درء تعارض العقل والنقل/9

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال الرازي: ( الثالث قول الخليل: { لا أحب الأفلين } ( الأنعام: 67 ) يدل على أن المتغير لا يكون إلها )

ولقائل أن يقول: إن كان الخليل احتج بالأفول على نفي كونه رب العالمين لزم أنه لم يكن ينفي عنه حلول الحوادث لأن الأفول هو المغيب والاحتجاب باتفاق أهل التفسير واللغة وهو مما يعلم من اللغة اضطرارا وهو حين بزغ قال: ( هذا ربي ) فإذا كان من حين يزوغه إلى حال أفوله لم ينف عنه الربوبية دل على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك وإنما جعل المنافي الأفول وإن كان الخليل إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ ربا يشرك به ويدعى من دون الله فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى فقصة الخليل إما أن تكون حجة عليهم أو لا لهم ولا عليهم

قال الرازي: ( واحتجوا بأن الدليل على أن الكلام والسمع والبصر صفات حادثة ولا بد لها من محل وهو ذاته تعالى ولأنه يصح قيام الصفات القديمة بذاته تعالى باتفاق منا ومن الأشعرية والقدم لا يعتبر في المقتضى فإنه عبارة عن نفس الأزلية وهو عدمي فالمقتضى هو كونها صفات والحوادث كذلك فليلزم قيامها به )

قال: ( والجواب عن الأول بالجواب عن أدلة حدوث تلك الصفات وعن الثاني بأن تلك الصفات قد تكون مخالفة لهذه بالنوع سلمنا أنه لا فارق سوى القدم فلم قلتم: إنه عدمي فإنه عبارة عن نفي العدم السابق ونفي النفي ثبوت؟ )

قلت: ليس المقصود هنا ذكر أدلة المثبتة فإن النصوص تدل على ذلك في مواضع لا تكاد تحصى إلا بكلفة وإنما الغرض بيان: هل في العقل ما يعارض النصوص؟ ومن أراد تقرير ما احتجوا به من الدليل العقلي على الإثبات قدح فما يذكره النفاة من امتناع حدوث تلك الأمور

وعمدة المانعين هو امتناع حلول الحوادث وامتناع تسلسلها فإذا كانوا لا ينفون حدوثها في ذاته إلا لامتناع حلول الحوادث: لم يجز أن يجيبوا عن أدلة الحدوث بمجرد دليل امتناع حلول الحوادث إن لم يجيبوا عن المعارض لأن ذلك دور فإذا قال القائل: الدليل على بطلان دليل المثبتة هو تدليل النفاة قيل له: دليل النفاة لا يتم إلا ببطلان دليل المثبتة فإذا لم تمكن المطالبة إلا بدليل المثبتة كان صحة دليل النفاة متوقفا على صحته وذلك دور فإنه لا يتم نفي ذلك إلا بالجواب عن حجة المثبتين فيكون قولهم بانتفاء حلول الحوادث مبينا على انتفاء حلول الحوادث فلا يكون لهم حجة على ذلك

فالمثبتون معهم السمعيات الكثيرة المتواترة بخلاف النفاة فإنه ليس معهم شيء من السمع وإنما يدعون قيام الدليل العقلي على امتناع قيام الحوادث به فإذا أراد بعض المثبتين أن يقيم دليلا عقليا على قيامها به أو إمكان قيامها به احتاج إلى أن يجيب عن أدلة النفاة والنفاة لا يتم دليلهم على النفي حتى يجيبوا على أدلة المثبتين وإلا فلو قدر تعارض الأدلة العقلية من الجانبين فتكافأتا وبقيت الأدلة السمعية خالية عن معارض يجب تقدمه عليها فإذا احتج المثبتون بالآيات والأحاديث لم يمكن للنفاة أن يقولوا هذا يثبت قيام الحوادث به وذلك ممتنع إلا إذا أقاموا الدليل العقلي على الامتناع أجابوا عما يحتج به المثبتة من الدليل العقلي فلا بد للنفاة من هذا وهذا بخلاف المثبتة فإنه يمكنهم أن يقولا السمع دل على ذلك ولم يقيموا دليلا عقليا خاليا عن المعارض المقاوم ينفي ذلك فلا يحتاج المثبتون إلى دليل عقلي يوافق السمع يل يكفيهم إبطال ما يعارضه وإذا أقاموا دليلا عقليا فعورضوا بأدلة النفاة لم يحتاجوا إلى إبطالها بل تكفيهم المعارضة فإذا أبطلوا كانوا قد سدوا على النفاة الأبواب

فلهذا كان ما يحتاج إليه النفاة من إقامة دليل عقلي وإبطال ما يعارضه مما احتاج إليه المثبتة بل يكفيهم منع مقدمات المعارض فإن أبطلوها فقد زادوا وتكفيهم الممعارضة بالعقليات فإن بينوا رجحان عقلياتهم فقد زادوا وإذا بينوا صحة عقلياتهم وبطلان عقليات النفاة ومعهم السمعيات كانوا قد أثبتوا أن معهم السمع والعقل وأن المنازغ ليس معه لا سمع ولا عقل

وأما أدلة المثبتين فهو ما يذكرونه من الشرعيات والعقليات وهم قد قدحوا في أدلة النفاة فيتم كلامهم

وأما التسلسل فالكرامية ومن وافقهم لا يجيزونه كما لا يجيزه كثير من المعتزلة ومن وافقهم وأما من يجوز التسلسل في الآثار من أهل الحديث والكلام والفلسلفة وغيرهم فهؤلاء قد عرف طعنهم في أدلة النفاة وطعن النفاة في أدلة بعض حتى متكلمة أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم متنازوعون في ذلك قد عرف

وأيضا فإن المثبتين يقلون: كونه قادرا على الفعل بنفسه صفه كمال كما أن قدرته على المفعول المنفصل صفة كمال فإنا إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الفعل القائم به والمنفصل عنه ومن لا يقدر على أحدهما علم أنا لأول أكمل كما إذا عرضنا عليه من يعلم نفسه وغيره ومن لا يعلم إلا أحدهما وأمثال ذلك ويقول من يجوز دوام الحوادث وتسلسلها: إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة ويفعلها دائمة متعاقبة ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة كان الأول أكمل

وكذلك إذا عرضنا على العقل من فعل الأفعال المتعاقبة مع حدوثها ومن لا يفعل حادثا أصلا لئلا يكون عدمه قبل وجوده عدم كمال شهد صريح العقل بأن الأول أكمل فإن الثاني ينفي قدرتهوفعله للجميع لئلا يعدم البعض في الأزل والأول يثبت قدرته وفعله للجميع مع عدم البعض في الأزل فذاك ينفي الجميع حذرا من فوت البعض والثاني يثبت ما يثبته من الكمال مع فوت البعض ففوت البعض لازم على التقديرين وامتاز الأول بإثبات كمال في قدرته وفعله لم يثبته الثاني

وأيضا فهم يقولون: كون الكلام لا يقوم بذاته يمنع أن يكون كلامه فإن ما قام به شيء من الصفات والأفعال عاد حكمه إليه لا إلى غيره فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو كلاما كان ذلك صفة للمحل الذي خلق فيه فذلك المحل هو العالم القادر المتكلم به فإذا خلق كلاما في محل كان ذلك الكلام المخلوق كلام ذلك المحل لا كلامه فإذا خلق في الشجرة: { إني أنا الله رب العالمين } ( القصص: 30 ) ولم يقم هو به كلام كان ذلك كلاما للشجرة فتكون هي القائلة: ( إني أنا الله رب العالمين ) وهذا باطل فيتعين أن يقوم به الكلام وكونه لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بما شاء بل يلزمه الكلام كما تلزمه الحياة مع كون تكليمه هو خلق مجرد الإدراك يقتضي أن يكون القادر على الكلام الذي يتكلم باختياره أكمل منه فإنا إذا عرضنا على العقل من يتكلم باختياره وقدرته ومن كلامه بغير اختياره وقدرته كان الأول أكمل فتعين أن يكون متكلما بقدرته ومشيئته كلاما يقوم بذاته وكذلك في مجيئة وإتيانه واستوائه وأمثال ذلك إن قدرنا هذه أمورا منفصلة عنه: لزم أن لا يوصف بها وإن قدرناها لازمة لذاته لا تكون بمشيئته وقدرته: لزم عجزه وتفضيل غيره عليه فيجب أن يوصف بالقدرة على هذه الأفعال القائمة به التي يفعلها بمشيئته وقدرته وهذا هو الذي تعنيه النفاة بقولهم: لا تحله الحوادث كما يعنون نفي العلم والقدرة ونحوهما بقولهم: لا تحله الأعراض

وأيضا فإن ما به تثبت الصفات القائمة به تثبت الأفعال القائمة به التي تحصل بقدرته واختياره ونحو ذلك وذلك أنه يقال: العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ونحو ذلك صفات كمال فلو لم يتصف الرب بها اتصف بنقائضها كالجهل والعجز والصمم والبكم والخرس وهذه صفات نقص والله منزه عن ذلك فيجب اتصافه بصفات الكمال ويقال: كل كمال يثبت لمخلوق من غير أن يكون فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق تعالى أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أولى بتنزيهه عنه بل كل كمال يكون للموجود لا يستلزم نقصا فالواجب الوجود أولى به من كل موجود وأمثال هذه الأدلة المبسوطة في غير هذا الموضع

فإذا قال النفاة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة فلا يلزم من رفع أحدهما ثبوت الثاني إلا أن يكون المحل قابلا لهما فأما ما لا يقبلهما كالجماد فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا أعمى ولا بصير

أجيبوا عن ذلك بعدة أجوبة :

مثل أن يقال: هذا اصطلاح لكم وإلا فاللغة العربية لا فرق فيها والمعاني العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات

ومثل أن يقال: فما لا يقبل هذه الصفات كالجماد أنقص مما يقبلها ويتصف بالناقص منها فالحي الأعمى أكمل من الجماد الذي لا يوصف ببصر ولا عمى وهذا بعينه يقال فيما يقوم به من الأفعال ونحوها التي يقدر عليها ويشاؤها فإنه لو لم يتصف بالقدرة على هذه الأفعال لزم اتصافه بالعجز عنها وذلك نقص ممتنع كما تقدم والقادر على الفعل والكلام أكمل من العاجز عن ذلك

فإذا قال النافي: ( إنما يلزم اتصفاه بنقيض ذلك لو كان قيام الأفعال به ممكنا فأما ما لا يقبل لك كالجدار فلا يقال: هو قادر على الحركة ولا عاجز عنها )

فيقال: هذا نزاع لفظي كما تقدم ويقال أيضا: فما لا يقبل قيام الأفعال الاختيارية به والقدرة عليها كالجماد أنقص مما يقبل ذلك كالحيوان فالحيوان الذي يقبل أن يتحرك بقدرته وإرادته إذا قدر عجزه هو أكمل مما لا يقبل الاتصاف بذلك كالجماد فإذا وصفتموه بعدم قبول ذلك كان ذلك أنقص من أن تصفوه بالعجز عن ذلك وإذا كان وصفه بالعجز عن ذلك صفة نقص مع إمكان اتصافه بالقدرة على ذلك فوصفه بعدم قبول الأفعال والقدرة عليها أعظم نقصا

فإن قال النافي: لو جاز ان يفعل أفعالا تقوم به بإرادته وقدرته للزم أن يكون محلا للحوادث وما قبل الشيء لا يخل عنه وعن ضده فيلزم تعاقبها وما تعاقبت عليه الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها

قيل لهم: هذا مبني على مقدمتين: على أن ما يقبل الشيء لا يخلو عنه وعن ضده وعلى امتناع دوام الحوادث وكل من المقدمتين قد بين فسادها كما تقدم

ثم قبل العلم بفساده يعلم بصريح العقل أن ما ذكر في إثبات هذه الأفعال من الأدلة العقلية الموافقة للأدلة الشرعية أبين وأظهر وأصرح في العقل من امتناع دوام الحوادث وتعاقبها فإن هذه المقدمة في غاية الخفاء والاشتباه وأكثر العقلاء من جميع الأمم ينازعون فيها ويدفعونها وهي أصل علم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وبهذه المقدمة استطالت الدهرية على من احتج بها من متكلمة أهل الملل وعجزوهم عن إثبات كون الله تعالى يحدث شيئا لا العالم ولا غيره والذين اعتقدوا صحة هذه المقدمة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم ظنوا أن حدوث العالم وإثبات الصانع لا يتم إلا بها وفي حقيقة الأمر هي تنافي حدوث العالم وإثبات الصانع بل لا يمكن القول بإحداث الله تعالى لشيء من الحوادث إلا بنقيضها ولا يمكن إثبات خلق الله لما خلقه تصديق رسله فيما أخبروا به عنه إلا بنقيضها فما جعلوه أصلا ودليلا على صحة المعقول والمنقول هو مناف مناقض للمنقول والمعقول كما قد بسط في غير هذا الموضع

