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر واختلاف المخبر واتحاد الأمر واختلاف المأمور وكذلك اختلاف الأمر والخبر مع اتحاد صفة الكلام
قال فإن قيل إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة والقدرة والعلم وباقي الصفات راجعة إلى معنى واحد ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات لا بسبب اختلافه في ذاته وذلك بأن تسمى إرادة عند تعلقه بالتخصيص وقدرة عند تعلقه بالإيجاد وهكذا سائر الصفات وإن جاز ذلك فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات
وقال أجاب الأصحاب عن ذلك بأنه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة والإرادة بسبب التعلقات والمتلقات إذ القدرة معنى من شانه تأتي الإيجاد به والإرادة معنى من شانه تأتي تخصيص الحادث بحال دون حال وعند اختلاف التأثيرات لا بد من الاختلاف في نفس المؤثر وهذا بخلاف الكلام فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثرا فضلا عن كونه مختلفا
قال وفيه نظر وذلك انه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد مع إمكان النزاع فيه فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة وذلك لأن القدرة مؤثرة في الوجود والوجود عند أصحابنا نفس الذات لا انه زائد عليها وإلا كانت الذوات ثابتة في العدم وذلك مما لا نقول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات ثابتة في العدم وذلك مما لا قول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات فالذوات مختلفة فتأثير القدرة في آثار مختلفة فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه وليس كذلك وأيضا فإن ما ذكروه من الفرق وإن استمر في القدرة والإرادة فغير مستمر في باقي الصفات كالعلم والحياة والسمع والبصر لعدم كونها مؤثرة في أثر ما
قال والحق ان ما أورده من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل وعسى أن يكون عند غيري حله ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بان كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء
تعليق ابن تيمية
هذا كلامه فيقال: قول القائل: إن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزال ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام
وقد رأيت انه يلزم من قال باتحاد معنى الكلام اتحاد الصفات كلها ثم رفعها بالكلية وجعلها نفس الذات وهذا يعود إلى قول القائلين بان الوجود واحد ولا يميزون بين الواحد بالعين والواحد بالنوع وذلك لأنه من جوز على الحقائق المتنوعة أن تكون شيئا واحدا غلا فرق بين هذا وهذا وذلك من جنس من يقول إن العالم هو العلم والعلم هو القدرة
ولهذا كان منتهى هؤلاء النفاة إلى أن يجعلوا الوجود الذي هو نوع واحد واحدا بالعين فيجعلون وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات ووجود زيد هو عين وجود عمرو ووجود الجنة هو عين وجود النار ووجود الماء هو عين وجود النار
ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم أنهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان وهو الجنس اللغوي فيجدونه واحدا في الذهن فيظنون أن ذلك هو وحدة عينية ولا يميزون بين الواحد بالجنس والواحد بالعين وأن الجنس العام المشترك لا وجود له في الخارج وإنما يوجد في الأعيان المتميزة
ولهذا شبه بعض أهل زماننا الكلام في أنه جنس واحد مع تعدد أنواعه بالنوع الواحد وعلى قوله لا يبقى في الخارج كلام أصلا ولو اهتدى لعلم أن هذا الكلام ليس هذا الكلام كما أن هذه الحركة ليست هذه الحركة وأن اشترك أنواع الكلام في الكلام كاشتراك أنواع الحركة في الحركة بل اختلاف معاني الكلام أعظم من اختلاف أنواع الحركات من بعض الوجوه والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا ان يقال: من جوز أن تكون القدرة والإرادة والعلم حقيقة واحدة كما أن الطلب والخبر حقيقة واحدة فلماذا لا يجوز أن تكون حقيقة الحروف المختلفة حقيقة واحدة وكذلك حقيقة الأصواب؟ لست أعني واحدة بالنوع بل واحدة بالعين كما جعل الكلام واحدا بالعين وكما سوغ ان تكون الصفات المتنوعة واحدة بالعين
