انتقل إلى المحتوى

درء تعارض العقل والنقل/42

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد

[عدل]

وأحمد - رحمه الله - كان متبعا في هذا الباب وغيره لمن قبله من أئمة السنة كما روينا عن طريق إسحاق بن راهويه فيما ذكره ابن عبد البر وغيره

( ثنا يحيى بن آدم ثنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي: سمعت أبن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا أو كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر

قال يحيى بن آدم: فذكرته لابن المبارك فقال: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ فسكت

وذكر محمد بن نصر المروزي ثنا شيبان بن شيبة ثنا جرير بن حازم فذكره بإسناده وقال: لا يزال أمر هذه الأمة مقاربا أو مواتيا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر

وذكر المروزي أيضا ثنا عمرو بن زرارة أنبأ إسماعيل بن علية عن ابن عوان قال: كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال: ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين؟ قال: وتكلم ربيعة الرأي في ذلك؟ فقال القاسم: إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده قال: فكأنما كانت نارافطفئت؟

تعليق ابن تيمية

[عدل]

قلت: ابن عباس رضي الله عنه خطب بهذه الخطبة بالبصرة وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذا الأمة والتحذير من أسباب الفتن ما قد نقل إلينا كما في الحديث الذي ذكره أحمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر ابن الخطاب لما كثر القراء وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها والمسائل المشكلة إذا خاض فيها أكثر الناس لم يفهموا حقيقتها وإذا تنازعوا فيها صار بينهم أهواء وظنون وأفضى ذلك إلى الفرقة والفتنة

ومن ذلك الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وقائل يقول: ألم يقل الله كذا؟ وآخر يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاتركوه

فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين أو الاشتباه والحيرة والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره كما يصدق بالحق الذي يقوله هو ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها ويرد معنى آية استدل بها مناظره ولا أن يقبل الحق من طائفة ويرده من طائفة أخرى

ولهذا قال تعالى: { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق فلو صدق الإنسان فيما يقوله ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره لم يكن ممدوحا حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به فأولئك هم المتقون

ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله وإلى الإيمان بشرع الله فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي والوعد والوعيد فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر فأخطأوا في التكذيب به وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول: إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمه ولا لرحمة ولا يسوي بين المتماثلين بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح

وهذا أصل مذهب القدرية النفاة ولهذا قالوا: إن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى وإن الله لا يمتن على المطيع بنعمة أنعم بها عليه دون العاصي صار بها مطيعا وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفيه وظن أولئك أنه لا يمكن أبطال قولهم إلا بأن يقال: الظلم ممتنع لذاته وأنه مهما قدر من الممكنات فهو عدل حتى تعذيب الأنبياء والصالحين وتنعيم الكفار والفاسقين إلى أمثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر وكانت من أعظم أسباب الجهل والظلم

وكان أعظم ظهور ذلك من أهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس وكذلك أمر أطفال المشركين: طائفة يقولون: يعذبهم كلهم أو يمكن تعذيبهم كلهم بناء على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة وطائفة تقول: بل يدخلون الجنة مع من آمن وعمل صالحا بناء على رحمة بلا حكمة وتسوية بين أولاد المؤمنين وأولاد الكفار وبين من آمن وعمل صالحا ومن لم يؤمن ويعمل صالحا من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق

وهذه المسأئل وغيرها قد بين الله ورسوله أمرها فإن الله أكمل الدين وأتم النعمة وقد [ قال النبي : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ]

وفي الصحيح [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما ]

وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين

وقال تعالى: { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة

وقد قال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه

وقال الله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }

فهذه النصوص وأمثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله يبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص فإن الله يختص من يشاء عباده من العلم والفهم بما يشاء فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد أحسن ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج إليه وينتفع به فهو أحسن وأحسن

ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الأثر عن ابن عباس وهو قوله: إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا شك الراوي حتى يتكلموا في الولدان والقدر وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقا قال له ابن المبارك: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ وقد صدق ابن المبارك فقال له يحيى بن آدم: أفتأمر بالكلام؟ فسكت ابن المبارك لأن أمره بالكلام مطلقا يتضمن الإذن بالكلام الذي وقع من الناس وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه

وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله وسوله مأمور به وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه وأما الكلام بلا علم فيذم ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم وقد يتكلم بما يظنه علما: إما برأي رآه وإما بنقل بلغه ويكون كلاما بلا علم وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغيا

كما ذم الله ذلك بقوله: { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فالبغي مذموم مطلقا سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم ويذمهم على تركه أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه والله يغفر لهم خطأهم فيه فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم فقد بغى عليهم لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه

وقد قال تعالى: { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } والله تعالى قد قال: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات }

فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه وإلا فالإنسان ظلوم جهول وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار

وقد قال النبي : [ القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ] فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه وأمره ووعده ووعيده؟

ولهذا لما اشترك هؤلاء القدرية القائلون بأن القادر المختار يرجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح في هذا الأصل وناظروا به الملاحدة القائلين بقدم العالم من الدهرية الفلاسفة وغيرهم ورأى أولئك أن هذا ليس بعلم ولا عدل طعموا في هؤلاء القدرية

فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه فصار بين الفلاسفة الدهرية والمتكلمين القدرية في هذا الباب من النزاع ما استطار شرره وإن كانت القدرية أقرب إلى العلم والعدل ومن الناس من يحار ومنهم من يوافق هؤلاء تارة وهؤلاء تارة تناقضا منه في حالين أو جمعا بين النقيضين في حال واحدة

ولو اتبعوا ما بعث الله ورسوله من الهدى ودين الحق لحصل لهم من العلم والعدل ما يرفع النزاع ويدخلهم في اتباع النص والإجماع والكلام على هذه المسألة له موضع آخر

والمقصود هنا تفسير قوله: ( كل مولود يولد على الفطرة ) وأن من قال بإثبات القدر وأن الله كتب الشقي والسعيد لم يمنع ذلك أن يكون ولد على الإسلام ثم تغير بعد ذلك كما تولد البهيمة جمعاء ثم تغير بعد ذلك فإن الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه فيعلم أنه يولد سليما ثم يتغير

والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه وهو أنهم ولدوا على الفطرة ثم صاروا إلىما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا تدل على أنه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للإيمان مستلزمة له لولا المعارض