وأيضا فإن هؤلاء النفاة يقولون: لم يكن الرب تعالى قادرا على الفعل فصار قادرا وكان الفعل ممتنعا فصار ممكنا من غير تجدد شيء أصلا يوجب القدرة والإمكان وهذا معنى قول القائل: إنه يلزم أن ينقلب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وهذا مما تجزم العقول ببطلانه مع ما فيه من وصف الله بالعجز وتجدد القدرة له من غير سبب

ومن اعتذر منهم عن ذلك - مثل كثير منهم - قالوا: إن الممتنع هو القدرة على الفعل في الأزل فنفس انتفاء الأزل يوجب إمكان الفعل والقدرة عليه

قيل لهم: الأزل ليس هو شيئا كان موجودا فعدم ولا معدوما فوجد حتى يقال: إنه تجدد أمر أوجب ذلك بل الأزل كالأبد فكما أن الأبد هو الدوام في المستقبل فالأزل هو الدوام في الماضي فكما أن الأبد لا يختص بوقت دون وقت فالأزل لا يختص بوقت دون وقت فالأزلي هو: الذي لم يزل كائنا والأبدي هو: الذي لا يزال كائنا وكونه لم يزل ولا يزال معناه دوامه وبقاؤه الذي ليس له مبتدأ ولا منتهى فقول القائل: ( شرط قدرته انتفاء الأزل ) كقول نظيره: ( شرط قدرته انتفاء الأبد )

فإذا كان سلف الأمة وأئمتها وجماهير الطوائف أنكروا قول الجهم في كونه تعالى لا يقدر في الأبد على الأفعال فكذلك قول من قال: لا يقدر في الأزل على الأفعال وقول أبي الهذيل: ( إنه تعالى لا يقدر على أفعال حادثة في الأبد ) يشبه قول من قال: ( لا يقدر على أفعاله حادثة في الأزل ) وقد بسط الكلام على هذا وقول من يفرق بين النوعين في غير هذا الموضع

الاستدلال على النفي والرد عليه[عدل]

وقد استدل بعضهم عل النفي بدليل آخر فقال: إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن حقيقته كافية في حصولها أولا حصولها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل وهذا يقتضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا هذا خلف وحينئذ يلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة

والمثبتون يجيبون عن هذا بوجوه :

أحدها: أن هذا إنما يقال فيما كان لازما لذاته في النفي أو الإثبات أما ما كان موقوفا على مشيئته وقدرته كأفعاله فإنه يكون إذا شاءه الله تعالى ولا يكون إذا لم يشأه فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإن بين المستدل أنه لا يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته كان هذا وحده كافيا في المسألة وإن لم يبين ذلك لم يكن فيما ذكره حجة

الثاني: أن يقال: إن هذا منقوض بأفعاله فإن حقيقته كافية في حصولها ولا لزام افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا فما كان جوابا عن الأفعال كان جوابا للمثبتين القائلين: إنه يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ومن جوز أنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلا بمحض القدرة والمشيئة القديمة قال هنا كذلك كما يقول الكرامية ومن قال: ( إنه لم يزل يفعل ويتكلم إذا شاء ) قال هنا كذلك كما يقولوه من يقوله من أئمة السنة والحديث

الثالث: أن يقال: أتعني بقولك ( ذاته كافية ) أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل؟ أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده؟ فإن عنيت الأول انتقض عليك بالمفعولات الحادثة فإنه يلزمك إما عدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل إذ كان مالا تكفي فيه الذات يفتقر إلى سبب منفصل وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذ كان مما تكفي الذات يمكن تأخره

الرابع: ان يقال: قولك ( يفتقر إلى سبب منفصل ) تعني به شيئا يكون من فعل الله تعالى أو شيئا لا يكون من فعله؟ أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب فهو فاعلها وفاعل ما يحدث بها فلا يكون مفتقرا إلى غيره وأما إن عنيت بالسبب ما لا يكون من فعله لزمك أن كل مالا يكفي فيه الذات فلا يستلزم وجوده في الأزل ألا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مخلوقاته ومعلوم أن هذا خلاف إجماع أهل الإيمان بل خلاف إجماعه جماهير العقلاء وهو خلاف المعقول الصريح أيضا فإن ذلك الشريك المقدر إن كان واجب الوجود بنفسه إلها آخر لزم إثبات خالق قديم مع الله مشارك له في فعله لا يفعل إلا به وهذا مع أنه لم يقل به أحد من بني آدم فهو باطل في نفسه لأنه يستلزم افتقار كل من الفاعلين إلى الآخر فإن التقدير في هذا المشترك هو أن أحدهما لا يستقل به بل يحتاج إلى معاونة الآخر وما احتاج إلى معاونة الآخر كان فقيرا إلى غيره ليس بغني وكان عاجزا ليس بقادر فإن كان هذا دليلا على انتفاء الوجوب بطل دليلك وإن لم يكن دليلا بطل دليلك أيضا فإنه مبني عليه وإن كان ذلك الشريك المقدر ليس واجب الوجود بنفسه فهو ممكن لا يوجد إلا بالواجب نفسه فلزم أن يكو من مفعولاته

الجواب الخامس: أن يقال قول المحتج: ( كل ما يفرض له فإما أن تكون ذاته كافية في ثبوت حصوله أو لا تكفي في حصوله وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل ) كلام باطل وذلك أنه يقال: لا نسلم أن مالا يكون مجرد الذات كافية في ثبوته أو انتفائه يفتقر فيه إلى سبب منفصل وإنما يلزم ذلك أن لو لم تكن الذات قادرة على ما يتصل بها من الأفعال فإذا كانت قادرة على ذلك أمكن أن يكون ما يتجدد له من الثبوت موقوفا على ما يقوم بها من مقدوراتها فليس مجرد الذات مقتضية لذلك ولا افتقرات إلى سبب منفصل وذلك أن لفظ ( الذات ) فيه إجمال واشتباه وبسبب الإجمال في ذلك وقعت شبهة في مسائل الصفات والأفعال؟ فإنه يقال له: ما تريد بذاته؟ أتريد به الذات المجردة عما يقوم بها من مقدوراتها ومرادتها؟ أم تعني به الذات القادرة على ما تريده مما يقوم لها ومما لا يقوم بها؟

فإن أرادت به الأول كان التلازم صحيحا فإنه إذا قدر ذات لا يقوم بها شيء من ذلك كان ما يثبت لها وما ينفي عنها إن لم تكن هي كافية فيه وإلا افتقرت إلى سبب منفصل لأنه لا يقوم بها ما تقدر عليه وتريده لكن يقال: ثبوت التلازم ليس بحجة إن لم تكن الذات في نفس الأمر كذلك وكون الذات في نفس الأمر كذلك هو رأس المسألة ومحل النزاع فلا يكون الدليل صحيحا حتى يثبت المطلوب ولو ثبت المطلوب لم يحتج إلى الدليل فتكون قد صادرت على المطلوب حيث جعلته مقدمة إثبات نفسه وهذا باطل بصريح العقل واتفاق أهل العارفين بذلك

وإن أردت بذات النوع الثاني لم يصح التلازم فإنه إذا قدر ذات تقدر على أن تفعل الأفعال التي تختارها وتقوم بها لم يلزم أن يكون ما يتجدد من تلك الأفعال موقوفا على سبب منفصل ولا يكون مجرد الذات بدون ما يتجدد من مقدورها ومرادها كافيا في كل فرد من ذلك بل قد يكون الفعل الثاني لا يوجد إلا بالأول والأول بما قبله وهلم جرا فليس مجرد الذات بدون ما تجدده كافيا في حصول المتأخرات ولا هي مفتقرة في ذلك إلى أمور منفصلة عنها فلفظ ( الذات ) قد يراد به الذات بما يقوم بها وقد يراد به الذات المجردة عما يقوم بها

فإذا قيل ( هل الذات كافية ) إن أريد به الذات المجردة فتلك لا حقيقة لها في الخارج عند أهل الإثبات وإذا قدرت تقديرا فهي لا تكفي في إثبات ما يثبت لها وإن أريد به الذات المنعوتة فإنه يقوم بها الأفعال الاختيارية فمعلوم أن هذه الذات لا يجب أن يتوقف ما يتجدد لها من فعل ومفعول على سبب منفصل عنها ونظير هذا قول نفاة الصفات: إن الصفات هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة؟ فإنا قد بينا في غير هذا الموضع أن الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها بل الصفات زائدة على ما يثبته النفاة من الذات وأما الذات الموصوفة بصفاته القادرة على أفعالها فتلك مستلزمة لما يلزمها من الصفات قادرة على ما تشاؤه من الأفعال فهي لا تكون إلا موصوفة لا يمكن أن تتجرد عن الصفات اللازمة لها حتى يقال: هل هي زائدة عليها أو ليست زائدة عليها؟ بل هي داخلة في مسمى اسمها والأفعال القائمة بها بقدرتها وإرادتها كذلك

فكما أنه مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى قبل خلق السماوات والأرض وبعد إقامة القيامة وفيما بين ذلك لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الإكرام والجلال فكذلك هو مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى قبل هذه الأفعال وبعدها

وكان أن ذلك ثابت قبل حدوث المفعولات وبعدها فهو ايضا ثابت قبل حدوث الأفعال وبعدها ومن آياته الشمس والقمر والكواكب وما تستحقه هذه الأعيان من الأسماء والصفات هو ثابت لها قبل الحركات المعينة وبعدها ولا يحتاج أن يقدر لها ذات مجردة عن النور وعن دوام الحركة ثم زيد عليها النور ودوام الحركة فالخالق سبحانه أولى بثبوت الكمال له وانتفاء النقص عنه والمخلوقات إنما احتاجت فيما يحدث عنها إلى سبب منفصل لأنها هي في نفسها محتاجة إلى الفاعل المنفصل فلا يوجد شيء من ذاته وصفاتها وأفعالها إلا بأمر منفصل عنها وأما الخالق سبحانه وتعالى فهو الغني عما سواه فلا يفتقر في شيء من ذاته وصفاته وأفعاله إلى أمر منفصل الذي هو مفتقر إليه فلا يحتاج فيما يجدده من أفعاله القائمة بنفسه التي يريدها ويقدر عليها إلى أمر مستغن عنه كما لا يحتاج في مفعولاته المنفصلة عنه إلى ذلك وأولى وإذا كان قد خلق من الأمور المنفصلة عنه ما جعله سببا لأفعال تقوم بنفسه كما يخلق الطاعات التي ترضيه والتوبة التي يفرح بها والدعاء الذي يجيب سائله وأمثال ذلك من الأمور فليس هو في شيء من ذلك مفتقرا إلى ما سواه بل هو سبحانه الخالق للجميع وكل ما سواه مفتقر إليه وهو الغني عن كل ما سواه وهذا كما أن ما يفعله من المخلوقات بعضها ببعض كإنزال المطر بالسحاب وإنبات النبات بالماء لا يوجب افتقاره إلى الأسباب المنفصلة إذ هو خالق هذا وهذا وجاعل هذا سببا لهذا وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع بما لا يليق بهذا المكان

الجواب السادس: أن يقال: قولهم إن لم يكن ذاته كافية في حصولها لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا تمنع فيه المقدمة الأولى التلازمية التي هي شرطية متصلة وذلك أن الذات إن لم تكن كافية في حصولها إنما يلزم افتقار ذلك الحادث إلى سبب منفصل لا يلزم افتقار نفس الذات إلى سبب منفصل فإن المحتج يقول: كل صفة تفرض فذاته كافيه في حصولها أو لا حصولها لأنه لو لم يكن كذلك لزم افتقاره إلى سبب منفصل

فيقال له: بتقدير أن لا تكون الذات كافية في نفي تلك الصفة أو ثبوتها يلزم أن يكون نفيها أن إثباته موقوفا عل أمر غير الذات وأما كون الذات تكون موقوفة على ذلك الغير فهذا ليس بلازم من هذا التقدير إلا أن يتبين أنه إذا كان شيء من الأمور التي توصف بها من السلب والإيجاب موقوفا على الغير وجب أن يكون هو نفسه موقوفا على الغير وهو لم يبين ذلك

