درء تعارض العقل والنقل/54

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه[عدل]

قال ابن رشد: وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي - أعني الإنسان - يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالم قادر فإنه بالحري أن يكون ذلك واجبا في الفاعل الحقيقي

قال: ولهذا الفعل شرط آخر في الشاهد وهو أن يكون بواسطة وهو اللفظ وإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الفعل من الله تعالى في نفس من اصطفى من عباده بواسطة ما إلا أنه ليس يجب أن يكون لفظا ولا بد مخلوقا له بل قد يكون بواسطة ملك وقدي كون وحيا أي يغير لفظ يخلقه بل يفعل فعلا في السامع ينكشف له به ذلك المعنى وقد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه وإلى هذه الأطوار الثلاثة الإشارة بقوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } [ الشورى: 51 ]

فالوحي هو وقوع ذلك المعنى في نفس الموحى إليه بغير واسطة لفظ يخلقه بل بانكشاف ذلك المعنى له بفعل يفعله في نفس المخاطب كما قال تعالى: { فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم: 9 - 10 ]

وقوله: { من وراء حجاب } هو الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه وهذا هو كلام حقيقي وهو الذي خص الله به موسى ولذلك قال: { وكلم الله موسى تكليما } [ النساء: 164 ] وأما قوله: { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه } [ الشورى: 51 ] فهذا هو القسم الثالث وهو الذي يكون بواسطة الملك

قال: وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء والذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين

قلت: هذا كله على أصله إخوانه الفلاسفة كما تقدم وهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا لله كلاما ولا تكليما هو أمر ونهي وإنما أثبتوا مجرد العلم والإعلام

وقوله: ولهذا الفعل شرط في الشاهد - وهو اللفظ - فيجب أن يكون من الله بواسطة وهو الملك أو جعل العبد عالما بذلك أو لفظ يخلقه في سمع المستمع فهذا شر من قول المعتزلة الذين يقولون: كلام الله مخلوق

كلام ابن رشد السابق خطأ من عدة وجوه[عدل]

وهو متضمن لعدة وجوه من الخطأ: منها: أن الملك إذا كان واسطة رسول إلى من أرسل إليه كما أن البشر أيضا رسول ومثل هذه الواسطة قد تكون من العبد أيضا فإنه قد يرسل رسولا كما يكتب كتابا والرسول مبلغ لكلام المرسل فلا بد من إثبات كلام يبلغه الرسول والرسول قد يبلغ لفظ المرسل وقد يبلغ معناه بعبارة أخرى وقد يفهم مراده بطريق آخر فيبلغه عنه فهذا كله يقع في البشر كما يقع تكليم بعضهم لبعض باللفظ فلا يجعل هذا من الله نوعا من الأنواع القائمة مقام اللفظ من البشر فإن البشر تجمع بين النوعين: بين اللفظ وبين هذا فكان الواجب أن يجعل هذا من الله قائما مقام الإرسال من البشر لا مقام اللفظ

وأيضا فإن الأقسام الثلاثة التي ذكرها لا تقوم مقام اللفظ من البشر أما إحداث الفهم في العبد فهذا مفعول من مفعولات الله كسائر مفعولاته فجعل العبد يعلم بمنزلة جعله يسمع ويبصر ويقدر ويعمل

ومعلوم أن هذا لا يقدر عليه غير الله وهو مع هذا متناول لجميع الحيوان قال تعالى: { سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } [ الأعلى: 1 - 3 ] وقال موسى: { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه: 50 ]

فهل يكون كل من جعله الله يعلم ما لم يكن يعلم يكون قد كلمه الله؟

وأيضا فهذا ليس نظير خطاب الإنسان بلفظه ولا هذا واسطة في هذا التكليم بل هذا هو نفس الواسطة وهو يثبت أمرين: أحدهما: فعل من الله هو التكليم والثاني واسطة أخرى غير الفعل

وذلك لا يصلح لأمرين: أحدهما: أن الفعل غير المفعول كما أقر بذلك غير مرة وهنا لا يثبت لله فعلا غير ما حدث في نفس الملهم

الثاني: أنه ليس هناك واسطة غير هذا الحادث فنفس كون العبد يعلم هو التكليم عنده وهو مفعول الحق وإذا قدر قبل هذا العلم خلق استعداد في العبد وإثبات شروط وإزالة موانع فتلك هي شروط العلم كالنظر والاستدلال فيما يحصل بذلك

وأما قوله: بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه

فيقال له: هذا اللفظ: إن كان موجودا في شيء خارج عن المستمع فهو قول المعتزلة الذين يقولون: إن الله كلم موسى بكلام مخلوق في غيره

وهو لم يرد هذا بل قوله وقول أصحابه شر من هذا وإن أراد ما هو مدلول لفظه وقول أصحابه وهو أنه خلق لفظا في نفس موسى سمعه موسى من غير أن يكون له وجود في الخارج فهذا من جنس ما يسمعه النائم في نفس من الأصوات وما يقع لأرباب الرياضيات من الأصوات التي يسمعونها في أنفسهم

ولا ريب أن إحداث المعاني العقلية المجردة في نفس الإنسان أكمل من إحداث هذه في نفسه فيكون تكليمه لموسى أنقص من إيحائه إلى سائر النبيين والله قد فضل موسى بالتكليم وعلم ذلك بالضرورة من دين المسلمين واليهود والنصارى

قال تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } [ النساء: 163 - 164 ]

وقال تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } [ البقرة: 253 ]

وقال: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } إلى قوله: { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } [ الأعراف: 143 - 144 ]

وقال: { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } [ مريم: 52 ]

وقال: { فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } [ القصص: 30 ]

وقال: { هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } [ النازعات: 15 - 16 ]

وما ذكروه من حدوث أصوات في نفس الإنسان يسمعها: إما يقظة وإما مناما يحصل لآحاد الناس في كثير من الأوقات وسمع الإنسان للهواتف في نفسه أكثر من أن يحصى فإن كان تكليم موسى من هذا الجنس فآحاد الناس شركاؤه في هذا فكيف بالأنبياء فكيف بالمرسلين؟ !

ومعلوم أن الله خص موسى بالتكليم تخصيصا لم يشركه فيه: لا نوح ولا إبراهيم ولا عيسى ولا نحوهم من النبيين

وقوله: إن ذلك الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه وهذا هو كلام حقيقي وهو الذي خص به موسى كلام باطل فإن هذا ليس بالتكليم الحقيقي الذي خص به موسى بل ليس هو التكليم الحقيقي عند أحد من الأمم

ولا يعقل أحد في التكليم هذا وإنما هذا من جنس المنامات وغايته أن يكون من جنس الإيحاء والإنسان قد يرى في منامه أن الله خاطبه بكلام كثير يسمعه فإن كان هذا كلام حقيقي لله فما أكثر الكلام الحقيقي لله وما أكثر تكليمه بكلام حقيقي لآحاد الناس ! كما كلم موسى بن عمران النجي المقرب المخصوص بالتكليم

وأيضا قوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } [ الشورى: 51 ] يقتضي أن التكليم من وراء حجاب نوع غير الوحي وأن المكلم بذلك محجوب أن يرى الله لأن التكليم المسموع قد يكون مع رؤية المستمع للمتكلم وقد يكون مع كونه محجوبا عنه بخلاف الوحي فإنه يقع في قلبه فلا يحتاج أن يجعل نوعين

ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح: [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان ] فلو كان الكلام المسموع هو شيئا قائما بالمستمع لا وجود له في الخارج لكان من جنس الوحي الذي لا يحسن أن يقال معه: من وراء حجاب فإن صاحب هذا لم يسمع شيئا منفصلا عنه يمكن مشاهدة المتكلم به تارة وحجب المستمع عنه أخرى والكلام على هذا مبسوط في موضعه

والمقصود هنا التنبيه على ما تعرف به الأقوال الموافقة للقرآن والمخالفة له فإن هذا الباب خاض فيه طوائف من الناس وأكثر الناس يسمعون كلام هذا وهذا ولا يعرفون حقائق الأقوال ومراتبها في القرب من الحق والبعد منه

تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه[عدل]

قال ابن رشد: وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين وبهذه الجهة صح عند العلماء أن القرآن كلام الله

أعني أن القرآن تضمن براهين عجزت العقول البشرية عنها فوجب أن يكون فاعلها هو الله وفاعل البرهان عند الناظر فيه مقطوع عنده أن فاعل ذلك متكلم

قلت: هذا بناه على ما تقدم من أن التكليم ليس إلا مجرد الإعلام فما علمه العالم بالدليل هو من هذا النمط وهذا مما يبين ضلاله فإنه من المعلوم بالإضرار أن تكليم الله لأنبيائه بالوحي الذي يخصهم أمر لا يحصل للعلماء ما ذكره في القرآن مضمونه أن القرآن فيه من البراهين ما تعجز عنه العقول فوجب أن يكون مفعولا لله على زعمه

