درء تعارض العقل والنقل/28

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كلام الرازي في الرد على الحلولية[عدل]

واعتبر ذلك بما ذكره الرازي في الرد على الحلولية فإنه لما ذكر الكلام: ( في أنه يمتنع حلول ذاته أو صفة من صفاته في شيء ) ذكر: أن النصارى تقول بالحلول تارة والتحاد تارة أخرى ) قال: ( والحلول باطل لأن الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقرا إلى المحل فحلوله بصفة الجواز ينفي افتقار الحال إلى المحل وبصفة الوجوب يقتضي افتقار الواجب إلى غيره وحدوثه أو قدم المحل )

قال: ( فإن قلت: أنه قد يقتضي الحلول بشرط وجود المحل أو المحل يقتضي حلوله فيه فلم يلزم قدم المحل ولا حلول الواجب

قلت: كلاهما يمنع وجوب الحلول والاتحاد باطل لأن المتحدين إن بقيا عند الاتحاد أو عدما وحصل ثالث فلا اتحاد فإن بقي أحدهما دون الآخر فلا اتحاد لامتناع كون المعدوم عين الموجود )

قال الرازي: ( ناظرت بعض النصارى فقلت: تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول؟ قال: نعم فقلت: فما الدليل على أنه تعالى لم يحل في بدن زيد ولا عمرو والذبابة والنملة؟ فقال: لأنه ثبت في حق عيسى أنه أحيى الأموات وأبرأ الأكمه والأبرص ولم يوجد في حق غيره فقلت له: فقد سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ولأنه ظهر على يد موسى قلب العصا ثعبانا وانقلاب الخشبة ثعبانا أعجب من انقلاب الميت حيا فهو أولى بالدلالة على الحلول في الجملة )

قال: ( وبالجملة مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: ما ذكره من إبطال الحلول بإلزام النصارى كلام صحيح ولكن هذا إنما يستقيم على قول أهل الإثبات المثبتين لمباينته للعالم فأما على قول الجهمية النفاة فلا تستقيم هذه الحجة

وذلك أن الحلول على وجهين :

أحدهما: أهل الحلول الخاص كالنصارى والغالية من هذه الأمة الذين يقولون بالحلول إما في علي وإما في غيره

الثاني: القائلون بالحلول العام الذين يقولون في جميع المخلوقات نحوا مما قالته النصارى في المسيح عليه السلام أو ما هو شر منه ويقولون: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا كما يقول ذلك الاتحادية أصحاب صاحب ( الفصوص ) وأمثاله وهم كثيرون في الجهمية

بل عامة عباد الجهمية وفقهائهم وعامة الذين ينتسبون إلى التحقيق من الجهمية هم من هؤلاء كابن الفارض وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأمثالهم

فإذا قال الجهمي الذي يقول: إنه في كل مكان ويقول مع ذلك بأن وجوده غير وجود المخلوقات أو يقول بالاتحاد من وجه والمباينة من وجه كما هو قول ابن عربي وأمثاله كما حكى الإمام أحمد عنهم يقول: إنه في كل مكان لا مماس للأمكنة ولا مباين لها وأنه حال في العالم أو متحد به لا كحلول الأعراض والأجسام في الأجسام وأشباه ذلك

فاحتج موافقوهم على نفي المباينة كالرازي وأمثاله بما ذكروه من قولهم: الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقرا إلى المحل فإما أن يكون الحلول جائزا أو واجبا فإن كان جائزا انتفى افتقاره إلى المحل فلزم الجمع بين النقيضين: أن يكون مفتقرا إلى المحل غير مفتقرا إليه لكون حلوله جائزا لا واجبا وإن كان الحلول واجبا لم يكن الحال واجبا بنفسه بل بغيره

قال لهم الحلولية: قولكم الحلول المعقول يقتضي افتقار الحال إلى المحل إنما يكون إذا كان الحال عرضا فضلا عن أن يكون جسما فضلا عن أن يكون لا جسما ولا عرضا فأما إذا قدر حال ليس بجسم ولا عرض فلم قلتم: إن حلوله يقتضي افتقاره إلى المحل؟ وقالوا لهم: إذا جوزتم وجود موجود لا مباين لغيره ولا حال فيه فلم لا يجوز وجود موجود حال في غيره ليس مفتقرا إليه؟

فإذا قلتم: لا نعقل حالا في شيء إلا مفتقرا إليه

قيل لكم: هذا كما قلتموه للمثبتة: هذا من حكم الهم والخيال لما قال المثبتة: لا نعقل موجودا إلا مباينا لغيره أو محايثا له

وهذا هو السؤال الذي أورده أحمد من جهة الجهمية حيث قالوا: ( هو في كل مكان: لا مماس ولا مباين فضلا عن أن يقولوا: مفتقرا فإن الافتقار إنما يعقل في حلول الأعراض فأما حلول الأعيان القائمة بأنفسها في الأعيان القائمة بأنفسها فلا يجب فيه الافتقار

والقائلون بالحلول إنما يقولون: هو حلول عين في عين لا حلول صفة في محل فلهذا قال لهم الإمام أحمد وأمثاله: أهو مماس أو مباين؟ فإذا سلبوا هذين المتقابلين تبين مخالفتهم لصريح العقل وكانت هذه الحجة عليهم خيرا من حجة الرازي حيث أنه نفى حلول العرض في محله فإن هذا لم يقله أحد

وكذلك ما نفاه من الاتحاد ليس فيه حجة على ما ادعوه من الاتحاد فإنهم لا يقولون ببقائهما بحالهما ولا ببقاء أحدهما وإنما يشبهون الاتحاد باتحاد الماء واللبن والماء والخمر واتحاد النار والحديد

فقوله: ( هذا ليس باتحاد ) نزاع لفظي فهم يسمون هذا اتحادا فلا بد من بيان بطلان ما أثبتوه من الحلول والاتحاد وإلا كان الدليل منصوبا في غير محل النزاع

أما الأئمة الذين ردوا على الحلولية فأبطلوا نفس ما ادعوه وإن كان هؤلاء لا يقرون بأنا نقول بالحلول كما لا يقر القائلون بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بالتعطيل فلزوم الحلول لهؤلاء كلزوم التعطيل لهؤلاء والتعطيل شر من الحلول

ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا لأن العقول تنفر عن التعطل أعظم من نفرتها عن الحلول وتنكر قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم مما تنكر أنه في كل مكان فكان السلف يردون خير قوليهم وأقربهما إلى المعقول وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطرق الأولى

ومن العجب أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينسبون المثبتين للصفات إلى قول النصارى كما قد ذكر ذلك عنهم أحمد وغيره من العلماء

وبهذا السبب وضعوا على ابن كلاب حكاية راجت على بعض المنتسبين إلى السنة فذكروها في مثالبه وهو أنه كان له أخت نصرانية وأنها هجرته لما أسلم وأنه قال لها: أنا أظهرت الإسلام لأفسد على المسلمين دينهم فرضيت عنه لأجل ذلك

وهذه الحكاية إنما افتراها بعض الجهمية من المعتزلة ونحوهم لأن ابن كلاب خالف هؤلاء في إثبات الصفات وهم ينسبون مثبتة الصفات إلى مشابهة النصارى وهو أشبه بالنصارى لأنه يلزمهم أن يقولوا: إنه في كل مكان وهذا أعظم من قول النصارى أو أن يقولوا ما هو شر من هذا وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه

ولهذا كان غير واحد من العلماء كعبد العزيز المكي وغيره يردون عليهم بمثل هذا ويقولون: إذا كان المسلمون كفروا من يقول: إنه حل في المسيح وحده فمن قال بالحلول في جميع الموجودات أعظم كفرا من النصارى بكثير

وهم لا يمكنهم أن يردوا على من قال بالحلول إن لم يقولوا بقول أهل الإثبات القائلين بمباينته للعالم فيلزمهم أحد الأمرين: إما الحلول وإما التعطيل والتعطيل شر من الحلول ولا يمكنهم إبطال قول أهل الحلول مع قولهم بالنفي الذي هو شر منه وإنما يمكن ذلك لأهل الإثبات

وهم وإن قالوا: إن مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه فلا يقدرون على إبطاله مع قولهم بالتجهم ولهذا لم يكن فيما ذكروه حجة على إبطاله فيلزمهم: إما إمكان تصحيح قول النصارى والحلولية وإما إبطال قولهم وهذا لا حيلة فيه لمن تدبر ذلك

وهب أنهم يمكنهم إبطال قول النصارى في تخصيصهم المسيح بالحلول والاتحاد حيث يقال: إذا جوز الحلول والاتحاد بالمسيح جاز بغيره فإن القائلين بعموم الحلول والاتحاد يلتزمون هذا ويقولون: النصارى كفرهم لأجل التخصيص وكذلك عباد الأصنام إنما أخطأوا من حيث عبدوا بعض المظاهر دون بعض والعارف المحقق عندهم من لا يقتصر على بعض المظاهر والمجالي بل يعبد كل شيء كما قد صرح بذلك ابن عربي صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم وأمثاله من أئمة هؤلاء الجهمية القائلين بوحدة الوجود الذين هم محققو أهل الحلول والاتحاد ولهذا كان هؤلاء لهم الظهور والاستطالة على نفاة الحلول والمباينة جميعا بل هؤلاء يخضعون لأولئك ويعتقدون فيهم ولاية الله وينصرونهم على أهل الإيمان القائلين بمباينة الخالق للمخلوق كما قد رأيناه وجربناه

وسبب ذلك أن قول هؤلاء الحلولية والاتحادية مسقف بالتأله والتعبد والتصوف والأخلاق ودعوى المكاشفات والمخاطبات ونحو ذلك مما لا يكاد يفهمه أكثر النفاة فإذا كانوا لا يفهمون حقيقة قولهم سلموا إليهم ما يقولونه وظنوا أن هذا من جنس كلام أكابر أولياء الله الذين أطلعهم الله من الحقائق على ما يقصر عنه عقول أكثر الخلائق وسلموا لهم ما لا يفهمونه من أقوالهم كما يسلمون للنبي ما لا يفهمونه من أقواله فيعظمون هؤلاء كما يعظمون الرسول بمثابة من صدق محمدا رسول الله ومسيلمة الكذاب: صدق كلا منهما في أنه رسول كحال أهل الردة الذين آمنوا بمسيلمة المتنبي مع دعواهم أنهم مؤمنون بمحمد رسول الله ولا يعرفون ما بين قول هذا وقول هذا من المناقضة والمنافاة لعدم تحققهم في الإيمان بمحمد رسول الله