ومن المعلوم أن القائلين بهذا يقولون: إن ما يتجدد من الأمور القائمة به فهو موقوف على مشيئته وقدرته وذاته ليست موقوفة على مشيئته وقدرته ويقولون: إنه يجوز أن يقف ذلك على ما يحدثه هو من الحوادث بمشيئته وقدرته وهو في نفسه ليس موقوفا على ما يحدثه من الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته وليس في الوجود موجود سواه وسوى مخلوقاته حتى يقال إن تلك الأمور موقوفة عليه بل غاية ما يمكن أن يقال إنها موقوفة على مشيئته وقدرته أو توابع مشيئته وقدرته وأصحاب هذا القول يقولون ذلك وتكون تلك الأمور موقوفة على ذلك لا يقتضي أن يكون هو نفسه موقوفا على ذلك ولكن هذا المحتج إن لم يقرر مقدمات حجته لم تكم حجته صحيحة وحجته مبنية على أنه لو لم تكف ذاته في حصول ما ينفي ويثبت للزم افتقاره إلى غيره وإنما يلزم افتقار تلك المنفيات والمثبتات إلى ذلك الغير فإن هذا بين فإن لم يبن أن افتقار تلك الأمور إلى الغير مستلزم لافتقاره وإلا لم تكن حجة صحيحة لا سيما وتلك الأمور على هذا التقدير ليست من لوازم ذاته فإنها لو كانت من لوازم ذاته كانت ذاته كافية فيها ولوازم الذات متى افتقرت إلى الغير لزم افتقار الذات إلى الغير فإن الملزوم لا يوجد إلا باللازم واللازم لا يوجد إلا بذلك الغير فالملزوم لا يوجد إلا بذلك الغير ولكن ذلك الغير لا يجب أن يكون فاعلا أو علة فاعلة بل يجوز أن يكو شرطا ملازما

وقد بين في غير هذا الموضع أن نفس ذات الواجب إذا قيل: هي ملازمة لصفاته الواجبة له أو صفاته الواجبة له ملازمة لذاته أو كل من الصفات الواجبة ملازم للأخرى كان هذا حقا وهو متضمن أن تحقيق كل من ذلك مشروط بتحقق الآخر

وأما كون الرب تعالى مفتقر إلى شيء مباين له غنى عنه فهذا ممتنع فإنه سبحانه الغني عن كل شيء فإذا قدر أن بعض لوازمه توقف على ما هو مباين له لم يكن وجوده ثابتا إلا بوجود ذلك المباين وكان الله مفتقرا إليه والله غني عن كل شيء وأما إذا لم يكن الأمر من لوازم ذاته بل كان من الأمور العارضة فلا ريب أن أهل الإيمان والسنة يقولون إن الله لا يفتقر في شيء من الأشياء إلى غيره لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله سواء قام بذاته أو لم يقم بذاته ولكن هو بنفسه غني عن كل ماسواه ولا يقال إنه نفسه غني عن نفسه وليس في كونه مستلزما لصفاته وفاعلا لأفعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه فإنه إذا كان وحده مستلزما لصفاته وفاعلا لأفعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه فإنه إذا كان وحده مستلزما لصفاته فاعلا لجميع أفعاله لم يكن شيء مما وجد بغيره بل جميع ما وجد فلا يخرج من ذاته وصفاته وأفعاله فلا يتصور أن يكون مفتقرا إلى غير نفسه المقدسة سبحانه وتعالى

ولكن المقصود أن هذا المحتج إذا قال له المعترض: ما المانع أن تكون هذه الأمور العارضة موقوفة على غير مع كون الحق واجب بذاته؟ لم يكن فيما ذكر حجة بل ذكر أن تلك الأمور إذا لم تكن من لوازم ذاته بحيث تكون مجرد الذات كافيه فيها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل واللازم إنما هو افتقار تلك الأمور إلى سبب منفصل فإن بين أن ما يقوم بالواجب يمتنع أن يكون موقوفا على سبب منفصل تمت حجته وإلا فلا ولا يمكن أن يقيم حجه إلا على أنه لا يقف على ما هو مستغن عن الواجب بنفسه وهذا حق وأما كونه لا يقف على ما هو مفتقر إلى الواجب فهذا لا يمكن إقامة الدلالة عليه

الوجه السابع: أن يقال: قولك بأن عواض ذاته لا يتوقف على الغير يستلزم أن عواض ذاته يتوقف على الغير وإذا كان تقدير ثبوته مستلزما لانتفائه دل على أن تقدير ثبوته مستلزم لجمع بين النقيضين فلا يكون ثابتا وإن شئت قلت: قولك لا تقوم به الحوادث مستلزم لقيام الحوادث به فيلزم الجمع بين النقيضين وإن شئت قلت: قولك لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته يستلزم نقيض ذلك فيكون باطلا وهذا يصلح أن يكون دليلا مستقلا في أول المسألة وذلك لأن هذا العالم المشهود إما أن يكون واجبا بذاته أو ممكنا فإن كان واجبا بذاته فمن المعلوم قيام الحوادث به فيلزم قيامها بالواجب بذاته

وأيضا فمن المعلوم أن ما يقوم ببعض الأفلاك من الحوادث ليست ذاته كافيه له بل هو موقوف على غيره فيكون ما يقوم بالواجب بنفسه موقوفا على غيره وإن كان هذا العالم ممكنا وهو الحق فلا بد له من واجب فذلك الواجب إما أن يكون علة تامة مستلزمة في الأزل لجميع معلولاته أو لا والأول باطل لأنه لو كان كذلك لم يتأخر شيء من معلولاته والثاني يقتضي أنه فعل بعد أن لم يكن فعل وذلك يقتضي تجدد فاعلية فأما أن يكون تجدد ذلك مستلزما لكون متجدداته توجب افتقار ذاته إلى غيره أو لا فإن لم تكن بطلت الحجة وإن استلزم ذلك ثبت افتقار ما يتجدد بذاته إلى غيره فلو قيل: إن الواجب لا تقوم بذاته هذه الأمور للزم أن تقوم بذاته هذه الأمور فيلزم الجمع بين النقيضين وإن قيل: تجدد الفاعلية لا يستلزم قيام شيء به بل تجددت من غير حدوث شيء أصلا قيل: فكذلك ما يتجدد من الأمور القائمة بذاته ممكن حينئذ تجدده من غير حدوث شيء اصلا بطريق الأولى وإن شئت أن تكون هذه معارضة ودليلا في رأس المسألة ونقول: ما يتجدد من مفعولاته هل يتقضي أفتقار ذاته إلى غيره أما لا؟ فإن قيل لا يقتضي فكذلك ما يتجدد من أفعاله القائمة به وإلا فلا وهذا لأن نفاة الأمور القائمة به منهم من يقول حدثت الحوادث المباينة له من غير تجدد شيء أصلا كما يقول ذلك من يقول من المعتزلة والكلابية وغيرهم ومنهم من يقول: بل ما زالت الحوادث تحدث مع كونه مستلزما لجميع مفعولاته كما تقول ذلك الدهرية الفلاسفة والدهرية منهم من يقول: : إن العالم واجب الوجود بنفسه ومنهم من يقول: إن الأول علة غائية له وكل من هذه الأقوال يلزمه من التناقض ما يبين به أنه لا يمكنه إبطال القول بقيام مراداته ومحبوابته بذاته

معارضة بعض المتكلمين للرازي[عدل]

وقد عارض بعضهم الرازي فيما ذكره من أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف فقال: المراد بالحادث: الموجود الذي وجد بعد العدم ذاتا كان أو صفة أما ما لا يوصف بالوجود - كالأعدام المتجددة والأحوال عند من يقول بها والإضافات عند من لا يقول: إنها وجودية - فلا يصدق عليها اسم الحادث وإن صدق عليها اسم المتجدد فلا يلزم من تجدد الإضافات والأحوال في ذات الباري أن تكون محلا للحوادث

قال: وما قاله الإمام - يعني الرازي - في هذا المقام إن أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان وبينه بصور فليس كذلك لأن أكثر ما ذكر من تلك الأمور فإنما هي متجددة لا محدثة والمتجدد أعم من الحادث فلا يلزم من وجود العام وجود الخاص

قلت: ولقائل أن يقول: هذا ضعيف من وجوه :

الرد عليهم من وجوه[عدل]

الوجه الأول[عدل]

أن الدليل الذي استدلوا به على نفي الحوادث ينفي المتجددات أيضا كقولهم: إما أن يكون كمالا أو نقصا وقولهم: لو حصل ذلك لزم التغير وقولهم: إما أن تكون ذاته كافية فيه أو لا تكون وقولهم: كونه قابلا له في الأزل يستلزم إمكان ثبوته في الأزل فإنه لا يمكن أن يحصل في الأزل لا متجدد ولا حادث ولا يوصف الله بصفة نقص سواء كان متجددا أو حادثا وكذلك التغير لا فرق بين أن يكون بحادث أو متجدد فإن قالوا: تجدد المتجددات ليس تغيرا قال أولئك: وحدوث الحركات الحادثة ليس تغيرا فإن قالوا: ( بل هذا يسمى تغيرا ) منعوهم الفرق وإن سلموه كان النزاع لفظيا وإذا كان استدلالهم ينفي القسمين لزم إما فساده وإما النقض

الوجه الثاني[عدل]

أن يقال: تسمية هذا متجددا وهذا حادثا فرق لفظي لا معنوي ولا ريب أن أهل السنة والحديث لا يطلقون عليه سبحانه وتعالى أنه محل للحوادث ولا محل للأعراض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة التي يفهم منها معنى باطل فإن الناس يفهمون من هذا أن يحدث في ذاته ما سمونه هم حادثا كالعيوب والآفات والله منزه عن ذلك سبحانه وتعالى وإذا قيل: فلان ولي على الأحداث أو تنازع أهل القبلة في أهل الأحداث فالمراد بذلك: الأفعال المحرمة كالزنا والسرقة وشرب الخمر وقطع الطريق والله أجل وأعظم من أن يخطر بقلوب المؤمنين قيام القبائح به والمقصود أن تفرقة المفرق بين المتجدد والحادث أمر لفظي لا معنى عقلي ولو عكسه عاكس فسمى هذا متجددا وهذا حادثا لكان كلامه من جنس كلامه

الوجه الثالث[عدل]

أن دعوى المدعي أن الجمهور إنما يلزمهم تجدد الإضافات والأحوال والأعدام لا تجدد الحادث الذي وجد بعد العدم ذاتا كان أو صفة دعوى ممنوعة لم يقم عليها دليلا بل الدليل يدل على أن أولئك الطوائف يلزمهم قيام أمور وجودية حادث بذاته مثال ذلك سبحانه وتعالى يسمع ويرى ما يخلقه من الأصوات والمرئيات

وقد أخبر القرآن بحدوث ذلك في مثل قوله: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة: 105 ) وقوله تعالى: { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ( يونس: 14 ) وقد أخبر بسمعه ورؤيته في مواضع كثيرة كقوله لموسى وهارون: { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه: 46 ) وقوله: { الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين } ( الشعراء: 218 - 219 ) وقوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ( آل عمران: 181 ) { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } ( المجادلة: 1 )

وفي الصحيح [ عن عائشة رضي الله عنها قالت: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تشتكي إلى رسول الله في جانب البيت وإنه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } ] ومثل هذا كثير

فيقال لهؤلاء: أنتم معترفون وسائر العقلاء بما هو معلوم بصريح العقل أن المعدوم لا يرى موجودا قبل وجوده فإذا وجد فرآه موجودا وسمع كلامه فهل حصل أمر وجودي لم يكن قبل أو لم يحصل شيء؟

فإن قيل: لم يحصل أمر وجودي وكان قبل أن يخلق لا يراه فيكون بعد خلقه لا يراه أيضا وإن قيل: حصل أمر وجودي فذلك الوجودي إما أن يقوم بذات الرب وإما أن يقوم بغيره فإن قام بغيره لزم أن يكون غير الله هو الذي رآه وإن قام بذاته علم أنه قام به رؤية ذلك الموجود الذي وجد كما قال تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة: 105 ) وما سموه إضافات وأحوالا وتعلقات وغير ذلك

يقال لهم: هذه أمور موجوده أو ليست موجودة؟ فإن لم تكن موجودة فلا فرق بين حاله قبل أن يرى ويسمع وبعد أن يرى ويسمع فإن العدم المستمر لا يوجب كونه صار رائيا سامعا وإن قلتم: بل هي أمور وجودية فقد أقررتم بأن رؤية الشيء المعين لم تكن حاصلة ثم صارت حاصلة بذاته وهي أمر وجودي

والمتفلسفة لا يقتصر في إلزامهم على تجدد الإضافات بل يلزمون بكونه محدثا للحوادث المتجددة شيئا فشيئا والإحداث هو من مقولة أن يفعل وأن يفعل: أحد المقولات العشر وهي أمور وجودية