وهو والمعتزلة يقولون: إنه مفعول أحدثه في شيء منفصل عن الرسول وعن جبريل وهؤلاء عندهم لا يكون إحداثه إلا في نفس الرسول أو جبريل عند من يسلم أن جبريل ملك منفصل عن النبي قائم بنفسه وهذا لا يقوله إلا من قرب إلى الإسلام منهم وأئمتهم لا يقولون ذلك ولا يعرفون جبريل إلا ما في نفس النبي من الخيال أو العقل الفعال فقول المعتزلة خير من قول هؤلاء بكثير

ويقال له: القرآن إذا تضمن براهين عجزت العقول عنها فمن أين وجب أن يكون مفعولا لله؟ وما المانع من أن يكون كلاما يتكلم الله به؟ هذا لا مانع منه إلا ما يقوله نفاة الصفات وأنتم قولكم في إثباتها ونفيها متناقض تثبتونها تارة وتنفونها أخرى ولا دليل لكم على النفي إلا ما قد عرف فساده والأدلة اليقينية توجب إثباتها أو ما يقوله من ينفي أفعاله وما يقوم به من الأمور التي يختارها ويقدر عليها كالتكليم مثلا وأنتم قد بينتم فساد هذه الحجة التي استدل بها نفاة ذلك

قال: فقد تبين لك أن القرآن - الذي هو كلام الله - قديم وأن اللفظ الدال عليه مخلوق له سبحانه وتعالى لا للبشر

فيقال له: ليس فيما ذكرته ما يقتضي أن القرآن - الذي هو كلام الله - قديم فإن غاية ما ذكرته أن يكون القديم هو العلم والقرآن ليس هو مجرد العلم: لا حروفه ولا معانيه

أما حروفه فظاهر وأما معانيه فإن معاني الكلام نوعان: إنشاء وإخبار فأما الإنشاء ففيه الأمر والنهي المتضمن للطلب أو للإرادة التي بمعنى المحبة ونحو ذلك وأما الخبر فهل معناه من جنس العلم أو حقيقة أخرى غير العلم؟ ففيه قولان معروفان

فإذا لم يكن في كلامك ما يمكن أن يكون قديما غير العلم لم يكن معنى القرآن عندك قديما ولكن بعض معناه ثم الكلام في تعدد هذه المعاني واتحادها وتعدد العلم والإرادة واتحاد ذلك لم يتكلم هو فيه وقد ذكر في غير هذا الموضع

وكذلك يقال له: ليس فيما ذكرته أن اللفظ الدال عليه مخلوق له سبحانه لا لبشر فإنك لم تذكر إلا مجرد دعوى: أنه يسمع ألفاظا في نفسه ولم تقم دليلا على ذلك ولو قدر أن مثال ذلك يسمى كلام الله كان قول القائل: إن القرآن من هذا الباب - دعوى تفتقر إلى دليل وهو لم يذكر دليلا على ذلك ولا دليل له إلا ما قد اعترف هو بضعفه كدليل ابن سينا على نفي الصفات ودليل المعتزلة والأشعرية على أن ما لم يسبق الحوادث فهو حادث أو دليل المعتزلة على نفي الصفات وهو أضعف من ذلك

فهذا مجموع ما ذكره هو وأمثاله في كتبهم وهي ترجع إلى دليل الحوادث والتعدد والاختصاص ليس لهم رابع

ثم يقال له: بتقدير تسليم ما قدمته قولك في القرآن باطل وذلك لأنه لا يمكنك أن تقول فيه ما قلته في تكليم موسى فإن موسى كلمه الله تكليما فزعمت أنت وأمثالك من الملاحدة أن معنى ذلك خلق كلام مسموع في مسامع موسى كما زعم المعتزلة - الذين هم خير منكم - أن ذلك كلام مسموع خلقه في جسم من الأجسام فسمعه موسى وأما القرآن فنزل به جبريل إلى محمد لم يكلم الله به محمدا بلا واسطة

وإذا كان جبريل نزل به من الله وأنتم تقولون ليس هنا جبريل منفصل عن النبي وإنما جبريل ما يتخيل في نفسه من الصور النورانية التي تخاطبه وحينئذ فيكون من خلق في نفسه هذه الأصوات ابتداء قد كلمه الله تكليما ومن خلقت فيه بواسطة هذه الصورة نزل جبريل بها فيكون ما يحصل لآحاد الناس من الأصوات التي يسمعها في نفسه أعظم من القرآن وهي بأن تكون كلام الله أحق من القرآن وتكون التوراة أعظم من القرآن

وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن جبريل ملك حي متكلم كان ينزل على النبي بالوحي ليس هو مجرد ما يتخيل في نفسه

قال تعالى: { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } إلى قوله: { ولقد رآه بالأفق المبين } [ التكوير: 19 - 23 ] فأخبر أنه رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش وأنه مطاع هناك أمين

ومن المعلوم أن ما في نفوس البشر من الصور لا يوصف بهذا وقال تعالى: { علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم: 5 - 18 ] فأخبر أن معلمه معلم شديد القوى وأنه ذو مرة والناس قد تنازعوا في المرئي مرتين فقال ابن مسعود وعائشة وغيرهما: هو جبريل رآه على صورته التي خلق عليها مرتين كما ثبت ذلك في الصحيح عنه

وقال ابن عباس وغيره: رأى ربه بفؤاده مرتين

ومن المعلوم أنه إذا كان المرئي جبريل وأنه الذي رآه عند سدرة المنتهى عندها جنة المأموى وأنه استوى وهو بالأفق الأعلى - امتنع أن يكون جبريل ما في نفسه وإن كان المرئي هو الله فهو أعظم

ومن هؤلاء من يقول: جبريل هو العقل الفعال ويقول: ليس بضنين: أي ببخيل لأنه فياض وهذا جهل لأن قراءة الأكثرين: بظنين أي بمتهم وهو المناسب أي ما هو بمتهم على ما غاب عنا بل هو أمين في إخباره بالغيب وإذا قيل: ضنين بمعنى بخيل كان ذلك وصفا له بأنه لا ينجل بعلم الغيب بل يبين الحق ولهذا قال: على الغيب بظنين

وما يزعمونه من العقل الفعال هو عندهم تفيض منه جميع الأمور المشاهدة فليس هنا غيب وشهادة ثم من المعلوم بالاضرار من دين المسلمين أن جبريل لم يبدع الأرض والجبال والهواء والسحاب والحيوان والمعدن والنبات وهم يزعمون أن هذا العقل الفعال أبدع كل ما تحت فلك القمر وقد بسط الكلام على هذا وبين أن الملائكة التي وصفها الله في كتابه لا يصح أن تكون هي ما يذكرونه من العقول والنفوس بوجوه كثيرة

قال: وبهذا باين لفظ القرآن الألفاظ التي ينطق بها في غير القرآن أعني أن هذه الألفاظ هي فعل لنا بإذن الله وألفاظ القرآن هي خلق الله ومن لم يفهم هذا على هذا الوجه لم يفهم هذه الصورة ولا فهم كيف يقال في القرآن: إنه كلام الله

فيقال له: كلا ما يحدثه الله تعالى في نفوس الآدميين من الحروف والأصوات التي يتخيلونها في المنام واليقظة هي على قولكم بمنزلة القرآن في أنها خلق الله ومن المعلوم أن الألفاظ التي يؤلفها الفضلاء خير من أكثر الألفاظ التي يتخيلها أكثر الناس في المنام واليقظة فأي فضيلة للقرآن بهذا الإعتبار؟ !

