درء تعارض العقل والنقل/34

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كلام أبي نصر السجزي في الإبانة[عدل]

وهذا ما ذكره أبو نصر السجزي في الإبانة قال: حكى محمد بن عبد الله المغربي المالكي وكان فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذ خلف المعلم كان من فقهاء المالكيين قال: أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول )

قال أبو نصر: ( وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وغوره )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة فإن الأشعري مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة كمسألة الرؤية والقرآن والصفات ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع فإن هذا أصل أصولهم كما قد بينا كلام أبي الحسين البصيري وغيره في ذلك وأن الأصل الذي بنت عليه المعتزلة كلامهم في أصول الدين هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه وجاء كثير من أتباع المتأخرين كأتباع صاحب الإرشاد فأعطوا الأصول - التي سلمها للمعتزلة - حقها من اللوازم فوافقوا المعتزلة على موجبها وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه فنفوا الصفات الخبرية ونفوا العلو وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة وقالوا: ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى وإنما خلافهم مع المجسمة وكذلك قالوا في القرآن: إن القرآن الذي قالت به المعتزلة: إنه مخلوق نحن نوافقهم على خلقه ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم

والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية وصارت المعتزلة والفلاسفة - مع جمهور العقلاء يشنعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل ومكابرتهم للضروريات

وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأقوال التي ذكر الأشعري أنها مبتدعة في الإسلام مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري وأصحابه أقرب إلى صحيح المعقول من قول المعتزلة كما يمكن أن يبين أن قول المعتزلة أقرب إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة لكن هذا يفيد أن هذا القول أقرب إلى المعقول وإلى الحق لا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة فتبين له أن قول هؤلاء خير من قول أصحابك فإنه كما إن كل من كان أقرب إلى السنة فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقلية

ولا ريب أن هذا مما ينبغي سلوكه فكل قول - أو قائل - كان إلى الحق أقرب فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد ألا ترى أن الله تعالى لما نصر الروم على الفرس وكان هؤلاء أهل الكتاب وهؤلاء أهل أوثان فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب على من كان عنه أبعد وأيضا فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع البعيد عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد وأن يوافق القريب إلى الحق للسلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقا

مثال ذلك: أن متأخري الأشعرية إذا ناظروا المعتزلة في مسألة الرؤية وقالت لهم المعتزلة: رؤية مرئي لا يواجه ولا يقابل مخالف لصريح العقل أمكن الأشعرية - ومن وافقهم على نفي المقابلة والمواجهة كطائفة من أصحاب أحمد وغير هم من أصحاب الأئمة الأربعة أن يقولوا لهم - الرؤية ثابتة بالسنة المستفيضة بل المتواترة عن النبي وبإجماع السلف من أهل العصر الأول ويمكن تقريرها أيضا بالعقل كما بيناه في غير هذا الموضع فلا يخلو من ذلك: إما أن يمكن الرؤية بدون المواجهة والمقابلة وإما أن لا يمكن فإن أمكن ذلك انقطعت المعتزلة وإن لم يمكن كانوا بين أمرين: إما موافقة المعتزلة على نفي المقابلة لانتفاء المباينة والعلو وإما موافقة أهل الحديث على المباينة والعلو المتضمن معنى المقابلة والمواجهة

وهذا أولى بأتباع الأشعري لأنه قول أئمة مذهبهم كابن كلاب وغيره بل وقول الأشعري أيضا وغيره من قدماء الأصحاب

فإن قال له المعتزلي: إذا قلت ذلك لزمك أن يكون متحيزا وأنت قد وافقتني على بطلان ذلك - أمكن الأشعري أن يقول له: إما أن يكون علوه على العرش ومباينته للخلق مع نفي التحيز ممكنا وإما أن لا يكون فإن كان مكنا انقطع المعتزلي وإن لم يكن ممكنا قال له: أنا وافقتك على نفي التحيز لاعتقادي صحة الدليل الدال على أن كل متحيز هو محدث لما اتفقنا عليه من التحيز لا بد أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة فيصح عليه الاجتماع والافتراق ويصح عليه الحركة والسكون وكل ما قبل ذلك لم يخل من الحوادث والحوادث يجب أن تكون متناهية لها انتهاء وما كان مستلزما لما له انتهاء كان له ابتداء فإذا كان المتحيز لا ينفك عما له ابتداء كان له ابتداء لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع

فيقول الأشعري: هذا الدليل إن كان صحيحا ودليل الرؤية والعلو والمباينة أيضا صحيح أمكن أن أقول بموجب ذلك وأثبت العلو والرؤية والمباينة بدون التحيز وإن قدر أنه لا يمكن الجمع بين هذين فموافقتي للسلف والأئمة في إثبات الرؤية والعلو والمباينة مع موافقتي للكتاب والسنة أولى من موافقتك على هذه المقدمة وهي امتناع وجود ما لا يتناهى فإن هذه المقدمة لكل طائفة فيها قولان فللفلاسفة فيها قولان وللمعتزلة فيها قولان وللأشعرية فيها قولان ولأهل السنة والحديث والفقه فيها قولان

وأكثر العقلاء على جواز وجود ما لا يتناهى في الجملة ولكن منهم من يجوز ذلك في الماضي كما يجوزه في المستقبل ومنهم من يجوزه في المستقبل دون الماضي

والأدلة الدالة على امتناع ذلك قد عرف ضعفها

ويقول له: وقد علمت بالاضطرار أن تصديق السلف للرسول لم يكن مبنيا عليها فلا يكون العلم بصدق الرسول موقوفا عليها ولا علمي أيضا بصدق الرسول موقوفا عليها ولا معرفتي للصانع تعالى موقوفة عليها

وليست هذه الطرق وأمثالها هي الطرق العقلية التي دل القرآن عليها وأرشد عليها فإن تلك الطرق صحيحة عقلية لا يمكن عاقلا أن ينازع فيها فإن حدوث المحدثات مشهود معلوم الحس وافتقار المحدث إلى محدث معلوم بضرورة العقل بل العقل الصريح يعلم العقل افتقار كل ما يعلم حدوثه إلى محدث كما يعلم افتقار جنس المحدثات إلى محدث فتعلم الأعيان الجزئية الموجودة في الخارج كما تعلم القضية الكلية الشاملة لها إلى سائر نافي هذا الباب من الآيات الدالة على معرفة الصانع سبحانه كما قد بسط في موضعه

وإذا كان كذلك تبين أن العلم بصدق الرسول ليس موقوفا على شيء من المقدمات المناقضة لإثبات الصفات الخبرية والرؤية والعلو على العرش ونحو ذلك مما دل عليه السمع وهو المطلوب

فصل[عدل]

ومما يوضح ذلك أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام في إثبات الصانع التي أحدثها المعتزلة والجهمية وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم قد طعن فيها جمهور العقلاء فكما طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وذموا أهل الكلام بها كذلك طعن في حذاق الفلاسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن العزيز أصح منها وإن كان أولئك المعتزلة والأشعرية أقرب إلى الإسلام من هؤلاء الفلاسفة من وجه آخر

كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام[عدل]

فأما ذم السلف والأئمة لهذا الكلام فمشهور كثير وقد قال أبو القاسم بن عساكر في كتابه المعروف ب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الأشعري: فإن قيل: ( غاية ما تمدحون به أبا الحسن أن تثبتوا أنه متكلم وتدلونا على أنه بالمعرفة برسوم الجدل متوسم ولا فخر في ذلك عند العلماء من ذوي التسنن والاتباع لأنهم يرون أن من تشاغل بذلك من أهل الابتداع فقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم أهل الكلام ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى وأنتم تنتسبون إلى مذاهبه فهلا اقتديتم في ذلك به )

ثم روى ابن عساكر بإسناده عن الفريابي حدثني بشر ابن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غريب الحديث كذب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس قال البيهقي وروي هذا أيضا عن مالك بن أنس وقال: قال البيهقي: وإنما يريد - والله أعلم - بالكلام كلام أهل البدع فإن في عصرهما إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع فأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد )

قال ابن عساكر: ( وأما قول الشافعي: فأخبرنا فلان - وذكر من كتاب مناقب الشافعي لـ عبد الرحمن بن أبي حاتم: ثنا يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: لأن يبتلي المرء بكل ما نهى الله عنه - سوى الشرك - خير له من الكلام ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك قال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن أصرم المزني قال: قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: ما تردى أحد بالكلام فأفلح

وقال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال: إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا )

وروي أيضا ( عن ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد )

قال ابن عساكر: ( فإنما عنى الشافعي الكلام البدعي المخالف عند اعتباره للدليل الشرعي )

قال: ( وقد بين زكريا بن يحيى الساجي في روايته هذه الحكاية عن الربيع أنه أراد بالنهي عن الكلام قوما تكلموا في القدر ولذلك حكم بالتبديع ويدل عليه ما أخبرنا فلان ) وروى بإسناده ( عن محمد بن إسحاق بن خزيمة: سمعت يونس بن عبد الأعلى: يقول: جئت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد فقال: غبت عنا يا أبا موسى لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام )

قال: ( فالشافعي إنما عنى بمقالته كلام حفص القدري وأمثاله )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: حفص الفرد لم يكن من القدرية وإنما كان على مذهب ضرار بن عمرو الكوفي وهو من المثبتين للقدر لكنه من نفاة الصفات وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية

كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية[عدل]