فيقال: كونه فاعلا لهذه الحوادث المعينة بعد أن لم يكن فاعلا لها إما أن يكون أمرا حادثا وإما أن لا يكون حدث كونه فاعلا فإن لم يحدث كونه فاعلا فحاله قبل أن يحدثها وبعد أن يحدثها واحد وقد كان قبل أن يحدثها غير فاعل لها فيلزم أن لا يحدث شيء أو يحدث بلا محدث وأنتم أنكرتم على المتكلمة الجهمية والمعتزلة أن قالوا: الذات تفعل بعد أن لم تكن فاعلة بلا أمر تجدد فكيف تقولون: هي دائما تفعل الحوادث شيئا بعد شيء من غير أن يحدث لها أمر؟

وأيضا فالفاعلية التامة لكل واحد من الحوادث إن كانت موجودة في الأزل قبل حدوثه لزم تأخر الفعل عن الفاعلية التامة وهذا باطل وذلك يبطل قولهم وإن قالوا: بل الفاعلية التامة لكل حادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة فقد صارت الذات فاعلة لذلك الحادث بعد أن لم تكن فاعلة وكونها فاعلة هي من مقولة أن يفعل هي إحدى المقولات العشر التي هي الأجناس العالية المسماة عندهم بقاطيغورياس وهي كلها وجودية فيلزم اتصاف الرب بقيام الأمور الوجودية به شيئا بعد شيء كما أختاره كثير من سلفهم وخلفهم

وهكذا يمكن تقرير كل ما ذكر الرازي من إلزام الطوائف شيئا بعد شيء لمن تصور ذلك تصورا تاما وكل من قال: ( لم يحدث شيء موجود ) فإنه يلزمه التناقض البين الذي لا ينازع فيه المنصف الذي يتصور ما يقول تصورا تاما

وقد اعتذر من اعتذر من الفلاسفة عما ألزمهم إياه من الإضافات بأن قالوا: الإضافات لا توجد إلا كذلك فلا يتصور فيه الكمال قبلها ولأنها تابعة لغيرها فلا يثبت فيها الكمال بل في متبوعها

قلت: ولقائل أن يقول: هذا بعينه يقوله المثبتون فإن الكلام إنما هو في الحوادث المتعلقة بمشئيته وقدرته ومن المعلوم امتناع ثبوت الحوادث جميعها في الأزل: فإذا قال القائل: ( الإضافات لا توجد إلا حادثة ) قيل له: والحوادث المعلقة بمشيئته وقدرته لا توجد لا حادثة

وأما قوله: ( الإضافة تابعة لغيرها فلا يثبت فيها الكمال ) فعنه جوابان: أحدهما: أن الدليل لا يفرق بين التابع والمتبوع فإن صح الفرق ظل الدليل وإن لم يصح انتقض الدليل فيبطل على التقديرين

الثاني: أن يقال: وهكذا ما يتعلق بمشيئته وتقدرته هو تابع أيضا فلا يثبت فيه الكمال

يوضح ذلك: أنه سبحانه مستحق في أزله لصفات الكمال لا وزر أن يكون شيء من الكمال الأزلي إلا وهو متصف به في أزله كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك وإنما الشأن فيما لا يمكن وجوده في الأزل

طريقة الأئمة في مسألة القرآن[عدل]

ومما يبين لك أن الرازي وأمثاله كانوا يعتقدون ضعف هذه المسألة - مع فرط رغبتهم في إبطال قول الكرمية إذا أمكنهم - أنه لم يعتمد على ذلك في مسألة كلام الله تعالى في أجل كتبه نهاية العقول ومسأل الكلام هي من أجل ما يبنى على هذا الأصل

وذلك أن الطريقة المعروفة التي سلكها الأشعري وأصحابه في مسألة القرآن هم ومن وافقهم على هذا الأصل من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد وكأبي المعالي الجويني وأمثاله وأبي القاسم الرواسي وأبي سعيد المتولي وغيرهم من أصحاب الشافعي والقاضي أبي الوليد الباجي وأبي بكر الطرطوشي والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم من أصحاب مالك وكأبي منصور الماتريدي وميمون النسفي وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: لو كان القرآن مخلوقا للزم أن يخلقه: إما في ذاته أو في محل غيره أو أن يكون قائما بنفسه لا في ذاته ولا في محل آخر والأول: يستلزم أن يكون الله محلا لحوادث والثاني: يقتضي أن يكون الكلام كلام المحل الذي خلق فيه فلا يكون ذلك الكلام كلام الله كسائر الصفات إذا خلقها في محل كالعلم والحياة والحركة واللون وغير ذلك والثالث: يقتضي أن تقوم الصفة بنفسها وهذا ممتنع

فهذه الطريقة هي عمدة هؤلاء في مسألة القرآن وقد سبقهم عبد العزيز المكي صاحب الحيدة المشهورة إلى هذا التقسيم

قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه

وقد يظن الظان أن كلامهم هو كلامه بعينه وأنه كان يقول بقولهم وأن الله لا يقوم بذاته ما يتعلق بقدرته ومشيئته وأن قوله من جنس قول ابن كلاب وليس الأمر كذلك فإن عبدالعزيز ـ هذا ـ له في الرد على الجهمية وغيرهم من الكلام ما لا يعرف فيه خروج عن مذهب السلف وأهل الحديث

وذلك أنه قال بعد أن ذكر جوابه لبشر فيما احتج به بشر من النصوص مثل قوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الزمر: 62 ] وقوله تعالى: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } [ الزخرف: 3 ] قال: ( فقال بشر: يا أمير المؤمنين عندي أشياء كثيرة إلا أنه يقول بنص التنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس فليدع ما مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره؟ فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال )

وذكر عبد العزيز أنه طلب من بشر أن يناظره على وجه النظر والقياس ويدع مطالبته بنص التنزيل - إلى أن قال: ( فقال عبد العزيز: يا بشر تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: سل أنت وطمع في وجميع أصحابه ! وتوهموا أني إذا خرجت عن نص التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره )

قال عبدالعزيز: ( فقلت: يا بشر تقول: إن كلام الله مخلوق؟ قال: أقول: إن كلام الله مخلوق ) قال: ( فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها: أن تقول: إن الله خلق القرآن - وهو عندي أناكلامه - في نفسه أو خلقه قائما بذاته ونفسه أو خلقه في غيره فقل ما عندك قال بشر: أقول: إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين تركنا القرآن ونص التنزيل والسنن والأخبار عند هربه منها وذكر أنه يقيم الحجة وأنا أقول معه بخلق القرأن فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب وانقطع عن الكلام فإن كان يريد أن يناظرني على أنه يجيبني عما أسأله عنه وإلا فأمير المؤمنين أعلى عينا في صرفي فإنما يريد بشر أن يقع معه من لا يفهم فيخدعه عن دينه ويحتج عليه بما لا يعقله فتظهر حجته عليه فيبيح دمه

قال: فأقبل عليه المأمون فقال: أجب عبد العزيز عما سألك عنه فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه فقال بشر: قد أجبته ولكنه يتعنت فقال المأمون: يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث فقال: هذا أشد طلبا من مطالبته بنص التنزيل ما عندي غير ما أجبته به

قال: فأقبل على المأمون فقال: يا عبد العزيز تكلم أنت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشرا فقد انقطع عن الجواب من كل جهة

فقلت: نعم سألته عن كلام الله تعالى: أمخلوق هو؟ قال: نعم فقلت له ما يلزمه في هذا القول وهو واحدة من ثلاث لا بد منها: أن يقول إن الله خلق كلامه في نفسه أو خلقه في غيره أو خلقه قائما بذاته ونفسه فإن قال ( إن الله خلق كلامه في نفسه ) فهذا محال لا يجد سبيلا إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول لأن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك عز وجل وتعظم !

وإن قال: ( خلقه الله في غيره ) فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه في غيره هو كلام الله عز وجل لا يقدر أن يفرق بينهما فيجعل كلامه كلاما لله ويجعل قول الكفر والفحش وكل قول ذمه الله وذمه قائله: كلاما لله عز وجل وهذا محال لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به لظهور الشناعة والفضيحة والكفر على قائله تعالى الله عن ذلك !

وإن قال :

( خلقه قائما بنفسه وذاته ) فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلا في قياس ولا نظر ولا معقول لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا العلم إلا من عالم ولا القدرة إلا من قدير ولا يرى ولا رئي كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته وهذا مما لا يعقل ولا يعرف ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا علم أنه صفة لله وصفات الله كلها غير مخلوقة فبطل قول بشر

فقال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز فقال بشر: سل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج من بيننا شيء

فقلت: أنا أدع هذه المسألة وأسأل عن غيرها قال: سل قال عبد العزيز: فقلت لبشر: ألست تقول: إن الله كان ولا شيء وكان ولما يفعل شيئا ولما يخلق شيئا؟ قال: بلى فقلت: فبأي شيء حدثت الأشياء بعد أن لم تكن شيئا؟ أهي أحدثت نفسها أم الله أحدثها؟ فقال: الله أحدثها فقلت له: فبأي شيء حدثت الأشياء إذ أحدثها الله؟ قال: أحدثها بقدرته التي لم تزل قلت له: إنه أحدثها بقدرته كما ذكرت أفليس تقول: إنه لم يزل قادرا؟ قال: بلى قلت له: فتقول: إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا أقول هذا قلت له: فلا بد أن يلزمك أن تقول: أنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة لله ولا يقال لصفة الله هي الله ولا هي غير الله فقال بشر: ويلزمك أنت أيضا أن تقول: إن الله لم يزل يفعل ويخلق وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله قال عبد العزيز: فقلت لبشر: ليس لك أن تحكم علي وتلزمني مالا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل إني لم أقل: ( إنه لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل ) ليلزمني ما قلت وفي نسخة أخرى: ( وإنما قلت إنه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة الله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) قال بشر: أنا أقول إنه أحدث أشياء بقدرته فقل ما شئت فقال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين قد أقر بشر أن الله كان ولا شيء وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن شيئا بقدرته وقلت أنا: إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته فلم يخل يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله خلق بقول قاله أو بإرادة أرادها أو بقدرة قدرها فبأي ذلك كان فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريدا ومرادا وقولا وقائلا ومقولا له وقدرة وقادرا ومقدورا عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق وما كان قبل اللخق متقدما فليس هو من الخلق في شيء فقد كسرت قول بشر بالكتاب والسنة واللغة العربية والنظر والمعقول ) ثم ذكر حجة أخرى

والمقصود هنا: أن عبد العزيز احتج بتقسيم حاصر معقول فإن الله تعالى إذا خلق شيئا فإما أن يخلقه في نفسه أو في غيره أو يخلقه قائما بنفسه وقد أبطل الأقسام الثلاثة

ولا ريب أن المعتزلة يقولون: إنه خلقه في غيره فأبطل ذلك عبد العزيز بالحجة العقلية التي يتداولها أهل السنة وهو أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله فإن كان مخلوقا في محل آخر غيره لزم أن يكون كل كلام مخلوق في محل كلام الله لتماثلهما بالنسبة إلى الله ويلزم أن يكون ما يخلقه تعالى من كلام الجلود والأيدي والأرجل كلام الله فإذا قالوا: { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم } ( فصلت: 21 ) كان الناطق هو المنطق وبشر لم يكن من القدرية بل كان ممن يقر بأن الله تعالى خالق أفعال العباد فألزمه عبد العزيز أن يكون كلام كل مخلوق كلام الله حتى قول الكفر والفحش وهذا الإلزام صرح به حلولية الجهمية من الاتحادية ونحوهم كصاحب الفصوص والفتوحات المكية ونحوه وقالوا :

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

ولهذا قال من قال من السلف: من قال: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } ( طه: 14 ) مخلوق فقد جعل كلام الله بمنزلة قول فرعون الذي قال: { أنا ربكم الأعلى } ( النازعات: 24 ) لأن عنده هذا الكلام خلقه الله في الشجرة وذلك خلقه في فرعون فإذا كان هذا كلام الله كان هذا كلام الله

كما قال سليمان بن داود الهاشمي - أحد أئمة الإسلام نظير الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي بكر بن أبي شيبة وأمثالهم - قال: ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: { أنا ربكم الأعلى } من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد

وكذلك ذكر نظير هذا عبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن سعيد القطان وهذا مبني على أن الله خالق أفعال العباد فإذا كان قد خلق في محل: ( إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني ) وخلق في محل: ( أنا ربكم الأعلى ) كان ذلك المحل الذي خلق فيه ذلك الكلام أولى بالعقاب من فرعون وإذا كان ذلك كلام الله كان كلام فرعون كلام الله