قال: ومن نظر إلى اللفظ دون المعنى قال: إن القرآن مخلوق ومن نظر إلى المعنى الذي يدل عليه اللفظ قال: إنه غير مخلوق والحق هو الجمع بينهما

قال: والأشعرية قد نفوا أن يكون المتكلم فعل الكلام لأنهم تخيلوا أنهم إذا سلم هذا الأصل وجب أن يعترفوا أن الله فاعل لكلامه ولما اعتقدوا أن المتكلم هو الذي يقوم الكلام بذاته ظنوا أنه يلزمهم عن هذين الأصلين أن يكون الله فاعلا للكلام في ذاته فتكون ذاته محلا للحوادث فقالوا: المتكلم ليس فاعلا للكلام وإنما هي صفة قديمة لذاته كالعلم وغير ذلك وهذا يصدق على كلام النفس ويكذب على الكلام الذي يدل على ما في النفس وهو اللفظ

والمعتزلة لما ظنوا أن الكلام هو ما فعله المتكلم قالوا: إن الكلام هو اللفظ فقط ولهذا قال هؤلاء: إن اللفظ مخلوق واللفظ عند هؤلاء من حيث هو فعل فليس من شرطه أن يقوم بفاعله والأشعرية تتمسك بأن من شرطه أن يقوم بالمتكلم وهذا صحيح في الشاهد في الكلامين معا: أعني كلام النفس واللفظ الدال عليه وأما في الخالق فكلام النفس هو الذي قام به فأما الدال عليه فلم يقم به سبحانه

والأشعرية لما شرطت بإطلاق أن يكون الكلام قائما بالمتكلم أنكرت أن يكون المتكلم فاعلا للكلام على الإطلاق والمعتزلة لما شرطت أن يكون المتكلم فاعلا للكلام بإطلاق أنكروا كلام النفس وفي قول كل واحدة من الطائفتين جزء من الحق وجزء من الباطل على ما لاح لك من قولنا

فيقال له: ليس فيما ذكرته قول الأشعرية ولا قول المعتزلة ولا جمعا بينهما وبل هو قول المتفلسفة والصابئة الذين هم شر من اليهود والنصارى

وذلك أن المعتزلة وإن قالت: إن الكلام مفعول للرب فإنها لا تجعلها محدثا في نفس المتكلم بل يقولون: إنه مفعول في جسم منفصل عن المستمع وهو آية من آيات الله التي يخلقها ومن قال بقولك كفرته المعتزلة

وأما الأشعرية فهم وإن قالوا: إنه معنى قائم بنفس المتكلم فلا يجعلونه مجرد العلم بل الكلام عندهم صفة ليست هي العلم ولا الإرادة والكلام يكون خبرا ويكون أمرا

والناس وإن خالفوهم في هذا المعنى وقالوا لا يعقل إلا العلم والإرادة وضايقوهم في جعل المعنى الواحد يكون أمرا وخبرا حتى احتاج بعضهم إلى أن جعل الكلام كله بمعنى الخبر والخبر مع المخبر كالعلم مع المعلوم وقد يضطرون إلى أن يفسروا معنى الخبر بالعلم لعدم الفرق - فهذه لوازم المذهب الذي قد يستدل بها إن كانت لازمة على فساده وليس كل من قال قولا يلتزم بوازمه

والناس لهم في الكلام ثلاثة أقوال: هل هو اسم اللفظ والمعنى جميعا؟ كما هو قول الأكثرين أم للفظ فقد بشرط دلالته على المعنى؟ كقول المعتزلة وكثير من غيرهم أو للمعنى المدلول عليه باللفظ كقول الكلابية؟ ومن متأخريهم من جعله مشتركا بينهما اشتراكا لفظيا

وأما المتكلم ففيه أيضا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من فعل الكلام ولو في غيره كما يقوله المعتزلة والثاني: من قام به الكلام وإن لم يفعله ولم يكن مقدورا مرادا له كما يقوله الكلابيه والثالث: من جمع الوصفين فقام به الكلام وكان قادرا عليه

ولا ريب أن جمهور الأمم يقولون: لا يكون متكلما إلا من قام به الكلام كما لا يكون متحركا إلا من قامت به الحركة ولا عالما إلا من قام به العلم ونحو ذلك لكن الكلابية اعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث فامتنع لهذا عندهم أن يكون الكلام مقدورا له مرادا قالوا: لأن المقدور المراد حادث لا يكون صفة لازمة له

وأنت قد بينت فساد هذا الأصل فكان يلزمك على أصلك أن تجوز قيام ذلك به فإنه لا دليل لك على نفيه إلا ما تنفى به سائر الصفات وأنت تعترف بأن حدوث الحوادث بدون ذلك مما يتعرى ويتعذر بعقله

وكذلك ما ذكرته عن المعتزلة من أن اللفظ عندهم فعل وليس من شرطه أن يقوم بفاعله وأنت مقر بالفرق بين الفعل والمفعول وأنه لا يعقل مفعول بدون فعل وهذا مما أوردته على أبي حامد في تهافت التهافت وقلت: إن حدوث العالم بدون إحداث يكون هو فعل والحادث هو المفعول محال وقد أبطلت أصل المعتزلة في أن ما تقوم به الحوادث فهو حادث فكان يلزمك أن تثبت فعلا قائما بالفاعل: إما قديما وإما حادثا ويكون الكلام قائما بالمتكلم وهو فعل له فكيف وأنت وأصحابك لم تثبتوا كلاما لله إلا ما كان في نفوس البشر؟ فالمعتزلة خير منكم

وإذا قلت: نحن نثبت المعنى أنه قديم بخلاف المعتزلة

قيل لك: المعتزلة أيضا تقر بأن الله عليم بكل شيء أعظم مما تقرون أنتم به

والمعتزلة لا تنكر هذا المعنى وهم وإن كانوا متناقضين في إثبات الصفات ونفيها فلا ريب أن قولهم أقرب إلى إثبات الصفات من قول أصحابك فما جعلته أنت قديما يمكنهم جعله قديما

وأعظم ما شنع الناس به في الصفات على المعتزلة قول رئيسهم أبي الهذيل قوله: إن الله عالم بعلم هو ذاته وليست ذاته علما

وأنت تقول: إن العلم هو العالم بل تقولون: إن العلم والعالم والمعلوم والعشق والعاشق والمعشوق والعقل والعاقل والمعقول - شيء واحد فقولكم أشد نفيا وتناقضا من قولهم وهم إلى إطلاق القول بأن معنى القرآن قديم ولفظه مخلوق أقرب منكم فما في قولهم من باطل إلا وفي قولكم أفسد منه ولا في قولكم حق إلا وفي قولهم أكمل منه

كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفتي السمع والبصر ورد ابن تيمية[عدل]

قال ابن رشد: وأما صفة السمع والبصر فإنما أثبتهما الشرع لله تبارك وتعالى من قبل أن السمع والبصر يختصان بمعان مدركة في الموجودات ليس يدركها العقل ولما كان الصانع من شرطه أن يكون مدركا لكل ما في المصنوع وجب أن يكون له هذان الإدراكان فواجب أن يكون عالما بمدركان البصر وعالما بمدركات السمع إذ هي مصنوعات له وهذه كلها منبهة على وجودها للخالق سبحانه في الشرع من جهة تنبيهه على وجوب العلم به

وبالجملة فما يدل عليه اسم الإله واسم المعبود يقتضي أن يكون مدركا لجميع الإدراكات لأنه من العبث أن يعبد الإنسان ما لا يدرك أنه عابد له

كما قال تعالى: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } [ مريم: 42 ] وقال: { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم } [ الأنبياء: 66 ]

فهذا القدر مما يوصف الله به ويسمى به هو القدر الذي قصد الشرع أن يعلمه الجمهور لا غير ذلك

قلت: السمع والبصر ليسا مجرد علم بالمسموع والمرئي وإن استلزما ذلك على ما هو المعروف من قول أئمة السنة والقصد الذي عرفه الشرع أكثر من هذه الصفات ولكن لما أراد صاحب هذا الكلام أن يبين الطرق الشرعية لإثبات ما أثبته المتكلمون من الصفات تبعهم في هذا

رد ابن رشد على أقوال الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الصفات ورد ابن تيمية[عدل]

قال: ومن البدع التي حدثت في هذا الباب سؤال في الصفات: هل هي الذات أو زائدة على الذات؟ ثم هل هي صفة نفسية أو صفة معنوية؟

ويعني بالنفسية التي توصف بها الذات لنفسها لا لقيام معنى فيها زائد على الذات مثل قولنا: واحد قديم

والمعنوية التي توصف بها الذات لقيام معنى فيها فإن الأشعرية يقولون: إن هذه الصفات هي صفات معنوية وإنها زائدة على الذات فيقولون: إنه عالم بعلم زائد على ذاته وحي بحياة زائدة على ذاته كالحال في الشاهد

ويلزمهم على هذا أن يكون الخالق جسما لأنه يكون هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول وهذه هي حال الجسم

وذلك أن الذات لا بد أن يقولوا: إنها قائمة بذاتها والصفات قائمة بها أو يقولوا: إن كل واحد منها قائم بنفسه أو يقولوا: إن الذات تقوم بالصفات فإن قالوا: إن كل واحد منهما قائم بنفسه فالآلهة كثيرة

وهذا قول النصارى الذين زعموا أن الأقاليم ثلاثة: أقنوم الوجود والحياة والعلم

وقد قال تعالى في هؤلاء: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة: 72 ] وإن قالوا: أحدهما قائم بنفسه والآخر قائم به فقد أوجبوا أن يكون جوهرا وعرضا لأن الجوهر هو القائم بذاته والعرض هو القائم بغيره والمؤلف من جوهر وعرض جسم ضرورة