والذين قالوا: إن الكلام حروف وأصوات متقارنة قديمة لا يسبق بعضها بعضا وهو مع ذلك واحد إنما قالوه تبعا لأولئك وجريا على قياس قولهم وهو لازم لهم مع ظهور فساده وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم
ويلزم من قال ذلك أن يجعل الطعم واللون والريح شيئا واحدا
وإذا قيل: هذا كالسواد والبياض
قيل له: ويلزمك ان تجعل السواد والبياض شيئا واحدا كما جعلت العلم والقدرة والحياة شيئا واحدا
فإذا قال: نحن تكلمنا فيما يمكن اجتماعه من المعاني والسواد والبياض متضادان
قيل: الجواب من وجهين
أحدهما: أنه يلزمك هذا في المعاني المختلفة التي يمكن اجتماعها كالطعم واللون والريح فقل إنها شيء واحد كما أن العلم والإرادة والقدرة والطلب والخبر والأمر والنهي شيء واحد
الثاني: أن يقال: تضاد الحروف كتضاد معاني الكلام أو تضاد الحركات لا كتضاد السواد والبياض فإن المحل الواحد لا يتسع لحركتين ولا لمعنيين فلا يتسع لحرفين وصوتين وفرق بين ما يتضادان لأنفسهما وما يتضادان لضيق المحل
وإذا كان كذلك كان تضاد الحروف والحركات كتضاد معاني الكلام
فإن قلب الإنسان يعجز في الساعة الواحدة عن جمع جميع معاني الكلام فإلحاق حروف الكلام بأسبابها وهي الحركات ومضموناتها ومدلولاتها وهي المعاني أولى من إلحاقها بالمتضادات لنفسها كالسواد والبياض
وحينئذ فإذا جعلت معاني الكلام شيئا واحدا فاجعل حروف الكلام شيئا واحدا وإلا فما الفرق؟
وقد يقال في الفرق: إن الحروف مقاطع الأصوات والأصوات تابعة لأسبابها وهي الحركات والحركات: إما متماثلة وإما مختلفة وكل من الحركات المختلفة والمتماثلة متضادة لا يمكن اجتماع حركتين في محل واحد في زمن واحد فلا يجتمع صوتان فلا يجتمع حرفان
والحركات هي من الأكوان والأكوان كالألوان فكما لا يجتمع لونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد فلا يجتمع كونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد
بخلاف معاني الكلام كالطلب الذي يتضمن الحب للمأمور به والبعض للمنهى عنه والخبر الذي يتضمن العلم والاعتقاد للمخبر عنه فإنها وإن كانت حقائق متنوعة لكن لا يمنع اجتماعها فإن الأمر بالشيء لا يضاد النهي عن غيره ولا العلم بثالث فلم تتضاد لأنفسها ولكنها لعجز العبد عن جمعها
فالأمور ثلاثة أنواع: ما امتنع اجتماعها لنفسها كالألوان المختلفة وما امكن اجتماعها وقد تجتمع كالعلم والإرادة والقدرة والطعم واللون والريح وما يعجز بعض الأحياء عن جمعها كجمع الإرادات الكثيرة والاعتقادات الكثيرة في زمن واحد فهذه ليس بين حقائقها منافاة تمنع اجتماعها ولكن العبد يعجز عن جمعها كما أنه لا يمتنع ان يعمل بلسانه عملا وبيده عملا وبرجله عملا وأن يسمع كلام هذا القارئ وهذا القارئ وهذا القارئ فالجمع بين هذه الأمور قد يتعذر العبد لا لامتناع اجتماعها في نفسه فإن سمع هذا لا ينافي سمع هذا لذاته ولا هذه الحركة تنافي هذه الحركة لذاتها ولهذا يعقل اجتماع هذه بخلاف اجتماع الضدين
وكذلك رؤية المرئيات المختلفة لا تتضاد ولكن يتضاد تحريك الأجفان إلى جهتين مختلفتين فنفس الحركات متضادة وأما ما يحصل عنها من إدراك فليس هو في نفسه متضادا
فإذا قدر إدراك لا يفتقر إلى حركة أو يحصل بحركة واحدة كمن ينظر إلى السماء بتحديق واحد لم يكن إدراكه لهذه المدركات في آن واحد متضادا فهل يمكن أن يقال في الصوت مثل ذلك وأنه يمكن حصول أصوات بلا حركات وحينئذ فلا تتضاد تلك الأصوات المجتمعة في محل واحد في زمن واحد؟
فيه نزاع وجمهور العقلاء على امتناعه فإن كان هذا مما يمكن اجتماعه صار كمعاني الكلام والصفات وإن لم يمكن اجتماعه صار كالمتضادات
وعلى هذا التقدير: فمن قال بإمكان اجتماع هذه الأمور لم يكن في قوله من الاستبعاد اعظم من قول من يقول: تكون تلك الحقائق المختلفة شيئا واحدا
وليس اجتماع ما يظهر تضاده بأعظم من اتحاد ما يعلم اختلافه
وإذا قال القائل: الأمور الإلهية لا تشبه بأحوال العباد بل العبد يختلف علمه باختلاف المعلومات وإرادته باختلاف المرادات ويتعدد ذلك فيه والباري ليس كذلك
قيل: فإذا جوزتم أن يكون ما يعلم تعدده واختلافه في المخلوقين واحدا لا تعدد فيه ولا تنوع في حق الخالق أمكن منازعكم أن يقول كذلك فيقول: ما يمتنع اجتماعه في حقنا لا يمتنع اجتماعه في حقه لأنه واسع لا يقاس بالمخلوقين بل اجتماع الأمور التي يظهر تضادها فينا أقرب من اتحاد الأمور التي نعلم اختلافها فإن كون الشيء هو نفس ما يخالفه أمر فيه قلب الحقائق