وأما كونه خلقه قائما بنفسه فهو ظاهر البطلان أيضا لأن الصفات لا تقوم بنفسها ولكن الجهمية تقول: خلق علما لا في محل والبصريون من المعتزلة يقولون: خلق إرادة وقدرة لا في محل وطائفة منهم يقولون: خلق بخلق بعد خلق لا في محل وهذه المقالات ونحوها مما يعلم فساده بصريح العقل

وأما القسم الأول - وهو كونه سبحانه خلقه في نفسه - فأبطله عبد العزيز أيضا لكن ما في نفس الله تعالى يحتمل نوعين :

أحدهما: أن يقال: أحدث في نفسه بقدرته كلاما بعد أن لم يكن متكلما وهذا قول الكرامية وغيرهم ممن يقولون: كلام الله حادث ومحدث في ذات الله تعالى وأن الله تكلم بعد أن لم يكن يتكلم أصلا وأن الله يمتنع ان يقال في حقه: ما زال متكلما وهذا مما أنكره الإمام أحمد وغيره

والثاني: أن يقال: لم يزل الله متكلما إذا شاء كما قاله الأئمة وكل من هاتين الطائفتين لا تقول: ( إن ما في نفس الله مخلوق ) بل المخلوق عندهم لا يكون إلا منفصلا عن نفس الله تعالى وما قام به من أفعاله وصفاته فليس بمخلوق

ولا ريب أن بشرا وغيره من القائلين بخلق القرآن كانوا يقولون: إنه خلق منفصلا عنه كما خلق غيره من المخلوقات فأما نفس خلق الرب عند من يقول الخلق غير المخلوق - وهم الأكثرون - فلا يقولون: إن الخلق مخلوق ومن قال بتجدد ما يقوم به من الأفعال أو الإرادات أو الإدراكات لم يقل: إن ذلك مخلوق فإنه إذا كان ثم خلق وخالق ومخلوق لم يكن الخلق داخلا في المخلوق

ولهذا كان من يقول: ( إن كلام الله قائم بذاته ) متفقين على أن كلام الله غير مخلوق ثم هم بعد هذا متنازعون على عدة أقوال: هل يقال: إنه معنى واحد أو خمسة معان لم تزل قديمة كما يقوله ابن كلاب والأشعري؟

أو أنه حروف وأصوات قديمة أزلية لم تزل قديمة كما يذكره عن ابن سالم وطائفة

أو يقال: بل هو حروف وأصوات حادثة في ذاته بعد أن لم يكن متكلما كما يقوله ابن كرام وطائفة

أو يقال: إنه لم يزل متكلما إذا شاء وإنه إذا شاء تكلم بصوت يسمع وتكلم بالحروف كما يذكر ذلك عن أهل الحديث والأئمة؟

والمقصود هنا أن ما قام بذاته لا يسميه أحد منهم مخلوقا سواء كان حادثا أو قديما

وبهذا يظهر احتجاج عبد العزيز على بشر فإن بشرا من أئمة الجهمية نفاة الصفات وعنده لم يقم بذات الله تعالى صفة لا فعل ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة بل ما ثم عنده إلا الذات المجردة عن الصفات والمخلوقات المنفصلة عنها كما تقول ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم فاحتج عليه عبد العزيز بحجتين عقليتين :

إحداهما: أنه إذا كان كلام الله مخلوقا ولم يخلقه في غيره ولا خلقه قائما بنفسه: لزم أن يكون مخلوقا في نفس الله وهذا باطل

الثانية: إن المخلوقات المنفصلة عن الله خلقها الله بما ليس من المخلوقات: إما القدرة - كما أقر به بشر - وإما فعله وأمره وإرادته - كما قاله عبد العزيز - وعلى التقديرين: ثبت أنه كان قبل المخلوقات من الصفات ما ليس بمخلوق فبطل أصل قول بشر والجهمية: إنه ليس لله صفة وإن كل ماسوى الذات المجردة فهو مخلوق وتبين أن الذات يقوم بها معان ليست مخلوقة وهذا حجة مثبتة الصفات القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق على من نفى الصفات وقال بخلق القرآن فإن كل من نفى الصفات لزمه القول بخلق القرآن

يبقى كلام أهل الإثبات فيما يقوم بذاته: هل يجوز أن يتعلق شيء منه بمشيئته وقدرته أم لا؟ وهل عبد العزيز ممن يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشئيته وقدرته أو ممن يقول: لا يكون المراد المقدور إلا منفصلا عنه مخلوقا؟ ويجعل المقدور هو المخلوق وهما في الأصل قولان معروفان ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره عن أهل السنة حسبما تقدم إيراده

وهذا القول الثاني هو قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم

والقول الأول: هو قول أئمة أهل الحديث والهشامية والكرامية وطوائف من أهل الكلام من المرجئة كأبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهم ومن وافق هؤلاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم

فقد يقول القائل: إن عبد العزيز موافق لابن كلاب لأنه قال: إن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه لكن إذا تدبر المتدبر سائر كلام عبد العزيز وجده من أهل القول الأول: قول أهل الحديث لأنه قال بعد هذا لبشر: بأي شيء حدثت الأشياء؟ قال: أحدثها الله بقدرته التي لم تزل قال عبد العزيز: فقلت له: إنه قد أحدثها بقدرته كما ذكرت أفلست تقول: إنه لم يزل قادرا؟ قال: بلى فقلت له: فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا أقول هذا قلت: فلا بد أن يلزمك أن تقول: إنه خلق بالفعل الذي كان بلا قدرة لأن القدرة صفة وقال عبد العزيز بعد هذا: لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع

وقد أثبت عبد العزيز فعلا مقدورا لله هوصفة له ليس من المخلوقات وأنه به خلق المخلوقات وهذا صريح في أنه يجعل الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول وأن الفعل صفة لله مقدور لله إذا شاء ولا يمنعه منه مانع وهذا خلاف قول الأشعري ومن وافقه

يبقى أن يقال: هذا الخلق - الذي يسمى التكوين - من الناس من يجعله قديما ومنهم من يجعله مقدورا مرادا وعبد العزيز صرح بأن الفعل الذي به يخلق الخلق مقدور له وهذا تصرح بأنه يقوم بذات الله عنده ما يتعلق بقدرته وما كان موجودا مقدورا لله فهو مراد له بالضرورة واتفاق الناس

وأيضا فإنه قال: قد أقر بشر أن الله أحدث الأشياء بقدرته وقلت أنا: إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته فقد صرح بأن القول يكون عن قدرته فجعل قول الله مقدرورا له مع أنه صفة له عنده

وهذا قول من يقول: إنه يقدر على التكلم وإنه بمشيئته وقدرته وليس هو قول من يقول: إن القول لازم له لا يتعلق بقدرته ومشيئته

فتبين أن عبد العزيز الكناني يثبت أنه يقوم بذات الله تعالى ما يتعلق بمشيئته وقدرته وأنه لا يجعل كل واحد من ذلك قديما وإن كان النوع قد يكون قديما لأن بشرا لما قال له: أحدثها بقدرته التي لم تزل قال له: أفليس تقول: لم يزل قادرا؟ قال: بلى قال: فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا قال: فلا بد أن يلزمك أن تقول: إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة

وهذا لأنه إذا كان لم يزل قادرا ولا مخلوقا ثم وجد مخلوق لم يكن قد وجد بقدرة بلا فعل فإنه لو كان مجرد القدرة كافيا في وجوده بلا فعل للزم مقارنة المخلوق للقدرة القديمة

وهذا المقام هو المقام المعروف وهو أنه: هل يمكن وجود الحوادث بلا سبب حادث أم لا؟ فإن جمهور العقلاء يقولون: إن انتفاء هذا معلوم بالضرورة وإن ذلك يقتضي الترجيح بلا مرجح وهذا هو الذي ذكره عبد العزيز بخلاف قول من يقول: إن نفس القادر يرجح أحد طرفي مقدروه بلا مرجح كما يقوله أكثر المعتزلة والجهمية أو بمجرد إرادة قديمة كما تقوله الكلابية والكرامية فإن هذا هو الذي ذكره بشر

يبقى هنا السؤال على عبد العزيز هو الذي ألزمه إياه بشر حيث قال له: وأنت أيضا يلزمك أن تقول: لم يزل يفعل ويخلق وإذا كان كذلك ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله لأن الحادث إن لم يفتقر إلى سبب حادث كفت القدرة القديمة وإن افتقر إلى سبب حادث فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في الذي حدث به فيلزم تسلسل الحوادث فيلزمك أنه لم يزل يفعل ويخلق فيكون المخلوق معه فأجابه عبد العزيز بأني لم أقل ( لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل ليلزمني ما قلت وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) وفي النسخة الأخرى: ( وإنما قلت: لم يزل الخالق سيخلق والفاعل سيفعل لأن الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع )

ومضمون كلامه: أنني لم أقل إن الله لم يزل يخلق الأشياء المنفصلة ويفعلها ولا يلزمني هذا كما لزمك لأنك جعلت المخلوقات تحصل بالقدرة القديمة من غير فعل من القادر يقوم به فإذا لم تتوقف المخلوقات على غير القدرة والقدرة قديمة لزم وجود المخلوقات معها وإلا لزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب لأن القدرة دائمة أزلا وأبدا ووجود المخلوقات ممكن والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وعند وجود المرجح التام يجب وجوده لأنه لو لم يجب لكان قابلا للوجود والعدم فيبقى ممكنا كما كان فلا يترجح إلا بمرجح تام فتبين أن وجود القدرة التي يمكن معها وجود المخلوقات لا يوجد المخلوق مع مجردها بل لا بد من أمر آخر يفعله الرب

قال عبد العزيز: وهذا الفعل صفة لله ليس من المخلوقات المنفصلة عنه والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع فأما قول القائل: ( إن ذلك الفعل الذي لم يكن ثم كان بالقدرة وهوصفة ) فإنه يسأل عن سبب حدوثه كما يسأل عن سبب حدوث المخلوق به

فيجيب عنه عبد العزيز بأجوبة

أحدها: الجواب المركب وهو أن يقول: تسلسل الآثار الحادثة إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا فلا محذور في التزامه وإن كان ممتنعا لم يلزمني ذلك ولا يلزم من بطلان التسلسل بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل أو بطلانه ولهذا كان كثير من الطوائف يقولون: الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول فيثبتون لك مع إبطال التسلسل مثل كثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ومن الصوفية وأهل الحديث والكلام من الكرامية والمرجئة والشيعة وغيرهم وهؤلاء منهم من يقول: الفعل الذي هو التكوين قديم والمكون المنفصل حادث كما يقولون مثل ذلك في الإرادة ومنهم من يقول: بل ذلك حادث الجنس بعد أن لم يكن وكلا الفرقين لا يقولون: إن ذلك مخلوق بل يقولون: إن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة

الجواب الثاني: أن يقول: ما ذكرته من التسلسل لازم لكل من قال: إن جنس الحوادث يكون بعد أن لم يكن فهو لازم لك ولي إذا قلت بهذا فلا أختص بجوابه وأما وجود المفعول بدون فعل: فهذا لازم لك وحدك وهو الذي احتججت به عليك فحجتي عليك ثابتة تبطل قولك دون قولي والإلزام الذي ذكرته أنت مشترك بيني وبينك فلا يخصني جوابه

الجواب الثالث: أن يقول: أنا قلت: الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه وإنما يجب أن يكون المخلوق معه في الأزل إذا ثبت أن الفعل يستلزم فعلا قبله وأن الفعل اللازم يستلزم ثبوت الفعل المتعدي إلى المخلوق فإن ذك يستلزم ثبوت غير المخلوق

وكل هذه المقدمات فيها ممانعات ومعارضات وتحتاج إلى حجج لم يذكر المريسي منها شيئا وعبد العزيز لم يلتزم شيئا من ذلك وإنما التزم أن الفعل صفة لله تعالى والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وحجته يحصل بها المقصود

وقوله في النسخة الأخرى - إن صح عنه: ( إنما قلت لم يزل الفاعل سيفعل والخالق سيخلق ) قد نفى فيه ان يكون نفس الفعل قديما فضلا عن أن يكون المفعول قديما

وقوله: ( إن الفعل صفة لله والله يقدر عليه لا يمنعه منه مانع ) يمنع قدم عين الفعل لا يمنع قدم نوعه إلا أن يثبت امتناع تسلسل الآثار وليس في كلامه تعرض لنفي ذلك ولا إثباته