وكذلك قول المعتزلة في هذا الجواب أن الذات والصفات شيء واحد هو أمر بعيد من المعارف الأول بل يظن أنه مضاد لها وذلك أنه يظن أن من المعارف الأول أن العلم يجب أن يكون غير العالم وأنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم إلا لو جاز أن يكون أحد المتضايفين مثل أن يكون الأب والابن معا واحدا بعينه فهذا تعليم بعيد عن أفهام الجمهور والتصريح به بدعة وهو أن يضلل الجمهور أحرى منه أن يرشدهم

وليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول سبحانه إذ ليس عندهم برهان ولا عند المتكلمين على الجسمية أو نفي الجسمية عنه برهان فإن نفي الجسمية عنه انبنى على وجوب الحدوث للجسم بما هو جسم

وقال: وقد بينا في صدر هذا الكتاب أنه ليس عندهم برهان على ذلك وأن الذين عندهم برهان على ذلك هم العلماء ومن هذا الموضع زل النصارى وذلك أنهم اعتقدوا كثرة الأوصاف واعتقدوا أنها جواهر لا قائمة بغيرها بل قائمة بنفسها كالذات واعتقدوا أن الصفات التي بهذه الحال هما صفتان: العلم والحياة

قالوا: فالإله واحد من جهة ثلاثة من جهة يريدون أنه ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم وواحد من جهة أن مجموعها شيء واحد

فهنا ثلاثة مذاهب: مذهب من رأى أنه نفس الذات ولا كثرة هنالك مذهب من رأى الكثرة وهؤلاء قسمان: منهم من جعل الكثرة كثرة قائمة بذاتها ومنهم من جعلها كثرة قائمة بغيرها وهذا كله بعيد عن مقصد الشرع

وإذا كان هذا هكذا فالذي ينبغي أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات هو ما صرح به الشرع فقط وهو الاعتراف بوجودها دون تفصيل الأمر فيها فإنه ليس يمكن عند الجمهور أن يحصل في هذا يقين أصلا

وأعني هنا بالجمهور كل من لم يعن بالصنائع البرهانية وسواء كان قد حصلت له صناعة الكلام أو لم تحصل له فإنه ليس في قوة صناعة الكلام الوقوف على هذا القدر من المعرفة إذ أعلى مراتب صناعة الكلام أن يكون حكمة جدلية لا برهانية وليس في قوة صناعة الجدل الوقوف على الحق في هذا

فقد تبين من هذا القول القدر الذي صرح به للجمهور من المعرفة في هذا والطرق التي سلكت بهم في ذلك وأن الطرق التي سلكوا بالناس في هذه الأشياء وزعموا أنها من أصل الشرع ليست من أصل الشرع بل هي مسكوت عنها في الشرع

قلت: مقصود بهذا الكلام يبين أن طرق إخوانه الفلاسفة في نفي الصفات هي البرهانية دون طرق غيرهم وليس الأمر كما زعمه بل ما سلكه إخوانه في نفي الصفات أضعف بكثير مما سلكه المعتزلة مع أن كليهما فاسد كما قد بين في موضعه

وقول القائل: إن الشرع لم يصرح بإثبات الصفات من أبين الخطأ فإن الله تعالى قال: { ولا يحيطون بشيء من علمه } [ البقرة: 255 ]

وقال: { أنزله بعلمه } [ النساء: 166 ]

وقال: { فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } [ هود: 14 ]

وقال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } [ فاطر: 11 ] [ فصلت: 47 ] في موضعين

وقال: { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات: 58 ]

وقال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } [ فصلت: 15 ]

وقال: { والسماء بنيناها بأيد } [ الذاريات: 47 ]

وفي الحديث الصحيح: [ اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ]

وقال تعالى عن الملائكة: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } [ غافر: 7 ] وقال: { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف: 156 ]

وقال: { وسع كل شيء علما } [ طه: 98 ] وقال: { ولتصنع على عيني } [ طه: 39 ] وأمثال ذلك في الكتاب والسنة كثير

ومن المعلوم بالضرورة أن العلم ليس هو نفس العالم والمضاف هنا ليس هو المضاف إليه وأن أسماء الله الحسنى مثل: العليم والحي والقدير والرحيم ونحو ذلك - هي وإن كانت أسماء لله تدل على نفسه المقدسة فليس ما دل عليه الحي من الحيوة هو ما دل عليه عليم من العلم وما دل عليه قدير من القدرة وما دل عليه رحيم من الرحة

فمن قال: إن هذه الأسماء الحسنى لا تدل على هذه المعاني فهو مكابر للغة التي نزل بها القرآن فإن الأسماء التي تسميها النحاة: اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المعدولة عنها كفعيل وغيره - هي أسماء مشتقة تتضمن المصادر بخلاف: رجل وفرس

ومن جعل العالم لا يدل على علم والقادر لا يدل على القدرة فهو بمنزلة من قال: المصلي لا يدل على الصلاة والقائم لا يدل على القيام والصائم لا يدل على الصيام وأمثال ذلك

وأما سؤال السائل: إن هذه الصفات: هل هي الذات أو غيرها؟ وهل هي الذات أو زائدة عليها؟

فالجواب المرضي عند الأئمة: أن لا يطلق القول بأنها هي الذات ولا بأنها غيرها ولا بأنها الذات ولا بأنها زائدة عليها ولا ينفي الأمران فيقال: لا هي الذات ولا غيرها حتى يكون قسما ثالثا ليست هي الذات ولا هي غيرها

فإن هذا يقوله طائفة من متكلمة الصفاتية من أصحاب أحمد وغيره كما يقوله من يقوله من أصحاب الأشعري والصوب المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة: أنه لا يطلق لا هذا ولا هذا لأن لفظ الغير فيه إجمال واشتراك

فقد يراد بالغيرين ما جاز مفارقة أحدهما أحأالآخر أو مباينته له فلا تكون الصفة اللازمة للموصوف غيرا له

وقد يراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فيكون غيرا له

وكذلك لفظ: الزيادة على الذات فإن الذات يراد بها الذات المجردة عن الصفات فالصفات زائدة على هذا الذات لكن هذه الذات عند أهل الإثبات لا حقيقة لها في الخارج وإنما تقدر في الذهن تقديرا وإنما يعتقد ثبوتها في الخارج نفاة الصفات

فالمثبتون إذا قالوا: الصفات زائدة على الذات لم يقولوا: إن في الخارج ذاتا مجردة تزاد عليها الصفات بل أثبتوا الصفات زائدة على ما أثبته النفاة فزادوا عليها في الإثبات

وقد يراد بالذات نفس الله سبحانه وصفاته داخلة في مسمى أسمائه ليست زائدة على مسمى أسمائه الحسنى ولا يمكن وجود ذات غيره مجردة عن الصفات حتى يقال: إن صفاته زائدة عليها فضلا عن وجوده سبحانه مجردا عن صفات الكمال كلها

وصفاته اللازمة له كلها نفسية بمعنى أنها داخلة في مسمى أسمائه لا يفتقر إلى أمور مباينة له وهي لازمة لنفسه لا يوجد بدونها ولا يمكن وجوده منفكا عنها

وإذا قيل: هو عالم بعلم قادر بقدرة فليس هناك حقيقة قائمة بنفسها يمكن وجودها بدون العلم والقدرة بل لا يمكن أن تكون إلا عالمة قادرة وإن كنا نحن قد نعلم وجودها قبل أن نعلم أنها عالمة

وما ذكره من التمثيل بالواحد والقديم فيه نزاع فإن الصفاتية متنازعون في القديم والباقي: هل هو قديم باق ببقاء كما يقوله ابن كلاب؟ أو قديم بنفسه باق ببقاء كما يقوله الأشعري ومن وافقه كأبي علي بن أبي موسى؟ أو قديم بنفسه باق بنفسه كما يقوله القاضي أبو بكر ومن وافقه كالقاضي أبي يعلى؟

وأما أن الأشعرية يقولون في العلم ونحوه: إن هذه الصفات هي صفات معنوية وإنها زائدة على الذات

فيقال: مقصودهم في الأصل إثبات هذه الصفات وإبطال قول: من قال عالم بلا علم وقادر بلا قدرة أو قال: إن ذاته علم وقدرة

والأشعرية هم في إثبات هذه الصفات مع سائر أهل السنة والجماعة لم ينازعهم في إثبات الصفات إلا من هو - عند السلف والأئمة - من أعظم الناس ضلالا كالجهمية والمعتزلة وإذا قالوا: هو عالم بالعلم وقادر بالقدرة لم يريدوا بذلك أن هنا ذاتا منفصلة عنه صار بها عالما قادرا كما يظنه بعض الغالطين عليهم فإن هذا لم يقله أحد من عقلاء بني آدم فيما نعلم ولكن بعضهم وهم مثبتة الحال كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما يقولون: إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالما وكونه عالما حال معللة بالعلم