وأما اجتماع الشيء وغيره في حق الخالق مع امتناع اجتماعهما في حق المخلوقات فيدل على أنه يمكن في حقه ما لا يمكن في حق الخلق وذلك يدل على عظمته وقدرته
وأيضا فقد يقول الكرامية وأمثالهم: إن محل هذه الحروف والأصوات ليس هو بعينه محل الأخرى والله واسع عظيم لا يحيط العباد به علما ولا تدركه أبصارهم
وبالجملة فالناس متنازعون في إمكان اجتماع الحروف وإمكان قدمها والنزاع في ذلك قديم ذكره الأشعري في المقالات وأصحاب أحمد متنازعون في ذلك وكذلك أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الطوائف وكذلك أهل الحديث والصوفية
وحينئذ فيقال: إما أن يكون ذلك ممتنعا وغما ان يكون ممكنا فغن كان ممتنعا لم يكن ظهور امتناعه أعظم من ظهور امتناع قول الكلابية الذي يوجب قدم المعاني المتنوعة التي هي مدلول العبارات المنتظمة ويجعلها مع ذلك معنى واحدا فإن الألفاظ قوالب المعاني ونحن كما لا نعقل الحروف إلا متوالية متعاقبة فلا تعقل معانيها إلا كذلك وبتقدير أن نعقل اجتماع معانيها فهي معان متنوعة ليست شيئا واحدا
ولهذا لما قالت الكلابية لهؤلاء: الحروف متعاقبة والسين بعد الباء وذلك يمنع قدمها
أجابوهم بثلاثة أجوبة كما ذكر ابن الزاغوني وقالوا هذا معارض بمعارض الحروف فإنها متعاقبة عندنا وانتم تقولون بقدمها
الثاني أن التعاقب والترتيب نوعان: أحدهما ترتيب في نفس الحقيقة والثاني ترتيب في وجودها فإذا كانت موجودة شيئا بعد شيء كان الثاني حادثا وأما الترتيب الذاتي العقلي فهو بمنزلة كون الصفات تابعة للذات وكون الإرادة مشروطة بالعلم والعلم مشروطا بالحياة
وادعوا أن تقدم الحروف من هذا الباب وهذا الذي يقال له تقدم بالطبع وهو تقدم الشرط على المشروط كتقدم الواحد على الإثنين وجزء المركب على جملته ومثل هذا الترتيب لا يستلزم عدم الثاني عند وجود الأول
فقول هؤلاء إن كان باطلا فكون العلم هو الحياة والحياة هي الإرادة ومعنى القرآن هو معنى التوراة ومعنى آية الكرسي وقل هو الله أحد هو معنى آية الدين وتبت يدا أبي لهب هو باطل أيضا سواء كان مثله في البطلان أو أخفى بطلانا منه او أظهر بطلانا منه
وحينئذ فيقال: هب أن قول السالمية والكرامية باجتماع الحروف محال فقول الكلابية أيضا محال فلا يلزم من بطلان ذاك صحة هذا وقول المعتزلة والفلاسفة أبطل من الكل
وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو انه لم يزل متكلما بحروف متعاقبة لا مجتمعة وهذا يستلزم قيام الحوادث به فمن قال بهذا لم يكن تناقض الكرامية حجة عليه ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل وإن كان اجتماع الحروف ممكنا بطل أصل الاعتراض
ومعلوم أن القسمة العقلية أربعة لأن الحروف: إما أن يمكن قدم أعيانها وحينئذ يلزم إمكان اجتماعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها بل قدم أنواعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها ولا أنواعها
وأما القسم الرابع: وهو قدم أعيانها لا أنواعها فهذا لا يقوله عاقل وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها وإما ان لا يمكن فهذه خمسة أقسام
وأيضا فإذا أمكن الاجتماع فإما ان يكون بقاؤها ممكنا وإما أن لا يكون فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث اعيانها وأنواعها لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث وهذا قول من أقوال متعددة
وبإزاء ذلك من يقول: يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها إما مع إمكان الاجتماع وإما مع عدم إمكان الاجتماع
ومن يقول يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها قد يقول بإمكان الاجتماع وقد لا يقول
والناس متنازعون في تكليم الله لعباده: هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدد تكليم من جهته أو لا بد من تجدد تكليم؟ على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم
فالأول: قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بان الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته بل هو بمنزلة الحياة