فروى ابن عبد البر في ضمن هذا المنقول بإسناده ( عن موسى بن عبيده سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله: { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } وقال: من ابتدأ الله خلقه لضلالة وإن علم بعمل أهل الهدى ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بعمل أهل الضلالة ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل السعادة مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة قال: وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل الضلالة ثم هداهم إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها مسلمين

وبهذا الإسناد عن محمد بن كعب في قوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } يقول: فأقروا له بالبإمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها )

فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه وهو ما كتبه أنهم صائرون إليه قد يعملون قبل ذلك غيره وأن من ابتدأه على الضلالة أي كتبه أنه يموت ضالا فقد يكون قبل ذلك عاملا بعمل أهل الهدى وحينئذ من ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمتنع أن يعرض لها ما يغيرها فيصير إلى ما سبق به القدر لها

كما في الحديث الصحيح: [ إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة ]

ولهذا قال محمد بن كعب: إن جميع الذرية أقروا له بالإيمان والمعرفة فأثبت هذا وهذا إذ لامنافاة بينهما

ثم روى ابن عبد البر بإسناده ( عن سعيد بن جبير في قوله: { كما بدأكم تعودون } قال: كما كتب عليكم تكونون

تعليق ابن تيمية

[عدل]

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: { كما بدأكم تعودون } قال: شقي وسعيدا وقال غيره عن مجاهد: { كما بدأكم تعودون } قال: يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا

وقال الربيع أبن أنس عن أبي العالية: { كما بدأكم تعودون } قال: عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة )

قلت: ما في هذه الأقوال من إثبات علم الله وقدره السابق وأن الخلق يصيرون إلى ذلك حق لا محالة كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأما كون ذلك تفسير الآية فهذا مقام آخر ليس هذا موضعه

ولفظ ( بدأ الله الخلق ): يراد به ابتداء تكوينهم وهو ظاهر القرآن وقد يراد به ابتداء أسباب خلقهم وعلامات ذلك كما في قول السائل للنبي : [ ما كان أول أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي: رأت أنني حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ]

قال: ( وقال آخرون: معنى قوله: [ كل مولود يولد على الفطرة ] أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم؟ قالوا جميعا: بلى فأما أهل السعادة فقالوا: بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا: بلى كرها غير طوع

قالوا: ويصدق ذلك قوله: { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } قالوا: وكذلك قوله: { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } قال محمد بن نصر المروزي: وسمعت إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة: اقرأوا إن شئتم: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } قال إسحاق: يقول: ( لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار واحتج إسحاق بقول الله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال: إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد: استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى فقال: انظروا ألا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل )

وذكر ( حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر قال: وكان الظاهر ما قال موسى: أقتلت نفسا زاكية بغير نفس؟ فعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها وأنه لا تبديل لخلق الله: فأمر بقتله لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا )

وروى إسحاق حديث أبي بن كعب [ عن النبي قال: الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا ] وهذا الحديث رواه مسلم

وروى البخاري وغيره ( عن ابن عباس أنه كان يقرأها: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين قال إسحاق: فلو ترك النبي الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم فبين النبي حكم الطفل في الدنيا فقال: [ أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] يقول: أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين فمن كان صغيرا بين أبوين كافرين ألحق بحكم الكفار ومن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الأسلام وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله ويعلم ذلك فضل الخضر موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم

قال: ( ولقد [ سئل ابن عباس عن الولدان: ولدان المسلمين والمشركين فقال ابن عباس: حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر قال: إسحاق: ألا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين فقالت عائشة: طوبى له عصفور من عصافير الجنة فرد عليها النبي ذلك وقال: مه يا عائشة وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها وخلق النار وخلق لها أهلها ] قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم )

( وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي : [ كل مولود يولد على الفطرة ] فقال: هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم

قال ابن عبد البر: ( وقال ابن قتيبة: يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى )

قلت: مقصود حماد وإسحاق ومالك وابن المبارك ومن اتبعهم كابن قتيبة وابن بطة والقاضي أبي يعلى وغيرهم هو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر وهذا مقصود صحيح ولكن سلكوا في حصوله طرقا بعضها صحيح وبعضها ضعيف

كما أن النبي لما ثبت عنه أنه قال: [ احتج آدم وموسى فقال موسى: ربنا أرنا أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة فقال له: أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليما وخط لك التوراة بيده فبكم تجد علي مكتوبا قبل أن أخلق: { وعصى آدم ربه فغوى }؟ قال: بأربعين خريفا قال: فحج آدم موسى ] فبهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة وهو مروي بإسناد جيد من حديث عمر

فلما توهم من توهم أن ظاهره أن المذنب يحتج بالقدر على من لامه على الذنب اضطربوا فيه: فكذب به طائفة من القدرية كالجبائي وتأوله طائفة من أهل السنة تأويلات ضعيفة قصدا لتصحيح الحديث ومقصودهم صحيح لكن طريقهم في رد قول القدرية وتفسير الحديث ضعيفة كقول بعضهم إنما حجه لكونه أباه وقول الآخر: لكونه كان قد تاب وقول الآخر: لكون الذنب كان في شريعة والملام في أخرى وقول الآخر: حجة لأن الاحتجاج به كان في الآخرة دون الدنيا وقول الآخر: الاحتجاج بالقدر ينفع الخاصة المشاهدين لجريان القدر عليهم دون العامة فإن الحديث صريح بأن آدم احتج بالقدر وحج به موسى

وأيضا فموسى أعلم من أن يلوم تائبا وموسى وآدم أعلم من أن يظنا أن القدر حجة لأحد في ذنب فإن هذا لو كان حقا لكان حجة لإبليس وفرعون وكل كافر وفاسق

وكذلك قول من قال: إن الأحتجاج بالقدر لا يجوز في الدنيا بل بعد الموت قول باطل أو احتجاج الخاصة به سائغ فإنه قول باطل فإن الأنبياء جميعهم تابوا من ذنوبهم ولم يحتج أحد منهم بالقدر ووقع العتب والملام بسبب الذنب كما حقق الله ذلك في القرآن ولكن موسى لام آدم لما حصل له وللذرية من الشقاء بالخروج من الجنة كما في الحديث: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بسببه لا من جهة كونه عصى الأمر أو لم يعصه فإن هذا أمر قد تاب الله عليه منه واجتباه ربه وهداه فأخبر آدم بأن القدر قد سبق بذلك فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه ما أخطاه لم يكن ليصيبه