وأما جمهورهم وهم نفاة الحال فيقولون: علمه هو كونه عالما وقدرته هو كونه قادرا ليس هناك أمران ولا علة ولا معلول وهذا قول الأكثرين: الأشعري وغيره

والمنازع لهم من المعتزلة والفلاسفة يقر بما يوجب موافقتهم فإنهم يقرون بأن كونه عالما ليس هو كونه قادرا وهذا معنى العلم والقدرة عند أولئك كما قد بسط في موضعه

فالنفاة للصفات من المعتزلة وغيرهم يقولون: إنه عالم وإنه قادر ومنهم من يثبت العالمية والقادرية ويسمي ذلك حالا وهذا يستلزم عند التحقيق قول مثبتة الصفات

وكذلك الفلاسفة قولهم يستلزم قول مثبتة الصفات وإن نفوها تناقضوا وأما إطلاق المطلق لفظ الزيادة على الذات فقد تقدم أن هذا الإطلاق كإطلاق المطلق: أن الصفات لا هي الذات ولا هي غيرها وهذا يطلقه هؤلاء وغيرهم

وأئمة السلف وابن كلاب وأمثاله من أئمة الأشعرية لا يطلقون لا هذا ولا هذا وكانوا إذا قالا للسلف: القرآن هو الله أو غير الله؟ لم يطلق الأئمة لا هذا ولا هذا لما في إطلاق كل منهما من إبهام معنى فاسد وليس ذلك إثباتا لقسم ثالث ليس هو الموصوف ولا غيره بل يفصل اللفظ المجمل كما فعل السلف نظير ذلك في لفظ الحيز وأمثاله وأما قولهم: يلزم الأشعرية على هذا أن يكون الخالق جسما لأنه يكون هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول

فيقال له: وهكذا يلزم من قال: إنها عالم قادر ومن قال: إنه يعلم ويقدر فمن أثبت لله الأسماء الحسنى وأحكامها لزمه ما يلزم من أثبت الصفات فالاسم المشتق يدل على المصدر وعلى الفعل وخبر المخبر بذلك وحكمه يقتضي ثبوت ذلك في نفس الأمر

ويقال له: كل ما تلزم به الأشعرية وأمثالهم في إثبات الصفات يلزمونك إياها في كل ما نفيته فإذا قلت: الموصوف بالصفة لا يكون إلا جسما قالوا: والمسمى بالحي العالم القادر لا يكون إلا جسما والمخبر عنه بأنه يعلم ويقدر لا يكون إلا جسما والموصوف يقول القائل: هو عالم قادر لا يكون إلا جسما فإن أمكنك أن تثبت هذا لغير جسم أمكنهم ذلك وإن لم يمكنهم لم يمكنك فهذا السؤال لازم لجميع الناس كما يلزم الأشعرية وغيرهم

وأيضا فهذا إلزام جدلي لا علمي وذلك أن نفاة الجسم من أهل الكلام كالمعتزلة والأشعرية يقولون: إنما نفيناه للدليل الدال على حدوث الجسم وأنت قد بينت أنه دليل باطل ونحن أثبتنا الصفات مع ذلك

فإذا قلت: الجمع بينهما خطأ فإن إثبات الصفات يستلزم التجسيم قالوا لك: ليس خطؤنا في إثبات الصفات بأولى من خطأنا في نفي التجسيم

بل أنت تقول: إنا مخطئون في نفي التجسيم ولم تقم دليلا على خطأنا في نفي الصفات فإن كنا مخطئين في نفي التجسيم عينا لزم إثبات الصفات بلا محذور وإن قدر الخطأ في أحدهما بغير تعيين لم يتعين الخطأ في نفي الصفات إلا بدليل

وأيضا فأنت تقول: إن الشرع لم يصرح بنفي التجسيم وإن التصريح به بدعة والشرع قد صرح بإثبات الصفات فكيف تعيبنا بإثبات ما أثبته الشرع لكونه مستلزما لإثبات ما لم ينفه الشرع؟

ومن المعلوم أن الشرع إذا أثبت شيئا له لوازم لم يكن إثبات ذلك بدعة وتلك اللوازم إن كانت ثابتة في نفس الأمر فلازم الحق حق وإن لم تكن لازمة فلا محذور

فإن قيل: أنا أقيم دليلا عقليا على نفي الجسم غير دليلكم

كان لهم عن ذلك أجوبة: أحدها: أن يقولوا: فأنت قد أثبت أنه عالم قادر فإن أمكنك مع ذلك أن تقول: إنه ليس بجسم أمكنا أن نقول: عالم بعلم قادر بقدرة وليس بجسم وإن لم يمكنك هذا استوينا نحن وأنت ففي الجملة ورود هذا السؤال علينا ورود واحد

الثاني: أن يقولوا: دليلنا على نفي الجسم أقوى من دليلك كما بين ذلك الغزالي وغيره وبينوا أن الفلاسفة عاجزون على إقامة الدليل على أنه ليس بجسم

الثالث: أن يقولوا: أدلة إثبات الصفات أقوى من أدلة نفي الجسم فإن أمكن الجمع بينهما وإلا لم يجز نفي ما هو معلوم ثابت خوفا من لزوم ما ليس دليل انتفائه كدليل ثبوت ذلك فكيف إذا كانت أدلة النفي باطلة وأدلة الإثبات للصفات ولوازمها حق لا محيد عنه؟

وأما التقسيم الذي ذكرته فلا ريب أن أهل الإثبات لا يقولون: إن الصفات قائمة بنفسها بل هي قائمة بالموصوف

وأما ما ذكره عن النصارى فليس هذا موضع بسطه فإن قول النصارى مضطرب متناقض فإنهم لا يثبتون ثلاثة جواهر قائمة بأنفسها ولا يجعلون الأقانيم كالصفة من كل وجه فإنهم يقولون: المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة فإن جعلوا الكلمة هي الذات الموصوفة لزم أن يكون المسيح هو الأب وهم ينكرون ذلك وإن جعلوه صفة الذات لزمهم أن لا يكون المسيح إلها خالقا رازقا لأن الصفة ليست إلها خالقا رازقا

وأيضا فالصفة لا تفارق الموصوف وهم يقولون: المسيح إله حق من إله حق من جوهر أبيه

وأما استدلاله بقوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة: 72 ] فهذا يسلكه طائفة من الناس ويقولون قوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة: 17 ] إشارة إلى أحد أقوالهم الثلاثة وهو قول اليعاقبة القائلين بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا كالماء واللبن وقوله: { وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة: 30 ] إشارة إلى قول الملكية وقوله: { ثالث ثلاثة } إشارة إلى قول النسطورية الذين يقولون بالحلول وهو قولهم بالأقانيم الثلاثة

وليس الأمر كما قال هؤلاء بل ما ذكره الله تعالى هو قول النصارى جملة فإنهم يقولون: إنه الله باعتبار وإنه ابن الله باعتبار آخر وقوله: { إن الله ثالث ثلاثة } بدليل: المراد به قوله: { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [ المائدة: 116 ] فعبدوا معه المسيح وأمه فصار ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار

وأما قوله عن الأشعرية: إذا قالوا الموصوف قائم بنفسه والصفة قائمة به فقد أوجبوا جوهرا وعرضا - فهذا من جنس إلزامه لهم أن يكون جسما

فيقولون له: هذا يلزمك إذا قلت: هو حي عالم قادر فإن الحي العالم القادر قائم بذاته فإن كان كل قائم بذاته جوهرا فهو جوهر وإلا بطل إلزامك

وإيضا فلو لو يوصف بذلك لكان في نفس الأمر إما قائما بنفسه وإما قائما بغيره إذ فرض موجود ليس قائما بنفسه ولا بغيره ممتنع فإن كان كل قائم بنفسه ولا بغيره ممتنع فإن كان كل قائم بنفسه هو جوهر لزمك أن يكون جوهرا

ثم يقال: من المعلوم أن للناس في مسمى الجوهر والعرض اصطلاحات منهم من يسمى كل قائم بنفسه جوهرا كما يقول ذلك طوائف من المسلمين والنصارى والفلاسفة وهؤلاء يسمونه جوهرا ومنهم من لا يطلق الجوهر إلا على المتحيز ويقول: إنه ليس بمتحيز فلا يكون جوهرا كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي المسلمين واليهود والفلاسفة

ومن الفلاسفة من يقول بإثبات جواهر غير متحيزة لكن يقول: الجوهر هو ما إذا وجد وجد لا في موضوع وهذا لا يصلح إلا لما يجوز وجوده لا لما يجب وجوده