وقوله: ( لم يزل سيفعل ) إن صح عنه يحتمل معنيين: أحدهما: أنه لم يزل موصوفا بأنه سيفعل ما يفعله من جميع المفعولات أعيانها وأنواعها كما يقوله من يقول بحدوث نوع الفعل القائم به كما يقوله من يقول بحدوث أنواع المنفصلات عنه والثاني: أنه لم يزل الفاعل سيفعل شيئا بعد شيء فهو متقدم على كل واحد واحد من أعيان المفعولات

فعلى الأول يمتنع أن يكون شيء من أنواعها أو أعيانها قديما وعلى الثاني لا يمتنع تقدم النأواع بل قد يمتنع تقدم أعيان المخلوقات فلا يكون شيء من المخلوقات مع الله في الأزل على التقديرين

وجماع ذلك: أن الذي ألزمه عبد العزيز للمريسي لازم له مبطل لقوله بلا ريب وعليه جمهور الناس فإن جماهير الناس يقولون: الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول وهذا قو ل جماهير الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجماهير الصوفية وجماهير أهل الحديث بل كلهم وكثير من أهل الكلام والفلسفة أو جماهيرهم فهو قول أكثر المرجئة من الكرامية وغيرهم وأكثر الشيعة وكثير من المعتزلة والكلابية وكثير من الفلاسفة ولأصحاب مالك والشافعي واحمد في ذلك قولان فالذي عليه أئمتهم: أن الخلق غير المخلوق وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى وقول جمهور أصحاب أحمد وهو الذي حكاه البغوي عن أهل السنة وهو قول كثير من الكلابية

قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه[عدل]

وأما قوله: ( إنه قادر على الفعل لا يمنعه منه مانع ) فكلامه يقتضي أنه لم يزل قادرا على الفعل لا يمنعه منه مانع وهذا الذي قاله هو الذي عليه جماهير الناس ولهذا أنكروا على من قال: لم يكن قادرا على الفعل في الأزل وكان من يبغض الأشعري ينسب إليه هذا لتنفر عنه قلوب الناس وأراد أبو محمد الجويني وغيره تبرئته من هذا القول كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع

وإذا كان لم يزل قادرا على الفعل كان هذا صفة كمال فلهذا قال عبد العزيز: ( لأن الفعل صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع ) وقد خلق المخلوقات بفعله فوجدت بالفعل الذي هو الخلق والفعل الذي هو الخلق بقدرة الله تعالى والقدرة على خلق المخلوق هي القدرة عليه

كما قال تعالى: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى } ( يس: 81 ) وقوله تعالى: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } ( القيامة: 40 ) وقوله تعالى: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } ( الأنعام: 65 ) الآية ونحو ذلك مما فيه وصف الله بالقدرة على الأفعال المتناولة للمفعولات وفيه بيان أن الخلق ليس هو المخلوق ولا أن نفس خلقه للسماوات والأرض هو السماوات والأرض والقدرة التي تزل ثم وجدت المخلوقات بدون فعل اصلا

فيقول له المريسي: فذلك الفعل الذي هو صفته وهو يقدر عليه لا يمنعه منه مانع إن كان قديما كان كالقدرة وكان السؤال علي كالسؤال عليك وإن كان حادثا من غير تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث المخلوق بالقدرة التي لم تزل وإن كان ذلك الفعل كان بفعل آخر وتسلسل الأمر: لزم تسلسل الأفعال ولزم أن يكون الفاعل لم يزل يفعل والخالق لم يزل يخلق

فيقول له عبد العزيز: لم أقل إنه قديم بل قلت: إنه صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع وماكان مقدورا له لا يمنعه منه مانع لم يجب أن يكون قديما معه بل إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله

وأما سؤالك عن سبب حدوثه فهنا لأهل الإثبات جوابان :

أحدهما: - وهو جواب الكرامية ومن وافقهم - أن إثبات الفعل للمفعول والخلق للمخلوق لا بد منه فإنا نعقل أن القادر على الفعل قبل أن يفعله ليس له فعل فإذا فعله كان هناك فعل به فعل المفعول وخلق به خلق المخلوق ونحن مقصودنا إثبات فعل وصفة لله تقوم به مغاير مخلوقاته وكلامه من هذا الباب ونحن لم نورد عليكم التسلسل فإن ذلك باطل على قولنا وقولكم جميعا

الجواب الثاني: أن يقول من يجيب به: لا يمتنع أن يكون قبل الفعل المعين ما هو أيضا فعل فعله الله بقدرته ولا يضرني التسلسل فإن ذلك جائز ممكن فإن هذا تسلسل في الأفعال والآثار والشروط وهذا ليس بممتنع

فعلى الجواب الأول: يظهر قوله: ( إنما قلت لم يزل الخالق سيخلق وسيفعل ولم أقل لم يزل يخلق ويفعل )

وأما على الجواب الثاني: ( فإذا قال: لم يزل يخلق ويفعل بل أقول: إنه لم يزل سيخلق وسيفعل فنقرره بوجهين :

أحدهما: أن الفعل لا يستلزم وجود مخلوق بل يكون الفعل قائما بنفسه بعد فعل قائم بنفسه وهلم جرا من غير وجود مخلوق منفصل عنه

الثاني: أنه لو قدر تسلسل المفعولات كتسلسل الأفعال فما من مفعول ولا فعل إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال إذ كان كل منهما حادثا بعد أن لم يكن والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارنا للقديم الذي لم يزل وإذا قيل: ( إن نوع الأفعال أو المفعولات لم يزل ) فنوع الحوادث لا يوجد مجتمعا لا يوجد إلا متعاقبا فإذا قيل: ( لم يزل الفاعل يفعل والخالق يخلق ) - والفعل لا يكون إلا معينا والخلق والمخلوق لا يكون إلا معينا - فقد يفهم أن الخالق للسماوات والإنسان لم يزل يخلق السماوات والإنسان والفاعل لذلك لم يزل يفعله وليس كذلك بل لم يزل الخالق لذلك سيخلقه ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله فما من مخلوق من المخلوقات ولا فعل من الأفعال إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله ليس موصوفا بأنه لم يزل فاعلا له خالقا له بمعنى أنه موجود معه في الأزل وإن قدر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلا لفعل آخر وقبل هذا المخلوق خالقا لمخلوق آخر فهو لم يزل بالنسبة إلى كل فعل ومخلوق سيفعله وسيخلقه لا يقال: لم يزل فاعلا له خالقا بمعنى مقارنته له وإذا أريد أنه لم يزل فاعلا للنوع كان هذا بمعنى قولنا: ( إنه لم يزل سيفعل ما يفعله ) لكن هذه العبارة تفهم من الباطل ما لا تفهمه تلك العبارة

وهذا الموضع للناس فيه أقوال فإن جمهور أهل السنة يقولون: لم يزل الله خالقا فاعلا كما قال الإمام أحمد: لم يزل الله عالما متكلما غفورا بل يقولون: لم يزل يفعل إما بناء على أن الفعل قديم وإن كان المفعول محدثا أوبناء على قيام الأفعال المتعاقبة بالفاعل

ومذهب بشر وإخوانه الجهمية: أن المخلوقات كلها كائنة بدون فعل ولا خلق وكلام الله من جملتها فألزمه عبد العزيز على أصله فقال له: إذا قلت: كان الله ولما يفعل ولما يخلق شيئا وهو لم يزل قادرا ثم خلق المخلوقات فأنت تقول: لم يزل قادرا ولا تقول: لم يزل يفعل المخلوقات فلا بد له من أن يكون هناك فعل حصل بالقدرة وليس هو القدرة التي لم تزل ولا هو المخلوق المنفصل إذ لو كان كذلك لكان المخلوق قد وجد من غير خلق والمفعول قد وجد من غير فعل وهذا أعظم امتناعا في العقل من كونه وجد بغير قدرة فإنه إذا عرض على العقل مفعول مخلوق حدث بعد أن لم يكن بلا فعل ولا خلق كان إنكار العقل لذلك أعظم من إنكاره لحدوثه من غير قدرة الفاعل وإنكاره لحدوثه من غير فاعل أعظم امتناعا في العقل من هذا وهذا فإذا قيل: فعله الفاعل بلا قدرة أنكره العقل وإذا قيل: فعله بالقدرة التي لم تزل بدون فعل كان إنكاره أعظم وإذا قيل: حدث بلا فاعل كان أعظم وأعظم فإن الفاعل بلا فعل كالعالم بلا علم والحي بلا حياة والقادر بلا قدرة نحو ذلك وذلك نفي لجزء مدلول اللفظ الذي دل عليه بالتضمن وأما نفي القدرة عن الفاعل فهو نفي لما دل عليه باللزوم العقلي

وإذا قال القائل: ( بل يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا فعل ولا خلق غيره لأنه لو كان بفعل للزم أن يكون للفعل فعل ولزم التسلسل وأن يكون محلا للحوادث )

قيل: فعلى هذا يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا قدرة من الفاعل لأن ثبوت القدرة يستلزم ثبوت الصفات وقيام الأعراض به

فإذا قال: ( الفعل بدون القدرة ممتنع وليس في العقل ما يحيل لوازم القدرة بل علمنا بامتناع الفعل بلا قدرة أعظم من علمنا بامتناع قيام الصفات به وإن سماها المسمي أعراضا )

قيل له: والمخلوق المفعول بلا فعل ولا خلق أعظم امتناعا في العقل وليس في العقل ما يحيل لوازم الفعل الذي كان بالقدرة بل علمنا بامتناع ذلك أعظم من علمنا بامتناع قيام الأفعال به وإن سماها المسمي حوادث

يبين ذلك: أن افتقار المخلوق إلى خلق والمفعول المنفصل إلى فعل يعلم باللزوم العقلي وبالقول السمعي فإن ( فاعل وخالق ) مثل متكلم وقائل ومريد ومتحرك وغير ذلك من الأسماء التي تستلزم قيام معان بالمسميات

فلما ظهرت حجة عبد العزيز على المريسي في أنه لا بد من فعل للرب تعالى بقدرته كما قال له: ( يلزمك أن تقول إنه خلق بلا فعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة لله ولا يقال لصفة الله: هي الله ولا يقال: إنه غير الله ) ولم يقل عبد العزيز أنها ليست هي الله ولا غيره بل قال: لا يقال إنها هي الله ولا يقال إنها غيره

وقل عبد العزيز هذا هو قول أئمة السنة كالإمام أحمد وغيره وهو قول ابن كلاب وغيره من الأعيان ولكن طائفة من أصحاب أحمد مع طائفة من متكلمي الصفاتية أصحاب الأشعري يقولون: لا هي الله ولا غيره

وتلك العبارة هي الصواب كما قد بسط في غير هذا الموضع فإن لفظ ( الغير ) فيه إجمال فلا يصح إطلاقه لا نفيا ولا إثباتا على الصفة ولكن يصح نفي إطلاقه نفيا أو إثباتا كما قال السلف مثل ذلك في لفظ ( الجبر ) ونحوه من الألفاظ المجملة: إنه لا يطلق لا نفيها ولا إثباتها وإذا قيل: ( لا يطلق لا هذا ولا هذا ) لم يلزم إثبات قسم ثالث لا هو الموصوف ولا غير الموصوف بل يلزم إثبات مالا يطلق عليه لفظ الغير لا ما ينفي عنه المغايرة

ومقصود عبد العزيز: أن القدرة صفة لله ليست هي الفعل الذي كان عن القدرة فإنه يقول: لم يزل الله قادرا ولا يقول: لم يزل فاعلا

فعارضه المريسي بأن هذا يلزمك أيضا فيلزمك أن تقول: لم يزل يفعل ويخلق

وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله

فقال له عبد العزيز: ليس لك أن تحكم علي وتلومني ما لا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل وذلك لأن عبد العزيز لم يقل في هذا قولا يحكى عنه ولكن قال له: إما أن تلتزم أنت ما ألزمتني وإلا التزمت أن تقول: إن المخلوق لم يزل مع الله

وهذا الذي قاله المريسي إنما يلزم عبد العزيز إذا أبطل كل قسم مما يمكن أن يقال في هذا المقام وهو لم يفعل ذلك ولا سبيل له إليه بخلاف ما ألزمه إياه عبد العزيز فإنه لازم له لامحالة إذ كان قوله: ( إن المخلوقات كلها - وكلام الله عنده من جملتها - حدثت بعد أن لم تكن من غير فعل فعله الله بل بقدرته التي لم تزل ) مع أن عبد العزيز قد بين فيما بعد أن ما أقر به المريسي يكفيه في الاحتجاج في مسألة القرآن فإن المريسي أقر بأن الله خلقها بقدرته فأثبت هنا معنى هو صفة لله تعالى ليس بمخلوق فبطل أصل قوله الذي نفى به الصفات وقال: إنا القرآن مخلوق لكن عبد العزيز بين له ما يلزمه وما أقر به وأن الحجة تحصل بهذا وبهذا وأما المريسي فعارضه بأن قال: يلزمك ما ألزمتني