كما قال تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } وقال: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }

قال طائفة من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظرا إلى القدر وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار

فحج آدم موسى لأن ما أصابهم من المصيبة كانت مقدرة هي وسببها فلا بد أن يصيبهم ذلك فلا فائدة من ملام لا يدفع المصيبة المقدرة بعد وقوعها وإنما الفائدة في الرجوع إلى الله

ومثل هذا قول أنس في الحديث الصحيح: [ خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي شيء فعلته لما فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: دعوه فلو قضي شيء لكان ]

ومن هذا قوله في الحديث الصحيح: [ احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان ]

والمقصود هنا أنهم تشعبوا في حديث الفطرة كتشبعهم في حديث الحجة وأصل مقصودهم من الإيمان بالقدر صحيح لكن لا يجب مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل

وكثيرا ما يقع لمن هو من أهل الحق - في أصل مقصوده وقد أخطأ في بعض الأمور - هذا المجرى مثل أن يتكلموا في مسألة فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها ردا غير مستقيم

وما ذكروه من أن الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والنكرة: إن أرادوا به أن الله سبق علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدرته وخلقه فهذا حق يرده القدرية فغلاتهم ينكرون العلم وجمهورهم ينكرون عموم خلقه وممشيئته وقدرته وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن إسحاق فهذا يتضمن شيئين: أحدهما: أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودا فيهم كما قال ذلك طوائف من السلف وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه والآية في تفسيرها نزاع ليس هذا موضعه وكذلك في وجود الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان

لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة وأن الله خلق خلقه حنفاء بل هو مؤيد لذلك

وأما قول القائل: إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى: طائع وكاره فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السدي في تفيسره

قال السدي في قول الله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال: ادخلوا النار ولا أبالي

فذلك قوله: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال: { ألست بربكم قالوا بلى } فأطاعه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة: { شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه وذلك قوله عز وجل: { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وذلك قوله: { فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } يعني يوم أخذ الميثاق

فهذا الأثر إن كان حقا ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله فإذا كانوا ولدوا على هذه النطفة فقد ولدوا على المعرفة ولكن فيه أن بعضهم أقر كارها مع المعرفة بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرها وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر ومثل هذا لا يوثق به فإن هذا في مثل تفسير السدي وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها إذ كان السدي - وإن كان ثقة في نفسه - فهذه الأشياء أحسن أحوالها أن تكون كالمراسيل إن كانت أخذت عن النبي فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرا؟ وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم أنه باطل لا سيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تسوي بين جميع الناس في ذلك الإقرار

وقول الله تعالى: { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } إنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم لم يقل: إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا وكرها يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهامن عند من يثبته ولو كان فيهم كاره لقال: لم أقل ذلك طوعا بل كرها فلا تقوم عليه به حجة

وأما احتجاج إسحاق رحمه الله بقول أبي هريرة: اقرأوا إن شئتم: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } قال إسحاق: نقول: لا تبديل للخلقة التي جبل عليها فهذه الآية فيها قولان: أحدهما: أن معناها النهي كما تقدم عن ابن جرير أنه فسرها بالنهي أي: لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين الذين لم يذكروا غيرهم كالثعلبي والزمخشري

والثاني: ما قاله إسحاق: وهو أنه خبر على ظاهرها وأن خلق الله لا يبدله أحد وظاهر اللفظ أنه خبر فلا يجعل نهيا بغير حجة وهذا أصح

وحينئذ فيقال: المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبدل فلا يخلقون على غير الفطرة لا يقع هذا قط والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة

وقد قال تعالى عن الشيطان: { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فالله أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته

وأما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليها إلا الله والله لا يفعله كما قال: { لا تبديل لخلق الله } ولم يقل: لا تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله فلا يكون خلق بدل هذا الخلق ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله

وأما قول القائل: لا تبديل للخلقة التي جبل عليه ولد آدم كلهم من كفر وإيمان فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه فهذا حق ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع ولا أنه غير مقدور بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر وعلى أن يبدل حسناته بالسئيات بالتوبة كما قال تعالى: { إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم }

و{ أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }

تعليق ابن تيمية

[عدل]

وهذا التبديل كله هو بقضاء الله وقدره وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة فإن ذاك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره وهو سبحانه لا يبدله قط بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس فإنه يبدله دائما والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك

ومما يبين ذلك أنه قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها؟ وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر؟

وقد تقدم تفسير السلف: لا تبديل لخلق الله تعالى بأنه: دين الله أو تبديل خلق الحيوان بالخصاء ونحوه ولم يقل أحد منهم إن المراد: لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ولا من كفر إلى إيمان إذ تبديل ذلك موجود ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر والله تعالى عالم بما سيكون لا يقع خلاف معلومه لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه وإن لم يقع كان عالما بأنه لا يقع

وأما قوله: الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا فالمراد به: كتب وختم وهذا من طبع الكتاب وإلا فاستنطاقهم بقوله: { ألست بربكم قالوا بلى } ليس هو طبعا لهم فإنه ليس بتقدير ولا خلق

ولفظ ( الطبع ) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث

وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه: إنه ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير مكلف بل ولا ما يبين أنه كان غير بالغ ولكن قال في الحديث الصحيح: الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد فإن كان بالغا - وقد كفر - فقد صار كافرا بلا نزاع وإن كان مكلفا قبل الاحتلام في تلك الشريعة أو على قول من يقول: إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم - أمكن أن يكون مكلفا بالإيمان قبل البلوغ ولو لم يكن مكلفا فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا وإن كان أبواه مؤمنين ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ

فالغلام الذي قتله الخضر: إما أن يكون كافرا بالغا كفر بعد البلوغ فيجوز قتله وإما أن يكون كافرا قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة وقتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما كما يقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل

بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل فقتل الصبي الكافر المميز يجوز لدفع صباله الذي لا يندفع إلا بالقتل وأما قتل صبي لم يكفر بعد بين أبوين مؤمنين للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن فقد يقال إنه ليس في القرآن ما يدل عليه ولا في السنة

وقد يقال: بل في السنة ما يدل عليه ومنه قول ابن عباس لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان: إن علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتله وإلا فلا رواه مسلم

والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارض إلا بما يصلح أن يعارض به ومن قال بالأول يقول: إن الله تعالى لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه ولا هو سبحانه يعاقب العباد بما يعلم أنهم سيعماونه حتى يفعلوه

ويقول قائل هذا القول: إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى مثل علمه بأن السفينة لمساكين ووراءهم ملك ظالم وهذا أمر يعلمه غيره وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين وأن أباهما كان رجلا صالحا هذا مما قد يعلمها كثير من الناس فكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه لكن لحبهما له لا ينكران عليه أو لا يقبل منهما الإنكار عليه

فإن كان الأمر على ذلك فليس في الآية حجة أصلا وإن كان ذلك الغلام لم يكفر بعد أصلا ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر فهذا أيضا يبين أنه قتل قبل أن يصير كافرا ومن قال هذا يقول: إنه قتل دفعا لشره

كما قال نوح: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } فقد دعا نوح عليها السلام بهلاكهم لدفع شرهم في المستقبل وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرا

وقول ابن عباس: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ظاهره أنه كان حينئذ كافرا وأما تفسير قول النبي : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير

وأيضا فإنه ذكر الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم وقال أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون: هم كفار كآبائهم فنقتلهم

وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا فإنه لا بد من مرب يربيه وإنما يربيه أبواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع للعلماء

واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيرهم بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن أبويه يصير مسلما لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطره فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينها وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المسبى بمنزلة الكافر

ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة

فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء فعلم أنه كان يجزي عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لا لأنه صار كافرا في نفس الأمر

يبين ذلك أنه لو سباه كفار لم يكن معه أبواه ولم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه

فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه وذكر الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال فإن كل طفل غير فلا بد له من أبوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك

ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر: [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا ] فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يثبت له أحد الأمرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه

وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح حديث عياض بن حمار عن النبي فيما يرويه عن ربه: [ إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك فلو كان الطفل يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه لم يكن الشياطين هن الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعا لآبائهم

ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبين آبائهم واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به

ومن هنا قال من قال: إن هذا الحديث - هو قوله: [ كل مولود يولد على الفطرة ] كان قبل أن تنزل الأحكام كما ذكره أبوعبيد عن محمد بن الحسن فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا عى الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكام الدار الدنيا

وقوله: [ كل مولود يولد على الفطرة ] إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعليها الثواب والعقاب في الآخرة إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض لم يرد له الإخبار بأحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار يكونون تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا وأن أولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ولم يكونوا كأولاد المسلمين

ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه؟ فعن أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه لقوله: [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] فإذا مات أبواه بقى على الفطرة

والرواية الأخرى كقول الجمهور: إنه لا يحكم بإسلامه

وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها

فقد عليم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي صلى الله علي وسلم بالمدينة ووادي القرى وخيبر ونجران وأرض اليمن وغير ذلك وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ولم يحكم النبي بإسلام يتامى أهل الذمة وكذلك خلفاؤه كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير ولم يحكموا بإسلام أحد منهم فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضا فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولون حضانة أولادهما

وأحمد رضي الله عنه يقول: إن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل مع قوله في إحدى الروايتين: إنه يصير مسلما لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث لم يحصل قبله والقول الآخر هو الصواب كما تقدم

والمقصود هنا أن قوله: [ كل مولود يولد على الفطرة ] لم يرد به في أحكام الدنيا بل في نفس الأمر وهو ما يترتب عليه الثواب والعقاب ولهذا لما قال هذا سألوه فقالوا: يا رسول الله: أرأيت من يموت من أطفال المشركين؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين فإن من بلغ منهم فهو مسلم أو كافر بخلاف من مات

وقد تنازع الناس في أطفال المشركين على أقوال: فقالت طائفة: إنهم كلهم في النار وقالت طائفة: كلهم في الجنة وكل واحد من القولين اختاره طائفة من أصحاب أحمد الأول: اختاره القاضي أبي يعلى وغيره وحكوه عن أحمد وهو غلط على أحمد كما أشرنا إليه

والثاني: اختاره أبو الفرج بن الجوزي وغيره ومن هؤلاء من يقول: هو خدم أهل الجنة ومنهم من قال: هم من أهل الأعراف

والقول الثالث: الوقف فيهم وهذا هو الصواب الذي دلت عليها الأحاديث الصحيحية وهو منصوص أحمد وغيره من الأئمة

وذكره ابن عبد البر عن حماد بن سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك وإسحاق بن راهويه قال: وعلى ذلك أكثر أصحاب مالك وذكر أيضا في أطفال المسلمين نزاعا ليس هذه موضعه

لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور :

أحدها: أنه لا يعلم حكمهم فلا يتكلم فيهم بشيء وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى النسة وقد يقال: إن كلام أحمد يدل عليه

والثاني: أنه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة ويجوز أن يدخل جميعهم النار وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم

والثالث: التفصيل كما دل عليه قول النبي : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة ومن علم منه أن يعصي أدخله النار

ثم من هؤلاء من يقول: إنهم يجزيهم بمجرد علمه فيهم كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي

والأكثرون يقولون: لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون فيمتنحهم يوم القيامة ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار

وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم

وقد روي به آثار متعددة عن النبي حسان يصدق بعضها بعضا وهو الذي حكاه الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا

والمقصود هنا الكلام على الأقوال المذكورة في تفسير هذا الحديث وقد تبين ضعف قول من قال: الفطرة: الكفر والإيمان وأن الإقرار كان من هؤلاء طوعا ومن هؤلاء كرها

ومما يضعف هذا القول طائفة أخرى بأن جميع أولئك كان إقرارهم جميعهم له بالربوبية من غير تفصيل بطوع وكره

تعليق ابن تيمية

[عدل]

قال ابن عبد البر: ( وقال آخرون: معنى الفطرة المذكورة في المولدين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى فأقروا جميعا له بالربوبية عن معرفة منهم به ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار

قالوا: وليست تلك المعرفة بإيمان ولا ذلك الإقرار بإيمان ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرة ألزمها قلوبهم ثم أرسل إليهم الرسل يدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخضوع تصديقا بما جاءت به الرسل فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف لأنه لم يكن الله يدعو خلقه إلى الإيمان به وهو لم يعرفهم نفسه لأنه كان حينئذ يكون قد كلفهم الإيمان بما لا يعرفون