فهكذا نفاة العلو والصفات من الجهمية أو نفاة العلو وحده إذا سمعوا النصوص الإلهية المثبتة للعلو والصفات أعرضوا عن فهم معناها وإثبات موجبها ومقتضاها وآمنوا بألفاظ لا يعرفون مغزاها وآمنوا للرسول إيمانا مجملا بأنه لا يقول إلا حقا ولم يكن في قلوبهم من العلم بمباينة الله لخلقه وعلوه عليهم ما ينفون به بدعة الحلولية والاتحادية وأمثالهم لأن أحد المتقابلين إنما يرتفع عن القلب بإثبات مقابله وأحد النقيضين لا يزول عن القلب زوالا مستقرا إلا بإثبات نقيضه

فإذا كان حقيقة الأمر أن الرب تعالى إما مباين للعالم وإما مداخل له كان من لم يثبت المباينة لم يكن عنده ما ينافي المداخلة بل إما أن يقر بالمداخلة وإما أن يبقى خاليا من اعتقاد المتقابلين المتناقضين ولا يمكنه مع عدم اعتقاد نقيض قول أن يعتقد فساده ولا ينكره ولا يرده بل يبقى بمنزلة من سمع أن محمدا قال: إنه رسول الله وأن مسيلمة قال: إنه رسول الله وهو لم يصدق واحدا منهما ولم يكذب واحدا منهما فمثل هذا يمتنع أن يرد على مسيلمة أو يكذبه

فهكذا من كان لم يقر بأن الخالق تعالى مباين للمخلوق لم يمكنه أن يناقض قول من يقول بالحلول والاتحاد بل غايته أن لا يوافقه كما لم يوافق قول أهل الإثبات فهو لم يؤمن بما قاله محمد رسول الله والمؤمنون به ولا بما قاله مخالفوه الدجالون الكذابون من أهل الحلول والاتحاد وغيرهم من نفاة العلو

وقول النفاة للمباينة والمداخلة جميعا لما كان في حقيقة الأمر نفيا للمتقابلين المتناقضين بمنزلة قول القرامطة الذين يقولون: لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز - كان قولهم في العقل أفسد من قول من لا يؤمن بمحمد ولا بمسيلمة فإن كلاهما مبطل لكن بطلان سلب النقيضين وما هو في معنى النقيضين أبين في العقل من الإقرار بنبوة رسول من رسل الله صلى الله عليهم أجمعين فلهذا لا تكاد تجد أحدا من نفاة المباينة والمداخلة جميعا أو من الواقفة في المباينة يمكنه مناقضة الحلولية والاتحادية مناقضة يبطل بها قولهم بل أي حجة احتج بها عليهم عارضوه بمثلها وكانت حجتهم أقوى من حجته

فإذا قال لهم: لا يعقل الحلول إلا حلول العرض فيكون الحال مفتقرا إلى المحل أو قال ما هو أبلغ من هذا مما احتج به الأئمة عليهم: لو كان حالا لم يخل من المباينة والمماسة فإن القائم بنفسه إذ حل في القائم بنفسه لم يخل من هذا وهذا - قالوا للنفاة: هذا إنما يكون إذا كان الحال متخيرا أو قائما بمتحيز أو قالوا: هذا هو المعقول من حلول الأجسام وأعراضها فأما إذا قدرنا موجودا قائما بنفسه ليس بجسم ولا متحيز لم يمتنع أن يكون حالا بلا افتقار إلى المحل ولا مماسة ولا مباينة

فإن قال إخوانهم من النفاة للعلو والمباينة: هذا لا يعقل

قالوا لهم: إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه ولا مباين للعالم ولا محايث له ولا داخل فيه ولا خارج عنه وعرضنا على العقل وجود موجود في العالم: قائم بنفسه لا مماس له ولا مباين له وليس بجسم ولا متحيز أو وجود موجود مباين له وليس بجسم ولا متحيز - كان هذا أقرب إلى العقل

وذلك أن وجود موجود لا يشار إليه ولا يكون محيزا: لا جسما ولا جوهرا: إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قول من يثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه وكان حينئذ قول من أثبت موجودا خارج العالم أو داخله وقال: إنه لا يشار إليه - أقل فسادا في العقل من هذا وإن كان وجود موجود لا يشار إليه وولا يكون جسما ولا متحيزا ممكنا في العقل فمن المعلوم إذا قيل مع ذلك: إنه خارج العالم لم يجب أن يشار إليه ولا يكون جسما منقسما ولا مطابقا موازيا محاذيا للعرش لا أكبر ولا أصغر ولا مساويا

وإن قيل مع ذلك: إنه حال في العالم لم يجز أن يقال: إنه مماس أو مباين لأن المماسة والمباينة عندهم من عوارض الجسم المشار إليه فما لا يكون جسما لا يشار إليه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا وإذا كان قائما بنفسه لا يشار إليه امتنع أن يقال: هو عرض أو كالعرض المفتقر إلى المحل بل إثبات ما لا يشار إليه وهو داخل العالم أو خارجه أقرب إلى ما تثبته العقول من إثبات ما لا يشار إليه ولا هو داخل العالم ولا خارجه

ومما يقرر هذه الحجج: أن هؤلاء النفاة لما أرادوا بيان إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأن نفي ذلك ليس معلوما بضرورة العقل - احتجوا على ذلك بإثبات الكليات واحتجوا بأن الفلاسفة وطائفة من متكلمي المسلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية أثبتوا النفس وقالوا: إنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا توصف بحركة ولا سكون ولا مباينة لغيرها ولا حلول فيه

قالوا: وقول هؤلاء ليس معلوم الفساد بالضرورة والمثبتون لما طلبوا بيان فساد قولهم بينوا أن الكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان وأن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة حتى عند جماهير المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم

والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء: إذا جوزتم إثبات الكليات لا داخل العالم ولا خارجه مع أنها متعلقة بمعينات بل جعلتموها جزءا من المعينات حيث قلتم: المطلق جزء من المعين وجوزتم وجود نفوس مجردات عقلية لا داخل العالم ولا خارجه مع أنها متعلقة بأبدان بني آدم تعلق التدبير والتصريف وجوزتم أيضا وجود نفس فلكية كذلك على أحد قوليكم فما المانع أن يكون واجب الوجود مع تدبيره وتصريفه للعالم متعلقا به تعلق النفوس بالأبدان وتعلق الكليات بالأعيان

والنصارى لا يصلون إلى أن يقولوا: إن اللاهوت في الناسوت كالنفس في البدن بل مباينة اللاهوت للناسوت عندهم أعظم من مباينة النفس للبدن فإذا جوزتم ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه مع تعلقه بالأبدان أعظم من تعلق اللاهوت بالناسوت عند النصارى أمكن أن يكون واجب الوجود متعلقا بالأبدان بل الموجودات كلها كذلك وكان قول الجهمية الذين يقولون: إن اللاهوت في كل مكان أقرب إلى المعقول من قول من يقول: إن المجردات في الأبدان والأعيان

ومما يزيد الأمر وضوحا أن هؤلاء الفلاسفة المشائين ومن وافقهم من المتكلمة والمتصوفة يثبتون خمس أنواع من الجواهر: واحد منها هو الجوهر الذي يمكن إحساسه وهو الجسم في اصطلاحهم وأربعة: هي جواهر عقلية لا يمكن الإحساس بها وهي: العقل والنفس والمادة والصورة مع اتفاقهم على أن الأجسام المحسوسة مركبة من المادة والصورة وهما جوهران عقليان كما يقولون: إن الأعيان المعينة المحسوسة فيها كليات طبيعية عقلية هي أجزاء منها

فإذا كان هؤلاء يثبتون في الجواهر المحسوسة معها جواهر عقلية لا ينالها الحس بحال ويجعلون هذا حالا وهذا محلا - لم يمكنهم مع ذلك أن ينكروا كون الوجود الواجب هو حالا أو محلا لهذه المحسوسات

وهذا هو الذي انتهى إليه محققوهم كابن سبعين وأمثاله فإنهم جعلوا الوجود الواجب مع الممكن - كالمادة مع الصورة وكالصورة مع المادة أو ما يشبه ذلك - يجعلون الوجود الواجب جزءا من الممكن كما أن المطلق جزء من المعين حتى أن ابن رشد الحفيد وأمثاله يجعلون الوجود الواجب كالشرط في وجود الممكنات الذي لا يتم وجود الممكنات إلا به مع أن الشرط قد يكون وجوده مشروطا بوجود المشروط فيكون كل منهما شرطا في وجود الآخر

كلام ابن عربي في فصوص الحكم عن علاقة الواجب بالممكن[عدل]

وهذه حقيقة قولهم: يجعلون الواجب مع الممكن كل منهما مفتقر إلى الآخر ومشروط به كالمادة والصورة فابن عربي يجعل أعيان الممكنات ثابتة في العدم والوجود الواجب فاض عليها فلا يتحقق وجوده إلا بها ولا تتحقق ماهيتها إلا به وبنى قوله على أصلين فاسدين

أحدهما: أن الوجود واحد ليس هنا وجودان أحدهما واجب بنفسه والآخر بغيره

والثاني: أن وجود كل شيء زائد عن حقيقته وماهيته وأن المعدوم شيء موافقة لمن هذا وهذا: من المعتزلة والفلاسفة ومن وافقهم من متأخري الأشعرية فالحقائق والذوات عنده ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها فكان كل منهما مفتقرا إلى الآخر ولهذا يقول: إن الحق يتصف بجميع صفات المخلوقات من النقائص والعيوب وأن المخلوق يتصف بجميع صفات الله تعالى من صفات الكمال كما قال: ( ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي من أولها إلى آخرها صفات له كما أن صفات المحدثات حق للحق )