وذلك مبني على مقدمات لم يذكر منها واحدة

أحدها: أن يقول: إذا كان أحدث الأشياء بفعله الكائن عن قدرته حصل المقصود من غير إثبات قديم مع الله تعالى ولهذا قال له عبد العزيز: ( إنما قلت: الفعل صف لله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) وفي نسخة أخرى زيادة على ذلك: ( إنما قلت: إنه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة لله )

وهذه الزيادة لم تتقدم في كلام عبد العزيز فإما أن تكون ملحقة من بعض الناس في بعض النسخ أو يكون معنى الكلام: إنما قولي هذا وإنما قلت إني إنما اعتقدت والتزمت هذا أو يكون المعنى: إنما أقول وأعتقد هذا والأشبه أن هذه الزيادة ليست من كلام عبد العزيز فإنها لا تناسب ما ذكره من مناظرته المستقيمة ولم يتقدم من عبد العزيز ذكر هذا الكلام ولا ما يدل عليه بخلاف قوله: ( إنما الفعل صفة لله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) فإن هذا كلام حسن صحيح وهو لم يكن قد قاله ولهذا لم يقل: إني قلت ذلك ولكن قال: هذا هو الذي يجب أن يقال وهو الذي يلزمني أن أقوله لأني بينت أن المخلوق لا يكون إلا بفعل عن قدرة الله والفعل قائم بالله ليس هو مخلوقا منفصلا وهذا مراده بقوله: ( إنه صفة ) لم يرد بذلك أن الفعل المعين لازم لذات الله تعالى لأنه قد قال: ( والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع )

فحصل بذلك مقصود عبد العزيز من أنها فعلا أحدث الله به المخلوقات عن قدرته فأقام الحجة على أنه يقوم بالله تعالى أمر غير المخلوقات عن القدرة واعترف له المريسي بالقدرة

فقد ثبت على كل تقدير أن قبل المخلوق شيئا خارجا عن المخلوق سواء كان هو القدرة وحدها أو كان مع ذلك الفعل والقول والإرادة وما كان متقدما قبل المخلوق فليس هو من المخلوق فبطل قول المريسي: إن ما لا يسمى بالله فهو مخلوق فإن هذه الأمور يقال: ( إنها غير الله ) وإذا قلنا: ( الله الخالق وما سواه مخلوق ) فقد دخل في مسمى اسمه صفاته فإنها داخلة في مسمى اسمه ولما قال النبي صلى الله عيه وسلم: [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] لم يكن الحلف بعزةالله ونحوه حلفا بغير الله

ولما حدثت الجهمية واعتقدوا أن القرآن خارج عن مسمى اسم الله تعالى قال من قال من السلف: ( الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق ) فاستثنوا القرآن مما سواه لما أدخله من أدخله فيما سواه ولفظ ( ما سواه ) هو كلفظ ( الغير ) وقد قلنا :

إن القرآن وسائر الصفات لا يطلق عليه أنه هو ولا يطلق عليه أنه غيره فكذلك لا يطلق عليه أنه مما سواه ولا أنه ليس مما سواه لكن مع القرينة قد يدخل في هذا تارة وفي هذا تارة

فما كان بعض الناس قد يفهم أن القرآن هو مما سواه قال من قال من السلف ( ماسواه مخلوق ) إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق: منه بدأ وإليه يعود ) ومن لم يفهم دخول الكلام في لفظ ( سواه ) لم يحتج إلى هذا الاستثناء بل قال: ( الله الخالق وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق ) لا يقول: ( إلا القرآن ) أي القرآن هو كلامه وكلامه وفعله وعمله وسائر ما يقوم بذاته لا يكون مخلوقا وإنما المخلوق ما كان مبيانا له ولهذا قال السلف والأئمة كأحمد وغيره: ( القرآن كلام الله ليس ببائن منه ) وقالوا: ( كلام الله من الله )

وقال أحمد بن حنبل لرجل سألة فقال له: ( ألست مخلوقا؟ فقال: بلى فقال: أو ليس كلامك منك؟ قال: بلى قال: والله ليس بمخلوق وكلامه منه ) ومراده أن المخلوق: إذا كان كلامه صفة له هو داخل في مسمى اسمه وهو قائم به فالخالق أولى أن يكون كلامه صفة له داخلة في مسمى اسمه وهو قائم به لأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص فالمتكلم أكمل ممن لا يتكلم والخالق أحق بكل كمال من غيره

والسلف كثيرا ما يقولون: الصفة من الموصوف والصفة بالموصوف فيقولون: علم الله من الله وكلام الله من الله ونحو ذلك لأن ذلك داخل في مسمى اسمه فليس خارجا عن مسماه بل هو داخل في مسماه وهو من مسماه

فعبد العزيز قرر حجته بأن الفعل صفة لله عن قدرته لا يمنعه منه مانع وهذا كاف وما ألزمه إياه بشر لا يلزمه إلا بمقدمات لم يقرر بشر منها شيئا

وأي تقدير من تلك التقديرات قال به القائل كان خيرا من قول المريسي

التقدير الأول: قول من يقول: إن الفعل حادث قائم بذات الله بقدرته كما يقول ذلك من يقوله من الكرامية وهذا خير من قول المريسي وأمثاله من الجهمية فإن ما يلزم أصحاب هذا القول من تسلسل الحوادث يلزمهم مثله والذي يلزمهم من نفي الخلق الفعل لا يلزم أصحاب هذا القول

وأما قولهم: ( إنه محل للحوادث ) فمثل قولهم: إنه محل للأعراض )

التقدير الثاني: قول من يقول: إن الفعل قديم أزلي كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية ومن الفقهاء: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والصوفية

وهذا أيضا على هذا التقدير يكون من جنس قول الصفاتية وهؤلاء لا يقولون بقيام الحوادث به ولا تسلسلها وإذا ألزمهم المريسي وإخوانه أن يقال: فإذا كان الفعل لم يزل والإرادة لم تزل: لزم أن يكون المفعول المراد لم يزل وقيل لهم: فحدوث الحوادث لا بد له من سبب قالوا: هذا السؤال مشترك بيننا وبينكم لكن عبد العزيز لم يجب بهذا الجواب فإنه لو أجاب به لانتفضت حجته التي احتج بها على المريسي فإنه احتج بأنه لم يزل قادرا فلو قال ( الفعل قديم ) قال المريسي: إنه لم يزل فاعل عندك

وأيضا فعبد العزيز ذكر أنه يقدر على الفعل لا يمنعه منه مانع وذكر غير ذلك

التقدير الثالث: ان الفعل الذي كان عن قدرته كان قبله فعل آخر كان عن قدرته أيضا وهلم جرا ولم يكن شيء من المفعولات والمخلوقات موجودا معه في الأزل فإن الفعل ينقسم إلى متعد ولازم فإذا قدر دوام الأفعال اللازمة لم يجب دوام الأفعال المتعدية وعلى هذا التقدير فإذا قال: ( كان الله ولما يخلق شيئا ولما يفعل شيئا ) لم يزل أن لا يكون هناك فعل قائم بنفسه بدون مخلوق مفعول ولا يجب أن يكون المخلوق لم يزل مع الله تعالى

وهذا التقدير إن لم ينفه المريسي بالحجة لم يكن ما ألزمه لعبد العزيز لازما

وإذا قال السلف والأئمة: ( إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ) فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلما بل نفس تكلمه بمشيئته قديم وإن كان يتكلم شيئا بعد شيء فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات وهو المسمى بتناهى الحوادث والذي عليه السلف وجمهور الخلف: أن المقدورات المرادات لا تتناهى وهم بهذا نزهوه عن كونه كان عاجزا عن الكلام كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام وعن أنه كان ناقصا فصار كاملا وأثبتوا مع ذلك أنه قادر على الكلام باختياره وحجة عبد العزيز على المريسي تتم على هذا التقدير ولا يكون مع الله في الأزل مخلوق

التقدير الرابع: أنه لو قيل: ( بأن كل ماسوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن فليس مع الله في أزله شيء من المخلقوات لكنه لم يزل يفعل ) ولم يوجب ذلك أن يكوم معه شيء من المفعولات المخلوقات وإنما يوجب ذلك كون نوع المفعول لم يزل مع أن كل واحد من آحاده حادث لم يكن ثم كان معه فليس من ذلك شيء مع الله في الأزل وعبد العزيز لم يقل هذا ولم يلتزمه بل ولا التزم شيئا من هذه التقديرات ولا يلزمه واحد منها بعينه إلا بتقدير امتناع ما سواه ولكن المقصود أن إلزام المريسي له بأن يكون المخلوق لم يزل مع الله لا يلزمه التزامه فإنه على التقديرات الثلاث لا يلزم وجود شيء من المفعولات ولا نوعها في الأزل

وأما على التقدير الرابع: فإنما يلزم أنه لم يزل نوع المفعول لا شيء من المفعولات بعينه

وهذا التقدير إذا كان باطلا: فالمريسي لم يذكر إبطاله ولا إبطال شيء من التقديرات وهو لو أراد أن يبطل هذا لم يبطله إلا بإبطال التسلسل في الآثار كما هو طريقة من أبطل ذلك من أهل الكلام ولكن المريسي وموافقوه الذين يقولون: ( بأن الله يخلق المخلوقات بغير فعل قائم به ) ويقولون: ( الخلق هو المخلوق ) ويقولون: ( إن المخلوقات كلها وجدت بعد أن لم تكن موجودة من غير أن يتجدد من الله فعل ولا قصد ولا أمر من الأمور بل ولا من غيره ) - فيقولون: إن الأمر ما زال على وجه واحد ثم حدثت جميع المحدثات وكانت جميع المخلوقات وليس هناك من الفاعل شيء غير وجودها بل حاله قبل وجودها ومع وجودها وبعد وجودها واحد لم يتجدد منه أمر يضاف الحدوث إليه فأصحاب القول الأول يلتزمون التسلسل مع قولهم: ( بأن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه لكن تحدث الحوادث شيئا بعد شيء وهو محدثها بأفعاله سبحانه التي يفعلها أيضا شيئا بعد شيء ) وأصحاب الثاني يقولون: ( بل حدثت من غير سبب حادث ) كما ترى

ومن المعلوم: أنه إذا عرض على العقل القولان كان بطلان هذا القول أظهر من بطلان ذلك القول فإن ترجيح أحد طرفي الممكن بغير مرجح وتخصيص الشيء عن أمثاله التي تماثله من كل وجه بلا مخصص وحدوث الحوادث جميعها بدون سبب حادث - بل مع كون الأمر قبل حدوثها ومع حدوثها على حال واحد - هو أبعد في المعقول وأنكر في القلوب من كون المحدثات لم تزل تحدث شيئا بعد شيء ومن كون الله سبحانه لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء كما أنه لا يزال في الأبد يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء

فلو قدر أن عبد العزيز والمريسي انتهيا إلى هاتين المقدمتين لم يكن للمريسي أن يلزم عبد العزيز بشيء إلا ألزمه عبد العزيز بما هو أشنع منه فكيف وعبد العزيز لم يحتج إلى شيء من ذلك؟ بل بين أنه لا بد أن يكون قبل المخلوق ما به يخلق المخلوق من صفات الله وأفعاله فيبطل ما يدعيه المريسي ونحوه من أن الله لا صفة له ولا كلام ولا فعل بل خلق المخلوقات وخلق الكلام الذي سماه كلامه بلا صفة ولا فعل ولا كلام

وهذان الجوابان اللذان يمكن عبد العزيز أن يجيب بهما عن إلزامه التسلسل يمكن معهما جواب ثالث مركب منهما كما تقدم التنبيه على ذلك وهو أن يقول :

إن كان التسلسل ممتنعا بطل هذا الإلزام وإن كان مممكنا أمكن التزامه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع: أن المسلمين وغيرهم من أهل الملل القائلين بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام يمكنهم أن يجيبوا بمثل هذا الجواب للقائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم المحتجين على ذلك بحجتهم العظمى التي اعتمد عليها ابن سينا وابن الهيثم وغيرهما حيث احتجوا على المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام فقالوا: الموجب التام للعالم إن كان ثابتا في الأزل لزم قدمه وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وإن لم يكن ثابتا في الأزل احتاج في حدوث تمامه إلى مرجح والقول فيه كالقول في الأول ويلزم التسلسل