قالوا: وتصديق ذلك قول الله عز وجل: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وذكروا ما ذكره السدي عن أصحابه ) كما تقدم

وروى بإسناده في التفسير المعروف عن أبي جعفر الرازي ( عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله عز وجل: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إلى قوله: { أفتهلكنا بما فعل المبطلون }

قال: فجعلهم جميعا أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك

قال: فإني أرسل إليكم رسلي وأنزل عليكم كتبي فلا تكذبوا رسلي وصدقوا بوعدي وإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي

قال: فأخذ عهدهم وميثاقهم ورفع أباهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال: يا رب لو سويت بين عبادك؟ قال: أحببت أن أشكر

قال: والأنبياء يومئذ بينهم مثل السرج

وقال: وخصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها

قال: فهو قوله: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح }

قال: وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها )

قال: ( وذلك قوله: { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين }

قال: ( فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق قال: وكان روح الله عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم )

فهذا القول يحقق القول الأول في أن كل مولود يولد على الفطرة التي هي المعرفة بالله والإقرار به وفيه زيادة: أن ذلك كان قد حصل لهم قبل الولادة حين استخرجوا من صلب آدم وقد فسر ( فطرة الله ) في الحديث بذلك

وأما قول صاحب هذا القول: ( إن هذا الإقرار ليس هو بإيمان يستحق عليه الثواب ) فهذا لا يضر فإنه قد بين فيه أن المعرفة بالله ضرورية وأنه بذلك صح أن يأمرهم فإن المأمور إن لم يعرف الآمر امتنع أن يعرف أنه أمره ولو لم تكن المعرفة ثابتة في الفطرة لكان الرسول إذا قال لقومه: أدعكم إلى الله لقالوا مثل ما قال فرعون: وما رب العالمين؟ إنكارا له وجحدا كأن يكون قولهم متوجها

وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق لكن أظهر خلاف ما في نفسه كما قال تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وكما قال له موسى: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر }

ولهذا قال تعالى: { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } فأخبر تعالى أن أولئك المكذبين لما قالوا: { إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك }

وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي والأنكار على من لم يقر بهذا النفي والمعنى: ما في الله شك وأنتم تعلمون أنه ليس في الله شك ولكن تجحدون انتفاء الشك جحودا تستحقون أن ينكر عليكم هذا الجحد فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار وإلا فالأمر النظري مسلتزم للشك قبل العلم لا سيما إذا كانت طرقة خفية طويلة فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه فإن كان لا طريق للمعرفة إلا طريقة الأعراض وطريقة الوجود ونحو ذلك فالشك في الله حاصل لمن لم يعرف هذه الطرق وهم جمهور الخلق بل ولأكثر من سلك هذه الطرق أيضا إذا عرف حقيقتها

قال ابن عبد البر: ( وقال آخرون معنى قول النبي [ كل مولود يولد على الفطرة ] لم يرد رسول الله عليه وسلم بذكر الفطرة ها هنا كفرا ولا إيمانا ولا معرفة ولا إنكارا وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقة وطبعا وبنية ليس معها كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا

واحتجوا بقوله في الحديث: [ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ] يعني سالمة: [ هل تحسون فيها من جدعاء ] يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها فيقال: هذه بحاير وهذه سوايب يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم وعصم الله أقلهم قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون قالوا: ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرا أو إيمانا لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون فيها شيئا

قال تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار

قال أبو عمر: هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها وذلك أن الفطرة: السلامة والاستقامة بدليل قوله في حديث عياض بن حمار: إني خلقت عبادي حنفاء يعني على استقامة وسلامة فكأنه - والله أعلم - أراد الذين خلصوا من الآفات كلها والزيادات ومن المعاصي والطاعات فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما

ومن الحجة أيضا في هذا قول الله تعالى: { إنما تجزون ما كنتم تعملون } { كل نفس بما كسبت رهينة } ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء قال الله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }

قلت: هذا القائل إن أراد بهذا القول أنهم خلقوا خالين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام - فهذا قول فاسد لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار والتهويد والتنصير والإسلام وإنما ذلك بحسب الأسباب فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه فلما ذكر أن أبوه يكفرانه وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر

وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب ولا استقامة ولا زيغ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة وليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر كما أن الرق قبل الكتابة فيه لا يثبت له حكم مدح كالمصحف ولا حكم ذم القرآن مسيلمة والتراب قبل أن يبنى مسجدا أو كنيسة لا يثبت له حكم واحد منهما

ففي الجملة كل ما كان قابلا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحا ولا ذما والله تعالى يقول: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها فكيف لا يكون فيها مدح ولا ذم؟

وأيضا فالنبي شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجدع الأنف والأذن ومعلوم أن كمالها محمود ونقصها مذموم فكيف تكون فبل النقص لا محمودة ولا مذمومة؟

وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من الناس من أن المراد: أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة - فهذا القول قد يقال: إنه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله فإنه صاحبه يقول: في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والإيمان كما في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها لكن يقال: فهذا الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية: هل هي كافية في حصول المعرفة أو تقف المعرفة على أدلة يتعلمها من خارج؟

فإن كانت المعرفة تقف على أدلة يتعلمها من خارج أمكن أن توجد تارة وتعدم أخرى ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت المعرفة واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب وإلا فلا وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك

ومعلوم أن فيها قبول الإنكار والكفر إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك وهو التهويد والتنصير والتمجيس وحينئذ فلا فرق بين الإيمان والكفر والمعرفة والإنكار إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج

وهذا القسم الأول الذي أبطلناه وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة وإن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة سواء قيل: إن المعرفة ضرورية فيها أو قيل: إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس من غير أن يسمع كلام مستدل فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال مالا يحتاج معه إلى كلام أحد فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم أن يكون المقتضى للمعرفة حاصلا لكل مولود وهو المطلوب

والمقتضى التام يستلزم مقتضاه فتبين أن أحد الأمرين لازم: إما لكون الفطرة مستلزمة للمعرفة وإلا استوى الكفر والإيمان بالنسبة إليها وذلك ينفي مدحها

وتلخيص النكتة أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب فإما أن تكون هو موجبة مسلتزمة له وإما أن يكون ممكنا بالنسبة إليها ليس بواجب لازم لها

فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان إذ كلاهما ممكن بالنسبة إليها فتبين أن المعرفة لازمة واجبة لها إلا أن يعارضها معارض