وقد ذكر الأشعري في ( المقالات ) فقال: ( ذكر الضرارية - أصحاب ضرار بن عمرو -: والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة قوله: إن أعمال العباد مخلوقة وإن فعلا واحدا لفاعلين أحدهما خلقه وهو الله والآخر اكتسبه وهو العبد وإن الله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة وهم فاعلون لها في الحقيقة وكان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وأنها بعض المستطيع وأن الإنسان أعراض مجتمعة وكذلك الجسم أعراض مجتمعة وأن الأعراض قد يجوز أن تنقلب أجساما وكان يزعم أن كل ما تولد عن فعله كالألم الحادث عن الضربة وذهاب الحجر الحادث عن الدفعة فعل لله - سبحانه - وللإنسان وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر: أنه ليس بجاهل ولا عاجز وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه )

وقال: ( وكان يزعم أن الله يخلق حاسة سادسة يوم القيامة للمؤمنين يرون بها ماهيته - أي ماهو - )

قال: ( وقد تابع على ذلك حفص الفرد وغيره )

فهذا الذي ذكره الأشعري من قول ضرار وحفص الفرد في القدر هو مخالف لقول المعتزلة بل هو من أعدل الأقوال وأشبهها وقوله إلى قول الأشعري وأصحابه في القدر والرؤية أقرب من قوله إلى قول المعتزلة بل هو في القدر أقرب إلى قول أهل الحديث والفقهاء وسائر أهل السنة

وأعدل من قول الأشعري حيث جعل العبد فاعلا حقيقة وأثبت استطاعتين ونحو ذلك مما أثبته أئمة الفقهاء وأهل الحديث كما هو مذكور في موضعه

عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه[عدل]

قال ابن عساكر: ( فأما الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الأصول عند الفتنة فهو محمود عند العلماء )

وروي عن ابن خزيمة: ( سمعت الربيع يقول: لم كلم الشافعي حفصا الفرد فقال حفص: القرآن مخلوق قال له الشافعي: كفرت بالله العظيم )

وعن الربيع: ( قال: حضرت الشافعي - أو حدثني أبو شعيب - ألا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه فكلاهما أشار إلى الشافعي فسأل الشافعي واحتج عليه فطالت فيه المناظرة فقال الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصا الفرد قال الربيع: فلقيت حفصا في المسجد بعد فقال: أراد الشافعي قتلى )

وروي عن الشافعي: ( قال: ماناظرت أحدا أحببت أن يخطىء إلا صاحب بدعة فإني أحب أن ينكشف أمره للناس )

( قال البيهقي إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصا الفرد وأمثاله من أهل البدع وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من ذم الكلام وذم أهله غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده )

( وروى البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود قال: دخل حفص الفرد على الشافعي فقال لنا: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه وكان يقول بخلق القرآن )

قلت: حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر فهو من نفاة الصفات القائلين بأن الله تعالى لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض المتقدم فإن القرآن كلام والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال لا يقوم إلا بجسم والجسم محدث فكان إنكار الشافعي عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا لم تكن مناظرته له في القدر ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ خطأ بينا فإن الناس كلهم إنما نقلوا مناظرته له في القرآن: هل هو مخلوق أم لا؟

وأهل المقالات متفقون على أن حفصا لم يكن من نفاة القدر بل من مثبته وقد ظن البيهقي وغيره أنه إنما ذم مذهب القدرية فقال: ( وإنما ذم الشافعي مذهب القدرية ألا تراه قال: بشيء من هذه الأهواء واستحب ترك الجدال فيه وكأنه سمع ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي : أنه قال: [ لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ] - الحديث أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله ثم في سنة رسول الله من الدلالة على إثبات القدر لله تعالى وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته وكذلك في سائر مسائل الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم حتى حدثت طائفة سموا ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها وقالوا: نترك القول بالأخبار أصلا وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم فقال جماعة من أئمتنا بهذا العلم وبينوا لمن وفق للصواب ورزق الفهم أن جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في المعقول وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في المعقول وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم أجابوهم فكشفوا عنها بما هو حجة عندهم كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما في ترك أنكار المنكر والسكوت عنه من الفساد والتعدي وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة وكانوا لا يتسمون بتسميتهم )

قال: ( وإنما يعني - والله أعلم - بقوله: من ارتدى بالكلام لم يفلح كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب عليها وحين حملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها )

قال: ( فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل )

إلى أن قال البيهقي: ( وفي كل هذا دلالة أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة ويبين بالعقل والعبرة فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم )

قال: ( وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز شيخ مالك بن أنس استاذ الشافعي بصيرا بالكلام والرد على أهل الأهواء )

وروي من تاريخ يعقوب بن سفيان عن ابن وهب: ( قال: قال مالك: كان ابن هرمز رجلا كنت أحب أن أقتدي به وكان قليل الكلام قليل الفتيا شديد التحفظ وكان كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث في إثره فيرده إليه يغير ما أفتاه

قال: وكان بصيرا بالكلام وكان يرد على أهل الأهواء وكان من علم الناس بما اختلفت فيه الناس من هذه الأهواء

وروى ابن عساكر من طريق البيهقي عن الحاكم: سمعت أبا بكر بن عبدالله يوسف الحفيد ـ من أصل كتابه ـ سمعت الحسين بن الفضيل البجلي يقول: دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من عند المأمون وقد امتحنه فأجاب إلى ما سأله وكان أول ما قال لي علي تكتب عن المرتدين؟ فقلت: معاذ الله ما أنت بمرتد وقد قال الله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن ثم سألته عن أشياء يطول ذكرها فقال: أشدها علينا: أن قال لنا: ما تقولون في عيسى ؟ قلنا: من عيسى يا أمير المؤمنين؟ قال: عيسى بن مريم قلنا: رسول الله قال: وكلمته؟ قلنا: نعم قال: فما تقولون فيمن قال: ليس عيسى كلمة الله؟ قلنا: كافر يا أمير المؤمنين قال: فقال لنا: أليس عيسى كلمة الله؟ قلنا: بلى قال: أفمخلوق أم غير مخلوق؟ قلنا: مخلوق قال فمن زعم أنه غير مخلوق؟ قلنا: كافر يا أمير المؤمنين قال: فما تقولون في القرآن؟ قلنا: كلام الله عز وجل قال: مخلوق أو غير مخلوق؟ قلنا: غير مخلوق قال: فمن زعم أنه مخلوق؟ قلنا: كافر قال فمن زعم؟ أن عيسى غير مخلوق وهو كلمة الله؟ قلنا: كافر قال: يا سبحان الله: عيسى كلمة الله ومن نفى الخلق عنه كافر ! والقرآن كلمة الله ومن يثبت الخلق عليه كافر ! قال الحسين: فأعلمته ما يجب من القول وقلت له: قد كان المكي يختلف إليكم ويقول لكم: إني أعلم من هذا الباب مالا تعلمون فتعلموا ذلك مني فتحملكم الرياسة على ترك ذلك ويقول لكم: يكون لكم ما تعلمتموه مني عدة تعتدونها لأعدائكم فإن هجموا لم تحتاجوا إلى طلب العدة وإن لم يحضركم الأعداء لم يضركم الإعداد للعدة فتأبون ذلك والحجة في هذا الباب كيت وكيت

فقال: والله وددت أني كنت أعلم هذا كما تعلمه يوم دخلت على المأمون وأن ثلث روايتي ساقطة عني ثم نظر إلى يحيى بن معين وهو معه فقال له: وأنا أقول كما تقول فقال لي زهير: فعلم ابني فإنه حدث فخلوت به في المسجد فعلمته ذلك ثم انصرفت قال الحاكم: الحسين بن الفضل البجلي صاحب عبد العزيز المكي المقدم في معرفة الكلام ه )

قلت: هذه الحكاية وقع فيها تغيير أن كان أصلها صحيحا فإن زهير بن حرب ويحيى بن معين ونحوهما ممن امتحن في زمن المحنة لم يجتمعوا بالمأمون ولا ناظرهم بل ذهب إلى الثغر بطرسوس وكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن أبراهيم ين مصعب أن يمتحن الناس فامتنعوا من الإجابة فكتب إليه كتابا ثانيا يغلظ فيه ويأمر بقتل القاضيين: بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق إن لم يجيبا ويأمر بتقييد من لم يجب من العلماء فامتنع من الإجابة سبعة منهم: زهير بن حرب وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح لم يجيبا فحملا إليه مقيدين فمات محمد بن نوح في الطريق ومات المأمون قبل وصول أحمد بن حنبل إليه

وهذا كله معلوم عن أهل العلم بذلك لم يختلفوا في ذلك فإن كانت قد جرت مناظرة مع زهير بن حرب فلعل ذلك كان من غير المأمون ولعل ذلك كان بين يدي نائبه إسحاق بن إبراهيم فإنه هو الذي باشرهم بالمحنة وإنما الذي ناظر الجهمية في المحنة هو أحمد بن حنبل وكان ذلك في خلافة المعتصم بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها: من الجهمية والمعتزلة والنجارية: مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وناظرهم ثلاثة أيام وقطعهم في تلك المناظرات كما قد شرحنا تلك المناظرات في غير هذا الموضع

وهذه الحجة التي ذكرت في حكاية زهير بن حرب ذكرها الإمام أحمد وتكلم عليها في كتبه فيما الرد على الجهمية وهو في الحبس قبل اجتماعه بهم للمناظرة فكان الجواب عن هذه مما هو بعد عند الأئمة ك أحمد بن حنبل وأمثاله

كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن[عدل]

قال أحمد فيما كتبه: ( ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر فقال: أنا أجد آية في كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق فقلنا: أي آية؟ قال: قول الله عز وجل: { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } وعيسى مخلوق فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن: إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأنه يسمى مولودا رضيعا وطفلا وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه: { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له ( كن ) فكان عيسى بكن فعيسى ليس هو الكن ولكن بالكن كان فالكن من الله قول وليس الكن مخلوقا

وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته إلا أن كلمته مخلوقة وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب قلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة وأما قول الله تعالى: { روح منه } يقول: من أمره كان الروح فيه كقوله: { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } يقول: من أمره وتفسيره روح الله إنما معناها أنها روح يملكها الله خلقها الله كما يقال: عبد الله وسماء الله وأرض الله )

فبين الإمام أحمد أن الجهمية المعطلة والنصارى الحلولية ضلوا في هذا الموضع فإن الجهمية النفاة يشبهون الخالق تعالى بالمخلوق في صفات النقص كما ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم وصفوه بالنقائص وكذلك الجهمية النفاة إذا قالوا: هو في نفسه لا يتكلم ولا يحب ونحو ذلك من نفيهم والحلولية يشبهون المخلوق بالخالق فيصفونه لصفات الكمال التي لا تصلح إلا لله كما فعلت النصارى في المسيح ومن جمع بين النفي والحلول كحلولية الجهمية: مثل صاحب الفصوص وغيره قالوا: ( ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي كلها صفات له كما أن صفات المخلوق حق الله )

فهم يصفون المخلوق بكل ما يوصف به الخالق ويصفون الخالق بكل ما يوصف به المخلوق فإن الوحدة والاتحاد والحلول العام يقتضي ذلك

ولفظ ( الكلام ) مثل لفظ: الرحمة والأمر والقدرة ونحو ذلك من ألفاظ الصفات التي يسمونها في اصطلاح النحاة مصادر ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبر به عن المفعول كثيرا كما يقولون: درهم ضرب الأمير

ومنه قوله تعالى: { هذا خلق الله }: أي مخلوقه؟ فالأمر يراد به نفس مسمى المصدر كقوله: { أفعصيت أمري } { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } { ذلك أمر الله أنزله إليكم }

ويراد به المأمور به كقوله تعالى: { وكان أمر الله قدرا مقدورا } { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } فالأول هو كلام الله وصفاته والثاني مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه

وكذلك لفظ ( الرحمة ) يراد بها صفة الله التي يدل عليها اسمه: الرحمن الرحيم كقوله تعالى: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } ويراد بها ما يرحم به عباده من المخلوقات كقول النبي : [ إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ]

وقوله [ عن الله تعالى: يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ]

وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة كقوله تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } وقوله: { يريدون أن يبدلوا كلام الله }

ويراد به ما فعل بالكلمة كالمسيح الذي قال له ( كن ) فكان فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في الآدميين فصار مخلوقا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين كما خلق آدم وحواء أيضا على غير الوجه المعتاد فصار عيسى عليه السلام مخلوقا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين

وفي هذا الباب باب المضافات إلى الله تعالى ضلت طائفتان: طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك كإضافة البيت والناقة إليه وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم حتى ابن عقيل وابن الجوزي وأمثالهما إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك وقالوا: هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى ب نفي التشبيه وإثبات التنزيه وذكره أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الوصول وغيره وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة

وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه إضافة صفة ويقولون بقدم الروح فمنهم من يقول بقدم روح العبد لقوله: { ونفخت فيه من روحي } وهم من جنس النصارى الذين يقولون بأن روح عيسى من ذات الله تعالى

ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كطائفة من أهل طبرستان وجيلان وأتباع الشيخ عدي وغيره

وطائفة ثالثة تقف في روح العبد: هل هي مخلوقة أم لا؟ وهم منتسبون إلى السنة والحديث من أصحاب أحمد وغيرهم والنزاع بين متأخري أصحاب أحمد وغيرهم وهو في المضافات الخبرية كالوجه واليد والروح وأما المعتزلة فيطردون ذلك في الكلام وغيره وقد بين أحمد الرد على الطائفتين الأوليين وهؤلاء الطائفتان أيضا يضلون في المضاف بمن فإن المجرور بالإضافة حكمه حكم المضاف كقوله تعالى: { ولكن حق القول مني } وقوله تعالى: { وروح منه } فالطائفتان يجعلون القول منه كالروح منه ثم يقةل النفاة: والروح مخلوقة بائنة عنه فالقول مخلوق بائن عنه ويقول الحلولية: القول صفة له ليس لمخلوق فالروح التي منه صفة له ليست مخلوقة

والفرق بين البابين: أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم ينفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره

فقوله تعالى: { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } وقوله في عيسى: { وروح منه } وقوله تعالى: { قل الروح من أمر ربي } يمتنع أن يكون شيء من هذه الأعيان القائمة بنفسها صفة لله تعالى

لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين: أحدهما أن تضاف إليه من جهة كونه خلقها وأبدعها فهذا شامل لجميع المخلوقات كقولهم: سماء الله وأرض الله ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عباد الله وجميع المال مال الله وجميع البيوت والنوق لله

والوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه الله به من معنى يحبه ويرضاه ويأمر به كما خص البيت العتيق بعباجة فيه لا تكون في غيره وكما خص المساجد بأن يفعل فيها ما يحبه ويرضاه من العبادات وأن تصان عن المباحات التي لم متشرع فيها فضلا عن المكروهات وكما يقال عن مال الفيء والخمس: هو مال الله ورسوله

ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه وهذه الإضافة العامة لا تتضمن إلا خلقه وربوبيته

وكذلك كلماته نوعان: كلماته الدينية المتضمنة شرعه ودينه كالقرآن وكلماته الكونية التي بها كون الكائنات وهي الكلمات التي كان النبي يستعيذ بها في قوله: [ أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر ] فإن كلماته التي بها كون المخلوقات لا يخرج عنها بر ولا فاجر بخلاف كلماته التي شرع بها دينه فإن الفجار عصوها كما عصاها إبليس ومن اتبعه

والله تعالى لا يضيف إليه من المخلوقات شيئا إضافة تخصيص إلا لإختصاصه بأمر ويوجب الإضافة وإلا فمجرد كونه مخلوقا ومملوكا لا يجب أن يخص بالإضافة

ويهذا يتبين فساد قول النفاة الذين يقولون في قوله تعالى: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } من الأقوال ما لا اختصاص لآدم به كقولهم: بقدرته أو بنعمته أو أن المعنى: خلقته أنا أو أنه أضافه إلى نفسه إضافة تخصيص فإن هذه المعاني كلها موجودة في الملائكة وإبليس والبهائم فلا بد أن يثبت لآدم من اختصاصه بكونه سبحانه خلقه بيديه مالا يثبت لهؤلاء

وكذلك أيضا إذا قيل عن القرآن العزيز - أو غيره - إنه كلام الله فإن هذا لا يوجب أن تكون إضافته إليه إضافة خلق وملك لوجهين: أحدهما: أنه صفة والصفات إذا أضيفت إليه كانت إضافة وصف لا إضافة خلق الثاني: أن هذا يقتضي أن يكون كل كلام خلقه الله كلام فيكون إنطاقه لما أنطقه من المخلوقات كلاما له ومن عرف أن الله خالق كل شيء لزمه أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه كما فعل ذلك حلولية الجهمية كابن عربي وغيره حيث قالوا :

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

ولا يجوز أن تكون إضافته إليه لا ختصاصه بمعنى يحبه ويرضاه كما أضاف إليه البيت والناقة بقوله تعالى: { وطهر بيتي للطائفين والقائمين } وقوله: { ناقة الله وسقياها } لأن هذا يوجب أن يكون كل كلام يحبه الله فإنه كلامه فيكون الإنسان إذا أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون ذلك كلام الله ويكون الشاهد إذا شهد بشهادة أمر بها تكون كلام الله ويكون كل من حدث بحديث عن النبي فإنما حدث بكلام الله تعالى

والناس قد تنازعوا في مثل قوله : [ أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] هل المراد بها: الكلمة التي شرعها الله وهي عقد النكاح؟ أو المراد كلمة التي تكلم بها وهي شرعه وإذنه وتحليله لذلك؟

والصواب أن المراد بقوله: كلمة الله كلامه الذي تكلم به المتضمن إذنه وتحليله وشرعه لا العقد الذي هو كلام العباد ومن قال إن المراد به العقد فقد أخطأ من وجون متعددة قد بسطناها في غير هذا الموضع وتكلمنا على ذلك في مسألة مفردة ولا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به ولكن لو قدر أنه قد يراد بالكلام المضاف إلى الله ما أمر به وقدر أنه حصل نزاع في قوله: { وكلمة الله هي العليا } هل المراد: الكلمة التي يحبها ويأمر بها؟ أو الكلمة التي تكلم بها وهي نفس أمره وخبره؟

وكذلك قوله : [ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ] فمن قال: المراد بالجميع كلام الله الذي تكلم له أطردت الإضافة على قوله ولو قدر أن قائلا قال: أضيف إليه من الكلام ما يحبه ويرضاه وإن لم يكن تكلم به - لم يمكن أن يجعل كون القرآن كلامه من هذا الباب بالضرورة والاتفاق إذ لازم ذلك أن يكون القرآن بمنزلة ما أمر به من الشهادة والأخبار وتقويم السلع وخرص النخل وسائر أنواع الكلام الصادق الذي يجب التكلم به فيكون كل من تكلم بشيء من ذلك قد تكلم بكلام الله ويكون كون القرآن كلام الله هو من هذا الباب ولا يكون لله عز وجل في نفسه كلام إلاما تكلم به الخلق وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده

ثم قول القائل: الكلام الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به أو الكلام الذي يكرهه وينهى عنه - يقتضي أن هناك محبة ورضاء وامرا غير المأمور به وكلاما هو نهي غير المنهي عنه وذلك هو كلامه الذي هو أمره ونهيه فالأمر والنهي غير المأمور به والمنهي عنه

وهذا على قول من اشتبه عليه أمر الإضافة في هذا المواضع وإلا فالصواب في قوله : [ واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] أنها كلمته التي تكلم بها

وكذلك قوله تعالى: { وكلمة الله هي العليا } هي كلمته التي تكلم بها وكل كلام تكلم به سبحانه مخبرا فإنه صدق كما أن كل كلام تكلم به آمرا فهو عدل وقد تمت كلماته صدقا وعدلا

فالكلام له نسبة إلى المتكلم به وهو الآمر المخبر به وله نسبة إلى المتكلم فيه وهو المأمور به والمخبر عنه فكلام الله الذي تكلم به يشبرك كله في كونه تكلم به

ثم ما أخبر به عن نفسه مثل قوله تعالى: { قل هو الله أحد } وآية الكرسي وغير ذلك - أفضل مما أخبر به عن خلقه وذكر فيه أحوالهم كقوله تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتب } وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم

وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون: إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه بناء على أنه قديم والقديم لا يتفاضل

ويتأولون قوله تعالى: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } أي خير لكم وأنفع والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة: إن بعض كلام الله أفضل من بعض كما دل على ذلك الشرع والعقل

ففي الحديث الثابت [ عن النبي أنه قال لأبي سعيد بن المعلى: لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ] ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب فأخبر النبي فأخبر النبي أنه ليس في القرآن لها مثل فبطل قول من يقول بتماثل جميع كلام الله

وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب: أتدري أي آية في كتاب الله أعظم: فقال: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فضرب بيده في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر فبين أنه هذه الآية أعظم من غيرها من الآيات

وقد ثبت عنه في الصحيحين من غيره وجه أن: { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن

وذلك أن القرآن: إما خبر وإما إنشاء والخبر: إما خبر عن الخالق وإما عن المخلوق فثلثه قصص وثلثه أمر وثلثه توحيد فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار

وأيضا فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلم به في أنه تكلم بالجميع فقد تفاضل من جهة المتكلم فيه فإن كلامه الذي وصف به نفسه وأمر فيه بالتوحيد أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه وأمر فيه بما هو دون التوحيد

وأيضا فإذا كان بعض الكلام خيرا للعباد وأنفع لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه لا يكون ثواب أحدهما أكثر ولا نفعه أعظم

والمقصود هنا شيئان: أحدهما: أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام كالبيهقي وابن عساكر وغيرهما - وقد عرفعوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع وقالوا: إنما كان يعرف في عصرهم بالكلام أهل البدع وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله وأنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم قام جماعة من أئمتنا وبينا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة فكانوا لا يسمون تسميتهم وإنما يعني بقوله ( من ارتدى بالكلام لم يفلح ) كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب والسنة عليها فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل

قلت: وهذا اتفاق من علماء الأشعرية مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف على أن الكلام المذموم عند السلف: كلام من يترك الكتاب والسنة ويعول في الأصول على عقله فكيف بمن يعارض الكتاب والسنة بعقله؟ ! وهذا هو الذي قصدنا إبطاله وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذين وافقوا المعتزلة في ذلك

وأما الرازي وأمثاله فقد زادوا في ذلك على المعتزلة فإن المعتزلة لا تقول: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون: إنها تفيد اليقين ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء

الثاني: أن كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ونحوه من الأئمة تضمن ذم كلام حفص الفرد وأمثاله في مسألة القرآن والكلام في ذلك مبني على نفي قيام الأفعال به فإن المعتزلة يقولون: الكلام لا بد له من فعل يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته فلو قام به الكلام لقامت به الأفعال وهي حادثة فكان يكون محلا للحوادث وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم

وقد بينا أن ذم الشافعي لكلام حفص وأمثاله لم يكن لأجل إنكار القدر فإن حفصا لا ينكره وإنما كان لإنكار الصفات والأفعال المبني على دليل الأعراض

وهكذا كلام الإمام أحمد - وغيره من الأئمة - في ذم الكلام كان متناولا لكلام الجهمية وكلام أحمد وأمثاله في ذلك كثير ظاهر معلوم فإن مناظرته للجهمية ورده عليهم أشهر وأكثر من أن يذكر هنا وكان من المناظرين له أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وهو على قول حسين النجار - والنجار من المثبتة للقدر - وكذلك كانوا يذمون المريسي وغيره من المثبتين للقدر فتبين أن كلامهم في ذم أهل الكلام لم يكن لأجل إنكار القدر بل كان ذمهم للجهمية أعظم من ذمهم للقدرية

كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية[عدل]

قال الأشعري في المقالات: ( ذكر قول الحسين بن محمد النجار: كان هو وأصحابه يقولون: إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى وهم فاعلون لها وإنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريده وأن الله لم يزل مريدا أن يكون في وقته ماعلم أنه يكون في وقته مريدا أن لا يكون ما علم أنه لا يكون وأن الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم الفعل وأن العون من الله يحدث في حال الفعل مع الفعل وهو الاستطاعة فإن الاستطاعة الواحدة لا يفعل بها فعلان وأن لكل فعل استطاعة تحدث معه إذا حدث وإن الاستطاعة لا تبقى وأن في وجودها وجود الفعل وفي عدمها عدم الفعل )

وذكر سائر قوله في القدر من جنس قول الأشعري وأصحابه ( وأن الإنسان لا يفعل في غيره وأنه لا يفعل الأفعال إلا في نفسه كنحو الحركات والسكون والإرادات والعلوم والكفر والإيمان وإن الإنسان لا يفعل ألما ولا إدراكا ولا رؤية ولا يفعل شيئا على طريق التولد )

قال: ( وكان برغوث يميل إلى قوله )

قال: ( وكان يزعم أن الله لم يزل جوادا بنفي البخل عنه ولم يزل متكلما بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام وأنه كلام الله محدث مخلوق وكان يقول في التوحيد يقول المعتزلة إلا في باب الإرادة والجود وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء وكان يزعم أن جائز أن يحول الله العين إلى القلب ويجعل في العين قوة القلب فيرى الله الإنسان بعينه: أي يعلمه بها وكان ينكر الرؤية لله بالأبصار على غير هذا الوجه )

قلت: فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة ليس فيه إنكار للقدر بل فيه إثبات له وإنما ذمومهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه مع أن قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلو ويثبت الرؤية من الأشعرية ونحوهم وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدم من الأصول الثلاثة ليس لهم غيرها وهي دليل الأعراض والتركيب والأختصاص

كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله[عدل]

ومما يبين ذلك ما ذكره الشيخ أبو سليمان الخطابي في رسالته المعروفة في الغنية عن الكلام وأهله قال فيها: ( وقفت على مقالتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويزداد بسلاحه عن حريمها وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك: أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد المقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها فرأيت إسعافك لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين فإن الدين النصيحة )

واستشهد بقول النبي : الدين النصحية الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم

قال: ( واعلم أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق قول النبي : [ بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ]

قال: ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء وذهن ويوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة للعامة وعد واحدا من الجمهور والكافة وأنه قد ضل فهمه واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا عن حقائقها ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس ولا قبلوا بيقين علم )

قال: ( ولما رأوا كتاب الله ينطق يخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله ولسنته المأثورة عنه وردوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالتزيد ونسبوهم إلى ضعف المنة وسوء المعرفة بما يروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سكلوا سبيل القصد ووقفوا عند ما أنتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين وروح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصابيح النور والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )

تعليق ابن تيمية[عدل]

فهذا الذي وصفه الشيخ أبو سليمان الخطابي هو حال أهل الكلام الذين يعارضون الكتاب والسنة بعقلهم فيتأولون الكتاب على غير تأويله ويردون الحديث بما يمكنهم مثل زعمهم أنه خبر واحد وأن كان من المستفيضات المتلقاة بالقبول ومثل غير ذلك من وجوه الرد لأن الأصول التي بنوا عليها دينهم تناقض منصوص الكتاب والسنة كطريقة الأعرض والتركيب والاختصاص ونحو ذلك مما تقدم

وهم فيها خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص في حيرة وشبهة وشك من كان منهم فاضلا ذكيا قد عرف نهايات أقدامهم كان في حيرة وشك ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء فهو يدع تقليد النبي المعصوم وإجماع المؤمنين المعصوم ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة الذين هم في شك وحيرة ولهذا لا يوجد أحد من هؤلاء إلا وهو: إما حائر شاك وإما متناقض يقول قولا ويقول ما يناقضه فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام أو عن الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة وعقائد غير مطابقة وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية وأدلة يقينية فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها ويبينون أنها شبهات فاسدة وحجج عن الحق حائدة

وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيرا بحال هؤلاء بخلاف أتباع الرسول المتبعين له فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول هو الموافق لصريح المعقول وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض

قال تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }

فهؤلاء مثل نور الله في قلوبهم: { كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم }: نور الإيمان ونور القرآن نور صريح المعقول ونور صحيح المنقول

كما قال بعض السلف: يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر فإذا جاء الأثر كان نورا على نور

وقال لغير واحد من الصحابة - كجندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر: - تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا

قال تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }

وأما أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فهم: إما في الجهل البسيط وإما في الجهل المركب كالكفار فالأولون: { كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }

والآخرون: { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب }

فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعلموا والذي معهم ليس لعلم بل جهل

عود لكلام الخطابي في الغنية[عدل]