ولهذا قال: ( فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة :

{ فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر } [ الصافات: 102 ] فالولد عين أبيه فما رأى يذبح غير نفسه { وفديناه بذبح عظيم } [ الصافات 107 ] فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان بل بحكم ولد من هو عين الوالد { وخلق منها زوجها } [ النساء: 1 ] فما نكح سوى نفسه )

وقال: ( فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده )

وقال: ( ولما كان فرعون في مرتبة الحكم قال: { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات: 24 ] أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا بذلك وقالوا: { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } { فاقض ما أنت قاض } [ طه: 72 ] فالدولة لك فصح قوله: { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات: 24 ] وإن كان عين الحق )

وقال: ( فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع فكان عتاب موسى على أخيه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء )

وقال في قصة قوم نوح: { ومكروا مكرا كبارا } [ نوح: 22 ] لأن الدعوة إلى مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية )

وقوله: ( ادعوا إلى الله عين المكر فأجابوه مكرا كما دعاهم مكرا ) فقالوا في مكرهم: { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } [ نوح: 23 ] فإنهم إذا تركوا هؤلاء جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن الحق في كل معبود وجها يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله كما قال في المحمديين: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء: 23 ]: أي حكم الله

وفسر قوله: قضى بمعنى قدر لا بمعنى أمر

قال: ( وما حكم الله بشيء إلا وقع )

( والعارف يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود )

وأمثال هذا الكلام كثير في كلام هذا وأمثاله كابن سبعين الذي حقق قول هؤلاء الفلاسفة تحقيقا لم يسبق إليه وكان آخر قوله: ( وأن الله في النار نار وفي الماء ماء وفي الحلو حلو وفي المر مر وأنه في كل شيء تصوره ذلك الشيء ) كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع

وكذلك ابن حموية الذي يتكلم بنحو هذا في مواضع من كلامه

وكذلك ابن الفارض في قصيدته المشهورة التي يقول فيها :

لها صلواتي بالمقام أقيمها... وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل واحد ساجد إلى... حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم تكن... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة

إلى أن قال :

وما زلت إياها وإياي لم تزل... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

إلي رسولا كنت مني مرسلا... وذاتي بآياتي علي استدلال

فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن... منادي أجابت من دعاني ولبت

وقد رفعت تاء المخاطب بيننا... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي

وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج... هدى فرقة بالاتحاد تحدث

فإن العارف المحقق من هؤلاء يقول: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه فهو المرسل والمرسل إليه والرسول ويقول من هو من أكبر من أضلوه من أهل الزهادة والعبادة مع الصدق في تسبيحاته وأذكاره: ( الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله )

ويقول أيضا ( نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه ) ويكرر ذلك كما يكرر المسلمون: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر

وعنده أن غاية هذا التحقيق والعرفان

ويجيء من هو من أفضل المتكلمين من النفاة للعلو: يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض أو أفضلهم ويأخذ ورقة فيها سر مذهبه ويرقي بها المرضي كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب كما أخبرنا بذلك الثقاة وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب

ويقول من هو من شعرائهم العارفين :

وما أنت غير الكون بل أنت عينه... ويشهد هذا السر من هو ذائق

ويقول :

وتلتذ إن مرت على جسدي يدي... لأني في التحقيق لست سواكم

وأمثال هذا كثير

والمتكلمة النفاة منهم من يوافق هؤلاء ومنهم من لا يوافقهم ومن وافقهم يقال له: أين ذاك النفي - لا داخل ولا خارج - من هذا الإثبات؟ وهو أنه وجود كل موجود

فيقول: هذا حكم عقلي وهذا حكم ذوقي أو يرجع عن ذلك النفي ويقول: المطلق جزء من المعينات والوجود الواجب للموجودات: مثل الكلي الطبيعي للأعيان كالجنس لأنواعه والنوع لأشخاصه كالحيوانية في الحيوانات والإنسانية في الأناسي وهذا غايته أن يجعله شرطا في وجود الممكنات لا مبدعا فاعلا لها فإن الكليات لا تبدع أعيانها بل غايتها إذا كانت موجودة في الخارج أن تكون شرطا في وجودها بل جزءا منها

ومن لا يوافقهم أكثرهم يسلمون لهم أقوالهم أو يقولون: نحن لا نفهم هذا أو يقولون: هذا ظاهره كفر لكن قد تكون له أسرار وحقائق يعرفها أصحابها

ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان المنكرين للحلول والاتحاد وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين

فإن قول المشركين الذين يقولون: إنما نعبدهم: { ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر: 3 ] خير من قول هؤلاء فإن هؤلاء أثبتوا خالقا ومخلوقا غيره يتقربون به إليه وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق

وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول: العالم لا هو الله ولا غير الله

ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة وجرى فيها ما جرى من الأحوال ونصر الله الإسلام عليهم طلبنا شيوخهم لنتوبهم فجاء من كان من شيوخهم وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكنه أن يقول لنا ليسلم من العقاب فقلنا له: العالم هو الله أو غيره؟ فقال: لا هو الله ولا غيره

وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا كان من أعيان شيوخهم ومحققيهم وممن لا أتباع ومريدون وله ولأصحابه سلطان ودولة ومعرفة ولسان وبيان حتى أدخلوا معهم من ذوي السلطان والقضاة والشيوخ والعامة ما كان دخولهم في ذلك سببا لانتقاص الإسلام ومصيره أسوأ من دين النصارى والمشركين لولا ما من الله به من نصر الإسلام عليهم وبيان فساد أقاويلهم وإقامة الحجة عليهم وكشف حقائق ما في أقوالهم من التلبيس الذي باطنه كفر وإلحاد لا يفهمه إلا خواص العباد

والمقصود هنا أن الحلولية إذا أراد النفاة للمباينة والحلول جميعا - من متكلمة الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية كابن سينا والرازي وأبي حامد وأمثالهم - أن يردوا عليهم حجة عقلية تبطل قولهم لم يمكنهم ذلك كما تقدم بل يلزم من تجويزهم إثبات وجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية ولهذا لا تجد في النفاة من يرد على الحلولية ردا مستقيما بل إن لم يكن موافقا لهم كان معهم بمنزلة المخنث كالرافضي مع الناصبي فإن الرافضي لا يمكنه أن يقيم حجة على الناصبي الذي يكفره علنا أو يفسقه فإنه إذا قال للرافضي: بماذا علمت أن عليا مؤمن ولي الله من أهل الجنة قبل ثبوت إمامته وهذا إنما يعلم بالنقل والنقل إما متواتر وإما آحاد

فإن قال له الرافضي: بما تواتر من إسلامه ودينه وجهاده وصلاته وغير ذلك من عباداته قال له: وهذا أيضا متواتر عن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة وأنت تعتقد كفرهم أو فسقهم

وقال له أيضا: أنت تقول: إن عليا كان يستجيز التقية وأن يظهر خلاف ما يبطن ومن كان هذا قوله أمكن أن يظهر الإسلام مع نفاقه في الباطن

فإن قال الرافضي للناصبي: علمت ذلك بثناء النبي وشهادته له بالإيمان والجنة كقوله: [ لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ] وقوله: [ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ] ونحو ذلك

قال له الناصبي: قد نقل أضعاف ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وأنت تطعن في تلك المنقولات أو تقول: إنهم ارتدوا بعد موته فما يؤمنك إن كان قولك في هؤلاء صحيحا أن يكون علي ذلك؟

وأيضا فهذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تذكر أنت كفرهم وفسقهم والكافر والفاسق لا تقبل روايته

فإن قال: هذه نقلها الشيعة

قال له الناصبي: الشيعة لم يكونوا موجودين على عهد النبي وهم يقولون: إن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا: إما عشرة أو أقل أو أكثر ومثل هؤلاء يجوز عليهم المواطأة على الكذب

فإن قال: أنا أثبت إيمانه بالقرآن كقوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } [ التوبة: 100 ] وقال: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح: 29 ]

وقال: { وكلا وعد الله الحسنى } [ النساء: 95 ]

وقوله: { لقد رضي الله عنها المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } [ الفتح: 18 ] قال له الناصبي: هذه الآيات تتناول أبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار كما تتناول عليا ليس في ظاهرها ما يخص عليا فإن جاز أن يدعي خروج هؤلاء منها أو أنهم دخلوا فيها ثم خرجوا بالردة أمكن الخوارج الذين يكفرون عليا أن يقولوا مثل ذلك

والمقصود هنا أن الرافضة لا يمكنهم إقامة حجة صحيحة على الخوارج وإنما يتمكن من ذلك أهل السنة والجماعة الذين يقرون بعموم هذه الآيات وتناولها لأهل بيعة الرضوان كلهم ويقرون بالأحاديث الصحيحة المروية في فضائل الصحابة وأنهم كانوا صادقين في روايتهم فهم الذين يمكنهم الرد على الخوارج والروافض بالطرق الصحيحة السليمة على التناقض

وهكذا الرد على الحلولية وبيان إبطال قولهم بالحق إنما يتمكن منه أهل السنة المثبتة لعلو الله على خلقه ومباينته لهم فإن قول هؤلاء نقيض قول الحلولية ومن علم ثبوت أحد النقيضين أمكنه إبطال ما يقابله بخلاف قول النفاة فإنه متضمن رفع النقيضين أو ما هما في معنى النقيضين ورفع النقيضين أشد بطلانا من المناقض الباطل فإن رفعهما يعلم امتناعه بصريح العقل وأما انتفاء أحدهما فهو أخفى في العقل من رفعهما فمن رفع النقيضين أو ما في معناهما لم يمكنه إبطال قول من أثبت أحدهما وما من حجة يحتج بها من رفع المتقابلين إلا ويمكن ممن أثبت أحدهما أن يحتج عليه بما هو أقوى منها من جنسها