وعظم شأن هذه الحجة على هؤلاء المتكلمين لأنهم يقولون ببطلان التسلسل وبحدوث الحوادث من غير سبب حادث ويقولون بأن المرجح التام لايستلزم أثره بل القادر أو المريد يرجح أحد مقدوريه أو أحد مراديه على الآخر بلا مرجح فصاروا بين أمرين: إما إثبات الترجيح بلا مرجح وإما التزام التسلسل وكلامهما مناقض لأصولهم ولهذا عدل من عدل في جوابها إلى الإلزام والمعارضة بالحوادث اليومية

جواب على الفلاسفة في مسألة التسلسل[عدل]

ونحن قد بينا جوابها من وجوه :

منها أن يقال: التسلسل يراد به أمور أحدها: التسلسل في المؤثرات والفاعلين والعلل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء ومنها: التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثرا وهذا كالذي قبله باطل بصريح العقل وقول جمهور العقلاء

ومنها: التسلسل الذي في معنى الدور مثل أن يقال: لا يحدث حادث أصلا حتى يحدث حادث وهذا أيضا باطل بضرورة العقل واتفاق العقلاء

ومنها: التسلسل في الآثار المتعاقبة وتمام التأثير في الشيء المعين مثل أن يقال: لا يحدث هذا حتى يحدث قبله ولا يحدث هذا إلا ويحدث بعده وهلم جرا وهذا فيه نزاع مشهور بين المسلمين وبين غيرهم من الطوائف فمن المسلمين وغيرهم من جوزه في المستقبل دون الماضي

وإذا عرفت هذه الأنواع قالوا: إذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل لم يحدث عنه شيء حتى يحدث حادث به يتم كونه مؤثرا إذ القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فيكون حقيقة الكلام: أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء

لكن هذا الدليل إن طلبوا به أنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا يناقض قولهم وهو حجة عليهم وإن أرادوا أنه كان في الأزل مؤثرا تاما في الأزل لم تتجدد مؤثريته لزم من ذلك أنه لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء ولهذا عارضهم الناس بالحوادث اليومية وهذا لازم لا محيد لهم عنه وهو يستلزم فساد حجتهم

وإن أرادوا أنه مؤثر في شيء فالحجة لا تدل على ذلك وهو أيضا باطل من وجوه كما قد بسط في موضع آخر فالمؤثر التام يراد به المؤثر في كل شيء والمؤثر في شيء معين والمؤثر تأثيرا مطلقا في شيء بعد شيء: فالأول هو الذي يجعلونه موجب حجتهم وهو يستلزم أن لا يحدث شيء فعلم بطلان دلالة الحجة على ذلك ويراد به التأثير في شيء بعد شيء فهذا هو موجب الحجة وهو يستلزم فساد قولهم وأنه ليس في العالم شيء قديم بل لا قديم إلا الرب رب العالمين ويراد به التأثير في شيء معين فالحجة لا تدل على هذا فلم يحصل مطلوبهم بذلك بل هذا باطل من وجوه أخرى

فبهذا التقسيم ينكشف ما في هذا الباب من الإجمال والاشتباه فكل حادث معين فيقال: هذا الحادث المعين إن كان مؤثره التام موجودا في الأزل لزم جواز تأخير الأثر عن مؤثره التام فبطل قولهم

وإن قيل: بل لا بد أن يحدث تمام مؤثره عند حدوثه فالقول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث تمام الأول وذلك يستلزم التسلسل في حدوث تمام التأثير

وهو باطل بصريح العقل فيلزم على قولهم حدوث الحوادث بغير سبب حادث وهذا أعظم مما أنكروه على المتكلمين من التسلسل

فإن قيل: فما الفرق بين هذا التسلسل وبين التسلسل في تمام تأثير معين بعد معين

قيل: الفرقف بينهما من وجوه :

أحدها: أن هؤلاء قد قالوا إنه مؤثر تام في الأزل والمؤثر التام مستلزم أثره معه فيلزمكم أن لا يحدث عنه شيء بل تكون جميع الممكنات قديمة أزلية وهذا باطل بالحس والمشاهدة

فادعوا أمرين باطلين: أحدها: أنه كان مؤثرا تاما في الأزل وأن المؤثر التام يكون أثره معه في الزمان حتى يكون الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان

فإن قيل: إنه يتقدم عليه بالعلية وهذا بخلاف قول من قال: لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا لم يقل إنه كان مؤثرا في الأزل في شيء قط ولم يكن مؤثرا تاما في الأزل قط

الثاني: أنهم إن قالوا: إن الأثر يجب أن يقارنه أثره في الزمان لزم أن لا يحدث شيء

وإن قالوا: بل الأثر عقب المؤثر في الزمان لزم أن لا يكون معه قديم وحينئذ فمن قال بهذا قال: إنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء وكل ما سواه حادث مسبوق بالعدم

الثالث: أن هؤلاء يقولون: كل حادث معين لا بد أن يحدث تمام تأثيره فيكون هو حادثا عقب تمام التأثير فأي شيء كونه الله كان عقب تكوين الرب له كأجزاء الزمان والحركة التي توجد شيئا فشيئا فقوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس: 82 ) فيكون الحادث عقب تكوين الرب له كما يكون الانكسار عقب التكسر والطلاق عقب التطليق فيلزم على هذا حوادث متعاقبة شيئا بعد شيء

وهذا غير ممتنع عند من يقول بهذا من أئمة أهل الملل ومن الفلاسفة بخلف قول المتفلسفة ومن وافقهم على أن الأثر يكون مع المؤثر في الزمان كما قالوا: الفلك قديم بقدم علته وهو معه في الزمان

فهؤلاء إن قالوا بحدوث الحوادث بدون سبب حادث لزمهم المحذور الذي فروا منه وإن قالوا: بل عند كل حادث يحدث مع زمن حدوثه وحدوث تمام مؤثره لزم حدوث حوادث لا تتناهى في آن واحد من غير تجدد شيء عن المؤثر الأزلي فلزمهم التسلسل في تمام أصل التأثير لا في تأثير معين وهو ممتنع مع قولهم بحوادث لا تتناهى في آن واحد

وهم وسائر العقلاء يسلمون بطلان هذا وإنما نازع فيه معمر صاحب المعاني وقد ظهر بطلان ذلك فإنه تسلسل في أصل التأثير لا في تأثير المعينات فلزمهم المحال الذي لزم أصحاب معمر ويلزمهم المحال والتناقض الذي اختصوا به؟ وهو قولهم بأن المؤثر مع مؤثره في الزمان مع كون الرب مؤثرا تاما في الأزل فيلزمهم أن لا يحدث في العالم شيء

ومنها أن يقال: التسلسل جائز في أصلكم فلا تكون الحجة برهانية بل تكون جدلية وهي تلزمنا بتقدير صحتها أحد أمرين: إما القول بالترجيح بلا مرجح وإما القول بالتسلسل وإلا كنا قد تناقضنا في نفي هذا وهذا ولكن جواز التناقض علينا يقتضي بطلان أحد قولينا فلم قلتم: إن قولنا الباطل هو نفي الترجيح بلا مرجح مع اتفاقنا على بطلانه؟ فقد يكون قولنا الباطل: هو نفي التسلسل في الآثار الذي نازعنا فيه من نازعنا من إخواننا المسلمين مع منازعتكم لنا في ذلك وإذا كان كذلك فالتزامنا لقول نوافق فيه إخواننا المسلمين وتوافقوننا أنتم عليه وتبطل به حجتكم على قدم العالم أولى أن نلتزمه من قول يخالفنا فيه هؤلاء وهؤلاء وتقوم به حجتكم على قدم العالم

الجواب الثالث: الجواب المركب وهو أن يقال: إن كان التسلسل في تمام التأثير ممكنا بطلت الحجة فإنه يمكن حينئذ أن يحدث كل ما سوى الله بأن يحدث تمام تأثيره وإن كان ممتنعا لزم إما أن لا يحدث شيء وهو خلاف المشاهد وإما أن تحدث الحوادث بدون سبب حادث وهو يبطل الحجة فبطلت الحجة على كل تقدير

وإن شئت قلت: إن التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بحيث يحدث شيئا بعد شيء ولا يكون علة تامة في الازل لزم حدوث كل ما سوى الله وبطلت الحجة وإن كان ممتنعا لزم أيضا أن تحدث الحوادث عن المؤثر التام الأزلي فيلزم حدوث جميع الحوادث عنه ولزم حينئذ حدوث العالم فتبطل حجة قدمه فالحجة باطلة على التقديرين وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع

مراجعة تعليق عبد العزيز الكناني[عدل]

وأما قول عبد العزيز: ( فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريدا ومرادا وقولا وقائلا ومقولا له وقدرة وقادرا ومقدورا عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق ) فيحتمل أمرين :

أحدهما: أنه أراد بالمراد: المراد المتصور في علم الله وبالمقدور عليه: الثابت في علم الله وبالمقول له المخاطب الثابت في علم الله المخاطب خطاب التكوين كما قال تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس: 82 ) وهذه معان ثابتة لله تعالى قبل وجود المخلوق لهذا اضطربت نفاة الصفات من المعتزلة وغيرهم في هذه الأمور فتارة يثبتونها في الخارج وتارة ينفونها مطلقا ومن هنا غلط من قال: ( المعدوم شيء ) فإنهم ظنوا أنه لما كان لا بد من تمييز ما يريده الله مما لا يريده ونحو ذلك توهموا أن هذا يقتضي كون المعدوم ثابتا في الخارج وليس الأمر كذلك بل هي معلومة لله تعالى ثابتة في علم الله تعالى

وضل آخرون في مقابلة هؤلاء كهشام الفوطي فإنه ذكر عنه الأشعري في المقالات أنه كان يقول: ( لم يزل الله عالما أنه واحد لا ثاني له ولا يقول: إنه لم يزل عالما بالأشياء ) وقال: ( إذا قلت: لم يزل عالما بالأشياء أثبتها لم تزل مع الله ) وإذا قيل له: ( أفتقول بأن الله لم يزل عالما بأن ستكون الأشياء؟ قال: إذا قلت بأن ستكون فهذه إشارة إليها ولا يجوز أن يشار إلا إلى موجود ) وكان لا يسمى ما لم يخلقه ولم يكن شيئا

والثاني: أن يريد بذلك نفس الفعل المقدور المراد الذي يكون به المخلوق

وأما القول: فهو المصدر كما تقدم والمقول هو الكلام فإن في إحدى النسختين: ( مقولا له ) وفي الأخرى: ( ومقولا )

وعلى هذا فقول عبد العزيز: ( إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد سبيلا إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول لأن الله لا يكون مكانا لحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك ! ) مراده: أنه لا يكون مكانا لما حدث مطلقا وهو ما حدث جنسه كالكلام عند من يقول: إنه حادث الجنس فإنه يقول: إن الله صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فيكون جنس الكلام محدثا وكذلك إذ قيل: أراد بعد أن لم يكن مريدا فحدث جنس الإرادة وكذلك إذا قيل: علم بعد أن لم كن عالما فيكون جنس العلم حادثا وأمثال هذا فإن الله لا يكون مكانا لأجناس الحوادث

وعلى هذا فيكون عبد العزيز قد ذكر على بطلان قول المريسي عدة حجج: أنه لا يكون مكانا للمخلوقات ولا يكون مكانا لما جنسه حادث ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء فهذه ثلاث حجج وهذا لا ينافي ما ذكره من أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة وأن الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وأنه أحدث الأشياء بأمره وقوله عن قدرته ونحو ذلك فإن هذا الفعل والقول المقدور الذي ليس هو مخلوقا منفصلا عنه ليس جنسه محدثا عنده وإن كان الواحد من آحاده يكون بعد أن لم يمكن فالجنس لا يقال له حادث ولا محدث بل لم يزل الله موصوفا بذلك عنده ولهذا قال: ( ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه ) فإن ما كان جنسه محدثا كان قد زادت به الذات وقد عرف أن المخلوق عنده: ما كان مسبوقا بفعله الذي خلق به وقوله وقدرته وأن المخلوق لا يكون إلا منفصلا عنه

فهذا الذي قاله عبد العزيز فيه رد على الكرامية ومن وافقهم في أنهم جوزوا عليه أن يحدث له جنس الكلام ونحوه مما لم يكن موجودا فيه قبل ذلك وجوزوا أن يحدث له جنس صفات الكمال ومتى قيل: ( إنه لم يكن موصوفا بجنس من أجناس صفات الكمال حتى حدث له ) لزم أن يكون قبل ذلك ناقصا عن صفة من صفات الكمال فلا يكون متكلما بل يكون موصوفا قبل ذلك بعدم الكلام وهذا الذي قاله عبد العزيز هو نظير قول الإمام أحمد وغيره من الأئمة

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55