قال أبو سليمان الخطابي: ( واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هاهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم - حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا بهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: هو كما قال أبو سليمان فإن السلف كانوا أعظم عقولا وأكثر فهموما وأحد أذهانا وألطف إدراكا كما قال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم

وقد تواترت النصوص عن النبي بأن: [ خير قرون الأمة القرن الذي بعث فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]

وأعظم الفضائل فضيلة العلم والأيمان فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة ولم يدعوا الطرق المبتدعة المذمومة عجزا عنها بل كانوا كما قال عمر بن عبد العزيز: على كشف الأمور أقوى وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى

وقول الخطابي: ( تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها ) فسنبين إن شاء الله أن تلك الطرق المخالفة للسنة هي في نفسها باطلة فأضربوا عنها كما يضرب عن الكذب والقول الباطل وإن كان مزخرفا مزينا ولم يستجيزوا أن يقابلوا الفاسد بالفاسد ويردوا البدعة بالبدعة وأما الكلام الذي لا يدري أصدق هو أم كذب فهو بمنزلة الشاهد الذي لا يعلم صدقه فهذا قد يعرض عنه خوفا أن يكون باطلا وكذبا فهذا يكون في الطرق المجهولة الحال

ولا ريب أن كثيرا من الناس لا يعلم أحق هي أم باطل فينهى عن القول بما لا يعلم وقد ينهى بعض الناس عن أن ينظر فيما يعجز عن فهمه ومعرفة الحق فيه من الباطل خوفا من أن يزل ذهنه فيضل ولا يمكن هداه فالخوف يكون فيما لا يعلم حاله أو لا يعلم حال سالكه وإن كان حقا وأما الكلام المخالف للنصوص فهو في نفسه باطل فالنهي عنه كالنهي عن الكذب والكفر ونحو ذلك

وقوله: ( وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته )

فهذا بيان لأنهم كانوا أهل علم ويقين لا أهل جهل وتقليد وأنه حصل لهم معرفة يقينية ضرورية بهدى الله لهم وشرح صدورهم كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الإيمان والعلم لا يتوقف على النطر الذي أحدثه أهل الكلام فضلا عن الكلام المخالف للنصوص

وقوله: ( ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب والسنة غنى ومندوحة عما سواهما )

فهذا لأن الكتاب - والسنة - قد بين الحق وبين الطرق التي بها يعرف الحق وذكر من الأدلة العقلية والأمثال المضروبة التي هي مقاييس برهانية ما هو أكمل في تحصيل العلم واليقين مما أحدثه أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة

وليس هدى الكتاب بمجرد كونه خبرا كما يظنه بعضهم بل قد نبه وبين ودل على ما به يعرف الحق من الباطل من الأدلة والبراهين وأسباب العلم واليقين كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع

وما ذكره من أنه لما تأخر الزمان وفترت عزائم بعض الناس عن طلب حقائق علوم الكتاب والسنة أخذوا يردون شبه الملحدين بالكلام المبتدع المستلزم مخالفة النصوص - فهو كما قال وقد تأملت هذا في عامة الأبواب فوجدته كذلك بل وجدت جميع أهل البدع يلزمهم أن لا يكونوا مصدقين بتنزيل القرآن ولا بتفسيره وتأويله في كثير من الأمور والعلم - والإيمان - يتضمن التصديق بالتنزيل وما دل عليه من التأويل وما من بدعة من بدع الجهمية وفروعهم إلا وقد قالوا في القرآن بما يقدح في تنزيله وقالوا في معانيه بما يقدح في تفسيره وتأويله

فمن تأمل طرق المعتزلة ونحوهم التي ردوا بها على أهل الدهر والفلاسفة ونحوهم فيما خالفوا فيه المسلمين رآهم قد بنوا ما خالفوا فيه النصوص على أصول فاسدة في العقل لا قطعوا بها عدوا الدين ولا أقاموا على موالاة السنة واتباع سبيل المؤمنين كما فعلوه في دليل الأعراض والتركيب والاختصاص

وكذلك من ناطرهم من الكلابية وغيرهم فيما خالفوا فيه السنة من مسائل الصفات والقدر وغير ذلك بنوا كثيرا من الرد عليهم على أصول فاسدة: إما أصول وافقوهم عليها مما أحدثه أولئك كموافقة من وافقهم على دليل الأعراض والتركيب ونحوهما وإما أصول عارضوهم بها فقابلوا الباطل بالباطل كما فعلوه في مسائل القدر والوعد والوعيد ومسائل الأسماء والأحكام فإن أولئك كذبوا بالقدر وأوجبوا إنفاذ الوعيد وقاسوا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح وهؤلاء ابطلوا حكمة الله تعالى وحقيقة رحمته وعدله وقالوا ما يقدح في أمره ونهيه ووعده ووعيده وتوقفوا في بعض أمره ونهيه ووعده ووعيده فصار أولئك يكذبون بقدرته وخلقه ومشيئته وهؤلاء يكذبون برحمته وحكمته وببعض أمره ونهيه ووعده ووعيده كما قد بسط في موضعه

فكان ما دفعوا به أهل البدع من أصول مبتدعة باطلة وافقوهم عليها أو أصول مبتدعة باطلة قاتلوهم فيها ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان بل الحق أنهم لا يوافقون على باطل ولا يقابل باطلهم بباطل

وهذا كما أصاب كثيرا من الناس من أهل العبادة والزهد والتصوف والفقر أعرضوا عن السماع الشرعي والزهد الشرعي والسلوك الشرعي فاحتاجوا أن يعتاضوا عن ذلك بسماع بدعي وزهد بدعي وسلوك بدعي يوافق فيه بعضهم بعضا في باطل أو يقابل باطلهم بباطل آخر وكما أصاب كثيرا من الناس مع الولاة الذين أحدثوا الظلم فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم فيعاونونهم على الإثم والعدوان وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر فيخرجون عليهم ويقاتلونهم بالسيف وهو قتال الفتنة فمن الناس من يوافق على الظلم ولا يقابل الظلم مثل ما كان بعض أهل الشام ومنهم من كان يقابله بالظلم والعدوان ولا يوافق على حق ولا على باطل كالخوارج ومنهم من كان تارة يوافق على الظلم وتارة يدفع الظلم بالظلم مثل حال كثير من أهل العراق

وكثير من الناس مع أهل البدع الكلامية والعملية بهذه المنزلة: إما أن يوافقوهم على بدعهم الباطلة وإما أن يقابلوها ببدعة أخرى باطلة وإما أن يجمعوا بين هذا وهذا وإنما الحق في أن لا يوافق المبطل على باطل أصلا ولا يدفع بباطل أصلا فيلزم المؤمن الحق وهو ما بعث الله به رسوله ولا يخرج عنه إلى باطل يخالفه: لا موافقة لمن قاله ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلا وكلا الأمرين يستلزم معارضة منصوصات الكتاب والسنة بما يناقض ذلك وإن كان لا يظهر ذلك في بادي الرأي

بقية كلام الخطابي في الغنية[عدل]

قال أبو سليمان: ( فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه وأن الرسول لم يثبت صدقة إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها؟ )

قال أبو سليمان: ( قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والإيداع والانقطاع على سالكها )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الأعراض من الكلام المذموم الذي ذمه السلف والأئمة وأعرضوا عنه كما ذكر ذلك الأشعري وغيره وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطرق النبوية الشرعية فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة

والخطابي ذكر أن هذه الطريقة متعبة مخوفة فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك وهذا كما ذكره الأشعري وغيره ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة وإنما ذموها لكونها بدعة أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز سالكها أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها

وهكذا ذكر الخطابي في كتاب شعار الدين ما يتضمن هذا المعنى ولهذا كان من لم يعلم بطلان هذه الطريقة أو اعتقد صحتها قد يقول ببعض موجباتها كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله ما يوافق موجبها وقد أنكره عليه أئمة السلف والعلم كما هو مذكور في غير هذا الموضع وهذا قد وقع فيه طوائف من أصناف الناس من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم

وأما قوله: ( إنهم أخذوا هذه الطريقة من الفلاسفة ) كما ذكر ذلك الأشعري

فيقال: كثير من الفلاسفة يبطل هذه الطريقة كأرسطو وأتباعه فلم يوجد عنهم ومن الفلاسفة من يقول بها والذين قالوا بها من أهل الكلام ليس كلهم أخذها عن الفلاسفة بل قد تتشابه القلوب

كما قال تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم }

وقال تعالى: { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون }

وأكثر المتكلمين السالكين لها مناقضون للقول المشهور عن الفلاسفة لا موافقون لهم بل يردون على أرسطو وأصحابه في المنطق والطبيعيات والألهيات

تابع كلام الخطابي في الغنية[عدل]

قال الخطابي: ( وبيان ما ذهب إليه السلف - من أئمة المسلمين - في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه ومن الطريقة التي يسلكونها ويزعمون أن من لم يتوصل إليه من تلك الوجوه كان مقلدا غير موحد على الحقيقة - هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمد بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا

وقال له: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته }

وقال في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه: [ ألا هل بلغت ]

وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فلم يترك شيئا من أمور الدين: قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله - إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علم يقينا أن النبي لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد - علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل )

قال الخطابي: ( وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه :

أحدهما: ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه وقد تحداهم به وبسورة من مثله وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء فكل عجز عنه ولم يقدر على شيء منه بوجه: إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه وحسن معانيه وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرهم طبعا وتركيبا ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته وحجة عليهم في وجود تصديقه وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهودة عنه الخارجة عن سوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصا في كفه وحنين الجذع لمفارقته ورجف الجبل تحته وسكونه لما ضربه برجله وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه وسجود البعير له ونبوع الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم وأخبار الذراع إياه بأنها مسمومة وأمور كثيرة سواها يكثر تعدادها هي مشهورة ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن )

قال الخطابي: ( فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز وجل وأمر صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز وجل: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون }: إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على جود الصانع الحكيم لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع وحاجتهم إلى الغذاء فيقع بها الطحن له وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء والكبد التي يسلك إليها صفاوته وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن

وكقوله تعالى: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت }

وكقوله تعالى: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }

وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل الذي بان حقه وعن قول النبي الذي قد ظهر صدقه ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم كافة عن كافة قرنا بعد قرن فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترا واستفاضة على الوجه الذي تقوم به الحجة وينقطع فيها العذر ثم كذلك من بعدهم عصرا بعد عصر إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة وتقوم عليه بها الحجة فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين وفي التوصل إلى المقصود به أقرب إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس وبمقدمات من العلم مركبة عليها لا يقع الخلف في دلالتها )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: ذكر الخطابي طريقين إلى معرفة الله وصفاته: طريقا سمعية وطريقا عقلية وكلاهما طريق شرعية معروفة بالقرآن أما الأولى: فهو أن تعلم نبوة النبي بما أظهره الله على يديه من المعجزات وبغير ذلك ثم يعرفون بذلك ما أخبرهم به ودعاهم إليه من التوحيد وإثبات الصفات وهذا لأن نفس الإقرار بالصانع سبحانه فطري ضروري أو معلوم بأدنى نظر وتأمل يحصل لعموم الخلق

ثم معرفة صدق الرسول تعلم بما أظهره من المعجزات الدالة على صدق الرسول وقد نبه الخطابي أن فيما جاء به الرسول من بيان الطرق العقلية التي يعرف بها ثبوت الخالق وتوحيده وصفاته فإن الرسول لم يكن تعريفه للناس ما عرفهم إياه بمجرد خبره وإن كان ذلك بعد ثبوت صدقه كما يظنه كثير من أهل الكلام بل عرفهم ما به يعرف ثبوت الخالق ووحدانيته وصفاته وما به يعرف صدقه فبين ما جاء به من أصول الدين وأدلته العقلية التي يعلم بها ما يمكن معرفته بالعقل وأخبرهم عن الغيب الذي لا يمكنهم معرفته بمجرد عقلهم

ولهذا قال الخطابي: ( وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أنه لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة )

قال: ( وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز وجل: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون }

إلى قوله: ( وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يذكرها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الأمور ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب إلى آخر كلامه )

كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة[عدل]

وهذا مما اعترف به النظار من جميع الطوائف: من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم كما قال القاضي عبد الجبار في أول كتابه المصنف في تثبيت نبوة نبينا قال: ( الحمد لله الذي من على عباده بإرسال رسله وختمم بسيدهم محمد فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإنما يعرف الرسول من عرف المرسل وقد حصل لك العلم به تبارك وتعالى بما في كتاب المصباح وغيره وأجلها وأعظمها وأوضحها وأبينها ما في القرآن مما نبه الله عليه وجعله في عقول العقلاء فينبغي أن يراعيه ويديم النظر فيه ويواصل الفكر في آيات الله ويعتبر بالنقل والاعتبار تنال المعرفة )

وكذلك قال الأشعري في كتابه المشهور المعروف باللمع لما ذكر خلق الإنسان واستدل به على الخالق تعالى كما قد حكينا كلامه وذكرنا كلامه وكلام القاضي أبي بكر عليه وأن كلامه أجود مع أنه جعل الإنسان مما يستدل على خلق جواهره بأنها لا تخلو من الحوادث بناء على أن الحدوث المشهود إنما هو حدوث الأعراض كالتأليف والتركيب وهو المراد بالخلق بناء على ثبوت الجوهر الفرد

وهذا وإن كان ضعيفا وأكثر علماء المسلمين ينازعون في هذا

كلام الباقلاني شرح اللمع[عدل]

فالمقصود أنه استدل بالخلق على الخالق قال القاضي أبو بكر: ( ثم قال أبو الحسن مؤيدا لما ذكره من حدوث الإنسان وحدوث تصويره وتعلقه بخالق خلقه ومدبر دبره: وقد قال تعالى: { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له يكون قال: وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم )

قال القاضي أبو بكر: ( واعملوا أن الغرض بذكر الآيتين الإخبار عن الله في نص كتابه بما دلهم العقول عليه وتقريبه والتنبيه على موضع الاستدلال به من جهة السمع ليكون المرء عند سماعه أقرب إلى العلم بإدراك ما يلتمس علمه وترتيب ما النظر فيه على حقه وموجبه وأن يجمع لأهل التوحيد المقربن بالسمع بين دلائل العقول وتنبيه السمع عليها وأن النظر في مقدورات الله والاعتبار بها طريقا إلى العلم بصانعها المدبر بها والخالق لأعيانها )

قال: ( وأما وجه التنبيه من قوله: { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } فهو أن من سبيل الخالق المنشىء أن يكون ماخلقه واقعا بقصده وإرادته وأن يجد نفسه قادرة عليه وعلى إجاد عينه إن كان مخترعا له أو على تصويره وتخطيطه إن كان الخلق تصويرا وتقديرا )

قال: ( وإذا ثبتت هذه الجملة وعلمنا أن وجود الولد بنيته وهيئته وليس بمقصور على إرادة الوالد ولا مما يجد في نفسه القدرة عليه - ثبت بذلك أن الولد المخلوق ليس من فعل الوالد على سبيل المباشرة ولا على جهة التولد عن حركاته )

قال: ( وأما وجه التنبيه من قوله: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } رده لهم إلى الاعتبار في أحوالهم وتنقلهم من حال إلى حال ومن تركيب إلى تركيب وعجيب ما قد فعل بذواتهم من التصوير والتأليف وخلق الحواس ومواضعها وتركيب كل عضو من أعضائهم على صفة ما يحتاج إلى استعماله فيه: من اليد للبطش والرجل للمشي وغير ذلك من جوارحهم ومايتجدد في أنفسهم من الحوادث التي لم تكن ويزول عنهم من الأمور الني يؤثرون استدامتها مع علمهم بأن الصورة لا بد لها من مصور وأن التأليف للدار والكتابة وضروب المنسوجات والمصنوعات لا بد لها في عقولهم من صانع مؤلف وأن التغير في صفاته مع جواز بقائه على ما يعبر عنه لا بد له من ناقل نقله ومغير غيره وأنهم يجب أن يعلموا بذلك أن تصوير الإنسان وتغيره في الأحوال التي ذكرها أولى أن يتعلق بمصور صوره وناقل نقله وغيره من تركيب إلى تركيب وحال إلى حال: أن الإنسان أقرب إلى علم هذا بالتنبيه من ناحية السمع عليه وأجدر أن يتحقق علم ما فيه وإن كان لو أفرد بعقله وأحيل على صحيح نظره لقال بما نبه السمع على مواضعه وإن احتاج في ذلك إلى فضل فكر بالكد والروية وإتعاب النفس في طلب الحق )

قال: ( فهذا وجه التنبيه مما تلاه من التنزيل )

وذكر في التوحيد والمعاد نحوا من ذلك بخلاف نفي التشبيه فإنه جعله من باب ما دل القرآن عليه بالخبر

وأما ما ذكره هو وغيره: من أنهم عرفوا صدق الرسول بالمحجزات ابتداء فهذا يكون على وجهين :

أحدهما: أنهم عرفوا إثبات الخالق بالضرورة ثم عرفوا صدق الرسول بالمعجزات

الثاني: أن يقال: نفس ظهور المعجزات دلت على إثبات الخالق وعلى صدق رسوله كما كان إظهار موسى للآيات: مثل العصا واليد دليلا على الصانع وعلى صدق الرسول

ولهذا لما قال له فرعون: { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } قال له موسى: { قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين }

فأظهر موسى هذه الآيات لما قال له فرعون: { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } فدل ذلك على أنه أظهرها لإثبات العلم بالصانع ولصدق الرسول والأدلة الدالة على صدق الرسول كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع وبنبوته يستدل على تفصيل صفات الله وأسمائه وعلى توحيده الذي هو عبادته وحده لا شريك له وهو توحيد الإلهية وكذلك على توحيد الربوبية

فكلا نوعي التوحيد مما يمكن علمه بالسمع وهذا مما اعترف به غير واحد من حذاق النظار وقالوا: إنه يمكن العلم بصدق الرسول قبل العلم بالوحدانية مع أن الخطابي أردا - والله أعلم - بعلم التوحيد: علم صفات الرب سبحانه وأسمائه فإنهم يسمون ذلك علم التوحيد وذلك مما يمكن معرفته بالشرع فإنه يعلم بالفطرة وبالعقل إثبات الصانع على طريق الإجمال وأما تفصيل صفاته وأسمائه فتعلم بالسمع

وأيضا فإذا عرف أن العلوم الإلهية حقيقتها موجودة عند الأنبياء عليهم السلام فإنهم الصادقون المصدقون فيما يخبرون به من ذلك وأن الواجب تلقي ذلك عنهم - كان العلم بأن هذا يستفاد من الرسول يمكن إثباته بما به يعلم أنه رسول وإذا علم أنه رسول تعلم منه هذا المطلوب كما إذا عرف أن علاج المرضى يؤخذ من الأطباء والاستفتاء يرجع فيه إلى المفتين وأمر التقويم يرجع فيه إلى المقومين فإذا عرف أن هذا طبيب أو مفت أو مقوم رجع إليه في ذلك

وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وبين أن العلم بصدق النبي له طرق متعددة فمن ادعى من المتكلمين: المعتزلة والجهمية وموافقيهم - أنه لا يمكن العلم بصدقة إلا بعد العلم بحدوث الأجسام وأن ذلك لا يعلم إلا بطريقة الأعراض فقوله خطأ مبتدع وهو الذي ذكر الخطابي أنه لم يسلك أحد من السلف هذه الطريق

وأما الطريق العقلية التي ذكرها فهي طريق دل عليها القرآن وأرشد إليها ونبه عليها وهي الاستدلال بما يجدونه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكما عالما خبيرا إلى قوله: ( فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها )

وهذا لأن الفعل الواحد المتسق المنتظم لا يكون عن اثنين ولا يكون إلا عن عالم قادر كما بين في غير هذا الموضع

عود لكلام الخطابي في الغنية[عدل]

فهذه الصفات ونحوها مما يعلم بالعقل قال: ( ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل ) وهذا كالصفات الخبرية: مثل الوجه واليدين والاستواء على العرش ونحو ذلك

قال الخطابي: ( فأما الأعراض فإن التعلق بها إما أن يكون عذرا وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسرا متعذرا وذلك أن اختلاف الناس قد كثر فيها فمن قائل: لا عرض في الدنيا ناف لوجود الأعراض أصلا وقائل: إنما هي قائمة بأنفسها لا تخالف الجواهر في هذه الصفة إلى غير ذلك من الاختلاف فيها وأوردوا في نفيها شبها قوية فالاستدلال بها والتعلق بأدلتها لا يصح إلا بعد التخلص من تلك الشبه والانفكاك عنها والطريقة التي سلكناها سليمة من هذه الآفات برية من هذه العيوب فقد بان ووضح فساد قول من زعم وادعى من المتكلمين أن من لم يتوصل إلى معرفة الله تعالى وتوحيده من الوجه الذي يصححونه من الاستدلال فإنه غير موحد في الحقيقة لكنه مستسلم مقلد وأن سبيله سبيل الذرية في كونها تبعا للآباء في الإسلام وثبت أن قائل هذا القول مخطىء وبين يدي الله ورسوله متقدم وبعامة الصحابة وجمهور السلف مزر وعن طريق السنة عادل وعن نهجها ناكب )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: وهذا الذي ذكره الخطابي بين ظاهر بتقدير أن تكون تلك الطريق صحيحة في نفسها موصلة إلى العلم فإن سلوكها - والحال هذه - إما غرر وخطر وإما مشق صعب بل معجوز عنه فإنها تحتاج إلى تصحيح مقدمات كثيرة دقيقة متنازع فيها وقد لا تثبت للإنسان فيضل عنها فكانت بمنزلة من يريد الحج من طريق بعيدة مخوفة يمكن سالكها أن يصل بعد جهد ومشقة ويمكن أن ينقطع فمثل هذه الطريق قد يعجز صاحبها وقد يضل بعد جهد ومشقة عظيمة إذا لم يكن فيها مخوف وإذا كان فيها مخوف فقد يهلك قبل الوصول

ومعلوم أن من عدل إلى هذه الطريق وترك الطريق المستقيمة الواضحة الآمنة الميسرة كان ظلوما جهولا

وأما بتقدير أن تكون طريقا فاسدة كما يعرفه من عرف حقيقتها فإنها: إما أن لا توصل إلى مطلوب لأن النظر في الدليل الفاسد يستلزم الجهل المركب لا محالة بل قد لا يحصل معه لا علم ولا جهل وهذا حال كثير من حذاق النظار الذين سلكوها وإما أن توصل إلى نقيض الحق إذا اعتقد سالكها صدق بعض مقدماتها الكاذبة وهذه حال كثير ممن اعتقد صحتها وعارض بموجبها صحيح المنقول وصريح المعقول

وهي حال أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على مقتضاها فإنها منشأ ضلال ما شاء الله تعالى من طوائف أهل الكلام كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع فالأولون يبقون في الجهل البسيط وهؤلاء يصيرون في الجهل المركب

تابع كلام الخطابي في الغنية

قال الخطابي: ( فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف فلا تشتغل - رحمك الله - بكلامهم ولا تغتر بكثرة مقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازنه أو يقاربه فكل بكل معارض وبعض ببعض مقابل وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان وحذقه في صنعة الجدل والكلام وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم فهم يطالبونهم بقودها وطردها فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعا وجعلوه مبطلا وحكموا بالفلج لخصمه عليه والجدل لا يبين به حق ولا تقوم به حجة وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطل ويكون الحق في ثلاثة غيرهما فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه وإن كان مفسدا له قول خصمه لأنهما مجتمعان معا في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم :

حجج تهافت كالزجاج تخالها... حقا وكل كاسر مكسور

وإنما كان الأمر كذلك لأن واحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالتها التي ينصرها أصلا صحيحا وإنما هي أوضاع تتكافأ وتتقابل فيكثر المقال ويدوم الاختلاف ويقل الصواب

قال الله تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فأخبر سبحانه ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله عنه

ثم قال سبحانه في الحق: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق }

قال الخطابي: ( فإن قيل: دلائل النبوة ومعجزات النبي - ما عدا القرآن - إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر والحجة لا تقوم بنقل الآحاد على من كان في الزمان المتأخر لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها قيل: هذه الأخبار وإن كانت شروط التواتر في آحادها معدومة فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر ومتعلقة به جنسا لأن بعضها يوافق بعضا ويجانسه إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز والأمر المزعج للخواطر الناقض لمجرى العادات )

قال: ( ومثال ذلك أن يروي قوم ان حاتم طي وهب لرجل مائة من الأبل ويروي آخرون أنه وهب لرجل آخر ألفا من الغنم ويروي آخرون أنه وهب آخر عشرة أرؤس من الخيل والرقيق إلى ما يشبه ذلك حتى يكثر عدد ما يروى عنه فهو وإن لم يثبت التواتر في كل واحد منها نوعا نوعا فقد ثبت التواتر في جنسها وحصل من جملتها العلم بأن حاتما سخي كذلك هذه الأمور وأن لم يثبت لأفراد أعيانها تواتر فقد ثبت برواية الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم ولا يتوهم التواطؤ في الكذب عليهم أنه قد جاء بمعنى معجز للبشر خارج عما في قدرهم فصح بذلك أمر نبوته )

كلام الخطابي في كتاب شعار الدين[عدل]

وقال الخطابي أيضا فيما ألحقه بكتاب شعار الدين وبراهين المسلمين ( الكلام المكروه الذي زجر عنه العلماء وعابوه هو التجرد في مذهب الكلام والتعمق فيه على الوجه الذي يذهب المتكلمون وذلك أنهم أدعوا الوقوف على حقائق الأمور من جهة العقول وزعموا أن شيئا من المعلومات لا يذهب عليهم علمه ولا يعجزهم إدراكه على سبيل التحديد والتحقيق )

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: هذا هو حقيقة قول من لم يجعل السمعيات تفيد العلم إنما يحصل العلم عنده من جهة العقل فقط وقول من يظن أنه بمجرد عقله يعرف ما جاءت به الشرائع

ولهذا قول الإمام أحمد في أول رسالته في السنة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: ( ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول ) فبين أن ما جاء به الرسول لا يجوز أن يعارض بضرب الأمثال له ولا يدركه كل أحد بقياس ولا يحتاج أن يثبته بقياس بل هو ثابت بنفسه وليس كل ما ثبت يكون له نظير وما لا نظير له لا قياس فيه فلا يحتاج المنصوص خبرا وأمرا إلى قياس بخلاف من أردا أن ينال كل ما جاءت به الرسل بعقله ويتلقاه من طريق القياس كالقياس العقلي المنطقي وهو قياس الشمول أو قياس التمثيل ونحو ذلك فإن كلا من هذا وهذ يسمى قياسا

وقد تنازع الناس في اسم القياس: هل هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول؟ كما يقوله أبو حامد الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرها أو هو حقيقة في قياس الشمول مجاز في قياس التمثيل؟ كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره أو القياس حقيقة فيهما؟ كما يقوله الجمهور على ثلاثة أقوال

وأيضا فهم متنازعون في الجنسين: أيهما هو الذي يوصل إلى العلم؟ كثير من الناس من أهل النطق اليوناني ونحوهم يزعم أن الموصل إلى العلم هو قياس الشمول فقط دون قياس التمثيل وكثير من أهل الكلام يرجح قياس التمثيل ويقول: إن قياسهم المنطقي قياس الشمول قليل الفائدة أو عديمها

وحقيقة الأمر أن القياسين متلازمان فكل قياس شمول هو متضمن لتمثيل وكل قياس تمثيل هو متضمن لشمول فأن القايس قياس التمثيل لا بد أن يعلق الحكم بالوصف المشترك فإذا قال: النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر فكان حراما كخمر العنب فقد علق التحريم بالسكر ولا بد له من دليل بدل على تعلق الحكم بذلك الوصف المشترك: إما بنص أو إجماع أوغير ذلك من الطرق الدالة على أن الحكم معلل بذلك الوصف المشترك بين الأصل والفرع وهو الذي يسمى جواب المطالبة فإن القايس إذا قاس توحه عليه منوع أحدها: منع الحكم في الأصل والثاني: منع ثبوت الوصف الذي علق به الحكم في الأصل والثالث: منع وجوده في الفرع وهذه الأسولة الثلاثة قد يسهل جوابها والرابع: منع علة الوصف وهو منع كون الحكم متعلقا به وهذا أعظم الأسولة