وبالجملة فالنزاع في هذا الباب لفظي ليس هو معنى عقليا والشريعة لم تتعرض لهذا الاسم وأمثاله لا بنفي ولا بإثبات فليس له في الشريعة ذكر حتى يحتاج أن ينظر في معناه

والنظر العقلي إنما يكون في المعاني لا في مجرد الاصطلاحات فلم يبق فيه بحث علمي: لا شرعي ولا عقلي وهذا لم يذكر دليلا عقليا على نفي الجوهر فصار قد ألزمهم لوازم ولم يذكر دليلا على بطلانها فيجيبونه بالجواب المركب وهو أن هذا إما أن يكون لازما لإثبات الصفات أو ليس بلازم فإن لم يكن لازما بطلت المقدمة الأولى وإن كان لازما منعت المقدمة الثانية فإن لازم الحق حق

وليس التزام مسمى هذا الاسم أبعد في الشرع والعقل من نفي الصفات بل نفي الصفات أبعد في الشرع والنقل من إثبات مسمى هذا الاسم فلا يجوز التزام نفي الصفات الذي فيه مناقضة الأدلة الشرعية والعقلية حذرا من التزام مسمى هذا الاسم الذي لا يقوم على نفيه من الدليل شيء من أدلة إثبات الصفات مع أنه لم يذكر على ذلك دليلا أصلا وهو قد بين فساد أدلة النفاة لذلك من أهل الكلام

وأما قول القائل: الذات والصفات شيء واحد فإن أراد به أن الصفات ليست مباينة للموصوف فصحيح وإن أراد أن نفس الذات هي نفس الصفات فهذه مكابرة وهذا القائل وإخوانه يقولون بذلك وقد صرح هو بأن العلم نفس العالم وهذا غاية المناقضة لصريح المعقول

وقوله: إنه بعيد من المعارف الأول أنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم فهذا قاله بناء على ما يراه أن هذا حق في نفس الأمر

والصواب أن هذا ممتنع في صريح العقل معلوم علما يقينيا أن العلم ليس هو نفس العالم ومن قال هذا فقد أتى بغاية السفسطة وجحد العلم الضروري

وأما قوله: ليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول - وهو أن تكون الذات والصفات شيئا واحدا - ولا عند المتكلمين برهان على نفي الجسمية وإنما برهان ذلك عند العلماء الذين هم الفلاسفة عنده

فيقال: لا ريب عند كل من له عقل أن ما يذكره الفلاسفة في نفي ذلك أفسد في العقل الصريح مما يذكره المتكلمون وأنت قد أفسدت طريقة ابن سينا ولم تعتمد في ذلك إلا على إثبات النفس وهو أنها ليست بجسم فيلزم أن يكون الباري كذلك

ومن المعلوم أن الأدلة النافية لهذا عن النفس: إن كانت صحيحة فهي على نفي ذلك عن الرب أولى وإن لم تكن صحيحة بطل قولك

ومن المعلوم أن أدلة نفي الجسم عن النفس أضعف بكثير من نفي ذلك عن واجب الوجود فكيف يكون الأضعف حجة على الأقوى؟ !

وقد تكلم على فساد ما ذكروه في النفس في غير هذا الموضع وأما ما ذكره من أنه لا يمكن أن يكون بهذا النفي يقين إلا عند من عني بالصناعة البرهانية - يعني طريقته الفلسفية - وقوله: إن صناعة الكلام جدلية لا برهانية

فهذا كما يقال في المثل السائر: رمتني بدائها وانسلت ولا يستريب عاقل نظر في كلام الفلاسفة في الإلهيات ونظر في كلام أي صنف قدر من أصناف اليهود والنصارى فضلا عن أصناف المتكلمين من المسلمين أن ما يقوله هؤلاء في الإلهيات أكمل وأصح في العقل مما يقوله المتفلسفة وأن ما يقولونه في الإلهيات قليل جدا وهو مع قلته فأدلة المتكلمين خير من أدلتهم بكثير

وهذه طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وصفاته لا تفيده إلا ما لا نزاع فيه وهو وجود واجب الوجود وأما كونه مغايرا للأفلاك فإنما بناه على نفي الصفات وهو مع فساده فدليلهم على نفيه أضعف من دليل المعتزلة فهم مع مشاركتهم للمعتزلة في النفي لا يستدلون إلا بما هو أضعف من دليلهم

وأما هذا الرجل فإنه تارة يأخذ طريقة متلقاة من الشرع وتارة طريقة متلقاة عن المتكلمين وتارة يقول ما يظن أنه قول الفلاسفة لم يحك عن الفلاسفة في الإلهيات طريقة إقناعية فضلا عن طريقة برهانية

وإذا قدر أنه عنى بالبرهان القياس العقلي المنطقي فمن المعلوم أن صورة القياس لا تفيد العلم بمواده والبرهان إنما يكون برهانه بمواده اليقينية وإلا فصورته أمر سهل بقدر عليه عامة الناس

وأهل الكلام لا ينازعون في الصورة الصحيحة وهب أن الإنسان عنده ميزان فإذا لم يكن معه ما يزن به كان من معه مال لم يزنه أعني من هذا هذا بتقدير أن يكون ما ذكروه في المنطق صحيحا فكيف وفيه من الفساد والتناقض ما هو مذكور في موضعه؟

كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن التنزيه ورد ابن تيمية عليه[عدل]

قال: الفصل الرابع: في معرفة التنزيه

قال: وإذ قد تقرر من هذه المناهج التي سلكها الشرع في تعليم الناس: أولا: وجود الباري سبحانه والطرق التي سلكها في نفي الشريك عنه ثانيا والتي سلكها ثالثا في معرفة صفاته والقدر الذي صرح به من ذلك في جنس جنس من هذه الأجناس وهو القدر الذي إذا زيد فيه أو نقص أو حرف أو أول لم تحصل به السعادة المشتركة للجميع فقد بقي علينا أن نعرف أية الطرق التي سلكها بالناس في تنزيه الخالق سبحانه عن النقائص ومقدار ما صرح به من ذلك والسبب الذي من قبله اقتصر بهم على ذلك المقدار ثم نذكر بعد ذلك الطرق التي سلك بالناس في معرفة أفعاله والقدر الذي سلك بهم من ذلك فإذا تم لنا ذلك فقد استوفينا غرضنا الذي قصدناه

قال: فنقول: أما معرفة هذا الجنس الذي هو التنزيه والتقديس فقد صرح به أيضا في غير ما آية من الكتاب العزيز فأبينها في ذلك وأتمها قوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورى: 11 ] وقوله: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ النحل: 17 ] والآية الأولى هي نتيجة هذه والثانية برهان أعني أن قوله تعالى: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ النحل: 17 ] هو برهان قوله: { ليس كمثله شيء } وذلك أنه من المغروز في فطر الجميع أن الخالق يجب أن يكون: إما على غير صفة الذي لا يخلق شيئا أو على صفة غير شبيهة بصفة الذي لا يخلق شيئا وإلا كان من يخلق ليس بخالق فإذا أضيف إلى هذا الأصل أن المخلوق ليس بخالق يلزم من ذلك أن تكون صفات المخلوق: إما منتفية عن الخالق أو موجودة فيه على غير الجهة التي هي عليها في المخلوق

قلت: صفات النقص يجب تنزيهه عنها مطلقا وصفات الكمال تثبت له على وجه لا يماثله فيها مخلوق

قال: وإنما قلنا على غير الجهة لأن من الصفات التي في الخالق صفات استدللنا على وجودها بالصفات التي هي لأشرف المخلوقات هنا وهو الإنسان مثل إثبات العلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام وغير ذلك

قال: وهذا معنى قوله عليه السلام: إن الله خلق آدم على صورته

قال: وإذا تقرر أن الشرع قد صرح بنفس المماثلة بين الخالق والمخلوق وصرح بالبرهان الموجب لذلك وكان نفي المماثلة يفهم منه شيئان: أحدهما: أن يعدم الخالق كثيرا من صفات المخلوق والثاني: أن توجد فيه صفات المخلوق على وجه أتم وأفضل بما لا يتناهى في العقل فلينظر ما صرح به الشرع من هذين الصنفين وما سكت عنه وما السبب الحكمي في سكوته

قلت: ونفي المماثلة قد يتضمن إثبات صفات الكمال للخالق لا يثبت للمخلوق منها شيء فكما أن في صفات المخلوق ما لا يثبت للخالق فكذلك في صفات الخالق ما لا يثبت للمخلوق

لكن هذا الضرب لا يمكن الناس معرفته في الدنيا فلهذا لم يذكر

قال: فنقول: أما ما صرح به الشرع من نفي صفات المخلوق عنه فما كان ظاهرا من أمره أنه من صفات النقائص فمنها الموت كما قال تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } [ الفرقان: 58 ]