ولهذا كان إطباق العقول السليمة على إنكار قول النفاة المتقابلين أعظم من إطباقها على إنكار قول الحلولية لأن الموجود الواجب الوجود كلما وصف بصفات المعدومات الممتنعات كان اعظم بطلانا وفسادا من وصفه بما هو أقرب إلى الموجود

ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح ولا توجب كمالا للموصوف إلا أن تتضمن أمرا وجوديا كوصفه سبحانه بأنه لا تأخذه ولا نوم فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته

وكذلك قال تعالى: { وما مسنا من لغوب } [ ق: 38 ] متضمن كمال قدرته

وقوله: { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } [ سبأ: 3 ] يقتضي كمال علمه

وكذلك قوله: { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام: 103 ] يقتضي عظمته بحيث لا تحيط به الأبصار

وكذلك نفي المثل والكفو عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك له ولك يقتضي من كماله ما لا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه مشارك له في الصنع فإن ذلك نقص في الصانع فأما العدم المحض والنفي الصرف مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال وكونه لا مباينا للعالم ولا مداخلا له فإن هذا أمر يوصف به المعدوم لا يمكن رؤيته بحال وليس هو مباينا للعالم ولا مداخلا له والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح ولهذا كان تنزيهه الله تعالى بقوله: ( سبحان الله ) يتضمن مع نفي صفات النقص عنه إثبات ما يلزم ذلك من عظمته فكان التسبيح تعظيم له مع تبرئته من السوء

ولهذا جاء التسبيح عند العجائب الدالة على عظمته كقوله تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } [ الإسراء: 1 ] وأمثال ذلك

ولما قال: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات: 180 ] كان تنزيهه عما وصفوه به متضمنا لعظمته اللازمة لذلك النفي

وإذا كان كذلك فنفاة النقيضين وما هو في معنى النقيضين لم يتضمن وصفهم له بذلك شيئا من الإثبات ولا التعظيم بخلاف القائلين بالحلول في جميع الأمكنة فإنهم يصفونه بما فيه تعظيم له

ولهذا من يقول من يعذر الطائفتين: إن هؤلاء قصدوا تنزيهه وهؤلاء قصدوا تعظيمه فإذا كان التنزيه إن لم يتضمن تعظيما لم يكن مدحا كان من وصفه بما فيه تعظيم أقرب إلى المعقول ممن وصفه بما يشركه فيه المعدوم من غير أن يكون فيه تعظيم فلم يكن أولئك النفاة أن يبطلوا حج هؤلاء المعظمين له وإذا ردوا عليهم ببيان ما في قولهم من إثبات ما لا يعقل أو التناقض قالوا لهم: إن في قولهم من إثبات ما لا يعقل ومن التناقض ما هو أعظم من ذلك

فإن قال النفاة: هؤلاء الحلولية قد أثبتوا حلولا يقتضي افتقاره إلى المحل كالصورة مع المادة وكالوجود مع الثبوت ونحو ذلك مما يقتضي أن أحدهما محتاج إلى الآخر نحن قد بينا: إنما يعقل الحلول إذا كان الحال محتاجا إلى المحل وذلك باطل لأن ذلك يناقض وجوبه كما تقدم فقد أبطلنا قول هؤلاء

قيل عن هذا جوابان :

أحدهما: أنه ليس كل من قال بالحلول يقول افتقاره إلى المحل بل كثير من القائلين بالحلول يقولون: إنه في كل مكان مع استغنائه عن المحل وهو قول النجارية وكثير من الجهمية وقول من يقول بالحلول الخاص كالنصارى وغيرهم

الثاني: أنه بتقدير أن يكون الحلول مستلزما للافتقار فأنتم لم تثبتوا غناه عما سواه فإن طريقة الرازي والآمدي وأمثالهما في إثبات الصانع هي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وهذه الطريقة لا تدل على إثبات موجود قائم بنفسه واجب الوجود

وإن قيل: إنها تدل على ذلك فلم تدل على أنه مغاير للعالم بل يجوز أن يكون هو العالم

ومن طريقهم قال هؤلاء بوحدة الوجود فإن طريقتهم المشهورة: أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن الممكن لا بد له من واجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين وهذا القدر يدل على أنه لا بد من وجود واجب ومن قال: كل موجود واجب فقد وفى بموجب هذه الحجة ومن قال: إن الوجود الواجب مع الممكن كالصورة مع المادة أو كالوجود مع الثبوت فقد وفى بموجب هذه الحجة بل لا يمكنهم إثبات لوجود واجب مغاير للممكن إن لم يثبتوا أن في الوجود ما هو ممكن يقبل الوجود والعدم

وهم يدعون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديما أزليا ولا يمكنهم إقامة دليل على ثبوت الإمكان بهذا الاعتبار

ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات الإمكان استدلوا بأن الحادث لا بد له محدث وأن الحوادث مشهودة

وهذا حق لكنه يدل على أن المحدث لا بد له من قديم فيلزم ثبوت قديم لكن لا يلزم من ذلك عندهم أن يكون واجب الوجود ثابتا إلا بذلك التقسيم إذ كانوا يجوزون على القديم أن يكون ممكن الوجود فإذا قالوا: القديم إن كان ممكنا فلا بد له من واجب لم يمكنهم إثبات واجب إلا بإثبات هذا الممكن وهذا ممتنع وهو أيضا مستلزم للدور فإنه لا يمكنهم إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن الوجود ولا يمكن إثبات ممكن الوجود إلا بإثبات أن المحدث ممكن وله فاعل وذلك لا يستلزم إلا إثبات قديم والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود فلا يمكنهم أن يثبتوا واجب الوجود حتى يثبتوا ممكن الوجود والذي قد يكون قديما وهذا لا يمكن إثباته إلا بإثبات الممكن الذي هو حادث وهذا لا يدل إلا على إثبات قديم والقديم عندهم لا يستلزم أن يكون واجب الوجود

وأيضا فإذا أثبتوا واجب الوجود فإنهم لم يثبتوا أنه مغاير لهذه المشهودات إلا بطريقة التركيب وهي باطلة

وحينئذ فيمكن أن يقول لهم أهل الحلول: الواجب هو حال وإيضاح ذلك أنهم قسموا الوجود إلى واجب وممكن لكن جعلوا الممكن منه ما هو قديم ومنه ما هو محدث وحينئذ فلا يمكن إثبات الواجب إلا بإثبات هذا الممكن وهذا الممكن لا يمكن إثباته

وأيضا فهم لا يثبتون الممكن إلا بإثبات الحادث والحادث لا بد له من القديم والقديم لا يستلزم أن يكون واجبا

وإذا قالوا: القديم إن كان واجبا ثبت الواجب وإن كان ممكنا ثبت الواجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين

قيل: هذا إذا صح لزم أنه لا بد من واجب كما أن الموجود مستلزم أنه لا بد من واجب وهذا مما لا نزاع فيه لكنه لا يدل على إثبات صانع لا على أنه مغاير للأفلاك ولا على أنه ليس بحال بل يستلزم أنه لا بد من موجود يمتنع عدمه وهذا مما يوافق عليه منكرو الصانع والقائلون بقدم العالم وأهل الحلول وغيرهم فتبين أنه ليس في كلامهم إبطال مذهب الحلول

والمقصود هنا أن السلف والأئمة كانوا يردون على من أقوال النفاة ما هو أقرب إلى الإثبات فيكون ردهم لما هو أقرب إلى النفي بطريق الأولى وقول النفاة لمباينته للعالم ومداخلته له أبعد عن العقل من قول المثبتين لأنه قائم بنفسه في كل مكان مع نفي مماسته ومباينته

والسلف ردوا هذا وهذا وكان ذلك تنبيها على إبطال الحلول بمعنى حلول العرض في المحل لكن هذا لم يقل به أحد وإن كان النفاة لم يمكنهم إلا إبطاله خاصة دون أقوال أهل الحلول المعروفة عنهم

ومما يبين هذا أن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه قديم أزلي لا يجوز عليه العدم ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه

فالنفاة تصفه بهذه الصفات السلبية: أنه لا مباين للعالم ولا مداخل ولا فوق ولا تحت ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء وأمثال ذلك بل ويقولون أيضا: إنه لا تمكن رؤيته ولا غير ذلك من الإحساس به ولا يمكن الإشارة إليه

وآخرون منهم يقولون: ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا غير ذلك من الصفات

وآخرون يقولون: لا يسمى موجودا حيا عالما قادرا إلا مجازا أو بالاشتراك اللفظي وأن هذه الأسماء لا تدل على معنى معقول ويقولون: إذا أثبتنا هذه الصفات لزم أن يكون متحيزا والمتحيز مركب أو كالجوهر الفرد في الصغر ونحو ذلك فيفرون من هذه الصفات لاعتقادهم أن ذلك يقتضي التجسيم والأجسام عندهم موجودة لكنها عند بعضهم محدثة وعند بعضهم ممكنة فإذا وصفوا الواجب القديم بذلك لزم أن يكون عندهم ممكنا أو محدثا وذلك ينافي وجوبه وقدمه ويقولون: إن هذه المقدمات معلومة بالنظر

وأما المثبتون فيقولون: الموصوف بهذه الصفات السلبية لا يكون إلا ممتنعا والامتناع ينافي الوجود فضلا عن وجوب الوجود فيقولون: إن الواصفين له بهذه الصفات وصفوه بما لا يتصف به إلا ما يمتنع وجوده ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود

ويقولون: إن هذه المقدمات معلومة بالضرورة فهم يقولون لأولئك: أنتم فررتم من وصفه بالإمكان فوصفتموه بالامتناع ومن وصفه بالحدوث فوصفتموه بالعدم

ويقولون: إن الأجسام الجامدة خير من الموصوف بهذه الصفات فضلا عن الأجسام الحية الناقصة فضلا عن الأجسام الحية الكاملة ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين جسم حي كامل وبين معدوم أو ممتنع كان ذلك خيرا من هذا وإن كانت هذه النتيجة لازمة لمقدمات يقول أهلها: إنها معلومة بالاضطرار كانت أثبت من مقدمات يقول أهلها: أنتم لا تعلمونها إلا بالنظر مع اختلافهم في كل مقدمة منها