فإن قيل: ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكنها إليها أميل مع قبولها للنكرة

قيل: فحينئذ إذا لم تسلتزم المعرفة وجبت تارة وعدمت أخرى وهي وحدها لا تحصلها فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين فيكون الإسلام كالتهويد والتنصير والتمجيس

ومعلوم أن هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس ولكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها أضيفت إلى السبب فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الأكل عند الجوع - مع القدرة عليه - لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل

والنبي شبه اللبن بالفطرة لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن فقال له جبريل: أصبت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك

والطفل مفطور على أن يختار شرب اللبن بنفسه فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض وهو مولود على أن يرتضع فكذلك هو مولود على أن يعرف الله والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض

وأيضا فإن حب النفس وخضوعها لله وإخلاص الدين له مع الكبر والشرك والنفور إما أن يكون نسبتها إلى الفطرة سواء أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم ولم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان ويكون تمجيسها كتحنيفها وقد عرف بطلان هذا

وإن كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مسلتزما لمقتضاة عند عدم المعارض وإما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها فإن كان الأول ثبت أن ذلك من لوازمها وأنه مفطورة عليه لا تفقد إلا إذا فسدت الفطرة

وإن قيل: إنه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا

وإذا قيل: هي إلىالحنيفية أميل كان كما يقال: هي إلى النصرانية أميل

فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله والذل له وإخلاص الدين له وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه

تعليق ابن تيمية

[عدل]

ومما يبين هذا أن كل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد فما في النفوس من قوة المحبة له - إذا شعرت به - يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض

وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح ومحبة العلم وغير ذلك وإذا كان كذلك وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له وإخلاص الدين له وأن فيها قوة الشعور به - لزم قطعا وجود المحبة فيها والذل بالفعل لوجود المقتضى الموجب إذا سلم عن المعارض وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل يكلمها بكلام وإن كان وجود هذا قد يذكر ويحرك كما لو خوطب الجائع بوصف طعام أو خوطب المغتلم بوصف النساء فإن هذا مما يذكر ويحرك لكن لا يجب ذلك في وجود الشهوة للطعام ووجود الأكل

فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته وإن كان ذلك مذكرا ومحركا أومزيلا للمعارض المانع لكن المقصود أنه لا يحتاج حصول ذلك في الفطرة إليه مطلقا

وأيضا فالإقرار بالصانع بدون عبادته بالمحبة له والذل له وإخلاص الدين له لا يكون نافعا بل الإقرار مع البعض أعظم استحقاقا للعذاب فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم ومقتض للمحبة والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج بل هو جبلي فطري وإذا كانت المحبة جبلية فطرية فشرطها - وهو المعرفة أيضا - جبلي فطري فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به

وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وهو فطرة الله التي أمر الله بها

وأيضا فإذا كانت المحبة فطرية وهي مشروطة بالشعور لزم أن يكون الشعور أيضا فطرية والمحبة له أيضا فطرية لأنها لو لم تكن فطرية لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء وهذا ممتنع كما تقدم وإذا كانت في الفطرة أرجح لزم وجودها في الفطرة وإلا كانت ممكنة الحصول وعدمه كما في المجوسية وغيرها من الكفر فتبقى الحنيفية مع المجوسية كاليهودية مع المجوسية وهذا باطل كما تقدم

فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية وذلك مسلتزم للإقرار والمعرفة ولازم اللازم لازم وملزوم الملزوم ملزوم فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال هذه الأحوال لازمة لها وهو المطلوب

قال أبو عمر: ( قد مضى في الفطرة ومعناها عند العلماء ما بلغنا عنهم والحمد لله وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل قوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية قالوا: ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم وما استخرج قط من ظهر آدم ذرية تخاطب ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات

والقرآن قد نطق عن أهل النار: { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } من غير إنكار عليهم

وقال تعالى تصديقا لذلك: { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } قالوا: وكيف يخاطب الله عز وجل من لا يعقل؟ وكيف يجيب من لا عقل له؟ أم كيف يحتج عليه بميثاق لا يذكرونه؟ أم كيف يؤاخذون بما قد نسوه ولم يذكروه ولا يذكر أحد أن ذلك عرض له أو كان منه؟

قالوا: وإنما أراد الله بقوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إخراجه إياهم في الدنيا وخلقه لهم وإقامة الحجة عليهم بأن فطرهم ونبأهم فطرة: إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة: هل تقع ضرورة أو اكتسابا على ما قد ذكرنا في غير هذا المكان )

قلت: ليس المقصود هنا الكلام على هذه الآية وتفسيرها والكلام في معرفة حاصلة قبل الولادة أو نفيها بل المقصود إثبات المعرفة الفطرية الحاصلة بعد الولادة وإذا كان من نفاة الأول من يقول: إن هذه ضرورية فكيف بمن أثبت الثنتين وهذه الأقوال التي ذكرها منها اثنان من جنس وهو قول من يقول: ولدوا على ما سبق به القدر أو على ذلك وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول منهم مقر طوعا وكرها أو اثنان من جنس وهو قول من يقول: ولدوا قادرين على المعرفة وقول من يقول: ولدوا قابلين لها وللتهود والتنصر إما من التساوي وإما مع رجحان القبول للإسلام

وأما من قول من يقول: ولدوا على فطرة الإسلام أو علىالإقرار بالصانع وإن لم يكن ذلك وحده أيمانا أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق عليهم - فهذه الثلاثة لا منافاة بينها بل يحصل بها المقصود

والكتاب - والسنة - دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله الذي هو معرفة الله والإقرار به بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم وبمقتضاها يجب حصوله فيها إذا لم يحصل ما يعوقها فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط بل على انتفاء مانع

ولهذا لم يذكر النبي لموجب الفطرة شرطا بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال: [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] كما قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } فأخبر أن المشركين مفترقون

ولهذا قال في الحديث الصحيح: [ إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه لا تشركوه به شيئا وأنت تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ]

وقد قال تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }

وقال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين }

وقال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }

وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده كما قال: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فهو يجمع أصلين :

أحدهما عبادة الله وحده لا شريك له وإنما يعبد بما أحبه وأمر به وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق وضده الشرك والبدع

والثاني: حل الطيبات التي يستعان لها على المقصود وهو الوسيلة وضدها تحريم الحلال والأول كثير في النصارى والثاني - وهو تحريم الطيبات - كثير في اليهود وهما جميعا في المشركين

ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه كسورة الأنعام والأعراف يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك وذمهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى

وفي الحديث: [ أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ] فنعبده وحده بفعل ما أحبه ونستعين على ذلك بما أحله

كما قال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم }

وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه فإنه محبوب لكل أحد فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتحليل الطيبات النافعة وتحريم الخبائث الضارة

الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة

[عدل]

وهذا الذي أخبر به النبي من أن [ كل مولود يولد على الفطرة ] مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه كما أخبر الصادق المصدوق وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطىء في ذلك

وبيان ذلك من وجوه :

الوجه الأول

[عدل]

أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقا وتارة ما يكون باطلا فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب والإرادات تنقسم إلىما يوافق مصلحته وهو جلب المنفعة له وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره

فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة ولهذا [ قال : أصدق الأسماء: الحارث وهمام وأحبها إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن وأقبحها: حرب ومرة ] فإن الإنسان لا بد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية ولا بد من أن يهم بالأمور: منها ما يهم به ويفعله ومنها ما يهم به ولا يفعله فإن كان المراد موافقا لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة وإن كان مخالفا لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه

وإذا كان الإنسان تارة تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة وتارة تكون سيئة فلا يخلو: إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين

فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان: أحدها يرجح الصدق الذي ينفعه والآخر يرجح الكذب الذي يضره فإما أن يتكافأ المرجحان أويترجح أحدهما فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما وهو خلاف المعلوم بالضرورة فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وأن ينتفع وأن يكذب وتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح أحدهما فترجح الكذب الضار - مع فرض تساوى المرجحين أولى بالامتناع من تكافيهما فعين أنه تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير

فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقضيه؟ والثاني معلوم الفساد قطعا فتعين الأول وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به

وأيضا فإنه مع الإقرار به إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته والثاني معلوم الفساد وإذا كان الأول أنفع له كان في فطرته محبة ما ينفعه

وأيضا فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به والثاني معلوم الفساد فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده

وأيضا فأما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين أو الإسلام مرجوحا أو راجحا والأول والثاني باطلاق باتفاق المسملين وبأدلة كثيرة فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة سواء كانت نسبة قدرة أو نسبة قبول

وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته وإخلاص الدين له فإما أن يكون مع ذلك لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل مثل من يعلمه ويدعوه أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل

فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفا على مخاطب منفصل دائما فلا يحصل بدونه البتة ثم القول في حصول موجبها لذلك المخاطب المنفصل كالقول في الأول وحينئذ فيلزم التسلسل في المخاطبين ووجود مخاطبين لا يتناهون وهو أيضا مخاطبون وهذا تسلسل في الفاعلين وهو ممتنع

وإن كان في المخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل دل على إمكان ذلك في الفطرة فبطل هذا التقدير: وهو كون موجب الفطرة لا يحصل قط إلا لمخاطب منفصل وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل علم أن في الفطرة قوة تقتضي ذلك وأن ذلك ليس موقوفا على مخاطب منفصل لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع وهذا هو الفطرة

وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد في الفطر ما يكون مستغنيا عن مخاطب منفصل في حصول موجب الفطرة لكن لا يقتضي أن كل واحد كذلك لكن إذا عرف أن ما جاز على أحد الإنسانين يجوز على الآخر لتماثلهما في النوع أمكن ذلك في حق كل شخص وهو المطلوب

الوجه الثاني

[عدل]

أن يقال: إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته حصل المقصود بذلك وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة: كالتعليم والتخصيص فإن الله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة: من معرفة الله وتوحيده فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضى لذلك

ومعلوم أن قوله: كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك فإن الله يقول: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا }

ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك وتستوجبه بحسبها فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل من معرفتها بربها ومحبتها له ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ فحصول موجب الفطرة سواء توقف على سبب وذلك السبب موجود من خارج أو لم يتوقف على التقديرين يحصل المقصود ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع فلا يحصل مقصود الفطرة

الوجه الثالث

[عدل]

أن يقال: من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم ومخصص حصل لها من العلم والإرادة بحسب ذلك ومن المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ومعلوم أن مجرد التعليم والتخصيص لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك وإلا فلو علم البهائم والجمادات وحضضها لم يحصل لها ما يحصل لبني آدم والسبب في الموضعين واحد فعلم أن ذلك لاختلاف القوابل

ولهذا يشترك الناس في سماع القرآن ويتفاوتون في آثاره فيهم من العلم والحال وهكذا في سائر الكلام وإذاكان كذلك علم أن في النفوس قوة تقتضي العلم والإرادة

يبين ذلك أن ذلك المرجح إذا حصل من خارج فمعلوم أنه نفس لا يوجب بنفسه حصول العلم والإرادة في النفس إلا بقوة منها تقبل ذلك وتلك القوة لا تتوقف على أخرى وإلا لزم التسلسل الذي لا يتناهى بين طرفين متناهين أو الدور القبلي وكلاهما ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء

فهذا يدل على أن في النفس قوة ترجح الدين الحق علىغيره وحينئذ فالمخاطب إنما عنده تنبيها على ما لا تعلمه لتعلمه أو تذكيرها بما كانت ناسية لتذكره أو تخضيضها على ما لا تريده لتريده ونحو ذلك

وكل هذه الأمور يمكن أن تحصل بخواطر في النفس تقتضي تنبيهها وتذكيرها وتحضيضها واعتبار الإنسان ذلك من نفسه يوجب علمه بذلك فإن ما يسمعه الإنسان من كلام البشر بمكن أن يخطر له مثله في قلبه فعلم أن الفطرة يمكن حصول إقرارها بالصانع والمحبة والإخلاص له بدون سبب منفصل وأنه يمكن أن تكون الذات كافية في ذلك

ومن المعلوم أنه إذا كان المقتضى لذلك قائما في النفس وقدر عدم المعارض فالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم يجب مقتضاه فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يصل لها من يفسدها كانت مقرة بالصانع عابدة له

فإن قيل: هذه الخواطر التي تخطر للإنسان قد تحصل لبعض الناس دون بعض بحسب ما يتفق من الأسباب كما أن بعض الناس يحصل له من يخاطبه دون بعض فليسوا مشتركين في أسباب الخواطر والخطاب