ومنها النوم وما دونه مما يقتضي الغفلة والسهو عن الإدراكات والحفظ للموجودات وذلك مصرح به في قوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة: 255 ]

ومنها النسيان والخطأ كما قال تعالى: { لا يضل ربي ولا ينسى } [ طه: 52 ]

والوقوف على انتقاء هذه النقائض هو قريب من العلم الضروري وذلك أن ما كان قريبا من هذه من العلم الضروري فهو الذي صرح الشرع بنفيه عنه سبحانه وتعالى وأما ما كان بعيدا من المعارف الأولى الضرورية فإنما نبه عليه بأن عرف أنه من علم الأقل من الناس كما قال في غير ما آية من الكتاب العزيز: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم: 30 ]: مثل قوله: { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } [ غافر: 57 ]

ومثل قوله: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم: 30 ]

قال: فإن قيل: فما الدليل على انتفاء هذه النقائض عنه أعني: الدليل الشرعي؟ قلنا: الدليل عليه ما يظهر من أن الموجودات محفوظة لا يتخللها اختلال ولا فساد ولو كان الخالق يدركه خطأ أو غفلة أو سهو أو نسيان لاختلت الموجودات وقد نبه سبحانه على هذا المعنى في غير ما آية من كتابه فقال تعالى: { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } [ فاطر: 41 ] قال تعالى: { ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم } [ البقرة: 255 ]

قال: فإن قيل: فما تقولون في صفة الجسمية: هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق تعالى؟ أم هي من المسكوت عنها؟ أو أنه لم يصرح بنفيها ولا إثباتها ولكن صرح بأمور تلزم - يعني الجسمية في بادي الرأي منها - فنقول: إنه من البين من أمر هذه الصفة أنها من الصفات المسكوت عنها وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير آية من كتابه وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق إلا أنها في الخالق أتم وجودا ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقد في الخالق أنه جسم لا يشبه الأجسام وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم

وهؤلاء أيضا قد ضلوا إذ صرحوا بما ليس حقا في نفسه وما يوهم أيضا التشابه بين الخالق والمخلوق وإنما صرح الشرع بأشياء توهمها لا يصر فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجودا ليس بجسم ولا أيضا إذا سمع تلك الأشياء خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية

وهذه هي حال جمهور الناس لأن الذين يتطرق لهم من ذلك إثبات الجسمية هم قليل من الناس وهؤلاء ففرضهم الوقوف على الدلائل التي توجب نفي الجسمية

قلت: ولقائل أن يقول: أما قوله: صار كثير من أهل الإسلام يقولون: إنه جسم لا يشبه الأجسام فهذا صحيح

وأما قوله: وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن اتبعهم

فيقال له: ليس في الحنابلة من أطلق لفظ الجسم لكن نفاة الصفاة يسمون كل من أثبتها مجسما بطريق اللزوم إذا كانوا يقولون: إن الصفة لا تقوم إلا بجسم وذلك لأنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة فإن الجسم في اللغة هو البدن وهؤلاء يسمون كل ما يشار إليه جسما فلزم - على قولهم - أن يكون ما جاء به الكتاب والسنة وما فطر الله عليه عباده وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها تجسيما وهذا لا يختص طائفة: لا الحنابلة ولا غيرهم بل يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة على أتباع السلف كلهم حتى يقولوا في كتبهم: ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى مالك بن أنس ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى الشافعي

لكن لما جرت محنة الجهمية نفاة الصفات وسموا من أثبتها مجسما في عهد الإمام أحمد وقالوا: إن القرآن مخلوق وحقيقة ذلك أن الله لم يتكلم بشيء وقالوا: إنه لا يرى ونحو ذلك - قام أحمد بن حنبل من إظهار السنة والصفات وإثبات ما جاء في الكتاب والسنة من هذا الباب بما لم يحتج إليه غيره من الأئمة وظهر ذلك في جميع أهل السنة والحديث من جميع الطوائف وصاروا متفقين على تعظيم أحمد وجعله إماما للسنة فصار يظهر في أصحابه من الإثبات ما لا يظهر في غيرهم بسبب كثرة نصوصهم في هذا الباب

والنفاة يسمون المثبتة مجسمة ومشبهة وصاحب هذا الكتاب يجعل مثبتة الصفات - من الأشعرية ونحوهم - مشبهة وأنه يلزمهم التركيب والتركيب أصل للتجسيم

كلام ابن رشد في تهافت التهافت في نفي الصفات ورد ابن تيمية عليه[عدل]

مثل قوله في كتابه الذي سماه تهافت التهافت فإنه قال: وأيضا فالذي يلزم الأشعرية للتجسيم من المحال أكثر من الذي يلزم مقدماتهم التي منها صاروا إلى التجسيم وذلك أنه إن كان مبدأ الموجودات ذاتا ذات حياة وعلم وقدرة وإرادة وكانت هذه الصفات زائدة على الذات وتلك الذات غير جسمانية فليس بين النفس وهذا الموجود فرق إلا أن النفس هي في جسم وهذا الموجود هو نفس ليس في جسم وما كان بهذه الصفة فهو ضرورة مركب من ذات وصفات وكل مركب فهو محتاج ضرورة إلى مركب إذ ليس يمكن أن يوجد شيء مركب في ذاته كما أنه ليس يمكن أن يوجد متكون من ذاته لأن التكوين - الذي هو فعل المكون - ليس هو شيئا غير تركيب المتكون والمكون ليس شيئا غير المركب

وبالجملة فكما أن لكل مفعول فاعلا كذلك لكل مركب مركبا فاعلا لأن التركيب شرط في وجود المركب ولا يمكن أن يكون الشيء هو علة في شرط وجوده لأنه كان يلزم أن يكون الشيء علة نفسه ولذلك كانت المعتزلة في وضعهم هذه الصفات في المبدأ الأول - راجعة إلى الذات لا زائدة عليها على نحو ما يوجد عليه كثير من الصفات الذاتية لكثير من الموجودات مثل كون الشيء موجودا وواحدا وأليا وغير ذلك - أقرب إلى الحق من الأشعرية

قال: ومذهب الفلاسفة في المبدأ الأول هو قريب من مذهب المعتزلة

فيقال له: قولك: ليس بين النفس وبين هذا الموجود فرق إلا من جهة أنها في جسم خطأ محض وذلك أن اتفاق الشيئين في بعض الصفات لا يوجب تماثلهما في الحقيقة إذ لو كان كذلك لكانت المختلفات متماثلات فإن السواد مخالف للبياض وهو يشاركه في كون كل منهما لونا وعرضا وقائما بغيره

وأيضا فمحققو الفلاسفة توافق على أن الأجسام ليست متماثلة مع اشتراكها في التحيز وقبول الأعراض وغير ذلك من الأحكام والحيوان الصغير الحي مثل البعوض والبق والذباب ليس مثلا للإنسان ولا للملك ولا للجني وإن كان كل منهما حيا قادرا شاعرا متحركا بالإرادة

والفلك عندهم حي ناطق وليس مثل بدن الإنسان الذي هو حي ناطق

وقوله: هذا على الضرورة مركب من ذات وصفات

إن أراد به أن ذات موصوفة بصفات لازمة لها فهذا حق وهم لا يسمون هذا تركيبا فإذا سماه تركيبا لم تكن هذه التسمية حجة له على ما نفاه لأن الذي نفاه بالدليل هو ما كان مركبا وهو الذي جعله غيره مركبا أو ما كان متركبا بنفسه أي كانت أجزاؤه متفرقة فتركبت بحيث يصير مركبا بعد أن لم يكن

ومعلوم أن ما تركب بعد افتراقه لم يكن تركبه بنفسه كما ذكره في المتكون فإن ما تكون بعد أن لم يكن متكونا لم يكن تكونه بنفسه

وكما قال: كما أن لكل مفعول فعلا فإن لكل مركب مركبا فهذا إنما يعقل فيما ركبه غيره أو ما كان مفرقا فركب كما أن المفعول لا يعقل أن له فاعلا إلا إذا فعله غيره أو كان حادثا فلا بد للحادث من محدث

أما ما كان واجبا بنفسه قديما أزليا مستلزما لصفات لازمة له فهذا لم يركبه أحد ولا كان مفترقا فتركب فمن أين يجب أن يحتاج هذا إلى مركب؟ وكيف يصح تمثيل هذا بالمتكون والمفعول اللذين كل منهما محتاج إلى غيره بل هو حادث يفتقر إلى محدث؟