فعلم بذلك أن المثبتة هم أقطع بما يقولونه وأشد تعظيما لما يثبتونه وأن النفاة أقرب إلى الظن وأبعد عن التعظيم والإثبات

يبين ذلك أن عمدة النفاة على أنه لو ثبت هذه الصفات: من العلو والمباينة ونحو ذلك للزم أن يكون جسما وكون الواجب القديم جسما ممتنع وهذه المقدمة هي نظرية باتفاقهم وكل طائفة منهم تطعن في طريق الآخرين والعمدة فيها طريقان: طريق الجهمية والمعتزلة وطريق الفلاسفة

ومن وافق على هذه المقدمة من الفقهاء وأهل الكلام من الأشعرية وغيرهم فهو تبع فيها: إما للمعتزلة والجهمية وإما للفلاسفة

فأما المعتزلة والجهمية فطريقهم هي طريق الأعراض والحركات وأنه لو ثبت للقديم الصفات والأفعال لكان محلا للأعراض والحركات وذلك يقتضي تعاقبها عليه وذلك يوجب حدوثه

وقد عرف أن الفلاسفة - مع طوائف من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام - يطعنون في هذه الطريقة وقد صنف الأشعري نفسه كتابا بين فيه عجز المعتزلة عن إثبات هذه الطريق كما سيأتي بيان ذلك

وأما طريق الفلاسفة فهي مبنية على أن واجب الوجود لا يكون متصفا بالصفات لأن ذلك يستلزم التركيب

وقد علم ما بينه نظار المسلمين من فساد هذه الطريقة

فإذا ليس بين النفاة مقدمة اتفقوا عليها يبنون عليها النفي بل هم يشتركون فيه كاشتراك المشركين وأهل الكتاب في تكذيب الرسول واشتراك أهل البدع في مخالفة الحديث والسنة مآخذ كل فريق غير مآخذ الآخر

وإذا كانت مقدماتهم ليست مما اتفقوا عليه بل ولا اتفق عليه أكثرهم بل أكثرهم ينكر صدق جميعها علم أنها ليست مقدمات فطرية ضرورية لأن الضروريات لا ينكرها جمهور العقلاء الذين لم يتواطأوا عليها ولا يكفي أن تكون بعض المقدمات معلومة بل لا بد أن تكون الجميع معلومة وما لم تكن معلومة بالضرورة فلا بد أن تستلزمها مقدمات ضرورية وليس معهم شيء من ذلك بل غاية هؤلاء لفظ ( التركيب ) وأنه لا يكون واجبا وقد علم ما في ذلك من الإجمال والاشتراك

وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك وأن الأفعال يجب تناهيها وقد علم نزاع العقلاء فيها وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين

وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره من شيوخه في هذه المقدمات وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره وقدحوا فيها قدحا بينوا به فسادها على وجه لم يعترضوا عليه وإن كلام الرازي يعتمدها في مواضع أخر فنظره استقر على القدح فيها

وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف بتحرير الدلائل في تقرير المسائل هو وغيره - قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل وهو بطلان حوادث لا أول لها وذكر الأبهري الدليل المتقدم: دليل الحركة والسكون وقولهم: لو كان الجسم أزليا لكان: إما متحركا أو ساكنا والقسمان باطلان

أما الأول فلأنها لو كانت متحركة للزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير والأزل يقتضي عدم المسبوقية فيلزم الجمع بينهما ولأنها لو كانت متحركة لكانت بحال لا يخلو من الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وإلا لكان الحادث أزليا وهو محال ولأنها لو كانت متحركة لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له وانقضاء ما لا نهاية له المحال والموقوف على المحال محال ولأنها لو كانت متحركة لكان قبل كل حركة حركة أخرى لا إلى أول وهو محال ولأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة ومن الحركة التي قبل الحركة اليومية إلى الأزل جملة أخرى فتطبق إحداهما على الأخرى بأن يقابل الجزء الأول من الجملة الثانية وبالجزء الأول من الجملة الأولى والثاني بالثاني فإما يتطابق إلى غير النهاية أو لم يتطابقا فإن تطابقا كان الزائد مثل الناقص وإن لم يتطابقا لزم انقطاع الجملة الثانية وإذا لزم انقطاع الجملة الثانية لزم انقطاع الجملة الأولى أيضا لأن الأولى لا تزيد على الثانية إلا بمرتبة واحدة

ثم تكلم على تقدير السكون وهذا هو الذي تقدم ذكر الرازي له

ومن تدبر كتب أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم يف حدوث الأجسام علم أن هذا عمدة القوم

كلام الأبهري وتعليق ابن تيمية عليه[عدل]

قال الأبهري: ( والإعراض على قوله: يلزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير قلنا: لا نسلم وإنما يلزم الجمع بينهما أن لو كان الواحد مسبوقا بالغير وغير مسبوق بالغير وليس كذلك فإن المسبوق بالغير لا يكون إلا الحركة وغير المسبوق بالغير هو الجسم فلا يلزم الجمع بين المسبوقية وعدم المسبوقية في شيء واحد )

قلت: وهذا الاعتراض فيه نظر ولكن الاعتراض المتقدم: وهو أن المسبوق لغير آحاد الحركة لا جنسها فكل من أجزائها مسبوقة بالغير وأما الجنس ففيه النزاع - اعتراض جيد وإلا فإذا كانت الحركة من لوازم الجسم لم يكن سابقا لها فكيف يقال: إن الحركة مسبوقة بالجسم؟

وكان الأبهري لم يفهم مقصود القائل: إن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير فظن أنه أراد أنها مسبوقة بالجسم وإنما أراد أن الحركة تقتضي أن يكون بعض أجزائها سابقا على بعض

قال الأبهري: ( وأما قوله: لو كانت متحركة لكانت بحالة لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث قلنا: لا نسلم قوله: لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليا قلنا: لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كانت الحادث الواحد يصير بعينه أزليا وليس كذلك بل يكون قبل كل حادث آخر لا إلى أول فلا يلزم قدم الحادث وأما قوله فإنها لو كانت متحركة لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له قلنا: لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقا بحوادث لا أول لها ولم قلتم بأن ذلك غير جائز والنزاع ما وقع إلا فيه؟ وأما قوله بأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة قلنا: لا نسلم وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الحركة مجتمعة في الوجود ليحصل منها جملة ومجموع واستدل هو على حدوث العالم بأن صانع العالم إن كان موجبا بالذات لزم دوام آثاره فلا يكون في الوجود حادث وإن كان فاعلا بالاختيار امتنع أن يكون مفعوله أزليا لأنه يكون قاصدا إلى إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل محال وقد اعترض بعضهم على دليله بأنه يجوز أن يكون بعضه حادثا له فاعل بالاختيار وبعضه قديم له موجب بالذات وجوزه بعضهم بأنه يجوز أن يكون موجبا بالذات ومعلوله فاعل بالاختيار أحدث غيره )

قلت: وهذا الاعتراض ساقط لأن ما كان فاعلا بالاختيار فحدوث فعله بعد أن لم يكن حادث من الحوادث فإذا كان مفعولا لعلة تامة موجبة امتنع أن يتخلف عنها معلولة ولا يجوز أن يحدث عنها شيء ولا عن لازمها ولا لازم لازمها وهلم جرا وإن قدر أن البعض الحادث له فاعل واجب بنفسه غير فاعل للآخر فهذا مع أنه لم يقله أحد وأدلة التوحيد للصانع تبطله فهو يبطل حجة القائلين بالقدم لأن عمدتهم أن الواجب بنفسه لا يتأخر عنه فعله فإذا جوزوا تأخر فعله عنه بطل أصل حجتهم

وهذا الدليل الذي احتج به قد ذكرنا في غير موضع أنه يبطل قول الفلاسفة بأنه صدر عن علة موجبة وأن قولهم هذا يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب

وأما كون الفاعل باختياره يمتنع أن يقارنه فعله فقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع ولكن نبين فساد قول الفلاسفة بأن يقال: الفاعل بالاختيار: إما أن يجوز أن يقارنه فعله وإما أن يجب تأخره فإن وجب تأخره بطل قولهم بقدم العالم فإن الفعل إذا لزم تأخره كان تأخر المفعول أولى إن جعل المفعول غير الفعل وإن جعل المفعول هو الفعل فقد لزم تأخره فتأخره لازم على التقديرين وإن جاز مقارنة فعله له فإما أن يكون التسلسل ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول وحينئذ فإذا كان الفعل المقارن قديما لم يقدح هذا في وجوب حدوث المفعولات

وهذا يقوله من يقول: إنه أحدث من الحوادث بتخليق قديم أزلي قائم بذاته كما تقول ذلك طوائف من المسلمين وإن كان التسلسل ممكنا أمكن أن يكون بعد ذلك الفعل فعل آخر وبعده فعل آخر وهلم جرا وأن تكون هذه الأفلاك حادثة بعد ذلك كما أخبرت به النصوص وهو المطلوب

والأبهري وغيره اعترضوا على هذه المقدمة لما ذكروها في حجة من احتج على حدوث العالم بأنه ممكن وكل ممكن فهو محدث لأن المؤثر فيه إما أن تؤثر فيه حالة وجوده وهو باطل لأن التأثير حالة الوجود يكون إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال وإما حال العدم وهو محال لأن يستلزم الجمع بين الوجود والعدم فتعين أن يكون لا حال الوجود ولا حال العدم وهو حال الحدوث

فاعترض الأبهري وغيره على ذلك بأنه لم لا يجوز أن يكون التأثير حال الوجود؟ ( قوله: يكون تحصيلا للحاصل قلنا: لا نسلم لأن التأثير عبارة عن كون المرجح مترجح الوجود على العدم بالمؤثر وجاز أن يكون الممكن مترجح الوجود على العدم حال الوجود فيقول له من يعارضه في دليله مثل ذلك فإذا قال: لو كان الفعل الذي فعله الفاعل المختار أزليا لكان الفاعل قاصدا إلى إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل

قالوا: بل وجود الموجود وحصول الحاصل مقصده واختياره فقولك لو كان قاصدا إلى إيجاد الموجود إن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بدون قصده فهذا ممنوع وإنما يستقيم هذا إذا ثبت أن الأزلي لا يمكن أن يكون مرادا مقصودا وهو أول المسألة وإن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بقصده فهذا هو المدعي فكأنك قلت: لو كان مقصودا لأزلي موجودا بقصده لكان موجودا بقصده وإذا كان هذا هو المدعي فلم قلت: إنه محال: ولكن يلزم هؤلاء على هذا التقدير أن لا يكون فرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار وهم يقولون: إن أريد بالموجب الذات أنه لم يزل فاعلا فهذا لا يمنع كونه مختارات على هذا التقدير وإن أريد به ما يلزمه موجبه ومعلوله فهذا أيضا لا يمنع كونه مختارا أيضا على هذا التقدير

وهذا القسم باطل بلا شك سواء سمي موجبا أو مختارا لأن ذلك يستلزم أن لا يحدث شيء من الحوادث فإن موجبه إذا كان لازما له - ولازم اللازم لازم - كانت جميع الموجبات لوازم قديمة فلا يكون شيء من المحدثات صادرا عنه ولا عن غيره إذ القول في كل ما يقدر واجبا كالقول فيه فيلزم أن لا يكون للحوادث فاعل

ولا ريب أن هذا لازم للفلاسفة الدهرية الإلهيين وغيرهم كأرسطو والفارابي وابن سينا لزوما لا محيد عنه وأن قولهم يستلزم أن لا يكون للحوادث فاعل وأن هذه الحوادث الممكنة حصلت بعد عدمها من غير واجب ولا فاعل

وأما القسم الأول وهو كونه لم يزل فاعلا سواء سمي موجبا أو مختارا فهذا لا يوجب قدم هذا العالم لإمكان توقفه على أفعال قبل ذلك كما تحدث سائر الحوادث الجزئية

فصل[عدل]

والمقصود في هذا المقام أن هؤلاء النفاة للعلو والمباينة لم يتفقوا على مقدمة واحدة يبينون عليها مطلوبهم بل كل منهم يقدح في مقدمة الآخر وإذا كان اتفاقهم على النفي مبنيا على المقدمات التي بها اعتقدوا النفي - وتلك المقدمات متنازع فيها بينهم ليس فيها مقدمات متفق عليها تبنى عليها النتيجة المذكورة - علم أن ما اشتركوا فيه من النتيجة كان من لوازم مع ما اعتقدوه من القضايا المختلف فيها لا القضايا الضرورية

وحينئذ فاتفاقهم على النفي لا يمنع أن يكون اتفاقا على خلاف المعلوم بالضرورة كما لو كان لرجل مال كثير وله غرماء كثيرون فأقام كل منهم شاهدين بقدر من المال واستوفاه حتى استوفى المال كله وكل من الغرماء يقدح في شهود الآخر كان اللازم من الحكم بشهادة الشهود كلهم أخذ مال ذاك الرجل كله ولا يقال أن هؤلاء عدد كثير لا يتفقون على الكذب فإنهم لم يتفقوا على خبر واحد بل كل طائفة أخبرت بخبر تكذبها فيه الأخرى ولزم من مجوع الأخبار أخذ المال فهم لم يخبروا بقضية واحدة توجب أخذ المال بل الكذب ممكن عليهم كلهم

كذلك المتفقون على رد بعض ما أخبر به الرسول وعلم بضرورات العقول ويمكن أن يقع منهم على هذا الوجه وهذا كاشتراك الكفار في تكذيب الرسول وقول هؤلاء: هو ساحر وهؤلاء: هو كاذب وهؤلاء: هو مجنون فهم في الحقيقة مختلفون لا متفقون

وأيضا فاتفاق العدد الكثير على تعمد الكذب الذين يعلمون أنه كذب يجوز إذا كان ذلك عن تواطئ منهم وأما اتفاق الخلق الكثير على الكذب خطأ فهو ممكن بالنظر والأمور الضرورية فقد يعتبر عنها بعبارات غيها إجمال واشتباه يظن كثير من الناس أن مفهومها لا يخالف الضرورة وإنما يعلم أنها مخالفة للضرورة من ميز بين معانيها وفصل المعنى المخالف للضرورة من غيره فإذا كان قد سبق قليل من الناس إلى اعتقاد خطأ يتضمن مخالفة الضرورة كان هذا جائزا باتفاق العقلاء فإن السفسطة تجوز على الطائفة القليلة تعمدا فكيف خطأ؟

فإذا تلقى تلك الأقوال عن أولئك السابقين إليها عدد آخرون واشتهرت بين من اتبعهم فيها صاروا متواطئين على قبولها لما فيها الاشتباه والإجمال مع تضمنها مخالفة الضرورة وإن كان كثير من القائلين بها - أو أكثرهم - لا يعلمون ذلك وهذا هو السبب في اتفاق طوائف كثيرة على مقالات يعلم أنها باطلة بضرورة العقل كمقالات النصارى والرافضة والجهمية

كلام ابن كلاب في كتاب الصفات عن العلو وتعليق ابن تيمية عليه[عدل]

ثم إن المتقدمين من النظار يحكون إجماع الخلائق على نقيض قول النفاة كما ذكره أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الأشعري وأصحابه ذكره في كتاب الصفات مما نقله عنه أبو بكر بن فورك فقال في كتاب الصفات في باب القول في الاستواء: ( فرسول الله وهو صفوة الله من خلقه وخيرته من بريته وأعلمهم جميعا به يجيز السؤال بأين ويقوله ويستصوب قول القائل: إنه في السماء ويشهد له بالإيمان عند ذلك وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا ويحيلون القول به ولو كان خطأ كان رسول أحق بالإنكار له وكان ينبغي أن يقول لها: لا تقولي ذلك فتوهمين أن الله عز وجل محدود وأنه في مكان دون مكان ولكن قولي: إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت

كلا لقد أجازه رسول الله مع علمه بما فيه وأنه أصوب الأقاويل والأمر الذي يجب الإيمان به لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته فكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق به وشاهد له )

قال: ( ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد؟ لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول: أين ربك؟ إلا قال: ( في السماء ) إن أفصح أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إذا كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان كما يقولون: وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وحده وخمسون رجلا معه نعوذ بالله من مضلات الفتن )

فقد ذكر ابن كلاب في هذا الكلام أن العلم بأن الله فوق فطري مغروز في فطر العباد اتفق عليه عامتهم وخاصتهم وأنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل يدعون أنهم أفضل الناس جهم ونفر قليل معه وبين أيضا ابن كلاب أن قول الجهمية هو نظير قول الدهرية وهو كما قال فإن منتهى كلام الجهمية إلى أنه لا موجود إلا العالم

قال: ( يقال للجهمية: أليست الدهرية كفارا ملحدين في قولهم: إن الدهر هو واحد إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم منه ولا يباين العالم ولا يباينه ولا يماس العالم ولا يماسه ولا يداخل شيئا من العالم ولا يداخله لأنه واحد والعالم غير مفارق له؟ فإذا قالوا نعم: قيل لهم: صدقتم فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم؟ وهل تجدون بينكم وبينهم فرقا أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به؟ وقد قلتم: إنه غير مفارق للعالم ولا العالم مفارق له ولا هو داخل العالم ولا العالم داخل فيه ولا مماس للعالم ولا العالم مماس له فأين تذهبون يا أولي الألباب إن كنتم تعقلون؟ من أولى أن يكون قد شبه الله بخلقه: نحن أو أنتم؟ ولم رجعتم على من خالفكم بالتكفير وزعمتم أنهم قد كفروا لأنهم قالوا: واحد منفرد بائن؟ فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم إذ زعمتم مثل زعم الملحدين وقلتم مثل مقالة المخالفين الضالين وخرجتم من توحيد رب العالمين )

قال: ( وكذلك مشاركتكم الثنوية في إلحادهم لما قالوا: إن الأشياء من شيئين لا تنفك منهما ولا ينفكان منها وإن الأشياء تولدت عنهما ومنهما وأن النور والظلمة لا نهاية لهما في أنفسهما وأن أحدهما مازج الآخر فتولدت الأشياء منهما؟ وقلتم لهم: كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئا لا في نفسه؟ وكيف يجيء ما لا نهاية له فيكون في غيره؟ فقيل لكم مثل ذلك: كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئا لا في نفسه ولا بائنا من نفسه؟ ويلزمكم إذا زعمتم أنه لاتفاق النور والظلمة أصل الأشياء وأن الأشياء تحدث منهما وأنهما لا ينفكان مما كان بعدهما ولا ينفك عنهما كذلك زعمتم أن الواحد الذي { ليس كمثله شيء } [ الشورى: 11 ] - تعالى عما قلتم - كان لا نهاية له ثم خلق الأشياء غير منفكة منه ولا هو منفك منها ولا يفارقها ولا تفارقه فأعظمتم معناهم ومنعتم القول والعبارة )

فيقال: هذا الذي ذكره ابن كلاب من موافقة الجهمية في الحقيقة للدهرية والثنوية يحققه ما فعلته غالية الجهمية من القرامطة الباطنية فأنهم ركبوا لهم قولا من قول الفلاسفة الدهرية وقول المجوس الثنوية وقولهم هو منتهى قول الجهمية

وكان ذلك مصداق قول النبي في الحديث الصحيح: [ لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا: فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هؤلاء ]

وفي الحديث الآخر الصحيح: [ لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى؟ قال: فمن ]

ومشابهة اليهود والنصارى أيسر من مشابهة فارس والروم فإن الفرس كانوا مجوسا والروم إن لم يكونوا نصارى كانوا مشركين صابئة وغير صابئة فلاسفة وغير فلاسفة والباطنية ركبوا مذهبهم من قول المجوس ومن دخل فيهم ومن قول المشركين من الروم ومن دخل فيها كاليونان ونحوهم