والثاني: قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم
قالوا: ونصوص الكتاب والسنة تدل على هذا القول ولهذا فرق الله بين أيحائه وتكليمه كما ذكر في سورة النساء وسورة الشورى
والأحاديث التي جاءت بأنه يكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم وأنه إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان إلى غير ذلك مما يطول ذكره
وإذا كان كذلك امتنع أن لا يقوم كلام الله به فإنه يلزم ان لا يكون كلامه بل كلام من قام به كما قد قرر في موضعه
والله سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا وكذلك إذا ناجوه ودعوه أجابهم كما في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله حمدي عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدي فإذا قال: مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
فقد أخبر النبي ﷺ أن الله يقول هذا لكل مصل والناس يصلون في ساعة واحدة والله تعالى يقول لكل منهم هذا
وقد روي ان أبن عباس قيل له: كيف يحاسب الله الخلق في ساعة واحدة؟ فقال كما يرزقهم في ساعة واحدة وأمثال ذلك كثير
وحينئذ فمن قال: إن هذه أقوال قائمة بنفسه تتعلق بمشيئته وقدرته يلزمه أحد أمرين إما أن يقول باجتماعها في محل واحد وإما أن يقول إن ذاته واسعة تسع هذه الأقوال كلها
ونحن نعقل ان يقوم بالذات الواحدة حروف كثيرة في آن واحد
وأصوات مجتمعة في آن واحد لكن لا يكون هذا حيث هذا إذ لا يعقل في الشاهد أنهما يجتمعان في محل واحد
وقد يقال: إن مثل هذا يجيء على قول من يقول: إنه يقوم بذاته لا نهاية لها وإرادات لا نهاية لها وقدر لا نهاية لها فإن ذلك كقيام أفعال وأقوال لا نهاية لها وهذا على وجهين: فمن قال: إن ذلك يقوم به على سبيل التعاقب فهو كمن يقول إنه تقوم به الكلمات والأفعال على سبيل التعاقب
ومن قال إنها كلها أزلية كما تقوله طائفة يقولون إنه تقوم به علوم لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله أبو سهل الصعلوكي وغيره فإن هذا يشبه قول من يقول: تقوم به حروف لا نهاية لها في آن واحد
لكن قد يقال: اجتماع العلوم بمعلومات والإرادات بمرادات قد يقال إنه لا يتضاد كاجتماع معاني الكلام بخلاف اجتماع حروف فإنه كاجتماع أصوات واجتماع أصوات كاجتماع حركات
وجماع ذلك ان الحقائق: إما أن تكون متماثلة وإما أن لا تكون وإذا لم تكن متماثلة فإما أن يمكن اجتماعها في محل واحد في زمن واحد وإما أن لا يمكن فالأولى المختلفة التي ليست بمتضادة كالعلم والقدرة وكالطعم واللون والثاني المتضادة كسواد والبياض وكالعجز مع القدرة كالعلم بمعلومات والقدرة على مقدورات والإرادة ليست هي متضادة بل يمكن اجتماع ذلك لكن قد يضيق عنه المحل كما يضيق قلب العبد عن إجتماع أمور كثيرة من ذلك وإن كان قد يجتمع في قلبه من ذلك ما يسعه قلبه
والقلوب تختلف أيضا بذاتها ولهذا يمكن بعض الناس أن يقرأ ويفعل بيده ورجله وآخر لا يمكنه ذلك كما يمكن هذا الحركة القوية الشديدة والآخر لا يمكنه ذلك ويمكن هذا أن يرى ويسمع من المختلفات ما لا يمكن الآخر رؤيته او سماعه
وإذا كان كذلك فالكلام في الصوت في شيئين: أحداهما: في بقائه وقدمه كما في بقاء الحركة وقدمها ولا ريب في إمكان بقاء نوع الصوت والحركة بمعنى حدوث الحركة والصوت شيئا فشيئا كحركة الفلك والكواكب
وأما إمكان قدم نوع الصوت والحركة ففيه قولان مشهوران للنظار فالجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم تنكر إمكان قدم ذلك وكثير من أئمة أهل الحديث والفقه والتصوف الفلاسفة يجوزون قدم ذلك ومنهم من يجوز قدم نوع الصوت لا نوع الحركة
وأما بقاء الصوت المعين والحركة المعينة فجمهور العقلاء يحيلون بقاء ذلك وقدمه بل امتناع قدم ما يمتنع بقاؤه اولى فإن ما وجب قدمه وجب بقاؤه وامتنع عدمه ومن الناس من جوز بقاء الصوت المعين والحركة المعينة وبعض هؤلاء جوز قدم الصوت المعين
ولا فرق بين الحركة والصوت وأما الحروف المنطوق بها فالناس متنازعون: هل هي طرف للصوت أم يمكن وجود حروف منظومة بلا صوت على قولين