وليس المعنى الذي سماه مركبا إلا موصوفا بصفة لازمة له فلو قال: كل متصف فلا بد له من واصف أي ممن يجعل الصفة قائمة بمحلها ما كان مبطلا فإن المتصف بالصفة إذا كان قديما أزليا واجبا بنفسه كيف يجب هذا فيه؟

ثم هؤلاء الفلاسفة يقولون: إن الأفلاك قديمة أزلية وهذا الرجل لا يسميها مركبة ويبطل قول من يقول: هي مركبة من الهيولى والصورة وقول من يقول: هي ممكنة ومع هذا فهي جسم قائم به صفات وحركات فإذا كانت هذه لم تحتج عنده إلى ما يحتاج إليه المتكون فكيف يحتاج إلى ذلك ما هو واجب بنفسه؟

وقوله: لأن التركيب شرط في وجود المركب معناه أن لزوم الصفة للموصوف أو أن التلازم الذي بين الأمور المتعددة في الواجب شرط في وجودها وهذا صحيح لكن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط بل تجوز مقارنته له وإذا كان الواجب الوجود واجبا بنفسه المتضمنة لصفاته وكل من صفاته لا يوجد إلا مع الأخرى ولا توجد الذات إلا بالصفات ولا الصفات إلا بالذات كان هذا هو حقيقة الاشتراط ولم يلزم من ذلك أن يكون المتصف بهذه الصفات هو علة فاعلة لما هو من لوازم وجوده ولما لا يوجد إلا معه وهو الشرط في وجوده

وإن عنى بالعلة أعم من ذلك حتى جعل الشرط علة كان حقيقة قوله: لا يكون الشيء شرطا في شرط وجوده وهذا ليس بصحيح بل يجوز أن يكون كل من الشيئين شرطا في وجود الآخر وإن لم يكن علة فاعلة للآخر وهذا هو الدور المعي الاقتراني وهو جائز بخلاف الدور المعي القبلي فإنه ممتنع

وهذا موجود في عامة الأمور فالأمور المتلازمة كل منها شرط في الآخر فكل من الشرطين شرط في وجوده

وغاية ذلك أن يكون الشيء شرطا في وجود نفسه أي لا توجد نفسه إلا إذا وجدت نفسه

وهذا كلام صحيح بخلاف ما إذا كانت نفسه فاعلة لنفسه فإن هذا ممتنع فكل واحد من الأبوة والبنوة شرط في وجود الآخر وكل واحد من العلو والسفل شرط في وجود الآخر وكل واحد من التحيز والمتحيز شرط في الآخر وكل واحد من الماء والنار وطبيعته الخاصة به شرط في الآخر ونظائر هذا كثيرة

فكون إحدى الصفتين مشروطة بالأخرى والذات مشروطة بصفاتها اللازمة والصفات مشروطة بالذات بحيث يمتنع تحقق شيء من ذلك إلا مع تحقق الآخر وبحيث يلزم من ثبوت كل من ذلك ثبوت الآخر هو معنى كون كل من ذلك شرطا في الآخر وهو شرط في شرط نفسه ووجوده

وهؤلاء من أصول ضلالهم ما في لفظ العلة من الإجمال فإن لفظ العلة كثيرا ما يريدون به ما لا يكون الشيء إلا به فتدخل في ذلك العلة الفاعلة والقابلة والمادة والصورة

وكثيرا ما يريدون بذلك الفاعل فقط وهو المفهوم من لفظ العلة

وبحوثهم في مسألة واجب الوجود عامتها مبنية على هذا التلبيس فإن الممكن الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده لا بد له من واجب يكون موجودا بنفسه لا بموجد أوجده فهذا هو معنى واجب الوجود الذي دلت عليه الممكنات وهم يريدون أن يجعلوه وجودا مطلقا ليس له نعت ولا صفة ولا حقيقة غير الوجود المطلق لأن الوجود الواجب يكون معلولا لتلك الحقيقة فلا يكون واجبا

ولفظ المعلول مجمل فإنهم يوهمون أنه يكون مفعولا لها وهي علة فاعلة له ومعلوم أن هذا ممتنع في الوجود الواجب لكن الحقيقة الواجبة إذا قدر أن لها وجودا يقوم بها لم يلزم في ذلك الوجود إلا أن يكون له محل وهو الحقيقة التي يقوم بها الوجود وذلك الذي يسمونه العلة القابلة

ومعلوم أن الدليل إنما أثبت موجودا ليس له موجد لم يثبت دليلهم موجودا لا يكون وجوده قائما بحقيقة إن كان من الوجود ما هو قائم بحقيقة وهذا على قول من يقول: وجود كل شيء زائد على حقيقته كما يقول ذلك طائفة من متكلمي المعتزلة وغيرهم وإلا فالصواب عند أهل السنة والجماعة أن وجود كل شيء - وهو الوجود الذي في الخارج - هو عين حقيقته الموجودة في الخارج فكل موجود فله حقيقة مختصة به في الخارج عن الذهن والوجود الذي يشار إليه في الخارج هو تلك الحقيقة نفسها لا وجود آخر قائم بها

فإذا قال أهل السنة: إن وجود الخالق عين حقيقته أرادوا به إبطال قول أبي هاشم ومن وافقه من المعتزلة ولم يريدوا بذلك قول ابن سينا وإخوانه من الفلاسفة: إن الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق أو مطلق لا بشرط فإن هذا القول أعظم فسادا من قول أبي هاشم بكثير

بل هذا القول يعلم من تصوره بصريح العقل أن ما ذكروه يكون في الأذهان لا في الأعيان والمطلق بشرط الإطلاق قد سلموا في منطقهم أنه لا يكون إلا في الأذهان والمطلق لا بشرط يسلمون أنه لا يوجد في الخارج مجردا عن الأعيان

وقد تقدم ما ذكره هو من أنه ألزم الأشعرية أن يكونوا مجسمة والحنابلة فيهم ما في بقية الطوائف منهم من هو على طريقة الإمام أحمد وأمثاله من الأئمة لا يطلقون هذا اللفظ على الله لا نفيا ولا إثباتا بل يقولون: إن إثباته بدعة كما أن نفيه بدعة

ومما أنكر أحمد وغيره على الجهمية نفي هذا اللفظ وامتنع من الموافقة على نفيه كما هو ممتنع عن إطلاق إثباته

كذلك جرى في مناظرته لأبي عيسى برغوث وغيره من نفاة الصفات في مسألة القرآن في محنته المشهورة لما ألزمه بأن القول بأن القرآن غير مخلوق مستلزم أن يكون الله جسما فأجابه أحمد بأنه لا يدري ما يريد القائل بهذا القول فلا يوافقه عليه بل يعلم أنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد

وذلك أن أهل الكلام الذين تنازعوا في إثبات الجسم ونفيه كالهشامية والكرامية ونحوهم ممن أثبته وكالجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن نفاه قد يدخل كل منهم في ذلك ما يخالف النصوص فمن المثبتة من يدخل في ذلك ما يجب تنزيه الله عنه من صفات النقص ومن مماثلته بالمخلوقات والنفاة يدخلون في ذلك ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال

ومن الحنابلة من يصرح بنفيه ك أبي الحسن التميمي وأهل بيته والقاضي أبي يعلى وأتباعه وغيرهم ممن سلك مسلك ابن كلاب والأشعري في ذلك ومنهم من يسلك مسلك المعتزلة كانت ابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وغيرهم

والذين لا يثبتونه أو ينفونه يصرح كثير منهم بتكفير المجسمة فمنهم من يقول: من قال: هو جسم فقد كفر ومن قال: ليس بجسم فقد ابتدع ومنهم من يصوب من قال: ليس بجسم ويكفر من يقول بالتجسيم

وقد حكى الأشعري في المقالات النفي عن أهل السنة والحديث كما حكي عنهم أشياء بموجب ما اعتقده هو من مذهبهم والسلف والأئمة وأهل الحديث والسنة المحضة من جميع الطوائف لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله والألفاظ المجملة المبتدعة لا يثبتونها ولا ينفونها إلا بتبيان معانيها فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه وما كان مخالفا لذلك نفوه فلا يطلقون: هو جسم ولا جوهر ولا يقولون: ليس بجسم ولا جوهر كما لا يطلقون إثبات لفظ الحيز ولا ينفونه

وأما قول هذا القائل: فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجودا ليس بجسم ولا أيضا خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية وهذه هي حال جمهور الناس

فهذا كلام متناقض فإنه إذا كان أكثر الناس لا يقدرون أن يتصوروا موجودا ليس بجسم فإنهم قطعا تتطرق أذهانهم - عند سماع هذه الأمور - إلى إثبات الجسمية

فقوله بعد ذلك: إن الذين يتطرق إلى أذهانهم من ذلك إثبات الجسمية قليل من الناس يناقض ما تقدم

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55