وأما الأشعري وأئمة أصحابه فهم مصرحون بأن الله نفسه فوق العرش كما ذكر ذلك في كتبه كلها الموجز والإنابة والمقالات وغير ذلك

كلام الأشعري في الإنابة عن الاستواء وتعليق ابن تيمية[عدل]

قال: ( إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] وقد قال: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر: 10 ] وقال: { بل رفعه الله إليه } [ النساء: 158 ] وقال: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } [ السجدة: 5 ]

وقال تعالى حكاية عن فرعون: { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } [ غافر: 36 - 37 ] كذب موسى في قوله: إن الله عز وجل فوق السماوات

وقال عز وجل: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } [ الملك: 16 ] فالسماوات فوقها العرش

فلما كان العرش فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السماوات وليس إذا قال: { أأمنتم من في السماء } يعني: جميع السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال: { وجعل القمر فيهن نورا } [ نوح: 16 ] ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعا وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض )

قال: ( وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى قول الله عز وجل: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] أنه استولى وملك وقهر وأن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستو على العرش بمعنى الاستيلاء وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عنه أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها )

قال: ( وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية وهذا خلاف الدين تعالى الله عن قولهم )

وقال: ( دليل آخر وقال الله عز وجل: { ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } [ الشورى: 51 ] فقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو أرسل رسولا ويترك أجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم )

قلت: ومقصود الأشعري من هذا أنه على قول النفاة لا فرق بين البشر وغيرهم فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحدا بحجاب منفصل عنه بل هو محتجب عن جميع الخلق بمعنى أنه لا يمكن أحد أن يراه فاحتجابه عن بعضهم دون البعض دل على نقيض قولهم: وذلك أن نفاة المباينة يفسرون بالاحتجاب بمعنى عدم الرؤية لمانع من الرؤية في العين ونحو ذلك من الأمور التي لا تنفصل عن المحجوب بل نسبتها إلى جميع الأشياء واحدة

قال الأشعري: ( دليل آخر قال تعالى: { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } [ الأنعام: 62 ] وقال تعالى: { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } [ الأنعام: 30 ] وقال: { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } [ السجدة: 12 ] وقال تعالى: { وعرضوا على ربك صفا } [ الكهف: 48 ] وكل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي يريدون بذلك - زعموا - التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل )

قلت: فقد احتج على عدم مداخلته بقوله تعالى: { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } [ الأنعام: 30 ] وقوله: { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } الأنعام: [ 62 ] وقوله تعالى: { ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } [ السجدة: 12 ] وقوله: { وعرضوا على ربك صفا } [ الكهف: 48 ] فإنه لو كانت نسبته إلى جميع الأمكنة واحدة لا يختص بالعلو لكان في المردود كما هو في المردود إليه وفي الواقف كما هو الموقوف عليه وفي الناكس كما هو فيمن نكس رأسه عنده وفي المعروض كما هو في المعروض عليه

فهذه النصوص تنفي مداخلته للخلق وتوجب مباينته لهم فلو أمكن وجود موجود لا مباين ولا محايث لكان نسبة ذاته إلى جميع المخلوقات نسبة واحدة وهو مناقض لما ذكر

وقوله: ( مع نفي المداخلة أنه على العرش ) يبين أنه يثبت المباينة لا ينفيها كما ينفي المداخلة

قال الأشعري أيضا: ( وروت العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإنه بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك

قلت: وهذا الحديث رواه الحاكم أبو محمد العسال في كتاب المعرفة له من حديث عبد الوهاب الوراق الرجل الصالح: ثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك قال عبد الوهاب الوراق: من زعم أن الله ههنا فهو جهمي خبيث إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة

قال الأشعري: ( ومما يؤكد أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله من أحاديث النزول كقوله: [ ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له؟ حتى يطلع الفجر ) ]

قال الأشعري: دليل آخر قال الله تعالى: { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل: 50 ] وقال تعالى: { تعرج الملائكة والروح إليه } [ المعارج: 4 ] وقال: { استوى إلى السماء وهي دخان } [ فصلت: 11 ] وقال: { ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } [ الفرقان: 59 ] وقال: { ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } [ السجدة: 4 ] فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه والسماء بإجماع الناس ليست الأرض فدل على أن الله منفرد بوحدانيته مستو على عرشه

وقال الأشعري: ( دليل آخر قال عز وجل: { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر: 22 ] وقال تعالى: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } [ البقرة: 210 ] وقال تعالى: { ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى } إلى قوله: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم: 7 - 18 ]

وقال عز وجل لعيسى ابن مريم: { إني متوفيك ورافعك إلي } [ آل عمران: 55 ]

وقال: { وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه } [ النساء: 157 - 158 ] وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء )

قال الأشعري: ( ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون جميعا: يا ساكن العرش ومن حلفهم جميعا: لا والذي احتجب بسبع سماوات ) فقد حكى الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات وهذا مناقض لقول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن هؤلاء يقولون: ليس للعرش به اختصاص وليس شيء من المخلوقات يحجب عنه شيئا

ومن أثبت الرؤية منهم إنما يفسر رفع الحجاب بخلق إدراك العين لا أن يكون هناك حجاب منفصل يحجب العبد عن الرؤية

كلام الباقلاني في التمهيد إثبات العلو والاستواء[عدل]

وقال: القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابي: الإبانة والتمهيد وغيرهما: ( فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] وقال: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر: 10 ] وقال: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } [ الملك: 16 ]

ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي نرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وشمائلنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله ) فقد وافق القاضي أبو بكر لأبي الحسن الأشعري وأنكر أن يكون في كل مكان وجعل مقابل ذلك أنه على العرش لم يجعل مقابل ذلك أنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن الأقسام أربعة ليس لها خامس: إما أن يكون نفسه مباينا للعالم وإما أن يكون مداخلا له وإما أن يكون مباينا ومداخلا وإما أن يكون لا مباينا ولا مداخلا

فهؤلاء جعلوا مقابلة المداخلة المباينة ولم يقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه وهؤلاء أئمة طوائفهم

كلام القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل في إثبات العلو والاستواء

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: ( فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه )

قال: ( وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه )

قال: ( والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة ) قال: ( والدليل عليه: أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية )

قال: ( ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول: ليس في جهة ولا خارجا منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: وهذا الذي اختلف فيه قول القاضي اختلف فيه أصحاب أحمد وغيرهم فكان طائفة يقولون: العلو من الصفات السمعية الخبرية كالوجه واليد ونحو ذلك وهذا قول طوائف من الصفاتية ولهذا نفاه من متأخري الصفاتية من نفى الصفات السمعية الخبرية كأتباع صاحب الإرشاد )

وأما الأشعري وأئمة أصحابه فإنهم متفقون على إثبات الصفات السمعية مع تنازعهم في العلو: هل هو من الصفات العقلية أو السمعية

وأما أئمة الصفاتية كابن كلاب وسائر السلف فعندهم أن العلو من الصفات المعلومة بالعقل وهذا قول الجمهور من أصحاب أحمد وغيرهم وإليه رجع القاضي أبو يعلى آخرا وهو قول جمهور أهل الحديث والفقه والتصوف وهو قول الكرامية وغيرهم

وأما الاستواء فهو من الصفات السمعية عند من يجعله من الصفات الفعلية بلا نزاع فإن ذلك لم يعلم إلا بالسمع وهذا الذي ذكره ابن كلاب وغيره من أن المنازع من المسلمين في أن الله فوق العرش كانوا قليلين جدا يبين خطأ من قال: إن النزاع إنما هو مع الكرامية والحنبلية بل جماهير الخلق من جميع الطوائف على الإثبات: جمهور أئمة الفقهاء من: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والداوودية وجمهور أهل التصوف والزهد والعبادة وجمهور أهل التفسير وجمهور أهل الحديث وجمهور أهل الكلام من الكرامية والكلابية والأشعرية والهشامية وجمهور المرجئة وجمهور قدماء الشيعة

وإنما الخلاف في ذلك معروف عن جهم وأتباعه والمعتزلة ومن وافقهم من الخوارج ومتأخري الشيعة وتأخري الأشعرية وللمعتزلة والفلاسفة فيها قولان

بل وهذا هو المنقول عن أكثر الفلاسفة أيضا كما ذكر أبو الوليد بن رشد الحفيد وهو من أتبع الناس لمقالات المشائين: أرسطو وأتباعه ومن أكثر الناس عناية بها وموافقة لها وبيانا لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها حتى صنف كتاب تهافت التهافت وانتصر فيه لإخوانه الفلاسفة ورد فيه على أبي حامد في كتابه الذي صنفه في تهافت الفلاسفة مع أن في كلام أبي حامد من الموافقة للفلاسفة في مواضع كثيرة ما هو معروف وإن كان يقال: إنه رجع عن ذلك واستقر أمره على التلقي من طريقة أهل الحديث بعد أن أيس من نيل مطلوبه من طريقة المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة أيضا

فالمقصود أن ابن رشد ينتصر للفلاسفة المشائين - أرسطو وأتباعه - بحسب الإمكان وقد تكلمنا على كلامه وكلام أبي حامد في غير هذا الموضع وبينا صواب ما رده أبو حامد من ضلال المتفلسفة وبينا ما تقوى به المواضع التي استضعفوها من رده بطرق أخرى لأن الرد على أهل الباطل لا يكون مستوعبا إلا إذا اتبعت السنة من كل الوجوه وإلا فمن وافق السنة من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالف فيه السنة واحتجوا عليه بما وافقهم عليه من تلك المقدمات المخالفة للسنة

وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم فوجدته إنما تكون حجة الباطل قوية لما تركوه من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه فيكون ما تركوه من ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم ووجدت كثيرا من أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليه يوافقون خصومهم تارة على الباطل ويخالفونهم في الحق تارة أخرى ويستطيلون عليهم بما وافقهم عليه من الباطل وبما خالفوهم فيه من الحق كما يوافق المتكلمة النفاة للصفات - أو لبعضها كالعلو وغيره - لمن نفى ذلك من المتفلسفة وينازعونهم في مثل بقاء الأعراض أو مثل تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة أو وجوب تناهي جنس الحوادث ونحو ذلك