وإذ قيل: لا يمكن وجود حرف منطوق له إلا بصوت فالحرف قد يعبر به عن نهاية الصوت وتقطعه وقد يعبر به عن نفس الصوت المقطع كما يعبر بلفظ الحرف عن الحرف المكتوب ويراد به مجرد الشكل تارة مجردا عن المادة ويراد به مجموع المادة والشكل وهو المداد المصور
والمسألة الثانية: أن الأصوات المتنوعة سواء قيل بوجوب تعقبها شيئا بعد شيء أو قيل بإمكان بقاء الصوت المعين: هل تقوم بالصائت الواحد إذا كان محل هذا الصوت ليس هو بعينه محل هذا الصوت وإن كان الصائت واحدا؟
ولا ريب أن هذا أولى من قيام الحركات المتنوعة بالمتحرك الواحد إذا قامت كل حركة بمحل غير محل الأخرى
وأما اجتماع الصوتين والحركتين في محل واحد فهو متعذر للتضاد عند اكثر العقلاء أو لضيق المحل عند بعضهم كاجتماع العلمين والقدرتين والإرادتين المختلفتين والإدراكين ثم إذا قدر ان محل هذه الصفات لا يكون إلا جسما فيبقى الكلام في الجسم هل هو مركب هل مركب من الجواهر المنفردة؟ أو من المادة والصورة؟ اولا من هذا ولا من هذا؟
للنظار ثلاثة أقوال في تركيب الجسم
وفي ذلك للنظار ثلاثة أقولا :
فمن قال بالمركب من الجواهر المنفردة اضطربوا في محل العلم ونحوه من العبد: هل هو جزء مفرد في القلب كما يذكر عن ابن الرواندي؟ او أن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة كما يقوله المعتزلة؟ أو حكم العرض لا يتعدى محله بل يقوم بل يقوم بكل جوهر فرد عرض يخصه من العلم والقدرة ونحو ذلك كما يقوله الأشعري؟ على ثلاثة أقوال
ومن لم يقل بالجوهر الفرد لم يلزمه ذلك بل يقول: إن العرض القائم بالجسم ليس بمنقسم في نفسه كما أن الجسم ليس بمنقسم وأما قبوله للقسمة فهو كقبول الجسم للقسمة وهؤلاء يقولون: إن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس بجميع بدنه ويقولون: إن بدن الإنسان ليس مركبا من الجواهر المنفردة فلا يرد عليهم ما ورد على أولئك
وأما الأعراض القائمة بروحه من العلم والإرادة ونحو ذلك فهي أبعد عن الأنقسام من الأعراض ببدنه وروحه أبعد عن كونها مركبة من الجواهر المنفردة من بدنه وإن قيل إنها جسم
وعلى هذا فإذا قيل: يقوم بها علم واحد بمعلوم واحد كان هذا بمنزلة أن يقال يقوم بالعين إدراك واحد لمدرك واحد وبمنزلة أن يقوم بداخل الأذن سمع واحد لمسموع واحد
وهذا وغيره مما يجيبون به المتفلسفة الذين قالوا إن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن ولا تصعد ولا تنزل وليست بجسم فإن عمدتهم على ذلك كونها يقوم بها مالا ينقسم كالعلم بما لا ينقسم فيجب أن لا ينقسم وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما وكلا المقدمتين ممنوعة كما قد بسط الجواب عن هذه الحجة التي هي عمدتهم في غير هذا الموضع
ولما عسر جواب هذه على الرازي ونحوه من أهل الكلام اعتقدوا أن القول بالمعاد مبني على إثبات الجوهر الفرد لظنهم أنه لا يمكن الجواب عن هذه إلا بإثبات الجوهر الفرد وأن القول بالمعاد يفتقر إلى القول بان أجزاء البدن تفرقت ثم اجتمعت
وليس الأمر كذلك فإن إثبات الجوهر الفرد مما أنكره أئمة السلف والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وجمهور العقلاء وكثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية
والقول بمعاد الأبدان مما اتفق عليه أهل الملل فكيف يكون القول بمعاد الأبدان مستلزما للقول بالجوهر الفرد؟ وبسط هذه الأمور له موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على ما ذكره من البحث مع الكرامية وحينئذ فيقال قول الكرامية الذي حكاه عنهم من انه يستحيل تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها قول لا يوافقهم عليه كل من وافقهم على أصل هذه المسألة فإن الموافقين لهم على أصل المسألة هم أكثر الناس وأئمتهم من الطوائف كلها حتى من أئمة أهل السنة والحديث وأئمة الفلاسفة أهل الشرع وأهل الرأي وأما هذا القول فموافقهم عليه قليل
عود إلى مناقشة كلام الأمدي في مسألة كلام الله تعالى
قال وعند ذلك فإما ان يقال باجتماع حروف القول في ذاته تعالى أو لا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها: فإما ان يقال بتحري ذات الباري وقيام كل حرف بجزأ منه وإماأن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين: أحدهما انه يلزم منه التركيب في ذات الله وقد أبطلناه في أبطال لقول بالتجسيم