قيل: إذا لم تكن الخواطر متوقفة على مخاطب من خارج كانت الفطرة الإنسانية هي المقتضية لذلك وإن كان ذلك بأسباب يحدثها الله من إلهام ملك أو غيره لكن المقصود أنه لا يحصل لها ذلك بواسطة تعلم إنسان ودعائه وهذا هو المقصود بيانه من كونها ولدت على الفطرة ليس المراد أنه يجب وجود الهدى لكل إنسان فإن هذا خلاف الواقع والحديث قد بين أن المولود يعرض له من يغير فطرته

الوجه الرابع

[عدل]

أن يقال: هب أنه لا بد من الداعي المعلم من خارج لكن في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والإرادات وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة

الوجه الخامس

[عدل]

أن يقال: المقصود أنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح لأن المقتضي فيه للعلم والإرادة النافعة قائم والمانع زائل إذ يجب وجود مقتضاه

والأول استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب من فصل على وجود المقتضي التام في الفطرة وهذا استدلال بوجود المقتضي التام على حصول مقتضاه

وليس المقصود هنا أن المقتضى التام يجب وجوده لكل أحد فإنه هذا ممتنع بل إن الفطرة تقتضى وجوده كما تقتضى فطرة الصبي شرب لبن أمه فلو لم يعرض له المانع للزم وجود الشرب لكن قد يعرض له مرض فيه أو في أمه أو غير ذلك يوجب نفوره عن شرب لبنها وحب العبد لربه هو مفطور فيه أعظم مما فطر فيها حبه للبن أمه

قال الله تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } فلو لم يكن المقتضي التام ممكن وجوده في الفطرة لم يحصل موجبها إلا بمرجح من خارج وهو خلاف الواقع ولأنها إذا خلت عن الأسباب الخارجة لم يكن بد من وجود صلاحها أو فسادها والثاني ممتنع فتعين الأول

الوجه السادس

[عدل]

أن السبب الذي في الفطرة: إما أن يكون مسلتزما للمعرفة والمحبة وإما أن يكون مقتضيا لها بدون استلزام وعلى التقديرين يحصل المقصود

الوجه السابع

[عدل]

أن النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة بل هذا الخلوممتنع فيها فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة ولا يجوز أن يقال: إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه وعن محبته وعدم محبته

وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها ولو لم يكن لها معارض بل هذا باطل

وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضروة فطرتها وكونها مريدة من لوازم ذاتها لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة

ولهذا قال : [ أصدق الأسماء الحارث وهمام ] وهي حيوان وكل حيوان متحرك بالإرادة فلا بد لها من حركة إرادية وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها فإن هذا تسلسل في العلل الغائبة وهو ممتنع كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية بل أولى

وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهذا هو الإله الذي يألهه القلب فإذا لا بد لكل عبد من إله فعلم أن العبد مفطور على انه يحب إلهه

ومن الممتنع أن يكون مفطورا على أنه يأله غير الله لوجوده :

منها: أن هذا خلاف الواقع

ومنها: أنه ليس هذا المخلوق بأن يكون إلها لكل الخلق بأولى من هذا

ومنها: أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد بل عبد كل قوم ما يستحسنوه

ومنها: أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل من الميت فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة ميت وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله يألهه فلو كان هذا يأله هذا وهذا يأله هذا لزم الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فلا بد لهم كلهم من إله يألهونه

فإن قلت: ما ذكرته يستلزم أنه لا بد لكل حي من إله أو لكل إنسان من إله لكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس مطلق المألوه لا مألوها معينا وجنس المراد لا مرادا معينا؟

قيل: هذا ممتنع فإن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه فالأول مثل كون العطشان يريد ماء والسغبان يريد طعاما فإرادته هنا لم تتعلق بشيء معين فإذا حصل عين من النوع حصل مقصوده

والمراد لذاته لا يكون نوعا لأن أحد المعنيين ليس هو الآخر فلو كان هذا مرادا لذاته للزم أن لا يكون الآخر ماردا لذاته وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مرادا لذاته وإذا لم يكن مرادا لذاته لزم أن يكون ما يختص به كل منهما ليس مرادا لذاته

والكلي لا وجود له في الأعيان إلا معينا فإذا لم يكن في المعينات ما هو مارد لذاته لم يكن في الموجودات الخارجية ما هو مراد لذاته فلا يكون فيها ما يجب أن يألهه أحد فضلا عما يجب أن يألهه كل واحد

فتبين أنه لا بد من إله معين هو المحبوب لذاته من كل حي ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله فلزم أن يكون هو الله وعلم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وأن كل مولود ولد على حبة هذا الإله ومحبته مستلزمة لمعرفته فعلم أن كل مولود ولد على محبته ومعرفته وهو المطلوب

وهذا الدليل يصلح أن يكون مستقلا وهذا بخلاف ما يراد جنسه كالطعام والشراب فإنه ليس في ذلك ما هومارد لذاته بل المراد دفع ألم الجوع والعطش أو طلب لذة الأكل والشرب وهذا حاصل بنوع الطعام والشراب لا يتوقف على معين بخلاف ما هو مارد ومحبوب لذاته فإنه لا يكون إلا معينا

أن يقال: اليهود عندهم نوع من المعرفة بالحق لكن بلا عمل به بل مع بغض له ونفور عنه واستكبار والنصارى معهم نوع من المحبة والطلب والإرادة لكن بلا علم بل مع ضلال وجهل ولهذا قال النبي : [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] رواه الترمذي وصححه

وأمرنا الله أن نقول في صلاتنا: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آمين فإن النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه وإذا كان كذلك والإنسان يحتاج إلى هذا وهذا فطرته السليمة: إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العلم به أو للعمل به دون معرفته أو لهما أو لا لواحد منهما

فإن كان الرابع: فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب والاعتقاد المطابق والفاسد وإرادة ما ينفعها وإرادة ما يضرها وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة

وإن كان الثالث: فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وأن تجهل وأن تهتدي وأن تضل وأن لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما وهوأيضا خلاف المعلوم بالحس والضرورة

وإن كان الثاني: فيلزم أن يستوي عندها إرادة الخير النافع والشر الضار دائما إذا استوت الدواعي الخارجة هو أيضا خلاف الحس الباطن والظاهر وخلاف الضرورة فبين أنه لا يستوى عندها هذان بل يترجح عندها هذا وهذا جميعا

وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية فعلى المجوسبة أولى ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به وهو المطلوب

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55