والمقصود هنا أن ابن رشد نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة وقرر ذلك بطرقهم العقلية التي يسمونها البراهين مع أنه يزعم أنه لا يرتضي طرق أهل الكلام بل يسميها هو وأمثاله من الفلاسفة الطرق الجدلية ويسمون المتكلمين أهل الجدل كما يسميهم بذلك ابن سينا وأمثاله فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي الشمولي الذي ذكروه في المنطق إلى: برهاني وخطابي وجدلي وشعري وسوفسطائي زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي من النوع البرهاني وان غالب مقاييس المتكلمين إما الجدلي وإما من الخطابي كما يوجد هذا في كلام هؤلاء المتفلسفة كالفارابي وابن سينا ومحمد بن يوسف العامري ومبشر بن فاتك وأبي علي بن الهيثم والسهروردي المقتول وابن رشد وأمثالهم وإن كانوا في هذه الدعاوى ليسوا صادقين على الإطلاق بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي في كلام المتكلمين أكثر منهما في كلامهم وأشرف وإن كان قد يوجد في كلام المتكلمين أقيسة جدلية وخطابية بل وسوفسطائية فهذه الأنواع في العلم الإلهي هي في كلام الفلاسفة أكثر منها في كلام المتكلمين وأضعف إذا قوبل ما تكلموا فيه من العلم الإلهي بما تكلم فيه المتكلمون بل ويستعملون من هذا الضرب في الطبيعيات بل وفي الرياضيات قطعة كبيرة

كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة[عدل]

والمقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد عنهم وهذا لفظه في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصوليين قال: ( والقول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] ومثل قوله تعالى: { وسع كرسيه السماوات والأرض } [ البقرة: 255 ] ومثل قوله: { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة: 17 ] ومثل قوله: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } [ السجدة: 5 ] ومثل قوله: { تعرج الملائكة والروح إليه } [ المعارج: 4 ] ومثل قوله: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } [ الملك: 16 ] إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من في السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي حتى قرب من سدرة المنتهى )

قال: ( وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية )

قال: ( ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي: إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة وبهذا نقول: إن للحيوان فوقا وسفلا ويمينا وشمالا وأماما وخلفا وإما سطوح جسم آخر تحيط بالجسم من الجهات الست فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا وأما سطوح الجسم المحيطة به فهي له مكان مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضا مكان للهواء وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم أيضا جسم آخر ويمر الأمر إلى غير نهاية فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير الجسم فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود هو جسم لا موجود ليس بجسم وليس لهم أن يقولوا: إن خارج العالم خلاء وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا أكثر من أبعاد ليس فيها جسم أعني طولا وعرضا وعمقا لأنه إن وقعت الأبعاد عنه عاد عدما وإن أنزل الخلاء موجودا لزم أن تكون أعراض موجودة في غير جسم وذلك لأن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون الله والملائكة وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله وذلك أنه لما لم يكن ههنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم وكان من المعروف بنفسه أن الموجود إنما ينسب إلى الوجود أعني أنه يقال: إنه موجود في الوجود إذ لا يمكن أن يقال: إنه موجود في العدم فإن كان ههنا موجود هو أشرف الموجودات فواجب أن ينسب من الوجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهي السماوات ولشرف هذا الجزء قال الله تعالى: { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } [ غافر: 57 ]

قال: ( فهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع وأنه وجه العسر في نفيهم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في الشاهد مثال له وهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك معلوم الوجوه في الشاهد مثل العلم في الفاعل فإنه لما كان في الشاهد شرطا في وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته إن لم تكن بالجمهور حاجة إلى معرفته مثل العلم بالنفس أو يضرب له مثال في الشاهد فإن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم وإن لم يكن ذلك المثال هو الأمر المقصود فتفهيمه مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور لها لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع ولا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأوله

والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث رتب: صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى وخاصة متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء وهم الراسخون في العلم وهؤلاء هم الأقل من الناس وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها وهؤلاء هم فوق العامة دون العلماء وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع وهم الذين ذمهم الله تعالى وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم المتشابه ومثال ما عرض لهذا الصنف من الشرع مثال ما يعرض لخبز البر مثلا الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان أن يكون لأقل الأبدان ضارا وهو نافع للأكثر وكذلك التعلم الشرعي هو نافع للأكثر وربما يضر الأقل ولهذا الإشارة بقوله تعالى: { وما يضل به إلا الفاسقين } [ البقرة: 26 ] لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منها والأقل من الناس وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها وأكثرها شبها بها فيعرض لبعض الناس أن يرى الممثل به هو الممثل نفسه فتلزمه الحيرة والشك وهو الذي يسمى متشابها في الشرع وهذا ليس يعرض للعلماء والجمهور وهم صنفا الناس بالحقيقة لأن هؤلاء هم الأصحاء والغذاء الملائم إنما يوافق أ أبدان الأصحاء وأما أولئك فمرضى والمرضى هم الأقل ولذلك قال تعالى: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } [ آل عمران: 7 ] وهؤلاء هم أهل الجدل والكلام

وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به وإما أتى به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ونعوذ بالله من هذا الظن بالله بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان فإذا ما أبعد عن مقصود الشرع من قال فيما ليس بمتشابه: إنه متشابه ثم أوله بزعمه وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا: إن ظاهره متشابه وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت وجدت ليس يقوم عليها برهان ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعلمهم عنها فإن المقصود الأول في العلم في حق الجمهور إنما هو العمل فما كان أنفع في العمل فهو أجدر فأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا: أعني العلم والعمل )

قال: ( ومثال من أول شيئا من الشرع وزعم أن ما أوله هو الذي قصد الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور مثال ما أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر لحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا لأقل الناس فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت به العادة في ذلك أن يدل بذلك الاسم عليه وإنما أراد به دواء آخر مما يمكن أن تدل عليه بذلك استعارة بعيدة فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على وجه الذي تأوله عليه هذا المتأول ففسدت به أمزجة كثير من الناس فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير المرض الأول فجاء ثالث فتأول أدوية ذلك المركب على غير التأويل الثاني فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها عرض منه للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى وزعمت أنه الذي قصد صاحب الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد جدا عن موضوعه الأول ولما علم الرسول أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال: [ ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ] يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس )

قال: ( وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور وبآراء الحكماء على ما أداه إليه فهمه وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد وزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم ثم وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة فكفرهم فيه في مسائل ثلاثة من جهة خرقهم فيها الإجماع فيما زعم وبدعهم في مسائل وأتي فيه بحجج مشككة وشبه محيرة أضلت كثيرا من الناس عن الحكمة والشريعة جميعا ثم قال في كتابه المعروف بجواهر القرآن إن الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدلية وأن الحق إنما أثبته في المضنون به على غير أهله ثم جاء في كتابه المعروف بـ مشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله وقال: إن سائرهم محجوبون إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى وهو الذي صدر عنه هذا المحرك وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية وهو قد قال في غير ما وضع: إن علومهم الإلهية تخمينات بخلاف الأمر في سائر علومهم وأما في كتابه الذي سماه المنقذ من الضلال فتحامل فيه على الحكماء وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة وأن هذه المرتبة من جنس مراتب الأنبياء في العلم وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه بكيمياء السعادة فصار الناس بسبب هذا التخليط والتشويش فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة فرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة وهذا كله خطأ بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم دون أن يكون عندهم برهان عليها وهذا لا يحل ولا يجوز أعني التصريح بشيء من نتائج الحكمة لم يكن عنده البرهان عليها لأنه لا يكون مع العلماء الجامعين بين الشرع والعقل ولا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع فلحق من فعله هذا إخلال بالأمرين جميعا أعني بالحكمة وبالشرع عند أناس وحفظ الأمرين أيضا جميعا عند آخرين أما إخلاله بالشريعة فمن جهة إفصاحه فيه بالتأويل الذي لا يجب الإفصاح به وأما إخلاله بالحكمة فلإفصاحه أيضا بمعان فيها لا يجب أن يصرح بها إلا في كتب البرهان وأما حفظه للأمرين جميعا فإن كثيرا من الناس لا يرى بينهما تعارضا من جهة الجمع الذي استعمل منهما وأكد هذا المعنى بأن عرف وجه الجمع بينهما وذلك في كتابه الذي سماه التفرقة بين الإسلام والزندقة وذلك أنه عدد فيه أصناف التأويلات وقطع فيه على أن المتأول ليس بكافر وإن خرق الإجماع في التأويل فإذا ما فعل من هذه الأشياء هو ضار للشرع بوجه وللحكمة بوجه ونافع لهما بوجه وهذا الذي فعله هذا الرجل إذا فحص عنه ظهر أنه ضار بالذات للأمرين جميعا أعني الحكمة والشريعة وأنه نافع لهما بالعرض وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عن ذلك بالذات: إما إبطال الحكمة وإما إبطال الشريعة وقد يلزم عنها بالعرض الجمع بينهما والصواب كان ألا يصرح بالحكمة للجمهور فأما قد وقع التصريح فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها وكذلك يعرف الذين يرون أن الحكمة مخالفة لها من الذين ينتسبون للحكمة أنها غير مخالفة لها وذلك بأن يعرف كل أحد من الفريقين أنه لم يقف على كنهها بالحقيقة أعني على كنه الشريعة ولا على كنه الحكمة وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي: إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها وإما رأي خطأ في الحكمة أعني تأويل خطأ عليها كما عرض في مسألة علم الجزئيات وفي غيرها من المسائل )

قال: ( ولهذا المعنى اضطررنا نحن في هذا الكتاب أن نعرف أصول الشريعة فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول عليها وكذلك الرأي في الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة يعرف أن السبب في ذلك أنه لم يحط علما بالحكمة ولا بالشريعة ولذلك اضطررنا نحن إلى وضع قول في موافقة الحكمة للشريعة )

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55