قلت: ولقائل أن يقول: قول القائل: إما أن يتجزأ ويلزم منه التركيب لفظ مجمل كما قد عرف غير مرة فإن هذا يفهم منه إما جواز الافتراق عليه أو أنه مفترقا فاجتمع أو ركبه ونحو هذه المعاني التي لا يقولونها
فإن أراد المريد بقوله إما أن يقال بتجزي ذات الباري تعالى هذا المعنى فهم لا يقولون بتجزئة ولكن لا يلزم من رفع امتناع كون الذات واسعة تسع هذا وهذا وهذا وأن كل واحد يقوم لا يقوم الآخر وهذا هو الذي عناه بلفظ التجزي والتركيب
كلام الآمدي في نفي التجسيم وتعليق ابن تيمية
وقوله إنه أبطل هذا في أبطال القول بالتجسيم فهم يقولون ليس فيما ذكرته في نفي التجسيم حجة على نفي قولهم
وذلك أنه قال والمعتمد في نفي التجسيم أن يقال لو كان الباري جسما فإما أن يكون كالأجسام وإما أن لا يكون كالأجسام فغن قيل إنه لا كالأجسام كان النزاع في اللفظ دون المعنى والطريق في الرد ما أسلفناه في كونه جوهرا وإن قيل إنه كالأجسام فهو ممتنع لثمانية اوجه: منها أربعة وهي ما ذكرناها في استحالة كونه جوهرا وهي الأول والثالث والرابع والخامس ويختص الجسم بأربعة أخرى
قلت والذي ذكره في إبطال كونه جوهرا هو أن المعتمد هو أنا نقول لو كان الباري جوهرا لم يخل إما أن يكون جوهرا كالجواهر أولا كالجواهر والأول باطل لخمسة أوجه وإن قيل إنه جوهر لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظي فالنزاع لفظي ولا مشاحة فيه إلا من وجهة ورد التعبد من الشارع به ولا يخفي أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته
قال وعلى هذا فمن قال إنه جوهر بمعنى أنه موجود لا في موضوع والموضوع هو المحل المقوم ذاته المقوم لما يحل فيه كما قاله الفلاسفة أو أنه جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره كما قاله أبو الحسين البصري مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر فقد وافق في المعنى وأخطأ في الإطلاق من حيث إنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بأزاء القائم بنفسه لا ورد فيه إذن من الشرع
فيقال: إذا كان قول القائل: إنه جوهر لا كالجواهر وجسم لا كالأجسام موافقا لقولك في المعنى وإنما النزاع بينك وبينهم ف ياللفظ قامت حجته عليك لفظا ومعنى أما اللفظ فمن وجهين: أحداهما أنه كما أن الشارع لم يأذن في إثبات هذه الألفاظ له فلم يأذن في نفيها عنه وأنت لم تسمه سخيا لعدم إذن الشرع فليس لك أن تقول ليس بسخي لعدم إذن الشرع في هذا النفي بل إذا لم يطلق إلا ما إذن فيه الشرع لا يطلق لا هذا ولا هذا
ثم أنت تسميه قديما وواجب الوجود وذاتا ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع والشارع يفرق بين ما يدعي به من الأسماء فلا يدعي إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاة عنه ناف لما يستحقه من الصفات كما انه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبرا عنه بما يستحقه إنه قديم وواجب الوجود فإن كان النزاع مع من يقول هو جوهر وجسم في اللفظ فعذرهم في الإطلاق أن النافي ما يستحقه الرب من الصفات في ضمن نفي هذا الاسم فأثبتنا له ما يستحقه من الصفات بإثبات مسمى هذا الاسم كما فعلت أنت وغيرك في اسم قديم وذات وواجب الوجود ونحو ذلك
الثاني: أنك احتججت على نفي ذاك العرب لم ينقل عنها إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه
فيقال لك: ولم ينقل عنها إطلاقة بإزاء كل متحيز حامل للأعراض ولا نقل عنها إطلاق لفظ ذات بإزاء نفسه وإنما لفظ الذات عندهم تأنيث ذو فلا تستعمل إلا مضافة كقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } الأنفال 1 وقوله { إنه عليم بذات الصدور } الأنفال 43 وقول النبي ﷺ: [ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله ]
وقول خبيب
وذلك في ذات الإله وإن يشأ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وأمثال ذلك أي في جهة الله أي لله تعالى
ولهذا أنكر ابن برهان وغيره على المتكلمين إطلاق لفظ ذات الله
وإذا كان كذلك فأنت أطلقت لفظ الذات على ما لم تطلقه العرب بغير إذن من الشرع ولو قال لك قائل: إن الله ليس بذات نازعته فهكذا يقول منازعك في اسم الجوهر والجسم إذا كان موافقا لك على معناهما