وذلك الوصف الذي علق به الحكم يسمونه: علة وسببا وداعيا وموجبا ومناطا وباعثا وأمارة وعلامة ومشتركا وأمثال ذلك ثم إذا أراد المستدل أن يصوغ هذا قياس شمول قال: النبيذ مسكر كل مسكر حرام ولا بد له من إثبات هذه القضية الكبرى وهو قوله: كل مسكر حرام كما يحتاج الأول إلى إثبات كون السكر هو مناط التحريم والذي جعله الأول مناط الحكم جعله الثاني الحد الأوسط المتكرر في المقدمتين ولا بد لكل منهما من الدلالة على ذلك وكل من القياسين يتضمن حكما عاما كليا ولهذا اتفق أرباب القياس الشمولي المنطقي على أنه لا بد فيه من قضية كلية واتفق أرباب القياس التمثيلي على أنه لا بد فيه من مشترك بين الأصل والفرع والمشترك هو الكلي لكن في قياس الشمول لا يجب أن يبين ثبوت الكلي في صورة من الصور المعنية بل يقول الرجل: السواد والبياص لا يجتمعان وإن لم يعين سوادا أو بياضا معينين ويقول: الكل أعظم من الجزء ولا يعين شيئا

وأما قياس التمثيل فلا بد فيه من تعيين أصل يقاس به الفرع ويمثل به فيقال: هذا السواد وهذا البياض لا يجتمعان فكذلك سائر السواد والبياض وهذا الكل أعظم من هذا الجزء وهلم جرا ويقول أهل التمثيل: هذا أنفع لأن الكليات لاوجود لها في الأعيان إنما وجودها في الأذهان فإذا مثل الفرع بمعين ثابت في الخارج أفاد ذلك معرفة شيء موجود معين بخلاف الكلي الذي لا تتمثل أعيانه في الخارج

ولهذا كل متكلم في كليات مقدرة لا يتصور أعيانها الموجودة في الخارج فإما أن يكون كلامه قليل الفائدة بل عديمها وإما أن يكون كثير الخطأ والغلط وإما أن يجتمع فيه الأمران ويقولون أيضا: إن العلم بكل واحد واحد من الأعيان يحصل بما به يحصل المعين الآخر فإنا إذا قلنا: الكل أعظم من الجزء كان علمنا بأن هذا الكل أعظم من هذا الجزء كعلمنا بذلك في الكل الآخر فلم نستفد بالقضية الكلية علما بمعين إلا والعلم بذلك المعين مستغن عن القضية الكلية ففيه تطويل بلا فائدة

ويقول أهل قياس الشمول: بل قياس التمثيل لا يفيد إلا بتوسط تعليق الحكم بالمشترك وهو الحد الأوسط فلا بد فيه من قضية كلية أيضا لكن قد يدعي القايس الممثل تعليق الحكم بالمشترك بمجرد التمثيل ولا يقيم دليلا على أن الوصف المشترك الجامع بين الأصل والفرع هو مناط الحكم الذي هو الحد الأوسط وربما أثبت ذلك بطرق لا تفيد العلم كالاستقراء الناقص الذي هو من نوع السبر والتقسيم ونحو ذلك ففي كل من القياسين قضية كلية لكن صاحب الشمول يثبتها وصاحب التمثيل لا يثبتها

قال أصحاب التمثيل: بل صاحب الشمول لا يمكنه إثباته إلا بطريق التمثيل وإلا فإذا نازعه المنازع في الشمول والعموم لم يكن له طريق إلا ذكر الأعيان بأن يقول: هذا الكل أعظم من هذا الجزء وإذا قيل: بل العقل يقضي بالقضية الكلية قضاء عاما قيل: إنما كان ذاك بواسطة علمه بالجزئيات فيعود إلى التمثيل

ولهذا توجد عامة قضاياهم الكلية منتقضة باطلة لأنهم يدعون فيها العموم بناء على ما عرفوه من التجارب والعادات وتكون تلك منتقضة في نفس الأمر كما هو الواقع فإن من قال: كل نار فإنها تحرق ما لاقته إنما قاله لأجل إحساسه بما أحس به من جزئيات هذا الكلي وقد انتفض ذلك عليه بملاقاتها للياقوت والسمندل وغير ذلك وبسط الكلام في هذا له موضع آخر والمقصود هنا التنبيه على أن كل واحد من قياس التمثيل والشمول يفيد أمرا كليا مطلقا بواسطته يحصل العلم بالمعينات الموجودة في الخارج ثم قد يكون العلم بتلك المعينات غنيا عن ذينك القياسين والمعين الذي لا نظير به لا يعلم لا بهذا القياس ولا بهذا القياس وقد تكون الكلية منتقضة فالقياس لا يحصل بنفسه العلم بالمعينات وقد لا يحصل العلم به مطلقا وقد يكون كثير الانتقاض بخلاف النصوص النبوية فإنها لا تكون إلا حقا وهي تخبر عن المعينات على ما هي عليه

وأعظم المطالب العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل فإن الله تعالى لامثل له فيقاس به ولا يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها فلهذا كانت طريقة القرآن - وهي طريقة السلف والائمة - أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى فإن الله له المثل الأعلى فإذا أدخل هو - سبحانه - وغيره تحت قضية كلية مثل أن يقال: القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلا أو قيل: كل موجود فله خاصية لا يشركه فيها غيره ونحو ذلك - كان هو سبحانه أحق بمثل هذه الأمور من سائر الموجودات فهو أحق بالغنى عن المحل من كل قائم بنفسه وهو أحق بانتقاء المشارك له في خصائصه من كل موجود وكذلك إذا قيس قياس تمثيل فكل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده فالوجود الواجب أحق بتنزيه عنه وهو أحق بانتفاء أحكام العدم وأنواعه وأشباهه وملزوماته عنه من كل موجود

وإذا كان الأمر الوجودي كالرؤية مثلا لا يتعلق إلا بأمور موجودة لا يجوز أن تتعلق بمعدوم لأن العدم لا يكون سببا للوجود وكان كل ما كان أكمل وجودا كان أحق بأن يرى كان الباري سبحانه بأن يرى أحق من كل موجود وإذا كان تعذر الرؤية أحيانا قد يكون لضعف الأبصار وكان في الموجودات القائمة بنفسها ما تتعذر أحيانا رؤيته لضعف أبصارنا في الدنيا كان ضعفها في الدنيا عن رؤيته أولى وأولى

وليس المقصود هنا الكلام على أعيان المسائل ولكن المقصود بيان مسمى القياس وأنه وإن كان قد يحصل به من العلوم أمور عظيمة فإنه لا يحصل به كل مطلوب ولا يطرد في كل شيء فطرق العلم ثلاث: أحدها: الحس الباطن والظاهر وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها

والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس وإنما يحصل العلم به بعد العلم بالحس فما إفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس كليا مطلقا فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين لكن يجعل الخاص عاما والمعين مطلقا فإن الكليات إنما تعلم بالعقل كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس

والثالث: الخبر والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب فهو أعم وأشمل لكن الحس والعيان أتم أكمل

وقد تنازع الناس في السمع والبصر إيهما أكمل؟ فذهبت طائفة منهم ابن قتيبة إلى أن السمع أكمل لعموم ما يعلم به وشموله وذهب الجمهور إلى أن البصر أكمل فليس المخبر كالمعاين وليس كل ما يعاين يمكن الإخبار عنه وليس العلم الحاصل بالخبر كالعلم الحاصل بالعيان وإن كان الخبر لا ريب في صدقه لكن نفس المرئي المعاين لا يحصل العلم به قبل العيان كما يحصل عن العيان

والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل والسماع أعم وأشمل فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافا مضاعفة ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر ثم يصير المغيب شهادة والمخبر عنه معاينا وعلم اليقين عين اليقين

والمقصود هنا أن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل فإن المخبر عنه إن كان قد شوهد كان قد علم بالحس وإن لم يكن شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه وإلا لم يعلم بالخبر شيء فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل فكما أن العقل بعد الحس فالخبر بعد العقل والحس فالإخبار يتضمن هذا وهذا وكما أنه ليس كل ما علم بالخبر والسماع يمكن اعتباره بالقياس إما لعدم النظير له من كل وجه وإما لغير ذلك ثم إذا كان الخبر صادقا لا كذب فيه أمن معه من الانتفاض والفساد بخلاف القياس فإن كثيرا مما يبني فيه على قضايا كلية تكون منتقضة وإن كان فيه ما ليس منتقضا

والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس فلهذا قال الأئمة: ليس في المنصوصات النبوية قياس وأما كونها لا تعارض بالأمثال المضروبة فهذا الذي ذكرناه من أن المنصوص لا يعارضه دليل عقلي صحيح

أما قولهم: لا تدرك بالعقول فإن نفس الغريزة العقلية التي تكون للشخص قد تعجز عن إدراك كثير من الأمور لا سيما الغائبات فمن رام بعقل نفسه أن يدرك كل شيء كان جاهلا لا سيما إذا طعن في الطرق السمعية النبوية الخبرية

وهذا هو الذي يسلكه من يسلكه من الفلاسفة ومن يشبههم من أهل الكلام وهؤلاء هم الذين يذكر أبوحامد الغزالي وغيره تهافتهم وتناقضهم وأن ما يدعونه من المعارف الإلهية بعقولهم جمهوره باطل وإن كان قد وقع في كلامه من كلام هؤلاء أمور قيل أنه رجع عنها ولا ريب أن الرسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعه فهم يخبرنهم بمحارات العقول لا بمحالاتها فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرسل بعقله كان شبيها بمن قال الله تعالى فيه: { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقال: { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة }

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55