وأيضا فإن لفظ الجوهر والجسم قد صار في أصطلاحكم جميعا أعم مما استعملت فيه العرب فإن العرب لا تسمي كل متحيز جوهرا ولا تسمي كل مشار إليه جسما فلا تسمي الهواء جسما
وفي أصطلاحكم سميتم هذا جسما كما سميتم في اصطلاحكم باسم الذات كل موصوف أو كل قائم بنفسه أو كل شيء فلستم متوقفين في الاستعمال لا على حد اللغة العربية ولا على إذن الشارع لا في النفي ولا في الإثبات
فإن لم يكن لك حجة على منازعك إلا هذا كان خاصما لك وكان حكمه فيما تنازعتما فيه كحكمكما فيما اتفقتما أو فيما انفردت به من هذا الباب
وأيضا فحكايتك عن الفلاسفة أنهم يسمونه جوهرا والجوهر عندهم الموجود لا في موضوع إنما قاله ابن سينا ومن تبعه
وأما أرسطو وأتباعه وغيرهم من الفلاسفة فيسمونه جوهرا فالوجود كله ينقسم عندهم إلى جوهر وعرض والمبدأ الأول داخل عندهم في مقوله الجوهر
والأظهر أن النصارى إنما أخذوا تسميته جوهرا عن الفلاسفة فإنهم ركبوا قولا من دين المسيح ودين المشركين الصابئين
وأما النزاع المعنوي فيقال: قول القائل إنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام لفظ مجمل فإنه قد يراد به أنه مماثل لكل جوهر وكل جسم فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه وقد يريد به أنه مماثل لها في القدر المشترك بينها كلها بحيث يجب ويجوز ويمتنع عليه ما يجب ويجوز ويمتنع على ما حصل فيه القدر المشترك منها ولو أنه واحد
فأما الأول فإنه إما أن يقول مع ذلك بتماثل الأجسام والجواهر وإما أن يقول باختلافها فإن قال بتماثلها كان قوله هو القول الثاني إذ كان يجوز على كل منها ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه باعتبار ذاته
وإن قال باختلافها امتنع مع ذلك أن يقول إنه كالأجسام فإنه من المعلوم على هذا التقدير أن كل جسم ليس هو مثل الآخر ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فكيف يقال في الخالق سبحانه إنه يجوز عليه ما يجوز على كل مخلوق قائم بنفسه حتى في الجماد والنبات والحيوان
هذا لا يقوله عاقل حتى القائلون بوحدة الوجود فهؤلاء عندهم هونفس وجود الأجسام المخلوقة ولكن هم مع هذا لا يقولون إنه يجوز على وجود جميع الموجودات ما يجوز على وجود هذا
وهذا وإن قال: إنه كالأجسام المخلوقة في القدر المشترك بينها بحيث يجوز عليه ما يجوز على المجموع لا على كل واحد واحد فهذا أيضا قول معلوم الفساد ولا نعرف قائلا معروفا يقول به فإن هذا هو التشبيه والتمثيل الذي يعلم تنزه الله عنه إذ كان كل ما سواه مخلوقا والمخلوقات تشترك في هذا المسمى فيجوز على المجموع من العدم والحدوث والافتقار ما يجب تنزيه الله عنه بل لو جاز ووجب وامتنع عليه ما يجوز ويجب ويمتنع على الممكنات والمحدثات لزم الجمع بين النقيضين فإنه يجب له الوجود والقدم فلو وجب ذلك للمحدث مع أنه لا يجب له ذلك لزم أن يكون ذلك واجبا للمحدث غير واجب له ولو جاز عليه الإمكان والعدم مع أن الواجب بنفسه القديم الذي لا يقبل العدم لا يجوز عليه الإمكان والعدم للزم أن يمتنع عليه العدم لا يمتنع عليه وأن يجب له الوجود لا يجب له وذلك جمع بين النقيضين
فتنزيه الله عما يستحق التنزيه عنه من مماثلة المخلوقين يمنع أن يشاركها في شيء من خصائصها سواء كانت تلك الخاصة شاملة لجميع المخلوقات أو مختصة ببعضها
فعلم أن القول بأنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام سواء جعل التشبيه لكل منها أو بالقدر المشترك بينها لم تقل به طائفة معروفة أصلا فإن كان النزاع ليس إلا مع هؤلاء فلا نزاع في المسألة فتبقى بحوثه المعنوية في ذلك ضائعة وبحوثه اللفظية غير نافعة مع أني إلى ساعتي هذه لم أقف على قول لطائفة ولا نقل عن طائفة أنهم قالوا جسم كالجسام مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي وبصر كبصري مقالة معروفة وقد ذكرها الأئمة كيزيد ابن هارون واحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وغيرهم وأنكروها وذموها ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله
ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الجسام بل ببعضها ولا مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه والاختلاف من وجه لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال
وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون يد كيدي وبصر كبصري وقدم كقدمي
وقد قال الله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى: 11 وقال تعالى { ولم يكن له كفوا أحد } الإخلاص: 4 وقال { هل تعلم له سميا } مريم: 65 وقال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا } البقرة: 22
وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع ن وأفردنا الكلام على قوله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى: 11 في مصنف مفرد
وأما الكلام في الجسم والجوهر ونفيهما أو إثباتهما فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك لا نفيا ولا إثباتا
والنزاع بين المتنازعين في ذلك بعضه لفظي وبعضه معنوي اخطأ هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه فإن كان النزاع مع من يقول هو جسم أو جوهر إذا قال لا كالأجسام ولا كالجواهر إنما هو اللفظ فمن قال هو كالأجسام والجواهر يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى
فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى كان قوله مردودا وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله فكل قول تضمن هذا فهو باطل
وإن فسر قوله جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه
فلا بد أن يلحظ في هذا المقام إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا وذلك مثل أن يقول أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات وبين كل حي عليم سميع بصير وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات وإلا فلو قال الرجل هو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين وعليم لا كالعلماء وسميع لا كالسمعاء وبصير لا كالبصراء ونحو ذلك واراد بذلك نفي خصائص المخلوقين فقد أصاب
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه وهو من صفات كماله فقد أخطأ
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته يقع من جهة المعنى في شيئين أحدهما انهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين
فمن قال بتماثلها قال كل من قال إنه جسم لزمه التمثيل
ومن قال إنها لا تتماثل قال إنه لا يلزمه التمثيل
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة بحسب ما ظنوه لازما لهم كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية وغثاء وغثراء ونحو ذلك ما ظنوه لازما لهم
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم لم يجز نسبتها إليه على إنها قول له سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة بل إن كانت لازمة مع فسادها دل على فساد قوله
وعلى هذا النزاع بين هؤلاء وهؤلاء في تماثل الأجسام وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبين الكلام على جميع حججهم
والثاني أن مسمى الجسم في اصطلاحهم قد تنازعوا فيه هل هو مركب من أجزاء منفردة أو من الهيولى والصورة أو لا مركب لا من هذا ولا من هذا؟
وإذا كان مركبا فهل هو جزآن أو ستة أجزاء أو ثمانية أجزاء أو ستة عشر جزءا أو اثنان وثلاثون؟
هذا كله مما تنازع فيه هؤلاء فمثبتوا التركيب المتنازع فيه في الجسم يقولون لأولئك إنه لازم لكم إذا قالوا هو جسم وأولئك ينفون هذا اللزوم
وقد يكون في المجسمة من يقول إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة وينازعهم في امتناع مثل هذا التركيب عليه ويقول لا حجة لكم على نفي ذلك إلا ما اقمتموه من الأدلة على كون الأجسام محدثة أو ممكنة وكلها أدلة باطلة كما بسط في موضعه
وبينهم نزاع في أمور أخرى ينازعهم فيها من لا يقول هو جسم مثل كونه فوق العالم أو كونه ذا قدر أو كونه متصفا بصفات قائمة به فالنفاة يقولون هذه لا تقوم إلا بجسم وأولئك قد ينازعونهم في هذا أو بعضه وينازعونهم في إتنفاء هذا المعنى الذي سموه جسما فهم ينازعون إما في التلازم وإما في انتفاء اللازم
إذا تبين أن هذه الأمور كلها ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة فإن الحجج الثمانية التي ذكرها الآمدي على نفي الجوهر وأربعة مختصة بالجسم
درء تعارض العقل والنقل | |
---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 |